ماتت الأتان وماتت جدتي. بعدهما مات خلق كثير من الرجال والنساء. مات الذين كنا نحتمي بهم ونحبهم ونحن صغار. ولم يكن ذلك الحب يمنعنا من أن نلهو ونتسلى بأخبارهم ونتندر بحركاتهم وسكناتهم ومعجمهم... رسموا طفولتنا وساهموا في تنشئتنا، فنُقشت صورهم في الذاكرة والوجدان. لم نكن ندري ما الموت، لم نكترث به يوما، ولم نصدق أنه سيُغيب أولئك الرجال والنساء، وأن يده ستصلنا بدورنا وتُحولنا إلى خبر صغير وسريع سرعان ما يُنسى ويُمحى.
ماتوا، وظل كل شيء على حاله وفي مكانه. واصلت الشمس رحلتها، واستمرت الفصول في تعاقبها. لم تُغير الأرض شكلها، ولم تخلع قُبرات الصحراء ريشها وتيجانها. نقص الملح في موائدنا، ربما. وغاض الماء في العيون والآبار التي حفروها ورعوها، ربما. لكن الحياة استمرت بدونهم. استمرت بمن حضر.
أحتفظ لجدتي بذكريات كثيرة، لأنها لم تكن امرأة كسائر النساء، يولدن في صمت ويمتن في صمت. كانت تثير حولها، في البيت وفي المدينة والقرى المجاورة، زوابع كثيرة. كانت جريئة وشجاعة وسليطة اللسان. وكانت تداوي عددا من الأمراض بأعشاب الصحراء وحشائشها ولحوم وحوشها وزواحفها. فذاع صيتها في محيطها وهابها الناس وخافوا من بطشها إذا غضبت، واخترعوا لها لقب: العرود، كناية عن قوتها وسطوتها.
كثرت أخبارها وحوادثها، ونُسجت حولها القصص والأساطير. لذلك أحتفظ لها بذكريات كثيرة، بعضها جيد وأكثرها سيء وحزين. لكن صورتها وهي جالسة تحت ظل البرج تنتظر رجوع عمي من جبهة القتال المشتعلة في الجنوب، أو وهي تترقب بلهفة وصول رسائله، تطغى على كل الصور في ذاكرتي.
تناديني وتُجلسني جنبها. تأخذ يدي، تمسدها وتطلب مني أن أنظر في عينيها بدل أن أنكس بصري كما أفعل دائما. تقول لي: أنت مبروك ومسعود، كان عام مولدك عام خصب. قطيع الجديان الذي تاه منا عاد إلى الخيمة بعد مولدك. عاد سالما لم يأكل منه الذئب رأسا واحدا. اذهب الآن إلى حانوت عمي علال الخياط، قلبي يقول إن رسالة عمك وصلت. عيني ترف هذا الصباح ويدي "تاكلني". أحكها "فتاكلني" من جديد. تخبرني أنها ستصافح عزيزا طال غيابه، وعيني تقول لي: سترينه قريبا يا زهرة. عساني ألمس رسالته وأراها وأشم رائحته فيها، إذا تأجل مجيئه وتعذر. أريد بركاتك يا ولدي في هذا اليوم، أريدك ما ترجع إلي بيديك خاويتين. اذهب وعُد بأخف من الريح... أقبل يدها وأنهض ولا أعرف عن أي بركات تتحدث، وعن أي ريح.
أودع البرج مكرها، وأركض مثل الجحش، وليس مثل الريح كما قالت لي. تبدو المدينة بعيدة، وغريبة ومخيفة. أنزع "مشايتي" من قدمي وأعلق الفردتين في كفي. أطوي المسافة من بيتنا الصغير إلى ساقية "الغريسية" في وقت قياسي. عندما أعبر الساقية أجد نفسي داخل أسوار المدينة. أعيد "المشاية" إلى قدمي، وأسوي شعري وملابسي، أنفض ما علق بها من قش وغبار. لا أريد أن أبدو للناس مثل الجحش، أو مثل العفريت الأغبر. أقول لنفسي وأنا أعدل من مشيتي وأقتصد في خطوي.
تبتلعني ساحة الجيش الملكي، فأحس بنبض قلبي قد ارتفع وتسارع وأنا أجر قدمي في مركز المدينة. رائحة المستعمر، وأناقة الفرنسيين تعبق في المكان رغم رحيلهم منذ سنوات طويلة. تركوا المدينة لأهلها، تركوا هذه الساحة بالخصوص ورحلوا. مدينة صُممت على طرازهم وذوقهم، تبدو نشازا بين البنايات العشوائية التي بُنيت بعدهم، الدروب الضيقة المتربة ونهيق الحمير. يكاد كل بيت في ضواحي المدينة وأريافها، يملك قطيعا من الحمير أو البغال.
في هذه الساحة المستطيلة الحمراء، توجد المرافق الإدارية مجتمعة، ويوجد السوق وبيوت المعمرين القديمة بحدائقها الفسيحة ومسابحها وملاعبها. وفيها يوجد حانوت عمي علال الخياط الذي كنا نتخذه عنوانا لرسائلنا، إذ لم يكن لنا عنوان. لم يكن لنا بيت. هجرنا الخيام وسكنا كوخا قديما أسفل البرج بناه الفرنسيون أيضا، فكان هدية ثمينة منهم إلينا، وليس بيننا وبينهم قرابة أو حتى مجرد تعارف بسيط.
أرفع بصري إلى رؤوس أشجار الأكالبتوس العملاقة، ثم أحنيه لأحصي وجوه الفلاحين والكسابة وهم يجلسون على كراسي الإسمنت، أو يفترشون الأرض، يستظلون بالظلال السخية ويتخلصون من ضوضاء السوق وحره وتعبه، قبل أن يعودوا إلى بيوتهم أو خيامهم البعيدة. بعضهم أغمض عينيه وفغر فمه عن آخره ونام نوم الغول كلما انتهى من فريسة دسمة وأصابته تخمة.
على يمين الساحة يجلس شيوخ المدينة بعمائمهم الكثيفة وجلابيبهم الفضفاضة، أو عباءاتهم الملونة، يعدون الداخلين إلى المدينة والخارجين منها، ويحصون خطواتهم وأنفاسهم. أميز عددا ممن أعرفهم: عمي عبد الله (الربيع الأصفر) جارنا في البرج، وعمي البشير، وعثمان، والخليفة ولد يعيش، وفرجي، وابن غرس الله، وعمي جلول، وعمي ابن قدور، وعمي الرحموني، وأبو كرشة... يمضون صباحاتهم تحت أقواس الطين، ويهبطون في العصر إلى وادي زيز، يفترشون الرمل ويلعبون الورق وينتظرون قدوم الليل ليعودوا إلى بيوتهم وأسرهم.
يخفق قلبي أكثر عندما أقترب من الحانوت رقم خمسة عشر. صوت ماكينة عمي علال يطرق سمعي ويوقظ حواسي وينبهني إلى ما ينتظرني. يرتبك خطوي ويتباطأ وينقبض صدري ويستحيل لون وجهي الأسمر إلى أحمر أو أصفر. عيون كثيرة ستفترسني، وأسئلة لا عد لها ستنهال علي قبل أن أسأل عمي علال عن الرسالة وأعود. الحانوت لا يخلو من الزوار أبدا، كأنه مقهى صغير يرتاده عدد من أصدقائه وزبائنه. أعد لهم مقعدا خشبيا طويلا مثل قارب قديم، وقنينة غاز صغيرة وإبريق شاي وصينية وكؤوسا وباقي اللوازم. يشربون الشاي ويثرثرون في كل المواضيع، في الدين والسياسة وأنساب الناس وأعراقهم وأوصاف النساء وتقلبات المناخ والأسعار والتاريخ والجغرافيا والنكت التافهة...
قبلتُ أيديهم جميعا، وحفظت نصائحهم وهي تتقاطر علي بسخاء، قبل أن أقف أمام عمي علال واجما صامتا، غارقا في عرقي وخجلي. يتأملني الرجل بعينيه الصغيرتين الحادتين ويجيبني عن سؤال لم يكن لازما أن أطرحه في كل مرة. تمتمتُ بعبارات الشكر والامتنان وخرجت بسرعة. صلعة عمي علال اللامعة مثل بدر التمام، لم تفارقني في الطريق. أسأل نفسي: لماذا أصحاب الصلعات أثرياء وميسورون، وعمي علال يملك صلعة صقيلة ومكتملة أكثر من صلعاتهم ولا يملك ثروة مثلهم؟ لا يملك سوى طيبوبته وآلة الخياطة وبضع نخلات في قصر المعاضيد؟
أتجاوز ساحة الجيش الملكي، فأحس أن حريتي قد عادت إلي كاملة. بسرعة أمر جنب المعهد النسوي الذي صار معهدا دينيا فيما بعد، ثم الملعب فالمسبح والمخيم السياحي. تبتلعني أشجار العذبة في "فم بوهو"، وأجدني مجذوبا نحو المجزرة بقوة خفية. رائحة نفاذة تغريني وتسوقني إليها. رائحة زبالة حديثة لم تنبشها الكلاب بعد ولم تلتهمها قطعان الماعز والخراف. يتهلل وجهي وأركض. أصعد فوق الكومة النتنة وأنتشي براحتها العفنة. لم يسبقني أحد إلى هذه الغنيمة. أنبش بأصابعي وأظافري. أتأبط غنائمي وأنحدر إلى الوادي وأجري. أصعد عندما أقترب من الجرف الكبير فأرى جدتي في مكانها تنتظر عودتي. أفرغ حمولتي وراء الدار، وأتوجه نحوها. أقف أمامها صامتا وأراها تنظر إلى يدي فارغتين وقذرتين. تتنهد وتمسكني من ثيابي. تجلسني قربها وتنظر في عيني. تسألني أسئلة كثيرة: لماذا لم تصل رسالة عمك بعد؟ أ لأنها ما زالت في الطريق؟ والطريق طويلة كما تعرف. أم لأنها ضاعت؟ هل ذهبت خطأ إلى عنوان آخر؟ هل أخطأ ساعي البريد وحملها إلى حانوت خياط آخر؟ هل فتحتها الحكومة وقرأتها ثم مزقتها؟ هل ستصل غدا أو بعد غد؟ هل هو قادم إلينا بنفسه لذلك لم يرسل رسالة؟ هل هو بخير...؟
أصغي إليها ولا أنطق. أحرك رأسي قليلا ثم أتحرر من قبضتها وأهرب. أعود إلى غنائمي، أحصيها وأرتبها. أتباهى بها طويلا قبل أن أوزعها على إخوتي وأولاد عمي. قنينات فارغة، أوراق مستعملة، فواكه فاسدة، علب كارتون، شفرات حلاقة... نغرق في اللعب، وعندما أرفع بصري ناحية البرج أرى جدتي تنتحب. يرتفع صخبنا ويرتفع بكاؤها، وعندما تهدأ تنهض من مكانها. تغيب دقائق وتعود إلى مجلسها. ترسم بالرماد خطا مستقيما، وترسم خطا آخر بالدقيق يتقاطع مع الخط الأول ويرسمان معا شكلا على هيأة صليب.
- هذا خط النحس. تقول وهي تشير بإصبعها إلى خط الرماد.
- وهذا خط السعد.
ترفع سبحتها، تضمها بين يديها، تُقبلها وتتمتم طويلا. ترخيها فوق الخطين وتتابع حركتها بخشوع كبير. تتأرجح السبحة فوق خط الدقيق فتبتسم ويتهلل وجهها وتصيح:
- عمران بخير. عمران حي، عمران في الطريق إلينا. أراه حاملا حقيبة كبيرة وهدايا كثيرة. أراه تارة بين ذرات الدقيق وتارة في حبات السبحة. الدقيق، نعمة الله الكبرى، لا يكذب. والسبحة، سبحة مكة المكرمة والمدينة وقبر الرسول، لا تكذب.
نركض نحوها صغارا وكبارا، يجذبنا صياحها. نريد أن نرى عمي عمران ونرى ما يحمله إلينا من هدايا. نحيط بها ونحدق في السبحة وفي خط الدقيق فلا نرى سوى السبحة والدقيق. يقول أحدنا بصوت هامس:
- لا نرى شيئا يا حنة. هل اختفى عمي عمران تحت الدقيق؟
تدفعه بمرفقها وتمطرنا بالشتائم فننفض من حولها. يتسرب إليها الشك بدورها، فتعيد التجربة. تتمايل السبحة فوق خط الرماد. تبكي في صمت ولا تقول شيئا.
تمر الأيام متشابهة، ويتكرر ذهابي إلى حانوت عمي علال ورجوعي منه خالي الوفاض، إلى أن حدث ما حدث.
كنا نستعد للنوم عندما ارتفع نباح جاب الخير قويا مجلجلا. قفزت من فراشها وخرجت من البيت. رأت شبحه في الظلام فعرفته وصاحت:
- وليدي، وليدي عمران...
صاح وهو يجري صوبها:
- أمّا، أمّا...
خرج جميع من في الدار. رأيناهما كتلة واحدة في الظلام. تعانقا وبكيا معا، فانتقلت إلينا عدوى البكاء. نزع سترته، وعلى ضوء مصباح الغاز عرى كتفه وأشار إلى أثر رصاصة اخترقت جسمه. دخلت من الكتف وخرجت أسفل الظهر. نجا من موت كان قريبا جدا منه. أنقذته دعوات أمه. أنقذه خط الدقيق.
تضرب كفا بكف وتصيح:
- ألم أقل لكم، سُبحتي حامت فوق خط الرماد. السبحة لا تكذب والرماد لا يصير دقيقا أبدا.