هنا يتناول الناقد والمترجم المصري ديوان الشاعر بسام حجار الأخير ويتعرف على استراتيجيات تذويب الحدود بين المتكلم، والظواهر، والمفاهيم المجردة، وكيف يصير مفهوم الوجود أثرا في العدم.

ظلال تتجاوز صمت الأشياء

في (سوف تحيا من بعدي) لبسام حجار

محمد سمير عبدالسلام


تنشئ اللغة الشعرية مجالا فريدا من الدوال، والعوالم المحتملة بوصفها وجودا استعاريا في ذاته، أو تأويلا لحالة من حالات وجود الكائن، ومن ثم فهي تتخذ مسارا سيريا تاريخيا يشبه لحظة الحضور، أو العدم، فتختلط بالأخيلة الواقعية، والمتكلم الواقعي بوصفه أثرا يتجدد في ديناميكية هذه اللغة الفريدة. نلاحظ تحقق هذا الملمح في تجربة بسام حجار الشعرية، وقد جمع قطوفا منها في كتابه سوف تحيا من بعدي - وقد صدر عن هيئة قصور الثقافة المصرية 2007 ـ ففي قصائد الديوان تذوب الحدود بين المتكلم، والظواهر، والمفاهيم المجردة، ويصير مفهوم الوجود أثرا في العدم، والعكس، بما يوحي بمأساة عميقة تلازم المتكلم، وتشكله، قبل إمكانية أن يكون ظلا مراقبا مرحا، يجمع بين الوجود، والعدم. هذا الظل يمتد مثل الأصل أو الأثر في السياق الشعري ويتخذ مظهرين:

الأول: تمثيلي، وفيه يعيد الظل إنشاء المتكلم في سياق كوني جديد، يقع بين الوجود، والعدم، هذا السياق يحتمل انتشار الظلال كتشبيهات تتهيأ لممارسة حياة جديدة، تبدأ من الطيف التمثيلي، وليس الأصل.

الثاني: سردي، وفيه يصير الظل حكاية تنفصل عن الصمت العبثي المطلق الذي يحيط الظواهر، والأشياء، فهو يبدأ من الصمت المأساوي ليتجاوزه في تأويل الظواهر بأطيافها الحركية التي تشبهها، هذه الأطياف تدميرية لأنها ليست مشبعة بالحضور المادي، ولكنها تتجاوز الموت الكامن في الظواهر الأولي من خلال سرد حر مرح يتحدي الصمت من خلاله.

الظل هنا طاقة تدميرية محولة ضد مدلولها الأول، فهو قراءة التكوين فيما بعد التكوين، ومن ثم أري أن اللغة الشعرية تدخلنا سياقا يتجاوز أزمة الوجود، والعدم من خلال مفردات الأزمة نفسها، وحضورها الطاغي.

و في لغة بسام حجار الخاصة إكمال لما ذهب إليه مارتن هيدجر ، بصدد تحول الفكر الفلسفي من كونه وجهة نظر عالمية حول الكائنات و الأشياء ، إلي علم للوجود و الكينونة الممثلة في التكوين المتعين المرتبط بالزمن و التاريخ و لهذا تتنوع الأنماط التحليلية و تتفاوت انطلاقا من اختلاف الظروف التاريخية - راجع - هيدجر - The Basic Problems of Phenomenology، والكناري، والشجرة تكوينات فريدة تنتشر في الأثر لتقاوم حضورها كظاهرة صامتة تنتظر العدم.

في نص حكاية الرجل الذي صار ظلا من مجموعة (مجرد تعب) ينفصل الظل عن الأصل، ويحمل في تكوينه ذكري الانفصال العبثي عن الأنا، وفرح التحول والخروج من العدم في وقت واحد، يقول:

ليس بوسعي أن أكون شبيها به؛ لأن لا مظهر، ولا هيئة لي. كان وسيما، مستقيم القامة، إلي نحول، عصبي المزاج والحركة. وكنت أحاكي حركاته، وسكناته، ثم غادرني، ولا أعلم إذا كان يصحبه ظل آخر هناك. وأصبحت هنا بلا نفع، أو قيمة، حتي وددت لو تمر بي سلحفاة، فأكون ظلها، لو يمر بي كلب فأكون ظله.

المتكلم هنا هو ظل الرجل من دون الرجل، أي ظل الأثر، المتلاشي في هامشه، أو ما يتجاوزه كمتكلم آخر مازال حزينا؛ لافتقاده الأصل المادي، لكنه يتحدث كآخر له عالم انفعالي مغاير، أي يحمل صوتا متجددا، وحياة أخري من طاقة الفراغ الأولي التي كانت كامنة في الأصل، وتجلت عقب موته، أو اختفائه. هكذا يؤكد الطيف حضوره كأثر وحيد في الظلمة، وتنبثق منه صيرورة محتملة من الظلال الوحيدة دون تكوينات، ومن ثم يتحول فعل المحاكاة المميز للظل، إلي شبق للمحاكاة دون تحقيق للمحاكاة الأولي، فقد صارت وجودا حقيقيا مستقلا يذكرنا بكمون التشبيه في الحقيقي عند جان بودريار. هذا الوجود يستمد طاقته من ذكري الأصل في محاكاة تمثيلية انتشارية تتجاوز المركز، والهامش، إذ يتحول الظل إلي تكوين أو تشبيه محتمل.

وقد تندمج العناصر الكونية الجزئية بوعي المتكلم، في سردية تقاوم صمت الحدود الظاهرة للتكوين، ومن ثم تصير الحكاية طيف التكوين الكوني المتجاوز لسماته الحتمية في نص هي ذي الأبواب المغلقة. يقول:

وللسروة روح، ربما كانت جندب الظهيرة الثرثار، أو ربما الأوام، أو الأرق، أو دوام الانتظار بلا رجاء، أو ربما الرجع لست أدري، وليس يدري الغريب كيف تكون الأرواح هائمة، وهي لا تشبه أن تكون بشرا، أو شجرا، وقال إن السروة شجن الشجرة، وليس الشجرة، ولا ظل لها ؛ لأنها ظل الشجرة، ولا يحسن الظل أن يكون روحا، ولأنه غريبي صدقت أن الصدي روحي، وأنني ربما كنت روح السروة. السروة... هذا الجزء تتفاعل فيه العناصر الكونية كمجال مناهض لوجوده الظاهر. هل كان التكوين وجودا حلميا؟ كونيا؟ إن الشجرة تتحول في الأرواح، والانفعالات السردية التي تمثل دورها في المسرحية، الشجرة تجسد الانتظار، والأرق، والشجن كدوال مادية فاعلة من خلال أثر الشجرة الكوني/ السردي لا تكوينها المحدد. هكذا يمكن إحلال الآخر دائما ضمن المجال التكويني الطيفي للعنصر الكوني ؛ ففي المتكلم تحل الشجرة، والشجن، والانتظار، وفي الشجرة نري الرجل، والغريب، والظل، والروح، والشجن... وهكذا تعمل الظلال فيما بعد التكوين، بينما يمنحها التكوين مادة للعب.

و قد نقرأ المدلول المجرد كمجال لاشتباك الوجود، والعدم معا. يقول في نص مجرد تعب: أمر بسيط، فقط ستشعر لبعض الوقت، أن كل شيء هنا، أقصد في العالم من حولك، صار له حجم وثقل... إن التعب فكرة خاطئة، لكنها لا تزول. القليل منها وهن يلاشيك عند اليقظة، والمقدار منها إنهاك يلاشيك عند النوم، ليست العلة أو المرض الذي يقتلك، بل الفكرة التي تحييك، إذا كان إحياء الرميم حياة... ليس الموت الذي يميتك، بل الموت الذي يحيا في داخلك. ينتقل مدلول التعب من الفكر، إلي الفعل، فهو موت يحيا في الكائن، وهو السياق الذي ينشأ فيه الكائن في وقت واحد، التعب طيف يؤدي حكاية الكائن التي تتجاوز موته، وحياته معا. فيه تتنامي الظلمة رغم تجسده في النهار، وهو يمثل الثقل، والوهن، التعب سياق تتجسد فيه حركة الكون؛ نهار، ظلمة، موت، حياة، ويعيد قراءة الذات كطاقة داخلية فيها تحتمل العدم دوما، فهو طيف يذكر بالحياة، وسلبها.

الفكرة هنا تحل كفاعل من خلال الآخر، في سياق أخيلتها التصويرية المتنامية في المستقبل، إذ تزدوج بتأويل صيرورة التكوين، وسيرته الفريدة دون أن تختزل في إطار الوعي وحده.

وفي نص سوف تحيا من بعدي يعاين الوعي حياته الأخري كمراقب كوني فاعل من خلال طاقة الأشياء حال اندماجها المتجاوز للموت من خلال استحضاره. يقول: أيها الضوء... سوف تحيا من بعدي... وسوف تنير الغرفة التي لن أكون فيها، والكرسي الخالي من جسمي القليل، والسرير الخلو من أرقي، والورقة التي لم تكتب عليها قصيدتي... أيها الرجل الذي كان هنا لا يزال، مرة كل عام تأتي إلي لتزور قبرك.

من المتكلم هنا؟ إنه الظل الكامن في التكوين، والمتجاوز له في المستقبل في آن، الظل الذي يستبق موت التكوين، فيجسد مقتله، وحياته الأخري كمراقب كوني معا.

إن إيحاءات الأسي والرحيل، تمتزج بمادية جديدة للفراغ الذي كان كامنا في المادة كطاقة حية تعاين الموت في المستقبل كحدث ضمن صيرورة الطيف الموجود. وتبدو معايشة الحالة الفريدة للظواهر مناهضة لمركزية القوة، والامتلاك، والسيطرة في التاريخ الثقافي، والاجتماعي للإنسان في نص حكاية يوسف من مجموعة بضعة أشياء يقول: كان يوسف يحب أن يروي لنفسه حلما/ يضحك أو يبكي، أو يبقي ساهما/ ويروي أن التعب تعب/ والنهار مشقة/ والليل ليل/ وأنه دخن ستين سيكارة في اليوم، ولم يكتب حرفا/ وأنه أحب الشرفة، والرواق، والرصيف والسروة، وباب المدرسة الحديد/ وأنه عاش ومات لأن الموت حكاية/ والحكاية هي ما يبقي/ أو ما يزول أو ما يروي.

الذات هنا تلامس الوجود من خلال حياته الأخري في ذاكرة إبداعية تعيد إنشاء حركة الوجود في المستقبل من خلال مفردات الماضي، ومن ثم فهي تقاوم العدم من خلال تجسده في حكاية تمتد في روايات المستقبل، وأخيلة الموجودات التي تقاوم حدودها في ذاكرة الظل الذي يروي كموجود مندمج في حالة الأشياء الأخري.

الذات حكاية متجددة للأشياء، تجسد رمزيتها التاريخية - الواقعية، الممزوجة بالحلم والتشبيه، فتقاوم الموت لأنها لم تتطور في حياة واحدة، أو بعد واحد.

وفي نص بضعة أشياء لا أعرفها تعلو درجة الصمت، وإنكار المعرفة انطلاقا من تكرار المأساة، ودروبها التي تستلب الوعي في إغواء الراحة. يقول: ودرب كالحلم لا آخر له/ كائنات من ظلال ملوحة/ وصمت كأنه المكان الأرحب للصامتين/ لم يلتفت/ فالكناري أماته البرد/ والخاتم في العلبة/ وقدماه المتورمتان لا تسعفانه الآن علي المسير.

المتكلم في هذه الحالة يستشرف تهديد الصمت، ومن ثم التوقف عن الحركة، والحكي. ولكن وجود الظلال تأويل لما يتجاوز الكناري، واستشراف لاندماج مرح مقبل كقراءة أخري للمأساة، إذ تتجسد في حلم الصمت بوجود آخر يتنامي في الطاقة الكامنة وراء الأشياء الصامتة - من داخل هيمنته علي المشهد.

و في بضعة أشياء أعرفها وحدي تبلغ قراءة العبث ذروتها، وتبشر ببهجة خفية فيما بعد الموت الأسطوري، يقول: قال إنه متعب/ ولا يقوي علي السير في الشارع/ فالنفس يجهده/ كأنه اعتاد علي ما يشبه الاختناق/ واكتفي من الهواء بالأقل/ الذي لا يحيي الكناري الذي أماته البرد.

إن تقبل سياق التعب، ومعاينة موت الآخر الكوني يوحيان بتكرار أسطوري لخبرة الموت، ومن ثم استعادة بهجة الكناري الخفية في حركتها الحكائية الأولي في كل مرة تتكرر فيها خبرة الموت، أو استعادته، ضمن سياق اللغة الشعرية الفريدة؛ فتكرار كلمة متعب يوحي بطاقتها السحرية المتجاوزة للتعب ضمن نشوئه الجديد وتكراره مثل موت الكناري تماما. وتذكرنا هذه الطاقة المتجددة للموت برمزية أدونيس وديونسيوس.

وفي نص بضعة أشياء فقط تتحرك الأشياء داخليا باتجاه التدمير، وإعادة الإنشاء معا، تجمع بين كآبة الصمت، والحركة المتحولة، تصير ملتبسة، وخارجة عن وظيفيتها من خلال السرد، كما يتنازع فيها الامتلاء والفراغ، دون حسم فالكناري ترك فراغا، وذكري حضور لها مادة مخيلة للوجود معا.

يقول: القفص والكناري/ ثم القفص بلا كناري/ حبة الملبس باللوز من جيب منامته لابنتي/ كوب الحليب بماء الزهر، والسكر... نعش وحيد... زنابق كثيرة.

تكمن طاقة محبوسة في الأشياء عند بسام حجار، تدفع الوعي للاندماج بها، أو تمثيلها في مسرحية من الظلال؛ لمقاومة الصمت المطلق. 


كاتب من مصر
msameerster@gmail.com