إلى / محمود عبد الوهاب
كما تعرفون جميعاً، لستُ بارعاً في وصف ملامح الشخصيات، لستُ بارعاً في تصوير مشاعر الضحية عندما تنجو من حدث مفاجئ ـ أو ما تحسبه هي نجاةً ـ لستُ قادرا ً على توظيف الأحداث البسيطة لكتابة الأفعال السردية المؤثرة في مسار القصة، لست قادراً على أنسنة الأشياء كي تشترك في الحبكة، لكنني ـ وهذا ما سأبوح به للمرة الأولى ـ أمتلك القدرة على أن أسير في الممر السردي الذي وضعه الراوي العليم حتى لو كان هذا الممر يؤدي إلى الموت! وهذا ما حدث في (قصة الملاعق).
عندما دخلت مطعم الباب الشرقي للمرة الأخيرة في تلك الظهيرة الحارة، رأيت وجه النادل ملتصقاً بزجاج الواجهة النظيف، وكأن الزجاج هو الذي يحدق بي، فيما جلس هو تحت المروحة السقفية المتسخة، خلف منضدة معدنية من مخلفات الدولة، حدست أن الرجل يتهيأ لكتابة قصة جديدة، ربما مر عليه وقت طويل مذ كتب آخر قصة ثم أرسلها إلى النشر بعد تردد وتردد ...
أيبحث الآن عن شخصية ما تتلبس ما يعتريه من مخاوف بسبب سوء الرزق كما يقول؟ فلم يكن اليوم يوم نزول للجنود، بل أن الجنود اختاروا مطعماً آخر لتناول غدائهم، ومع ذلك فثمة ثلاثة أشخاص أو أربعة يتناولون غداءهم المتأخر في موائد متفرقة، ظل النادل المتعب يلعن في سره ذلك الرجل الذي دخل المطعم متأخراً، تظاهر بالنوم كي لا أدخل المطعم، لكنه لم يعلم إنني قررت أن ادخل في الممر السردي ...
تجاوزت مائدتين أو ثلاثاً وما زال وجه النادل ملتصقاً بزجاج الواجهة، رأيته يرمقني بتلك النظرات المريبة، وعندما اجتزت المنضدة التي يجلس الرجل وراءها سمعته يغمغم بتلك الكلمات المشوشة، كان صوته غائراً في داخله :
هذا هو! إنه أفضل شخصية ستموت في القصة!
وقبل أن أجلس سويت بإصبعي غطاء المائدة ودفعت الإناء البلاستيكي كي أتأكد تماماً من إنني سأراه عبر المرآة الصدئة التي تحيط بجدران المطعم.
جلست مسترخياً على الكرسي الخشبي لأبدد التعب، وتلفت قليلاً قبل أن أبدأ بتعداد الأوراق النقدية كما وصفني في القصة، رأيته عبر المرآة الصدئة دون أن يشعر بي ، كان وجهه يشبه أوراقاً متهرئة بللها العرق المالح وهو ينز من جسد أحد الجنود.
فجأة ً أحسست أن درجة الحرارة تزداد بمعدل عال، كل شيء أصبح ساخناً في المطعم، الملاعق التي سميت القصة بها، الكراسي الخشبية التي تحتاج إلى صيانة بكل تأكيد، زجاج الواجهة النظيف، وجه النادل الذي لوحته الدهون وأبخرة الحساء، قدور الطعام التي صنعت من الألمنيوم المعاد، الطعام نفسه، المناضد البلاستيكية المتيبسة، الأوراق التي كان يعبث بها وهو يراقبني عبر المرايا، المرايا التي تحيط بجدران المطعم كرقية ضد الحسد، المروحة السقفية الحديثة وقد ازدادت سرعة دورانها دون جدوى، الساعة الخشبية القديمة المعلقة خلف المنضدة التي يقف ورائها الآن، وتذكرت إنني شاهدت هذه الساعة في قصة سابقة، رأيت الساعة تشير إلى الثالثة تماماً عندما جاء ذلك النادل وسألني بسخافة إن كنت أمتلك ثمن الطعام؟ رمقته بغضب وأمرته أن يأتيني بطبق الرز مع اللحم، فأومئ للنادل أن يلبي طلبي بسرعة، تناولت طبق الرز بهدوء تام، أحسست بدقات قلبه كملاعق من الفولاذ الممتاز وهي تسقط من أعلى حوض الغسيل بتراتب مقيت، وفكرت في نفسي :
عندما تنتهي أعداد الملاعق ستنتهي دقات قلبه!!
لكنني انتبهت إلى أن الملعقة التي أتناول بها طعامي صنعت من (الفافون) الرخيص، وباصطدامها مع إناء الطعام الذي فقد بريقه صدر ذلك الصوت المتقطع الذي يشبه صوت بكاء على كتف صديق حميم، فيما ظل الحر الشديد يعطي الصوت ملمساً خشناً، ويجعل قطرات العرق تسقط على المائدة قبل أن أمسحها بردن القميص.
كان يريد للقصة أن تنتهي بسرعة كما أود أنا كذلك الآن، وربما يود أحد القراء ذلك أيضاً، هل كان ذلك بسبب الحر الشديد؟ هل كنت أثير شكوكاً ما؟ ألم أضع الصوت في مكانه الصحيح في القصة؟ هل فقدت القدرة على التنبؤ بالنهايات المقنعة؟ لست أدري!
لكن المطعم اختنق فجأة ، دخل خليط من المدنيين والعسكريين، فاشتدت درجة الحرارة سخونة، وازدادت معها دقات قلبي، وقلبه أيضاً، وقفت سيارة بلون الصحراء وسدت واجهة المطعم، رأيت النادل يحاول الخروج من المطعم لكنه وقع في قبضة رجلين مسلحين : كلب ، حقير، لن تستطيع أن تفلت منا!
هكذا صرخوا في وجهه، سحلوه على الأرض بقوة واقتادوه نحو السيارة، تركت ملابسه ونوبات صراخه أثرها كبقع حارة على الرصيف الرمادي المتسخ.
أما هو فقد وقف حائراً، رأيته الآن مباشرة وليس عبر المرايا الصدئة التي بدأت تعكس الوجوه القذرة لهذا الخليط، سقطت الساعة الخشبية القديمة، وكأن الوقت الروتيني المتهرئ هو الذي أسقطها، فيما ظلت المروحة تدور بسرعتها العالية، تبعثرت الكراسي القلقة وتكسر بعضها، وانقلبت المناضد البلاستيكية ومعها قطعة اللحم اللذيذة التي تباطأت في ازدرادها، وملأت القدور أرضية المطعم، ولم يكن فيها طعام كثير كما خمنت، ظلت الملاعق تصدر ذلك الصوت الواهن الذي يشبه صوت كائن ما يحتضر الآن، وسمعت أصواتهم :
أنت متستر عليه، ستنال العقوبة نفسها!
أحاطوا به فلم أعد أراه، أصبح المطعم فارغاً وتطايرت الأوراق التي في يده، حرصت على جمع الأوراق جميعاً، فقد التصقت بقوة بأرضية المطعم الدبقة، وكادت الأرضية الساخنة تشوهها، كانت الأوراق تؤلف هذه القصة، لكن ما لم أتوقعه إنها قصة مكتملة، وإنه كان يعرفني تماماً، فأنا المطلوب هنا، وليس هو أو النادل، ثمة راو تدخل في القصة، أو ثمة سوء فهم، لذلك خرجت مسرعاً، وأخفيت مكاني حتى عنكم، غير أني تأخرت بنشر هذه القصة، ربما بسبب الحر الشديد.