يخصنا الشاعر المغربي فتح الله بوعزة بنص شعري جديد يؤكد من خلاله قدرته على التقاط التفاصيل الحميمية للقصيدة عندما تتواشج كينونة الشاعر مع كينونة القصيدة في تماهي خصب يولد العديد من الدلالات، لتظل كينونة الشاعر قصية وهي تبحر في غربة العالم اليوم وهو ينهض من تعاسة الإنسان، فيما اختار الشاعر أن يظل العين النفاذة التي ترصد مفارقاته.

مدّاحُ النّدمِ

فتح الله بوعزة

لمْ يكنْ عليّ أن أنْهضَ باكراً

وأرافقَ المسافرينَ إلى مَحطّةِ الرّاديو

لأرمّمَ أصْواتَهمْ، ورسائلَهمْ إلى الأهْلِ

والْكرْمةِ التي تحْرسُ الْبيوتَ

ونوايا الْغائبينَ

 

لم يكنْ عليّ أنْ أُحَمّلَ هذهِ الْعرَباتِ

بالْفواكهِ، والمنْشدِينَ، وأحْلامِهمْ

والمياهِ التي سالتْ منْ كُفوفِ الرّفاقِ

 

لمْ يكنْ عليّ أنْ أدْفعَها إلى الأمامِ

 

كانَ المطرُ غزيراً

وكنْتِ تمْرُقينَ ضاحكةً بينَ الأشْجارِ

خلفَ بارقةِ شمْسِ

فَامْتلأتِ الْعرباتُ بالمحاربينَ

وباعةِ الْورْدِ

وبلّلَ الْغبارُ  لِحْيتي!

 

أنا الآنَ تمثالٌ حمّالٍ

سيّئِ الصّنْعةِ

 

كلّما طارتْ فراشةٌ

تناثرَ الزّجاجُ منْ جَسدِي

 

وكلّما مرّتْ بي صَبايا الْحيّ

أشرْنَ إليّ

و ضحِكْنَ من شيئٍ غامضٍ

في خاصِرَتي

 

كانَ عليّ أنْ أسيرَ الْهُويْنى

كأيِّ رامٍ حَذِرٍ

يحْجلُ بينَ الأعْشابِ

قوسٌ في الْيدِ

و سهْمٌ في الْيدِ الأخْرى

وعيْناهُ على غيْمةٍ

تَفكُّ ضفيرتَها

فتُربكُ سهْوَ الْحمامِ

 

كانَ عليّ أنْ أحْملَ طفْلتِي

على كتفيَّ

وأنْ أدْفَعَها قليلاً إلى السّماءِ

لتقْطفَ نجًمةً منْ

شُجيْراتِ الأَعالي

وَتمْسحَ وجهَ الْقمرِ

 

لمْ يكنْ عليّ أن أُغمضَ عيْنيَّ

وألمسَ روائحَ الْقادمينَ من أبْوابٍ مُتفرقةٍ

 

أنا الآنَ حائطٌ مُعمِّرٌ

بأصابعَ مُفكّكةٍ، وحنينٍ قديمٍ

أعرفُ أسماءَ النّساءِ منْ ضحْكاتِهنَّ

وَوَقْعِ أَساورِهنّ على الرّملِ

 

أذكرُ عشّاقَ جيفارا و النّقْشَبنْدي

و عددَ الشُّعيْراتِ البيضاءِ

في لِحيةِ مارْسيلَ

والملاحِدةَ الذينَ لمْ يشْركوا باللهِ أحداً

 

أذكرُ كلَّ الزُّناةِ، والمارقينَ وتابِعيهمْ

والطّيباتِ، والطّيبينَ

 وتابِعيهمْ منَ الأطْفالِ، والمتلَصِّصينَ

وباعةِ الورْدِ، والأمْشاطِ، وأقراصِ السَّعادةِ

أتحسّسُ ريحَهمْ، وأصابعي المفكّكةَ

قبل أنْ أغمضَ عينيّ ثانيةً !

 

 

شاعر من المغرب