تختلف هذه الرواية الثانية لمحمد الأشعرى عن الأولى (جنوب الروح، 1996)، بكونها تـُـولى لبناء النص أهمية خاصة تناسب تعقيـدات الموضوع وحــَـراجـتـه؛ لذلك قد يسـعفـنا الانطلاق من تحليل البنــيـة الروائية على الاقتراب من دلالات سهام القوس وتلوينات الفراشة.
يتولى يوسف الفرسيوى سرد سبعة فصول من ثمانية، ويسرد الأب محمد فصل «فسيفساء نحن إلى الأبد». والعلاقة متوترة بين الأب والابن لأن الأخير يعتقد أن أباه قتل الأم ديوتيما الألمانية وظل سجين أنقاض آثار وليلى يندب حظه العاثر، بعد أن كان نجح فى أن يبنى ثروة ويفتح فندقا، ويرفع علم آل السفريوى وقرية «بومندرة» عاليا...صوتان متعارضان، متصارعان، لكن صوت يوسف يطغى على بقية الأصوات، ويـُلون السرد بالتفاصيل التى عاشها والثقافة التى اكتسبها، والمغامرات التى خاضها مع الزوجة ثم العشيقة ليلى والصديقة فاطمة.
من ثم يمكن أن نعتـبر «القوس والفراشة» بمثابة رحلة اسـتـبـطان يحكيها يوسف بعد أن أخفق فى تجربته السياسية التى يكتفى بالإشارة إليها من دون استحضار مشاهدها، لكننا نفهم أن الإخفاق زلــزل كيانه وأصبح يلاحقه فى شكل نوبات نفسية وجسدية، وانضاف إلى ذلك خبر «استـشهاد» ابنه الوحيد ياسين وهو يحارب إلى جانب طالبان.
من هذا الموقع، إذن، يسترجع يوسف المناضل والصحفى اليسارى فى مستهل القرن الواحد والعشرين، مسار حياته التى بلغت الخمسين والتى قضى جزءا منها فى ألمانيا حيث وُلـد. إلا أن ما يلفت النظر هو اللجوء إلى تقديم السرد فى شكل متواز ،ينطلق من «حاضـر» أحداث الرواية (العلاقة مع الزوجة والعشيقة والأصدقاء وموت ياسين والسهرات) مع ارتدادات إلى الماضى القريب، أو استعادة الأب لمسيرته التى يمتزج التاريخ فيها بالأسطورة.
وبترابـُـط مع ذلك، يعمد الكاتب إلى إضفاء سمات أسطورية على خطاب الأب، مـُـستـثـمرا أنقاض وليلى وفسيفسائها ومطابقة اسم الأم ديوتيما لاسم معشوقة الشاعر الألمانى هولدرلن الذى خلـّدها فى قصائد تحضر فى النص عبر الترجمة.
من هنا استطاع الكاتب أن يـكـسـر السرد الواقعى وينقله إلى مستوى الحكى الاحتمالى الذى يجعل الروائى البرتغالى سراماجـو حاضرا فى رحلة يوسف وليلى إلى وليلى؛ كما جعل الابن ياسين الميـت يحضر من حين لآخر ليحادث أباه ويسائله. وهذه العناصر فى البناء والسرد تقتـرن وتـُـتـيح تنويع مستويات الخطاب واللغة فى النص، حيث يبدو التمايز واضحا بين لغة السرد والوصف إزاء لغة الذات فى لحظات الحميميـة أو فى «رسائل إلى حبيبتى» التى كان يوسف يكتبها وينشرها فى الصحيفة التى يعمل بها.
ويـتـعزز السرد القائم على التوازى بتوظيف عنصر التشويق المستمد من السرد البوليسى وما ينطوى عليه من مفاجآت ...ولأن «القوس والفراشة» تبدو مشدودة إلى حاضر المغرب وتستمد محكياتها من الأحداث والوقائع البارزة، فإن جزءا من المادة الخام يحيلنا على ظاهرة الأصولية المتطرفة وانفجارات الإرهاب، كما أنها تستوحى سلوكات الانتهازيين والمستفيدين من مناخ «الانفتاح» و«الشفافية» وما يصاحب ذلك من خطابات التبرير والتلفيق.
كيف، إذن، من هذا المنظور الذى يشتبـك فيه الذاتى بالغيرى، نستطيع أن نبرز بعض الدلالات التى تتدثــر بأجواء الشعر والأسطورة والسرد الواقعى وما فوق الواقعى؟
يوسف يــنــزع الأقنعة
هـناك صوتان يـُهيمنان على النص: صوت يوسف بالدرجة الأولى، ثم صوت والده محمد الفرسيوى. كل منهما انتهى إلى الخيبة والباب المسدود، لكن التجربتيـْـن مختلفتان : الأب تـوسـّل بالهجرة والزواج من ألمانية (حضور الآخر رمز التفوق والتحديث؟)، وعاد إلى مسقط رأسه ليشيّـد بالقرب منه فى مدينة زرهون مشروعا تجاريا ويفتح فندقا فخما عصريا يخلخل البنية التقليدية للمنطقة. لكن سرعان ما تهاوت أحلامه وتلاشى طموحه ليجد نفسه دليلا سياحيا فى وليلى الموروثة عن العصر الرومانى، أعمى يقود الناس عبر ما اختزنته الذاكرة من أشعار ومعلومات وذكاء يوظفه فى مناوشة السلطة من خلال سرقة بعض التماثيل والفسيفساء ،يفعل ذلك لأنه لا يريد أن يموت موتا بليدا كما يعبر عن ذلك فى حوار مع ابنه: «قلتُ: ولكن لماذا هذه الحروب الكاذبة؟ قال غاضبا: اعطنى حربا صادقة أنـهى بها حياتى؛ هل تريدنى أن أموت بسلام كما يموت أى كلـب؟ «ص.257» هذا الأب الذى فشل فى مشروعه التحديثى، يعود صاغرا إلى أنقاض الماضى ليدفن خيبته ومرارته، مخلفا وراءه صوتا مأسويا يرثى الفرص الضائعة ويرثى الذين يضعون حدودا مصطنعة بين الحقيقة والأسطورة...
الصوت الثانى المهيمن على الرواية هو ليوسف الفرسيوى الذى وُلـد فى ألمانيا وتعلم بها واختار بعد العودة إلى المغرب أن يناضل سياسيا من أجل تغيير المجتمع وفق ما كانت الساحة تفرزه من تصورات يسارية متطرفة أو يسارية معتدلة.
هو يعمل فى مجال الصحافة والكتابة الأدبية، ودخل السجن فى سنوات الرصاص، وعاش فترة التناوب المزعوم التى تكشفتْ عن تعثرات فتحتْ طرق الرشوة والانتهاز، وأضفتْ المشروعية على المنتفعين من سلطة الحكم وقوة المال.
هذا التغـيـيـر الكاريكاتورى فى مجال السياسة هو ما أصاب يوسف بأزمة حادة تعلن عن نفسها من خلال نوبات نفسية وجسدية تفقده تذوق الحياة، وتعـطل انتماءه إلى مجراها. وتبلغ الأزمة أوجها عندما يتلقى يوسف نبـأ «استشهاد» ابنه ياسين فى صفوف طالبان.
وفى نظرى، يمكن اعتبار ذروة لحظـةِ الأزمة هى منطلق «حــاضر» الرواية بوصفها ذروة تكمن وراء بناء النص وتفريعاته السردية المتوازية.
ذلك أن يوسف الفرسيوى، أمام الإخفاق السياسى ودخول منطق التاريخ فى سديمية معتــمة، بدأ يسعى إلى استعادة ذاته المضيـّـعـة، المهزوزة، عــبـْـر الالتفات إلى ما أهمله فى زحمة النضال وحومة السياسة.
بعبارة ثانية، أخذ يستعيد الحميمية المفقودة عبر الحب والصداقة والاهتمام بتفاصيل العيش وتجليات الذوق والجمال.
وهذا التحوّل فى مسار يوسف يذكرنا بالـملاحظة العميقة التى عبر عنها الأستاذ عبد الله العروى فى أحد حواراته، من أن: «العبور من الحب إلى التاريخ هو الوصول إلى سـنّ النضج، أما الانتكاس من التاريخ إلى الحب فهو الصــدُّ عن الإخفاق الاجتماعى: ينعزل المرء فيعود إلى حياته الشخصية وبالتالى إلى الحب».
إلا أن هذه الملاحظة ستنطبق جزئـيا على شخصية يوسف الفرسيوى، لأن جدلية التاريخ والحب لا تتوقف عند مرحلة نهائية، كما سنرى.
عمـَد يوسف إلى الافتراق عن زوجته بهية التى كان قد تزوجها عن غير حب، فاكتشف أن خلاصه يكمن فى أن يستعيد حبا أضاعه: «فى هذه الفترة من حياتى وقد بلغت الخمسين، لا أعرف كيف حصلت لى قناعة مفاجئة أن امرأة مـّـا قد ضاعت منى»، ومن ثم بدأ بحثه عن ليلى التى كان قد التقاها منذ عقدين من الزمن وهى الآن مطلقة ولها طفلة، لكنها تهبه الحب المؤجل ويعيشان علاقة تلهب الحواس والعواطف فى سياق لا يخلو من توتـر وعقبات.
وضمن هذا السياق الذى سلكه يوسف لمـجاوزة مأزقه، قـوّى علاقته مع فاطمة فى وصفها صديقة لا غير، ومع كل من أحمد مجد رجل الأعمال والصفقات، والمحامى إبراهيم الخياط ذى الميول الجنسية المـِثـْلية والذى فقد عشيقه فى ظروف مؤلمة واضطـر إلى تبنى ولديه التوأمـيْـن عصام ومهدى.
ومن خلال هذه الشخصيات وعلاقة حبه لـليلى، يستأنف يوسف رحلته بين الرباط والبيضاء ومراكش حيث يسكن صديقاه وزوجته السابقة التى تزوجها أحمد مجد. وليس اختيار هذه المدن فضاء للرواية صدفة، وإنما لأنها تجسـد التحولات السريعة فى السلوك والصفقات، وظهور الفئات المستفيدة من الانفتاح ومن مخاطر الأصولية والإرهاب.
ويوسف الذى بدأ يتخطى أزمته فى غمرة الحب القديم- الجديد، يحاول أن يتصالح مع سياق التحولات مهتما بظاهرة الموسيقى الشبابية، مكتفيا بمقالات تفضح النهـبَ الذى يمارسه الأغنياء الجدد. وتحت وطأة هذا الوضع الذى لم يعد النضال قادرا على تغييره، يقـرر يوسف أن ينزع القناع، أن يتحدث عن كل ما يشاهده ويعيشه من مسافة متساوية لعله يدرك أسرار التبدّلات وأسباب الإخفاق. بعبارة ثانية، لم يعد يوسف سجين وضعه الاعتبارى كمناضل يجابه السلطة والعالم من منطلق عقائدى إيديولوجى، وإنما أضحى شخـصا، فردا، من دون جـوهـر سابق ثابت الدلالة . إنه هنا، بوصفه الصوت الأساس فى خطاب الرواية، ينزع الأقنعة ويـُمسرح حياته وعلائقه بالآخرين وبالظاهرات المستجدة، ولا يتردد فى أن يناهض بطريركية الأب والسلالة، مـُـصـمـما على أن يعثـر على فرديـته المتحررة من الرقابة والوصاية، المستجيبة لنــبْـض الحياة المستعاد عبر مغامرة حبه مع ليلى: «..المفاجآت التى تحس بها عندما ترى بعين خارجية كيف أصبحتْ فى ضوء هذا الكائن المدهش، كيف تنتج مشاعرك، وكيف تـولد كلمات أخرى فى فمك، وكيف تمشى فى المدينة بخطى كأنها ليست لك...» ص.140.
لكن هذه المعادلة الصعبة التى اختارها يوسف ليـرمّـم حياته، لن تجعله فى منجى من رشاش الواقع المجتمعى المتفجر الذى يلاحقه فى كل الفضاءات؛ وفى مقدم القضايا التى تذكره بالـغيرية وتأثيرات المحيط، فقدانه لابنه ياسين الذى اختار فى غيبة الأب والعائلة اتجاها تدميريا لا يمـتّ بصلة إلى القيم التى يؤمن بها الأب، وهو ما يطرح إشكالية «توريث» القيم ونقلها إلى الأجيال اللاحقة.
إنـه شرخ أتاح لقوى الأصولية المتعصبة أن تــتسـلــل إلى صفوف الشباب لتجنده فى قضايا خاسرة. وإذا أخذنا فى الاعتبار كون شخصيات الرواية تنتمى إلى الطبقة المتوسطة ولها مرجعية ثقافية لافتـة، يمكن أن ندرجها ضمن النخبة السياسية المغربية فى العقدين الأخيرين، وخاصة نخبة اليسار بكل مراتبه، والتى أصبح جزءا منها يتبع منطق الواقعية ليستفيد من كعكــة «الانفتاح والتناوب» كما يمثل ذلك أحمد مجد فى الرواية.
فى المقابل، قدمت لنا الرواية صورة موفقة عن حضور المرأة فى هذا المستوى الاجتماعى، حيث لم تعد خاضعة لوصاية الرجل، بل تواجه مشكلاتها بشجاعة، وتـصـر على الاختيار ضمن شروط مضادة لحرية المرأة ؛ فكل من بهية وليلى وفاطمة تتخذ مواقف وتعبر بخطاب يجسد سعيها إلى ما تعتقد فيه سعادتها.
فى مثل هذا السياق الذى لا يكف ّ عن التحول وفرز ظواهر صراعية (المثـليـون، عبدة الشيطان، موسيقى الراب والهيب هوب والهاردروك، الإرهاب باسم الدين ،تفويت الأراضى وشرعنة الرشوة ...) لم يكن بوسع يوسف أن يخلد إلى الحب ليداوى جراحاته المتولدة عن الخيبة والفشل فى التغيـيـر وفـْــق منظوره الإيديولوجى.
من ثـم يجد نفسه متورطا فى الاهتمام بما يحدث فى المجتمع، لكن من موقع مغايـر يعطى الأسبقية للفعل والمتابـعة عن قرب لما يتولد فى المجتمع، أى معرفة المشكلات والناس والخطاب المتحول؛ وهذا ما يمكن أن نستـدلّ عليه من إقدام يوسف على إنقاذ عصام من شظايا الانفجار فى نهاية الرواية. كأنما هذه الرحلة المزدوجة التى عاشها يوسف الفرسيوى بحثـا عن الذات المطمورة وراء ثقل التاريخ والمجتمع، وأيضا فى ثنايا تحولات المجتمع وإفرازاته، هى نوع من «التفريــغ» للتخلص من أحكام جاهزة موروثة عن ممارسة الماضى، حتى يتسنى له أن يتزوّد بحقائق ملموسة تسعف على تجديد الفعل والانتماء ، والتحام الذات والرغبة بأفق الحياة الشامل.
من خلال ما لامسناه فى هذه القراءة وما لم نتطرق إليه لضيق المجال ،نجد أن «القوس والفراشة» قد أنجزت جزءا من تلك المعادلة الصعبة التى تنظـر إلى الرواية على أنها فضاء للمتعة والمعرفة وتقديم عناصر ومحكيات، تـتيح قراءة ملامح من الواقع المتشابك الذى يحتاج إلى التخييل واللغة النافذة ليـُـسلم بعض أسراره ؛ وهو ما حققه الأشعرى بحســه المرهف وقدرته على الرصـد والتحليل وملاحقة التحولات المتناسلة.