ليست هذه رواية عما تفعله الحرب بنا وفينا فحسب، ولا هى فقط ترجمة لمعاناة أهل العراق، الذين تحولوا إلى فريسة مستباحة بين ديكتاتورية وفوضى، ولكن المعنى الأعمق لهذه الرواية الذكية عن صراع الإنسان مع غربته ووجوده وزمنه القاهر، عن غربة خارج الوطن، واغتراب فى داخله، عن زمن لا يتوقف ليسجل أو ليحفظ، ولكن الإنسان ينتصر فى النهاية بالكتابة التى تحفظ الذاكرة، ينتصر لأنه ينقل إلى غيره خبرة الألم والبهجة، ولأنه يستطيع أن ينطق بلسانه، وأن يُنطق الجماد أيضا.
أتحدث عن رواية «فهرس» للروائى العراقى سنان أنطون، والصادرة عن منشورات الجمل، والتى نجح كاتبها فى أن يصنع من المأساة ذاكرة حية لا تموت، وأن يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: يرصد معاناة شعب تحت احتلال أمريكى باسم الحرية، وينقل معاناة عراقى مغترب، ترك الوطن، فاكتشف أن الوطن يقبع فى حقيبته، ويجسد صراع الإنسان بمحدوديته وعمره القصير فى مواجهة أسباب الفناء والموت، ويملأ مساحات بيضاء كثيرة ضمن كتاب تاريخ فارغ لم يكتب، ويحكى من زاوية الفريسة لا الأسود، ويعيد بناء الزمن المفقود بكل ما فيه، من البشر والأماكن، إلى الأشجار وشرائط الكاسيت وأسطوانات الأغانى.
لا ينفصل المعنى عن المبنى فى الروايات والأعمال الفنية الناضجة، يصبح الشكل والمضمون وجهين لنفس العملة، وقد كانت فكرة قيام رجل عراقى يُدعى «ودود» بكتابة فهرس يحفظ ذاكرة دقيقة واحدة من بداية دمار أحدثه الاحتلال الأمريكى للعراق هى الأساس الراسخ الذى شيّد عليه سنان أنطون بناءه، ثم جاءت شخصية أستاذ الجامعة نمير لترتفع بالبناء، والرحلة فى جوهرها لا تزيد زمنيا على ثلاث سنوات عرف خلالها نمير قصة «فهرس ودود»، وحصل على نسخة منه، لترافق النسخة أستاذ الجامعة من بوسطن إلى نيويورك،، ولكن نمير الذى يحاول كتابة رواية عن ودود وحكايته وفهرسه العجيب، يكتشف تدريجيا أن ودود هو المعادل له فى الوطن، وأن غربتهما واحدة: «نمير» غريب خارج الوطن، و«ودود» غريب داخل الوطن.
يتحول فهرس ودود من موضوع لرواية يحاول نمير أن يكتبها إلى ذاكرة تملأ المساحات البيضاء التى غابت عن نمير، تحضر بغداد بناسها وأشيائها فى قلب أمريكا، فهرس ودود يستنطق الأشياء، ويتحدث بلسانها، ويبعث فيها الحياة بعد موت: تتحدث سجادة مزركشة، وفرن قديم، وألبوم طوابع، وشجرة سدر، وشريط كاسيت حفرت عليه حوارات أب مع ابنه، وأسطوانة منسية لمغنى مقام شهير، وآلة عود انتقلت من يد إلى أخرى، وصور سالبة فى كاميرا. يبرع سنان أنطون فى جعل تدمير هذه الأشياء بعثا جديدا من خلال كتابة ودود لفهرسه، تبدو اللحظة أعمق مما نتصور، تتحول إلى متحف لذاكرة ضائعة، اللحظةُ أيضا جرحٌ مفتوحٌ على مأساة مسكوت عنها. تتيح فكرة كتابة فهرس انتصارات ثلاثة: انتصار على الموت الذى غيّب كل هذه الأشياء، وانتصار على تاريخ رسمى كتبه المنتصر، وانتصار على زمن يمحو بلا هوادة.
لا نعرف قصة ودود منفصلة عن حكاية نمير، ولا نقرأ عن أشياء ودود فى الفهرس البغدادى منفصلة عن أشياء وتفاصيل حياة نمير ( البغدادى) فى أمريكا، ولكن حياتهما تتداخلان وتتقاطعان؛ لأنهما وجهان لنفس الغربة، بل إن أحد أسباب قوة بناء الرواية فى أن يلتبس علينا الأمر بين سرد ودود عن نفسه، وسرد نمير عن ذكرياته البغدادية، وفى أن يلتبس علينا منطق الأشياء، ومنطق البشر، وكأنها جدارية واحدة لها زمنان: زمن معرفة نمير بودود الذى لا يزيد على سنوات ثلاث (من 2003 إلى 2006)، يحصل خلالها نمير على الدكتوراه، وزمن أعمق بكثير بطول حياة ودود ونمير، وبطول حياة الأشياء.
ترك نمير العراق فى العام 1993 بسبب الحصار، وهو ضد نظام صدام، وضد الاحتلال الأمريكى معا، ومتابعته اليومية لما يحدث من قتل مجانى تحت الاحتلال، يسلمه إلى حالة نفسيه مضطربة، رغم استقراره المهنى (فى الجامعة)، والعاطفى (مع أمريكية سمراء تُدعى مرايا)، ودخل ودود المعتقل أيام صدام، اتهم ببيع كتب ممنوعة، عذبوه، فخرج مضطربا، دخل مستشفى للأمراض النفسية، تعلم ودود أن يسمع الأشياء، نصحه طبيب أن يكتب، اختار أن يجمع الكتب القديمة، ثم كتب الفهرس، وأهداه إلى نمير الذى جاء إلى بغداد فى 2003 مع فريق أمريكى ليصور فيلما وثائقيا فى العراق. يبدو الأمر مصادفة فى البداية، لكننا سنكتشف فى النهاية أنها مصادفة منطقية؛ لأن المغترب فى الوطن، سيمنح ذاكرته/ فهرسه/ رسائله/ للمغترب خارج الوطن، فيقوم الأخير بكتابة قصة الأول فى رواية اسمها «فهرس».
هنا بناء دائرى فريد، مثل «التاريخ الدائرى» الذى كتبه ودود فى فهرسه، والذى وصفه نمير عن حق بأنه «تاريخ الفريسة وفهرس الدقيقة»، ومثل لعبة الكتابة الدائرية: كتابة ودود تفرز رواية نمير، ومثل لعبة الموت والحياة: الحرب تدمر الأشياء والبشر (بمن فيهم ودود) والأماكن، ولكنهم يعودون من جديد على الورق، مرة فى فهرس ودود، ومرة فى رواية نمير، ومرة ثالثة فى عمل سنان أنطون، الذى يمكن اعتباره «الكاتب الشبح» الذى يروى عن نمير، الذى روى عن ودود، وسنان الذى يعمل أستاذا جامعيا فى أمريكا، يروى فى الواقع عن نفسه، ويوزع معاناته بين بغدادى فى العراق، وبغدادى فى أمريكا، يأخذ من شخصيتيه، ويعطيهما، يترجم عنهما، فكأنه يترجم عن نفسه، وكأنها دائرة بلا بداية ولا نهاية.
يصبح منطقيا، بعد كل ذلك، أن تحضر المحكية العراقية فى رواية تستحضر الوطن بكل تفاصيله، وإن كان الأمر يستلزم بالتأكيد شرحا فى الهوامش لكثير من المفردات للقارئ غير العراقى، وقد تنبه سنان إلى هذه العقبة فى ترجمة حوار شريط الفيلم الوثائقى الأمريكى، ولكنه ترك المفردات بدون شرح فى حوار الرواية نفسها!
على الرغم من ذلك فإن «فهرس» تنجح فى أن تكون لسانا وصوتا للمنسيين، وفى أن تصبح ذاكرة تتحدى الزمن والمنتصرين، وتمنح قارئها شعورا عجيبا مزدوجا بإنسان له وجهان: أحدهما محطم ومدمر للحضارة، والثانى وجهٌ مبدعٌ وقادرٌ على أن ينقذ اللحظة من الموت، وبين الوجهين تدور لعبة «الغربة» التى يعبر عنها أبو حيان التوحيدى، وهو صوت من الماضى تتقاطع غربته مع غربة بطلينا، نتأمل قرار التوحيدى بإحراق كتبه، ونتعجب منه، فهو أمر ضد منطق الرواية فى تحية الكتابة والكتاب، لو بُعث التوحيدى من جديد، لعرف أن ما تركه من رسائل، وليس ما أحرقه، هو الذى كتب له الخلود.
تتصدر رواية «فهرس» عدة اقتباسات تهدى القارئ مفاتيح الرحلة، وتتوزع بين الحديث عن الكتب والزمن والذاكرة، وتكاد روايتنا تترجم حرفيا ما قاله الجاحظ عن الكتاب عموما بأنه «ينطق عن الموتى وترجم كلام الأحياء»، ولعلى أضيف بأن روايتنا العظيمة تجعل من الذاكرة سفينة نجاة فى نهر الزمن المفقود.
من جريدة الشروق المصرية