تجمع نورا أمين في جوهر عاطفتها القدرة على التعبير عن ذاتها بكل أشكال الفنون. في التسعينات من القرن العشرين، كانت تعد كاتبة راسخة لها روايات ومجموعات قصصية، لكنّ الكتابة لم تشبع قدرتها الكاملة على التعبير، أو بالأحرى لم تكفِ، لكونها لا تستوعب قدرة الجسد على التعبير والتحليق في مستويات أعلى. هكذا صار المسرح بجانبيه، التمثيل والرقص الحديث، وجهتها، وغدا الجسد هو المتحدث الرسمي باسم الأنا في كل تعقيداتها وتلويناتها.
من شبكة العلاقات بين الأنا والجسد ينطلق كتاب «تهجير المؤنث»، ليوضح أن ثمة تداخلاً بمقدار الاختلاف بين تواجد الجسد في المجال الخاص مقابل المجال العام، أو ما تسميه أمين الفضاء العمومي.
يمكن وصف الكتاب بأنه شهادة بحثية، بحيث يرتكز على التجربة الشخصية للكاتبة في ما يتعلق بتواجد الجسد الأنثوي في سياقات مختلفة مكانياً وثقافياً، من دون أن يغفل الصورة الأكبر وهو ما يتضح في الأمثلة والتأملات التي تُدعم بها الكاتبة متن الشهادة. ولا يُمكن القارئ المتخصص أن يغفل عن القراءات السابقة التي تظهر في ثنايا السطور عن الهوية وتشكلها وتقاطع عوامل عدة على عتبتها.
المؤنث المهجّر
يقوم «تهجير المؤنث» (آفاق للنشر، 2016) على مفارقة شديدة الغرابة تنطلق من تواجد الجسد الأنثوي في المجال العام - الشارع مثلاً - وتواجده علي خشبة المسرح، التي تنتمي إلى المجال العام أيضاً، ولا تخلو من علاقات معقدة أيضاً. وعلى تلك الخشبة يمكن أن تجد الذات نفسها، تعبّر عن وجودها عبر الجسد، تتلقى من الجمهور التجاوب والدعم النفسي والقبول، على رغم أن النظرة المجتمعية السائدة إلى مهنة «ممثلة» سلبية ونمطية، وهو ما يتضح في رفض إدارة الجوازات مثلاً إدراج هذه المهنة على جواز السفر.
على الجانب الآخر، يبدو هذا الجسد الذي يتألق على خشبة المسرح ويشعر بتحققه منتهَكاً في المجال العام أو معرضاً للانتهاك أو مترقباً له. في كل الأحوال، إذا لم يقع الانتهاك أو التعدي الفعلي فهناك النظرة التي تُشعر الجسد بالرفض أو النبذ أو الغرابة أو عدم الانتماء. كلّ جسد يُظهر اختلافه عبر طريقة المشي أو الملبس أو السلوك ستكون له النظرة الذكورية (التي لا تقتصر على الرجال) بالمرصاد. في المسافة بين الناظر والمنظور إليه يستشعر الجسد فوراً عدم انتمائه، اختلافه، واستحقاقه للعقاب بسبب خروجه عن الشكل الجمعي، على رغم «فرديته» الواضحة على خشبة المسرح. ويبدو الربط بين هذه الثنائية في منتهي الذكاء، لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه على تلك التأملات يتعلق بالطبقة الاجتماعية. فالتمييز الجنسي لا يظهر بمفرده في المطلق، بل تتداخل معه العديد من العوامل الأخرى كالطبقة والدين واللون والخلفية الثقافية. وهي العوامل التي تسمح بظهور التمييز في سياق ما وتحجبه في سياق آخر، وهي تتحكم أيضاً في أشكال التمييز وحدته.
لا تغفل هذه الشهادة البحثية ما طرأ من تغيير جذري في التعامل مع جسد المرأة أثناء الثورة المصرية، بحيث وقعت حوادث اعتداء واغتصاب في وسط الميدان وعلى أطرافه، لتواجه المجتمع بأكمله بهشاشة هذا الجسد، وبكونه مباحاً لأنه قرر أن يختلف، أن يتواجد، أن يخدش تماسك الجسد السياسي الذكوري. مرة أخرى نعيد التفكير في ما وقع في تلك الفترة، فنجد أن كل ما وقع هو أحد أشكال العقاب من أجل الترويع والتخويف، عقاب سياسي بحت يعتمد على تجييش النفوس عبر خطاب شعبوي.
تعذيب وانتهاكات
ومثلما كان يتم تعذيب الرجال، كان في المقابل يتم اغتصاب النساء. وما نشهد عليه أيضاً أن هذه الاعتداءات والانتهاكات الصارخة قد دفعت الخطاب النسوي إلى طرح المسألة مجتمعياً عبر شهادات الناجيات، وعبر الإصرار على وصف ما حدث بأنه جريمة وليس أمراً متعلقاً بالشرف - على رغم الالتباسات حول مسألة الشرف بسبب إصرار المجتمع على تحويل المرأة إلى رمز للوطن - وعليه لا يصح إخفاؤه أو التستر عليه.
لم نصل بعد إلى مرحلة مثالية طبعاً، لكنّ مجرد طرح المسألة للنقاش داخل حلبة الصراع يُعد خطوة إلى الأمام، وإن لا ننكر بأن ثمنها كان غالياً. تستمر المفارقات في تواجد المرأة في المجال العام، وكأننا ندور في الدائرة ذاتها. تؤكد الكاتبة أن حلمها بتأسيس مسرح المقهورين لم يكن ممكناً قبل الثورة، لأن المجال العام كان واقعاً بأكمله تحت سلطة النظام، وهي سيطرة تسعى إليها كل أشكال القوى، كما يعبّر ميشال فوكو، بمعنى أن إتاحة المجال العام للأفراد يؤدي إلى كسر العزلة ويُسرع في عملية التواصل وهي نتائج لا ترغب فيها أي سلطة.
في تأسيسها «المشروع المصري لمسرح المقهورين» تعود نورا أمين لتُمسك بمقادير الأمور كي تكون القائدة، المتحكمة في جسدها وفي تفاعله مع المجتمع من خلال المسرح، في حين يعود الجسد إلى المجال العام ليواجه النظرة العقابية. ولم تغفل نورا أمين في هذه الشهادة العميقة أن تسلط الضوء على التمييز الجنسي ضد الغريب، الذي يتستر تحت عباءة العنصرية، ليصبح التمييز مضاعفاً. وهو موقف صحيح سياسياً، فالكتاب نُشر في الأصل بالإنكليزية في برلين، وقامت الكاتبة بترجمته إلى العربية. ومن هنا تتعدد عوامل التمييز وتُعيد ترتيب أولوياتها، فيصبح المختلف في بيئته هو غريب أو أجنبي في بيئة أخرى. وعلى رغم ذلك الاختلاف الجغرافي والثقافي، تتشابه السلطة. فلا تختلف كثيراً نظرة ضابط إدارة الجوازات المصري عن نظرة ضابط المطار الألماني، التي تُعيد الكاتبة دائماً إلى النظرة الأولى التي عانت منها في طفولتها.
ثمة وصف على ظهر الغلاف يقول إنه «دراسة ثقافية عن التعديات على الجسد الأنثوي في المجال العمومي»، وقد آثرت أن أصفه بأنه شهادة بحثية لأنه قائم على الفكرة النسوية الراسخة التي تنادي بأن الشخصي هو السياسي ولا انفصال بينهما. فالتعدي على الجسد الأنثوي يدخل في صلب الممارسة السياسية، ويعبر عن رؤية النظام إلى ما يعنيه جسد المرأة.