إلى سليمان جوني في منفاه الدنماركي
„لا شيء عليلاً فيّ يا والدتي، إلا روحي"،
نيتشه
I
كنت قد تعرّفت في إحدى المناسبات على امرأة ألمانية شابة، أثارني في البدء أسلوبها في الكلام ودقّتها في التعبير باللغة الألمانية. وكانت تتحدّث الفرنسية بلا تكلّف أو تصنّع، إنّما على نحو تلقائي كطائر الكناري الطليق، ولاحظت ذلك رغم أنّني لا أجيد اللغة الفرنسية، فهي لا تبتلع الحروف ولا تستخدم الغنّة أو "الخنّة" الفرنسية التي تجعلك تمتعض من لغة فولتير وفلوبير وبودلير حتّى لو نطقت بها كارلا بروني. وعندما سألتها عن ذلك قالت إنّها درست في جامعة باريس الأدب الفرنسي وقد انتقلت إلى برلين قبل فترة وجيزة.
وإلى هذا الحدّ كان الأمر طبيعياً، بيد أنّني ارتكبت ذلك الخطأ العراقي القديم الكامن والمستتر، والذي لا تكشفه سوى العينين باعتبارهما المرآة العاكسة للروح: فأخذت أتأمّل وجهها وأمعن النظر في عينيها الشديدتيّ الزرقة وشفتيها المنفرجتين اللتين كانت تدوّرهما بشكل كامل كلّما لفظت واواً، ثمّ إلى أنفها الصغير والنافر الذي أضفى على ملامحها بعداً صبيانياً، رغم أنّها تجاوزت سنّ السابعة والعشرين. وكان شعرها أحمر نادراً وضارباً إلى الاصفرار الكستنائي، وقد تركته منثوراً دون تسريحة محدّدة فأحاط بوجهها الذي علاه نمش خفيف، وكانت تحمل اسماً شخصياً ألمانيا قديماً يعود إلى خمسة أو ستّة عقود، فبدت على حين غرّة مثل ممثلة أمريكية من حقبتيّ الأربعينات والخمسينات. والغريب في الأمر هو أنّني لم أتحدّث معها كثيراً، لكنّها كان تقترب منّي طيلة الأيام الخمسة الأخيرة، وتحتسي معي النبيذ وكان نبيذها أبيض بسبب حرارة الطقس، بينما تمسّكت أنا بالأحمر. ووصل الأمر إلى حدّ أنّها بدأت تلتصق بي جسدياً وتلكزني بمرفقها، أو أنّني ربّما تخيّلت ذلك.
وبعدما عدت إلى الدار ذات ليلة سكرانَ وحيداً ومنفياً كالعادة أخذت صورها تتوغل في ذهني حتّى أقصت الصور والمشاهد المثيرة والمكثفّة كلّها التي شهدتها في تلك الليلة، ولم أعد أرى شيئاً آخر في ظلام برلين سوى وجهها.
وفي اليوم التالي، واصلت صورتها النمو واتسعت شيئاً فشيئاً وامتلأت بها روحاً وجسداً حتّى بلغت خلايا دمي، فكدت انفجر من الداخل. فتسللت خلسةً إلى موقع الفيسبوك لأرى صورها وشعرت بأنّ يديّ أخذتا ترتجفان، فقررت أنّ أتصل بها لكي أسمع صوتها وأهدأ من روعي قليلاً. فحصلت على رقم هاتفها واتصلت بها عندما كانت على وشك أن تستقل قطار الأنفاق للذهاب إلى العمل. فجاء صوتها طريّاً ورخيماً ومثقلاً بالنبيذ الأبيض وسهر الليل البرلينيّ وكادت تشرق بضحكتها بعدما تجاوزت المباغتة الشرقية في وضح النهار. قلت لها إنّني أرى مشكلةً ما تصل إلى حدّ المأساة وهي أنّ الناس يلتقون في مكان ما ويتحدّثون بحرارة وتلامس أرواحهم بعضها البعض، ثمّ يفترقون إلى الأبد، فلا يرى أحدهم الآخر مدى الحياة. واستجابت لرغبتي في أن نلتقي إذا ما سنحت لها الفرصة وستسجل رقم هاتفي وتتصل بي فيما بعد، واتفقنا على أن نلتقي في ذلك المساء.
"ثمّ حلّت اللحظة الغريبة دائماً، والتي تنتصر فيها إرادة ثانية واحدة من الزمن الحاضر على نزعات الوجود الفعّالة جميعها"، على حدّ تعبير الكاتب النمساوي روبرت موزيل، تلك " اللحظة التي يفتح فيها متسلّق قبضته طوعاً بسبب ألم في أصابعه أو مثلما يلقي رجل تائه بنفسه في مكان ما كالطفل" ، فتراءت المرأة الألمانية الفاتنة وكأنّها تجسيد لمأساة البشرية برمّتها، المأساة الإغريقية ومأساة جلجامش العراقية التي تبدو لي أكثر عمقاً وإنسانيةً من جميع المآسي الأخرى، فتخيتها وكأنها شهدت عصر سركون وسنحاريب وإينانا وعشتار وبينلوبي وأوديسوس وغريتا غاربو ومارلين مونرو وناتالي وود. وأحالني وجهها إلى قصائد الشاعر الألماني ريلكه عن الخريف والنضوج المبكّر ثمّ الرحيل وإلى تلك الفراشة الكبيرة التي كانت حركاتها تزداد وهناً كلّما تقدّم الخريف، حسبما وصفها وزيل، لأنّها تعلم بأنّ هذا هو فصلها الأخير. وتحوّلت رعشة التوتر والقلق من فرط التفكير بجمالها إلى حالة من التطيّر والرعب الوجوديين وكأنها ملاك الموت شاخصاً بمحشته الطويلة. ولعلّ هذا الإحساس كان نوعاً من الحماية الذاتية الغريزية عندما يكون الهدف بعيد المنال عادةً. فصارت هذه الفكرة تكبر كلّما يقترب موعد اللقاء، وحالما رأيتها تحوّل كلّ شيء إلى رماد وركام دفعةً واحدة، وتطلعت إلى قوامها للمّرة الأولى فوجده هشّاً ومتداعياً وآيلاً للسقوط، فالتفت إلى الناحية الأخرى. ورأيت أيضاً أنّها لم تعد راغبة في الحديث معيّ، فابتعدت عنها وجلسنا متجاورين أكثر ثلاث ساعات دون أن نتبادل كلّمة واحدة. وفكّرت بأنّني قد ارتكبت خطأً فادحاً باتصالي التلفوني والذي رأيتُ فيه شيئاً من التجاوز على خصوصيتها الذاتية ربّما. فندمت وحذفت رقمها لئلا أحاول الاتصال بها ثانيةً. وبتّ في آخر المطاف متأكداً من أنّنا سوف لا نرى بعضنا البعض مرّة أخرى مدى الحياة.
II
حالما غادرت المبنى الذي يقع فيه عملي شعرت كما لو أنّني خرجت للتوّ من معتقل بشروط محسّنة. وكاد الزمن أن يتوقف طوال النهار أثناء العمل، لأنّني صرت أحصي الساعات والدقائق التي كانت تفصلني عن رؤيتها. وبدأ جدار الزمن يزداد ارتفاعاً وكأنّه بات غريماً لي ومنافساً، على الرغم من أنّني لم أبح له بشيء عنها، لكنّه ربّما أدرك سرّ سحرها. فأخذت أسير بخطى بطيئة، متوغّلاً في جسد الغروب البرلينيّ الذي بدا ملمسه رخواً وأسود وثقيلاً. وكنت أعلم تماماً بأنّ المرء يمكن أن يفرض الغرامات والعقوبات كلّها، لكنّه لن يستطيع أن يفرض الحبّ على أحد أبداً، وأعلم أنّ هناك ميلغراماً واحداً من الأحاسيس الدفينة التي لا يمكن انتزاعها، ويمكن أن يستحيل هذا الوزن الروحيّ إلى وجع أو وباء أو جائحة أو نار تنشب بين الضلوع في كلّ لحظة. فكنت أعالج هذا الحريق الروحي بالنبيذ والصمت، وبالغناء أحياناً مثلما كان يفعل المنشد الإغريقي أورفيوس. وكنت أعرف من ناحية أخرى بأنّ الحبّ هاجس فطريّ وسهل وبديهيّ كالهواء، وبعيد المنال وناء كنجم القطب في أغلب الأحيان.
كنت أخشى في الواقع من أن تتكرر حالتي في الليلة الماضية، ودخلت "الخيمة" وجلست في ركن أحتسي النبيذ الأحمر وأحاوره أملاً في أن يشغلني عنها بضع لحظات. كنت قد لمحت ظلّها وهي تطوف حول الخيمة البيضاء، ثمّ وهي تدخل لتأخذ كأساً من النبيذ الأبيض مجانياً. ولاحظت بأنّها كانت تتحاشى مرمى بصري، ربّما خشيةً أو تردداً. فما الذي تعرفه عن رجل عربي متيّم بها دون أن تعلم؟! لكنّ دائرة الرؤية كانت تتسع مع كلّ رشفة جديدة من النبيذ حتّى استحال جسدي إلى مجسّات بصرية شديد الحساسية تلتقط أنفاسها وعطر قميصها الواسع بكميّة المهفهفين، والذي نقشت عليه زهور حمراء وصفراء وبنفسجية ووردية، فبدا وجهها نفسه مؤرقاً مثل بستان كرز يابانيّ في الربيع المبكّر.
ومع ذلك كنت أبدو حزيناً وصامتاً ووحيداً، غير أنّني كنت أشعر بالنار وهي تستعر في أعماقي، حتّى استحالت إلى حريق، فشمتت رائحة روحي المتلهفة والمتلفة التي بدأت تلتهمها النيران. وتذكّرت مطلع "أغنية الحبّ" لراينر ماريا ريلكه:"كيف سأضع روحي، كيلا تلامس روحك/ وكيف سأرفعها عنّك نحو الأشياء الأخرى"
ورددت في سرّي"أبوذية" منشد المناقب النبوية طالب السامرائي الذي كان يشجو شاكياً:"تشبّ النار من جدمي لهاماي/ وين اليسرع وياتي لهاماي/ يطفّيها كبل متعم عليّ".
فسارعت إلى إطفاء اللهب بالمزيد من النبيذ، كأساً ثمّ أخرى فثالثةً فقنينةً ثم قنينةً ونصفاً حتّى انتصف الليل. ورأيتها تجلس مع أصحابها في طرف آخر من الخيمة وتمسك بقدح النبيذ الأبيض برفق وحنو كما لو أنّها تمسك بقطّة خائفة. وكانت تتحدّث بصوت عال وتكركر كلّ مرّة بصخب مبالغ فيه إلى حدّ ما، حتّى أنّني ظننت بأنّها كانت تسخر منّي، وربّما كانت حالتي تثير السخرية فعلاً.
فخرجت من الخيمة في الهزيع الأوّل من ليل برلين وشعرت بأنّ خطواتي أصبحت بطيئة للغاية وأنّ جسدي بات ثقيلاً ثملاً. ويبدو أنّني كنت قد أحطت نفسي بدرع أو طوق من الحديد يفصلني عن الآخرين، فصرت محترساً تماماً من أن أفقد استقلالي الذاتي واختلط بهم، فأنا لست منهم، واعتراني شكّ بأنّني ربّما لم أكن مستعداً للحبّ، لأنّه قد يحطم هذا الطوق الحديدي الذي حصنّت به نفسي منذ زمن بعيد؛ فيا هذا: أعراقيّ وحبّ؟!
بيد أنّني لم ألق بأسلحتي بعد، ولم أرفع رايةً بيضاء وأنا أخوض غمار الحبّ. فذهبت إلى الدار وأخذت حمّاماً سريعاً وحلقت لحيتي ليلاً، وهو الأمر الذي لم أفعله منذ عشرين، أو ثلاثين عاماً.
وأتيت إلى الخيمة نحو الساعة التاسعة ليلاً فوجدتها ممتلئةً بالناس، بيد أنّني لم أر أثراً للمرأة الذهبية الشعر وذات العينين المشعّتين والعميقتين"كالبحر الطاووسيّ الزرقة" وصاحبة الضحكة الرنّانة. فجلست خارج الخيمة على كرسي في الرمل، ولعّله كان المكان الرمليّ الوحيد وسط مدينة برلين، باستثناء ضفاف قنواتها وبحيراتها، حتّى أنّني أطلقت عليه ذات مرّة اسم "الربع الخالي"، وكان هذا الربع خالياً فعلاً من الربع والصحابة كلّهم. لكنّني لم أشعر باليأس أو خيبة الأمل، إنّما بموجة من الانفعالات كانت تتدفق في أعماقي وتكاد تتحوّل إلى إعصار داخليّ أو بركان. فذهبت لأجلب صاحبي ورفيقي الوحيد الذي لا أعتمد على أحد سواه في الملّمات وساعات السويداء. فأتيت بزجاجة حمراء الخمر، "كيانتي" وكانت قانية الاحمرار معتقةً وصرت أشرب منها دون تهوية. وفجّأة لمحتها تمرق من أماميّ، هي نفسها، المرأة الأثيرة بمقامتها المرهفة وقميصها المهفهف وشعرها المتطاير. فسرت خلفها إلى أن وجدت لها مكاناً بين أصحابها، فجلست إلى جوارها هكذا ببساطة، وربمّا تحدّياً. فرشقني بابتسامة قصيرة ثمّ قرعت كأسها بكأسي وهي تهتف "بروست!“ وأخذت تتكلّم بخفّة دون أن تتمكن من أخفاء تأثير النبيذ الأبيض الذي لا أعلم منذ متى كانت تتناوله. فجأةً حرّكت كرسيها الخشبي لتكون إلى جواري تماماً حدّ التماس، فوقعت في حيرة بين الإعصار في الداخل والطوق الفولاذي في الخارج. وحاولت أن أقاوم المدّ والجزر وكانت عيناها تضحكان وشفتاها قرمزيتيّ الحمرة وكان أنفها نافراً بضّاً وقد علاه النمش. وأحسست بأنّ الإعصار الذي اجتاح الأضلاع بدأ يتحوّل إلى بركان، فصارت الحمم تتطاير وتصهر الفولاذ الذي غلّفت به جسدي؛ فما كلّ هذا الذي يمكن أن تفعله المرأة؟! وكان الليل يتقدم سريعاً وكنت أسكب النبيذ الأحمر على روحي لكي أغرقها وأسكت رنينها. فكيف أكون عاشقاً عربياً وصاحياً في آن؟! ثمّ صارت روحي تتلمس روحها على مهل وهي تهتف بيّ ثانيةً "في صحتّك"، وتذكّرت هنا مطلع قصيدة راينر ماريا ريلكه:
„كيف أضع روحي كيلا تلامس روحك؟/ كيف أرفعها عنك نحو الأشياء الأخرى كلّها؟"
وتمنيت أن أمرر أصابعي على شفيتها المنفرجتين اللتين خدرهما النبيذ. فيا إلهي: هل هناك أجمل من امرأة سكرى؟! وأخذت ملامح وجهها تتحدّث كلّها بصوت واحد، بل أصبح جسدها برمّته مثل آلات فرقة سمفونية. فلم أعد قادراً على المقاومة، ولا على مواصلة الكلام، فنهضت لأتنفس قليلاً خارج الخيمة، فوقفت في الربع الخالي وتأملت الهسيس الجرماني الذي كان يخرج من الخيمة، وعندما رجعت ارتطمت بجسد ما. فأمسكت بي يدان على حين غرّة، وكانت اليدان ناعمتيّ الملمس وترفتين. فأمعنت النظر فيها، وإذا بها امرأة أخرى لم أرها من قبل.
قالت إنّها سمعتني أتحدّث وأرادت أن تسألني عن أمر ما. ولو كنت أجيد التهرّب لقلت لها إنّ هناك أمراً آخر ينتظرني، لكنني تركت يديّ الحاميتين تستريحان بين راحتيها.
قالت:„إنّني مهتمة بالفلسفة والأدب على السواء"، فسألتها وأين درست الفلسفة، فقالت "في جامعة بوتسدام" - „آه، إذاً أنّك من شرق ألمانيا؟ فدعينيّ أحدّثك عن كارل ماركس!“ ثمّ رويت لها ما كنت أعرفه عن ماركس ونظريته. فأخذت تدنو منّي حتّى اختلط شعر رأسها بشعري الأبيض ورأيت أنّها كانت تضع حلقةً صغيرة في أنفها وبدت أكثر شباباً وحيويةً. ثمّ طفقت تتكلم بسرعة وكأنّ الزمن لم يعد كافياً لما تريد الكشف عنه. وسألتني أن كنت قد قرأت شيئاً لروبرت فالزر. وكان لحسن حظّي أنّني عرفت هذا الكاتب السويسري الغريب الأطوار والذي لولاه لما كان هناك فرانتس كافكا أصلاً. فقلت لها "إنّني ضمّنت له نصّاً في رواية لي". وكنت أحفظ ذلك النصّ عن ظهر قلب، لأنّني قرأته عشرات المرّات في الأماسي الأدبية التي كانت تُنظّم في ألمانيا. وجاء فيه "كم سعيد أنا لأنّني لم أر في نفسي ما هو جدير بالاحترام والتقدير، فأكون صغيراً وأبقى صغيراً. وإذا ما رفعتني يد أو رفعني ظرف أو لحظة إلى الأعلى حيث يمارس النفوذ والسلطة، فإنّني سأحطم تلك الأوضاع التي جعلتني متميزاً، وألقي بنفسي من جديد في درك الظلام السحيق والعديم الأهمية".
فباغتتني المرأة الثانية بقبلة خاطفة وبدأت تضغط على يديّ بهدوء لكي تدفئ يديها اللتين تراءتا لي مثل حمامتين وجلتين، واحتك جسدها بجسدي. فأوقعتني في مأزق حقّاً، وأصبحت موزعاً بين امرأتين دفعةً واحدةً، وتحوّل النصّ الواحد إلى سياق نصّي وأضحى الحبّ حبّين والكلام سجالاً. ومع ذلك لم يخامرني شكّ بأنّ المرأة الثانية جاءت لتنافس الأولى. ثمّ على ماذا تنافسها؟ أعلى رجل منفيّ ومقطوع، أم لمجرد أنّني عرفت بعض الأشياء عن روبرت فالزر؟ وفكّرت أيضاً بأنّني كنت حيادياً ربّما في مشاعري وبعدما دنا قطاف ثمرة الحبّ أدركت بأنّه كان يحمل في طبيعته منحى عملياً وعضوياً ونفعياً ربّما!
فأدركت بأنّ الوقت قد حان لمغادرة الخيمة التي تداخلت فيها الأصوات المخمورة وعزف موسيقى غيتار وحيد وغناء منفرد وكانت الريح زرقاء ومرصعةً بأقمار بلّورية مستديرة كما لو أنّ كساء خريفياً خفيفاً ألقى به عرضاً على كتفيّ المدينة. وتخليت نفسيّ أسمع قصيدة ليلية يلقيها متشرّد يقيم تحت جسر حديديّ وثمّة سيارة بيضاء مرقت بلا صوت ولم تخلّف سوى خيوط حريريّة، مشعّة وحمراء.
بعدما وصلت الدار أخذت أتصفّح في كتاب فالزر، فوجدت عبارةً تقول: „إن هناك مؤمرات تقع بين أبناء البشر لمقارعة حشرات من أمثالي، فيصدّون بنبل وغطرسة كلّ ما لا ينسجم مع عالمهم الخاص، لدرجة أنّني لم أعد أجرؤ على التوغّل في ذلك العالم، بل إنّني لم أعد أمتلك الشجاعة الكافية لإلقاء نظرة عاجلة على ذلك العالم حتّى. وهكذا أمضيت حياتي على هامش الوجود البرجوازي".
وعبارة أخرى جاء فيها: „إذا لم يفهم المرء المرأة وهي ترفع فنجان القهوة إلى فمها أو تلمّ أطراف ثوبها، فإنّه لن يفهمها أبداً. فأرواحهن تسير بخطى قصيرة على أحذية عالية الكعب وفاتنة وتحمل ابتسامتهن معنيين إثنين، وهما الألفة المبتسرة وذلك الجزء من التاريخ العالمي".