اِنْفتحَ البابُ الرّماديُّ على مكتبٍ ضيّق لا يحوِي مِنَ الأثاث غيرَ طاولةٍ صغيرة تُحيطُها بعضُ المقاعدِ الخشبيّة العتيقة. إلى هناك دَلفتْ فتاةٌ نحيفة يصعُبُ تحديدُ سنِّها بسببِ التّناقض الغريب بين قامتِها الصّلبة المنتصِبة وبين وجهِها الشّاحب القاسي كوجه مُـحتضَرة في النّزْعِ الأخير.
تَسمّرتِ الفتاةُ في مكانِها قُربَ الباب دون أن تتقدّمَ خطوةً واحدة نحو الطّاولة.
- أهلا، سيّدتي. تعاليْ، أرجوكِ. أنا طبيبُك... بل صديقُك. هيّا، اِقتربي أكثرَ. سنتحدّثُ معا. ما رأيُكِ؟
رغم اللّهجةِ اللّطيفة المتأنّية لم تَتقدّمِ الفتاةُ قيدَ أنْـمُلة نحو مُحدِّثها. ظَلّتْ تُحملِقُ فيه بعينيْن جاحظتيْن، كأنّها لا تسمعُ ما يقولُ أو لا تعِيه. ثمّ، على حينِ غفلةٍ، هرولتْ ناحيةَ النّافذة المطلّة على شارعٍ رئيسٍ يختنقُ ضجّةً وزُحاما كمنْ تهمُّ بإلقاء نفسِها منها. بيدَ أنّها تسمّرتْ مِن جديد في مكانِها كتمثالٍ لا حياةَ فيه.
بقِيتْ تتأمّلُ الشّارعَ الفسيح باهتمام وتركيز. كان كلُّ شيءٍ عاديّا جدّا: الجموعُ الغفيرة تقطع المكانَ جِيئة وذهابا، الحركةُ مستمرّةٌ كعادتِها، الحياةُ تَـمضي رتيبةً جدّا. لكنْ بالنّسبة إلى مَن افتقدت العالمَ الخارجيّ مدّة ليستْ بالقصيرة قضتْها في مَشْفَى الأمراضِ العَقليّة والنّفسيّة يتراءى لها كلُّ شيء جديدا بلْ غريبا أيضا. بها شوقٌ جارفٌ إلى أجواء الفضاء العامّ.
اِستطردَ الطّبيبُ بعنادٍ الخبير الّذي لا يُدركُه اليأسُ:
- آنستِي، خليقٌ بك أنْ تفرحِي بالحرّيّة وتستعدّي للحياة الطّبيعيّة. أنتِ الآن طليقةٌ. فـلِمَ الوُجومُ؟!
لم تُعِر الفتاةُ كلامَه أدنَى اهتمام. إنّما واصلتْ تأمُّلَ الشّارعِ الحيّ.
- يجب أنْ يُمحَى الماضي مِن ذاكرتك كلّيّا ونهائيّا. أعرِفُ أنّ النّسيانَ ليس أمرا يسيرا، ثمّ إنّه لا يتحقّقُ بمجرّد قرار. ولكنّه جديرٌ بالمحاولة. حاولي فسْخَ ما مضى، حاولي.. هه!.. ما تقولين؟
- أقولُ أنّكَ لا تفهمُ شيئا.. أنتَ لا تفهمني إطلاقا!
اِندفع صوتُها غامضا حزينا جافّا. فبدتْ كذاك الّذي يستردُّ النّطقَ بعد عقودٍ مِن الخَرَس. هو صوتٌ شحذَ آمالَ الطّبيبَ في محادثةٍ أنْجعَ:
- حسنا. حاوِلي أنْ تُفهِمِيني. قُولي ما شئتَ. كُلّي آذانٌ صاغية.
- أينَ كنتِ إلى هذه السّاعة؟
- في المقبرة.
- وما تفعلينَ في المقبرة؟! تَتسلّيْنَ مع الأموات؟!
- أترحّمُ على أرواحِ الشّهداء.
انفجرتْ ضاحكةً بأسلوبها الاستفزازيّ المعتاد لِتُردفَ ساخرةً:
- شهداء؟! وهل في أسْرتِنا العريقة شهيدٌ واحدٌ؟! تقولُ 'شهداء'! يا لَلغباوة!
ثمّ استأنفتْ ضحْكتَها الهستيريّة الأشبهَ بِنَوبة عوِيل... حتّى كادتْ تختنقُ.
- كُلُّ مَن تَعذّبَ برُؤيةِ وجهكِ فقد ماتَ شهيدا.
كان تلك المرّةَ الأُولى الّتي أتحدَّى فيه جدّتي. ثأرتُ لنفسي وقد أثارتْني سُخريتُها حدَّ الجنون. اِكتسبَ وجهُها لونًا قاتِـما مُقرِفا لم أعهدْه مِن قبلُ. هو لونُ الأشباح. لقد اعْتدتُ أن أتخيّلَها بكلّ الصُّور الوحشيّة البشِعة. لكنْ في هذا المشهد المريب وجدتُني عاجزةً عن التّخيّلِ. فكيفَ بِالوصفِ والتّصوير.
نهضتْ مِن على مقعدِها وقد تصلّبتْ يدُها الممسكةُ بعكّازها القديم. لاحظتُ أنّ عينيْها تزدادان احمرارا مع كلِّ خطوةٍ تخطُوها باتّجاهي. أدركتُ الخطرَ الدّاهم. فكّرتُ أن أدْفعَ عنّي هذا الشّرَّ الزّاحف. لكنّ وهنًا شاملا تـملّكني حتّى أعْجَزني عن الحركة. وإذْ لامستنِي ذؤابةُ عكّازها أيقنتُ أنّي كنتُ أسيرُ القهْقرَى فزِعةً متثاقِلة وأنّ رزمةَ الكتب الّتي كنتُ أحملُها قد تبعثرتْ في أرجاء الغرفة وداستْها أرجلُ العجوزِ الثّلاثُ.
والآن: الجدارُ ورائي، والشّبحُ أمامي. لا مفرَّ إذنْ مِن المواجهة.
لستُ أعرفُ كيف حَصل ذلك بكلِّ تلك السّرعة. أذكرُ، فحسْبُ، أنّ حالةً مِن الرُّعبِ والهوسِ والغضب الـمَجنون قد استبدّتْ بي فجأة. أذكرُ أنّ يَدَيْنِ تُشبهان يَدَيَّ قد أطبقتا كالكُلاّبتيْن على عنقِها الهزيلةِ المتجعّدة. أذكرُ أنّي لم أسمعْ الصّرخةَ المدوِّية الّتي كان يجب أنْ تَنْفَجِرَ وتُوقظَ النّاسَ أجْمعِين مِن سباتِ آخر اللّيل.
فكرةٌ يتيمةٌ أنارتْ عقلي: 'أخيرا فَعَلتُها'!
في اللّحظةِ تلك رنّ جرسُ الهاتف. اِرتجفتُ حتّى كدتُ أسقط مَغشيّا عليَّ. فقد خِلتُه جدّتي تصيحُ بي كعادتها لأبحث لها عن نظّاراتِها التّائهة في مكانٍ مّا. اِمتدّ بصري غصْبا عنّي نحو عينيْ جدّتي : كانتا، للمرّة الأُولى، تحدِّقان في الفراغ بلا نظّارات دون أن تستنجِدَ بي صاحبتُهما زاعقةً كيْ أبحثَ لها عن العينيْن الصّناعيّتيْن.
إنّها ميْتةٌ! وإنّي القاتلةُ!
ذكّرني بريقُ العينيْن الـمُنطفِئَتيْن بأيّامِ طفولتي السّحيقةِ لـمّا كنتُ أسألُها بإلحاحٍ واستعطاف:
- جدّتي، أين بقيّةُ أفرادِ 'عائلتنا العريقة' كما تُسمّينَها؟
- لا أحدَ لكِ في الكونِ غيرِي.
- ولكنْ لماذا، جدّتي؟
- لأنّكِ لا تَستحقّين مِنَ الأقارب سوايَ أوّلا ولأنّه يجب أن تخرُسِي ثانيا.
تقولُ ذلك وقد تلوَّنَ وجهُها بشحوبٍ داكن كئيب. فيرتعبُ قلبي الصّغيرُ مِن هوْلِ المشهد. وأخْرُسُ.
أنا لم أُحبَّها يوما. كنتُ أحلمُ في يقْظتي ومنامي بالتّخلُّصِ منها. طالما تصوّرتُها الشّرَّ الوحيدَ في حياتي. طالما تخيّلتُ حلاوةَ الوجود بعد غيْبتِها الأبديّة. والآن، لِمَ هذا الشّعورُ الحادّ بالغربة وَسْطَ بيتٍ أمضيتُ ثلاثةَ أرباع عمري بين جدرانه الصّامتة؟ ألِأنّ الّتي كانتْ تُعمّرُه وتُشيعُ فيه ما يُشبِه الحياةَ قد انسحبتْ، وأنا الّتي أجبرتُها على الرّحيل إلى العالَم السُّفليّ دون رجعة؟
لماذا سارعتُ بقتلِها؟! مَنْ أدرانِي، ربّما كانتْ تقتربُ منّي لتُقبّلني؟!
هذا مُحالٌ. لستُ أذكرُ يوما حاولتْ فيه تقبيلي أو مُلاطفتي أو حتّى مُناداتي بصفةٍ محبَّبة. كان التّجهُّمُ والعبوسُ والعِداءُ السّافرُ طبعَها الّذي لم أرَ له تبديلا ولم أجدْ له تعديلا.
ما زلتُ أذكرُ سنواتي الدّراسيّةَ الأُولى عندما كنتُ أعْدُو لاهثةً إلى بيتنا نهايةَ كلِّ امتحان لأبشّرَ جدّتي بتفوّقي. ما زلتُ أراها تأخذُ منّي دفاتري، تُلقي عليها نظرةً سريعة مَيْتَة، تردُّها إليّ دون أن تنبسَ ببنْتِ شفة أو تفتعلَ ابتسامةً تُبدِّد خيبةَ أملي. ما زلتُ أراني واقفةً أمامها أُلاحقُ حركاتها وأنتظر متشوّقةً أدنَى اعترافٍ بما أنجزتُ.
لقد جعلتْني أُومِنُ بأنْ لا قيمةَ للنّجاح ولا معنىَ للتّفوُّق. لقد دفعتنِي إلى التّسليمِ بأنّي الفاشلةَ مهما اجتهدتُ. لقد حرّضتْ ضدّي أعوانَ البُؤسِ والخيبةِ والفشل.
- مَن قتلَها؟ ألا تذكرينَ بعضَ صفاته؟ أين كنتِ أثناءَ وقوع الجريمة؟ ألا تَشُكّينَ في شخصٍ معيَّن؟ أليسَ لجدّتِك أعداءٌ؟ أين...؟ متَى...؟ كيف...؟ لماذا...؟...
لم أُجبْ. اِنهمَر الكلامُ مِن فمِ الضّابط الشّابّ المتّقدِ حماسةً. أمْطرني، بمجرّد أنْ دخلتُ وأعلنتُ أنّ جدّتي قد قُتِلتْ، بِوابلٍ مِنَ الأسئلة الدّقيقة كَمَنْ يستعرضُ محفوظَةً. ظلّ يسألُ متفرِّسا فيّ بعينيْن ناريّتيْن تفيضان شكّا واتّهاما وإيهاما بمعرفة الحقيقةِ كلِّ الحقيقة.
- ينبغي أنْ نتحوّلَ على عيْنِ المكانِ بأقصَى سرعةٍ ممكنة.
قالَها كبيرُهم وقدْ بدا عليه القلقُ والتّوتُّر. أيكونُ آسفا على جدّتي؟!
اِندفعتْ بنا السّيّارةُ صوْبَ البيت الكئيب دون أن تُخطئَ الهدفَ. لم يسألْني أحدٌ عن العنوان طيلةَ الرّحلة. فالجميعُ، على ما يبدو، يعرفونَ معقلَ الرّاحلة.
- مَن قَتلها؟
إنّه هو، ذاك الضّابطُ الشّابّ نفسُه. كان يقفُ قبالتي منتصبَ القامة ثابتَ الجأش حارقَ النِّظرة. فألفيْتُني أشغلُ النّفسَ بالنّظر إلى القتيلة الّتي أُنهِكتْ فحْصا وقيْسا وتصويرا. لم تُغيِّرْ مِن ملامحها شيئا. حتّى النّظرةُ العدائيّة ونصفُ الابتسامة الهازئة ما انْفَكّتا مفعمتيْن بالحيويّة.
أعلنتُ بهدوءٍ وجرأة بعد أن أيقنتُ أنّ الحقيقةَ ستُعلِنُ عن نفسِها وتَفضحني شرَّ فضيحة. لا مفرَّ، إذنْ، مِن الاعتراف. إنّه على الأقلّ بُرهانُ شجاعة:
- ربّـما أكونُ أنا!
- لا قاتلَ ولا قتيلة. لقد تُوفّيت المسكينةُ بسبب سكتة قلبيّة مفاجِئة. أحرَّ التّعازي، سيّدتي. إنّه لَفقْدٌ عظيمٌ.
لم أردَّ. اِنحبسَ صوتي. تـمنّيتُ لو كنتُ صمّاءَ كيْ لا أسمعَ هذا القرارَ الرّهيب.
- كاذبٌ! أحمق! هُراء ما تقولُ!... أنا الّتي خنقتُها بيديّ هاتيْن! يجبُ أن تصدّقني! لا يحقُّ لك تزويرُ الوقائع.
ودونَ أن أشعرَ أَلْفيتُني أنقضُّ على ذاك المتكلِّم وأسحبُه مِن ربطة العنق وأُشبِعه ضرْبا وركْلا وعضّا صارخةً في وجهِه المصدوم المفجوع:
- أنا القاتلةُ، يا كاذب! أنا القاتلةُ رغمَ أنفك!
- مجنونة! معتوهة! أنْقِذُوني مِنها!
لستُ أدري كيف خلّص نفسَه مِن قبضتي...
اِستفاقَ جميعُ الحاضرين مِن الصّدمة. فهرعُوا ليفكُّوه مِنّي. لِـمنْ هذه اليدُ الغليظة الّتي أمسكتْ ذراعي وقيّدتْ حركتي؟ إنّه هو: ذاك الضّابطُ المتحمِّس المتعجرِف الّذي يُلاحِقني كظلّي. تَـمنّيتُ أن أنهشَه بأسناني. لكنْ لم أقدرْ أن أُحرّكَ ساكنا. بحثتُ بناظري عن جدّتي في ركنها الرّكين. لم تكنْ هناك. لقد أخذُوها. بيد أنّهم أهملُوا رفيقيْها الأثِيريْن: العكّازَ والعينيْن الزّجاجيّتيْن.
سألتُ الضّابطَ الّذي خفّف قبضتَه عليّ وأنا أُشيرُ إليْهما:
- لِـمَ تركُوهما؟!
أطلقَ سراحَ ذراعي. وأجابني ببرود:
- لا حاجةَ بنا إليهما. هما لكِ الآنَ.
تقدّمتُ نحوهما بحذر شديد. وكيف لا أرتعبُ في حضرةِ الدّليل على جريمتي؟! هما العلِيمان بكلّ ما دار هنا. هما الشّاهدان على أنّي أخيرا فعلتُها.
- ما الّذي تفعلينَ، يا حمقاءُ؟
زَمجرتْ جدّتي في وجهي وهي تُسرع الخطى نحوي. ألجمَتْني الدّهشةُ. إذْ لم أجدْ سببا لغضبِها الـمُفاجئ. كلُّ ما فعلتُ أنّي ركبتُ عكّازَها كما لو كان جوادا عربيّا أصيلا بينما كانت هي تتهيّأ لأداء صلاتها. لكن يبدُو أنّ هيأتي قد أزعجتْها إلى الحدّ الأقصى. فقد انتشلتْ منّي العكّازَ العتيقَ بفظاظة وأخذتْ تتفحّصه بعناية تارة وترمقني بنظرات عدائيّة حانقة تارةً أخرى.
كانتْ تلك هي المرَّةَ الأخيرة الّتي ألمسُ فيها ذاك العكّازَ. لقد أضحَى مِن تلك الحادثة نذيرَ شؤم بالنّسبة إليّ.
والآن... سآخذُ بثأري مِنه ومِن صاحبته المسافرةِ إلى العدم!
اِلتقفتُه لِألقيَ به في نفسِ ذاك الرّكن الرّكين. لكنّه تصلّبَ. لم يكنْ هشّا هزيلا كرفيقته. أخذَ مكانَ جثّتها دون أن تتراخَى عضلاتُه كما كان حالُها. تركتُه سريعا لأنّي شعرتُ بالضّعف حِياله. اِلتفتُّ إلى النّظّارات السّميكة. اِلتقطتُها لأضعَها على عينيّ كما كانتْ تفعلُ هي. رأيتُ قُبالتي وجها كبيرَ الشّبه بالوجه الغائب، لا تنقصُه إلاّ النّظرةُ الغامضةُ المخيفة الّتي تشعُّ مِن عينيْن حمراويْن ذابلتيْن لا حياةَ فيهما ولا رحمةَ.
تقدّمتُ نحوَه ببطء وقد راودني الشّكُّ في أمره. أيقنتُ حينها أنّه وجهي ارتسمَ في المرآة المقابلة.
عجبا! أيُـمكن أن تُشبِهَ القاتلةُ ضحيّتَها إلى هذا الحدّ؟! أربكتني هذه الحقيقةُ. ووجدتُني رغم ذلك أُحاول أن أنظرَ إلى الأشياء مِن حولي بعينيْ جدّتي.
كانتْ أشعّةُ الشّمس الشّتويّة تتسرّب مِن شقوق النّوافذ دون أن تبعثَ فيّ شعورا بالدّفء والارتياح كما كانت تفعلُ قبْلا. هذا الصّباحَ كلُّ شيء مختلِفٌ عمّا عهدتُ. حتّى كتبي، عشقي الأكبرُ، لم أجدْ فيها ما يُغري. وصورةُ الجدار تلك الّتي عشقتُ دومًا طِفليْها المبتسميْن للحياة وألقيتُ عليهما تحيّةَ الصّباح كلَّ يومٍ، رفضَتْ عينايَ أن تلتفتا إليهما وعجز لساني أن يقولَ لهما: «صباحَ الخير، صباحَ الورد، صباحَ الفلّ...» هذا اليومَ المشؤوم.
لمْ أشأْ أن تَنقلبَ حياتي، على بُؤسِها، رأسا على عقِب. أنا لمْ أُردْ أن يحدثَ ما حدثَ.
عندما انتبهتُ إلى وجودِ الضّابط الشّابّ قابعا في نفس المكان مُذْ حلَّ بالبيت مع جماعته، كانت ابتسامةٌ قاسيةُ السّخريةِ ترتسم على وجهه النّحيل، ابتسامةٌ تجمّدُ الدّمَ في العروق. لاحظَ دهشتي وارتباكي وأنا أُدقّق النّظَرَ فيه. فلم يتمالكْ نفسَه عن الإغراق في القهقهةِ حتّى طفَرتْ دموعُه.
- أتضحكُ؟! مِمَّ تضحك؟!
- ولـمَ لا! ما دامت الممنوعاتُ لم تَطَلِ الضّحكَ بعدُ.
- ستَطالُه يوما مّا.
أجابَ ببرودٍ غيرَ عابئ بثَورتِي ووعِيدي:
لمْ أرغبْ في مواصلة جدلٍ عقيم. فتجاهلتُ وجودَ الوجهِ الباسمِ العابس. ذاك هو الحلُّ الأمثلُ الآن.
ثقُلَ عليّ تحمّلُ النّظّارات. فانتزعتُها بلهفةِ مَنْ يخافُ العدوَى. ولكنْ، وأنا أُزيحُها مِنْ على عينيّ، ألقيتُ نظرةً خفيّة خاطفة على الشّرطيّ. كنتُ أريد أن أعرفَ ردَّةَ فعله تجاه ما اقترفتُ.
اِجتهدَ هذه المرّةَ كي يرسمَ ابتسامةً حقيقيّة. ثمّ قال بوداعةٍ فاجأتْني:
- يبدُو أنّك شديدةُ التّأثّر بشخصيّة المرحومة. وأعتقد أنّك قادرةٌ على تعويضها وسدِّ الفراغ الرّهيب الّذي تركتْ. أنتِ تُشبهينَها إلى حدٍّ كبير، بل كدتِ تكونين نسخةً طِبْقَ الأصل منها.
أتُراه يجاملني؟ أهو يسخرُ منّي؟ عنْ أيِّ شبهٍ يتحدّثُ هذا الأبلهُ؟! أين رأى النّسخةَ الكريهةَ؟!
اِستأنفَ حديثَه بعد تردّدٍ قصير كشفتْه نبراتُ صوتِه المرتعِشةُ:
- آه! نسيتُ أن أقدِّمَ إليك أحرَّ التّعازي. اُعذريني. أنا آسفٌ جدّا على نسيان الواجب. لا أراك اللهُ مكروها في عزيز عليك مستقبلا.
بدا سخيفا جدّا كطفل يعترفُ بارتكاب حماقةً مّا آملا في المغفرة. فانخرطتُ في ضحكٍ هستيريّ سرعانَ ما استحالَ بكاءً ثمّ عويلا. واختلطتْ عليّ السّبلُ. فألفيتُني أضحك تارة وأبكي طورا أو أضحك وأبكي في الوقت نفسه. لم أجدْ تفسيرا للتّمزّق الّذي يطحنُ صدري كالإعصار. أهذا لأنّي لم أستطعْ تحديدَ شعوري مِن الجدّة المرحومة؟ هل أكونُ سعيدةً بالخلاص منها أو حزينةً لرحيلها؟ لستُ أفهمُني.
آه منكِ، يا جدّتي. عذّبتِني حيّةً. وضَيّعتِني ميْتةً.
في زنزانتي الكئيبةِ الحقيرةِ كنتُ أنامُ مستيقظةً وأستيقظُ كالنّيام. وفي السّاعات القليلة الّتي يصحُو فيها ذهني ويصفُو كنتُ أحلمُ وأقرأ وأكتبُ وأبكي وأغنّي وأفكّر... دُفعةً واحدة. كلُّ شيء جائزٌ في حالاتِ اليقظة الثّقيلة على القلب الـمُضْنيةِ الجسدَ. كنتُ كلّما شرعتُ أكتبُ جنّح بي الخيالُ إلى حيثُ النّجومُ. وقبْل أنْ أسطِّرَ حرفا، تنبتُ فجأةً الجدّةُ الفانيةُ مِن شقوق الجدران لتُبدّدُ مؤلَّفاتي بنظرةٍ واحدة مِن عينيْها الجاحظتيْن الباردتيْن أو بلمسة يتيمةٍ من مؤخّرة عكّازها الغليظ. كانتْ جدّتي موهوبةً في قتْلِ الأحلام.
كنتُ أُضرِبُ عن الأكلِ أيّاما. ثمّ أتراجعُ خائرةً وقد أنهكني السّعيُ إلى استدرار عطْفِ المرحومة. أقصى ما كنتُ أحصِّل منها هو قولُها:
- اِفعلي ما شئتِ. لا تنتظري منّي نُصحا أو تعاطُفا. هل تتصوّرين أنّي سأتمسّح بأذيال ثوبكِ لتأكلي؟! إنّك أكبرُ حمقاء في الدّنيا لو تصوّرتِ ذلك!
أحيانا أخرى كنتُ أمتنعُ عن النّومِ كيْ أعيشَ أطولَ وقتٍ ممكن مع الماضي الـمُثير. لكنّي لم أُوفَّق كثيرا في ذلك. إذْ استيقظتُ مرّاتٍ عدّة كالمخدَّرةِ على الصّوتِ المزمجِر السّاخر:
- كفى تكاسُلا وتناوُما! اِنهضِي لدراستك. أمْ تُراكِ تُريدين أن أذهبَ بنفسي عوضا عنكِ؟!
لا.. لا، يا جدّتي، لا تذهبي!
بيد أنّها ذهبتْ دونَ أن تُصغِيَ إليَّ. ليتني أُدرِكُها في طريقها الغامض نحو المجهول. ليتني... ويْلِي مِنْ هذا الهذيانِ العبثِيّ! أَلستُ مَنْ دفعتْ بها في ذاك الطّريق؟ فكيف أزعُمُ الآنَ أنّي أجهلُه؟! أتُرانِي نَسيتُ أم تناسيتُ؟! هل غَزَتِ الثّقوبُ غيرُ القابلة للرّتْقِ ذاكرتي؟! هل أصابني داءُ فقدان الذّاكرة؟! أيكونُ بي مسٌّ مِنْ جنون؟! ربّما.. فكلُّ ما أعلمُ أنّي لا أعلمُ شيئا.
- ± ± ± ±
كلُّ شيءٍ يذكّرني بكِ، أيّتها المسْتبدّةُ الفانية. آثارُكِ ما تزال قائمةً شامخةً تبعثُ في النّفسِ الرّعبَ والإعجابَ معا. صوتُكِ الكريهُ ما انفكّ يَرنّ في أذني مُدوِّيا يكادُ يصمُّها. جثّتُك ما فتِئتْ ماثلةً أمام ناظري تستفزّني هازئةً بي وبالموت: أراها في شرطيِّ الباب وفي الطّبيبِ الـمُتحذْلق وفي سجّاني الحنونِ الرّحيم، أراها حتّى على جدران زنزانتي الـمُعتِمة، أراها حيثُ يجب ألاَّ تكونَ.
كلُّ شيءٍ يَشهدُ أنّني 'أخيرا فَعلتُها'. بيدَ أنّ الحاكمين بأمرهم يُكذّبون اعترافي ليُصدّقُوا أوهامَهم.
تونس: مارس 2017
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كنتُ كتبتُ هذه القصّةَ منذ حواليْ ثلاثةِ عقود. أهملتُها في الأرشيف حتّى كدتُ أنساها. لم أفكّر في مراجعتها ولا في نشرها طيلةَ هذه المدّة. والآن أعودُ إليها احتراما لحلمٍ طفوليّ لم يكبرْ لأسبابٍ شتّى.
حرصتُ على ألاّ أغيّرَ مِن النّصّ الأصليّ إلاّ ما يجب تغييرُه مِن أخطاءٍ لغويّة وضعفٍ تعبيريّ. أمّا البنيةُ الحدثيّةُ والشّخصيّاتُ الفاعلة والرّوحُ المهيمنةُ فظلّتْ كما صاغتْها قبْلا 'فوزيّة الشّطّي' الطّفلةُ الفتيّةُ.