بعد كتابه "هومسيك"، يواصل د. نجم عبدالله كاظم جهوده الدؤوبة، في مجال متابعة الثقافة العراقيّة في المهجر. ومقالته الأخيرة "العنف غريزةٌ أم ممارسة أم ثقافةً؟ قراءةٌ في كتابِ «ثقافةُ العنفِ في العراق» لسلام عبود" ، المنشورة في العدد 80 من مجلة "الكلمة" الالكترونية، كانون الأول 2013، بعض من ذلك النشاط المحمود، الهادف الى تطوير الجدل وتقويم الظواهر الثقافيّة العراقيّة. بيد أنّ المقالة أصابتني بخيبة أمل شديدة، لأنّي لم أجد فيها ما هو جديد ومفيد. ربّما لأننّي كنت أطمع بما هو أفضل. مردّ إحساسي بالخيبة يعود الى غياب ركزة المعالجة، وترهـّل النص، الذي بلغ ما يقرب من ستة آلاف وثمانمئة كلمة. اشتمل النص على نواة بحثيّة محدودة وهشّة، محاطة باستطرادات وتعليقات تبتعد كثيرا عن المركز، تؤلف ما لا يقلّ عن أربعة آلاف كلمة، أي أكبر من حجم المادة موضع البحث. بيد أن ذلك لا يقلل من أهمية السعي الى متابعة الواقع الثقافي، الذي يقوم به د. نجم، وربّما يؤكد ما هو عكس ذلك. لأنّ د. نجم عبدالله مناقش متحمّس، فضيلته التربويّة، أنـّه يجتهد في إيجاد حوار عقليّ وتوافقات ممكنة - وغير ممكنة أيضا - بين المتصارعين العراقيين، على قاعدة تفترض أكاديميّة البحث، وتنادي بأسس فنيّة، تشترط احترام النصّ وصاحبه، وتحترم قبلهما الثقافة والقارئ.
سأرتكز في مناقشاتي على آليّات العمل البحثيّ الأكاديميّ: تدقيق المصادر والمرجعيات، تفحّص الأحكام، تعليل الاستنتاجات والاستخلاصات. وسيكون التركيز أقوى في صياغة الأسئلة البحثيّة. لأنني وجدت أن النقص الأكبر في وجهة نظر د. نجم عبد الله لا تكمن في ضعف صياغة الأجوبة، بل في ركاكة بناء الأسئلة، وحصرها في الحساسيّات الحزبيّة. وهي معضلة كبيرة حقاً، تعيق الوصول الى استنتاجات موفقة، وتدفع الكاتب الى الذهاب بعيداً عن نقطة البحث والإيغال في الاستطراد والإنشاء وفقدان التركيز. وهذا كلـّه يضعف الحجج البحثيّة ويمنعها من تحقيق هدف علميّ مقبول، ومن ممارسة شكل فنيّ للتحليل أسماه الكاتب بالتفكيك. لانّ ضعف التركيز يجعل النص أقرب الى " التمييع"- بالمعنى الفني - منه الى التفكيك. إلا إذا كان التفكيك يعني تقطيع روابط العلاقات المنطقيّة، وفصل الظواهر الثقافيّة عن الاجتماعيّة، والعقليّة عن الحسيّة. فحينما يتساءل د. نجم قائلا:" لا أدري في أي بلد كان مسموحاً الإساءة إلى حرب يخوضها؟" فإنه هنا لا يسأل، بل يجيب نيابة عن ضمائر مشعلي الحروب، متناسيا أن مهمة مقاومة الحرب ثقافيّا تشترط توثيق ونقد عدم "المسموح" هذا، وليس تسويغه أو تمييعه. لأن عدم السماح هذا هو الجانب الثقافيّ، الخاص، المعادي لحرية التعبير وحرية الموقف وحرية البحث العلمي. هذا النزوع التفكيكي الغريب تحقق فعلا في المقالة، وهوملمح المقالة الرئيس، الذي سنخصّه بالمعالجة، من طريق عدد كبير من الأمثلة.
جاءت المقالة بعد صدور كتابي بأكثر من عشر سنين. وربما يكون هذا في صالح الكتاب، الذي لم يزل قادرا على خلق التفاعل وإثارة الأسئلة. لكنّها جاءت بعد كتاب د. نجم "هومسيك"، الذي اتـّخذ من كتاب "ثقافة العنف" علناً وضمناً نقطة أساسيّة للانطلاق في المعالجة. بيد أنّ النظرة الى كتابي اختلفت هنا جذريّاً. وهذا يجعلنا نعود الى موضوع الأسئلة: هل جاءت المقالة الحاليّة استدراكاً؟ ما الذي استجدّ في الميدان؟ لقد أحسّ الكاتب بتناقضات أفكاره، لهذا قال عن نفسه: "قد أبدو فيه متناقضا مع الكثير من طروحاتي السابقة". وهو على صواب تامّ في ذلك الإحساس.
قبل الدخول في صلب المقالة لا يسعني إلا تقديم الثناء للكاتب لأنه وفـّق في رصد عبارة بدت له غير دقيقة، تتعلق بمشاركة عائلة وأقارب صدام في إدارة ملف الأمن. وهي عبارة هامشيّة جدّا، وصحيحة في عمومها. لكنها، والحق يقال، تعوزها الدقة في الصياغة، وكنت أعني بها إدارة الجهاز السري المرتبط بصدام شخصيّا. لذلك وجب عليّ شكر الكاتب.
الأسئلة الأساسيّة التي أثارها د. نجم تبلغ أربعة عشر سؤالا، سأعرضها بالتسلسل، عدا أوّلها، سأختتم به نصّي.
1 - "إن قيام ثورة 14 تموز قلَبَ معادلة العنف رأساً على عقب، حيث تحول العنف من عنف رسمي إلى عنف شعبي، سُمّي بالعنف الجماهيري، وأجيال تلك الحقبة ما زالوا يذكرون بعض شعارات الشارع التي رفعتها الجماهير: (ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة)، و(اعدمْ اعدمْ يا قائد الثورة)، و(اعدمْ اعدمْ جيش وشعب وياك يا قائد الثورة)". يتساءل د. نجم: لماذا ذكرت اسم البعث ولم أذكر اسم الشيوعيين؟ هذا السؤال عزّز في نفسي القناعة بأن د. نجم سلك مع نصوصي سلوك حاطب ليل. لأنني قلت حرفيّاً، في الصفحة نفسها، تعليقاً على الشعارات الكريهة ذاتها: " كان الشارع، المقاد من قبل الشيوعيين يحمل كلمات المشانق في الصدور وعلى الورق...".
2- يتساءل د. نجم: لماذا أغفلت ذكر أحداث كركوك والموصل، ألا تعدّ هذه الأحداث عنفا؟ وهذا السؤال لا يقل فسادا عن سابقه، لأنني قلت حرفيّاً: " لم تكن أحداث الموصل وكركوك إلاّ عملية استنفار مشينة للجوانب السلبية من المزاج الشعبي، مبنيّة على مشاعر الجهل والتحدي والإكراه"
وفي المثالين كنت أتحدث عن الجماهير والمغزى الاجتماعيّ التربويّ للأحداث، بينما كان د. نجم يتحدث عن الأحزاب. هنا يوجد خلاف في المنظور أيضا. فأنا أرمي الى استشراف البعد الثقافيّ في حركة المجتمع، أمّا د. نجم فيغرق في الشأن الحزبيّ الضيق.
3- يبدو أنّ فكرة الذّبّ عن البعث، حزباً ورموزاً، تمسك بخناق د. نجم بقوة، فتشتت أفكاره وتشوشها. عند الحديث عن عزيز السيد جاسم، استنكر د. نجم عدم شمول الشيوعيين بظاهرة تحوّل السياسيين الى الدين والإدمان، التي سخر منها عزيز شامتاً، من دون أن يعلم أنـّه سيقع فيها شخصيّاً في يوم قادم. كيف لي أن لا أشمل الشيوعيين بالظاهرة والحديث كلـّه مخصص أساساً لنقد تجربة "السقوط السياسي" في رواية "الوشم"؟ إنّ الموضوع السالف بأكمله يتحدث عن تناقضات عزيز شخصيّاً، وتأثير الواقع على تحولات الأفراد والجماعات، ولا يتحدث عن حزب البعث بشكل خاص. لأنّ عزيز السيد جاسم مرّ بالتجربة ذاتها، التي سخر منها، لكنّه أضاف اليها مقدّمة تمهيديّة اسمها السقوط في أحضان البعث، قبل "لبس العمامة". كان عزيز مأساة مركبّة، بدخوله البعث، وبمكوثه فيه، ثمّ بخروجه منه. فما صلة الموضوع ببراءة وعدم براءة البعث؟ ولماذا تمّ حشر البعث هنا، ثمّ جرى البحث عن تزكية مجانيّة له؟
4- السؤال الأخطر، الذي طرحه د. نجم، يتعلق بالتحامل على البعثيين، ومثاله أنني اجتزأت نصّاً لحميد سعيد حول القضيّة الثقافيّة - الأخلاقيّة المسماة في الأدب البعثيّ بـ " المسألة القندريّة".
صاغ د. نجم سؤاله بثلاث خطوات، ترصد "العدوانيّة" الثقافيّة على البعث: اجتزاء النص (الجرم الفنيّ)، الذي قاد الى إصدار تقويم (متحامل)، الذي قاد بدوره الى استنتاج وتعميم خاطئين، قوامهما التحيز ضد الشاعر حميد سعيد، باعتباره رمزا ثقافيّا بعثيّاً.
لكي يتمّ إبطال الاستنتاج (التحيز ضد حميد والبعث)، لا بدّ من إبطال التقويم والحكم (التحامل)، وهذا يشترط تدقيق المثال (الاجتزاء). وعلى الرغم من أنني أثق ثقة مطلقة أن أخي د. نجم لم يطلع على النص، وإنما أوحي اليه. لأنّ نشر المقالة، التي ورد فيها النص، كاملة يثير أسئلة أخلاقية أكثر عمقاً حتى من ثقافة "الضرب بالقنادر"، تحطّ أكثر من مقام من يُراد منحهم البراءة. إلا أنني أطلب منه أن يقوم بنفسه بتدقيق النصّ الأصليّ ومقارنته بنصيّ وعرضه على القارئ، ولا يكتفي بادعاء الاجتزاء، ثم الوصول الى استنتاج سلبي، وحكم مجاني، من دون دراية أو دليل. لأنّ الإدعاء ممارسة فنية قاصرة، تتعارض مع قواعد البحث الأكاديميّ. فمن طريق النص وحده، النصّ غير المجتزإ، عليه أن يقنعنا بما يلي: أين موضع الاجتزاء؟ ثمّ أين التحامل؟ وتاليا أين الخطأ في الاستنتاج؟ وحينما يفرغ من ذلك عليه أن يقول لنا باسم أي مبدإ، فنيّ أو أخلاقيّ، يحق لنا قبول دعوة تبشّر معارضي الحرب من المثقفين العرب بالضرب بـ "القنادر"، والسعي الى تبريرها، أو حتى التخفيف من معانيها اللاأخلاقية، أو التشكيك فيها؟
5 - في السياق نفسه يقول إنني منحاز الى صف الشيوعيين. وهذا استنتاج مماثل للسابق تماما. النقد الموجه الى الشيوعيين من قبلي لا يختلف كثيرا، في ناحية تشخيص الأخطاء والممارسات، عن نقدي لغيرهم: القوى القوميّة العربيّة والكرديّة الحاكمة، التيارات الإسلاميّة، الحركة الملكيّة، التيّار المستقل، المؤسسة العسكريّة. هؤلاء كانوا موضع نقدي في الكتاب، المخصص أصلا لمناقشة تجربة العنف البعثيّ. أمّا إذا ذهبنا أبعد، وهو أمر كان من المفترض بـالكاتب الإفادة منه، لتحسين معارفة بمن يكتب عنهم، وبالظواهر التي يعالجها، في الفترة ما بين ظهور كتابه "هومسيك" وظهور مقالته الأخيرة، هو مراجعة كتابي " نقد المثقف الشيوعي"، الذي يفوق كتاب" ثقافة العنف " حجما. ورغم أن الكتاب لم ينشر بعد كاملا (يصدر قريبا عن دار الجمل) ، إلا أن أكثر من خمس عشرة حلقة منه نشرت في كبريات الصحف والمجلات العربية: الآداب، النهار، الأخبار، يضاف اليها أشهر مواقع الانترنيت العربيّة. وقد أثارت استياء بعض المتعصبين الشيوعيين، الذين استخدموا حجة د. نجم التبريريّة ذاتها: "لماذا نحن؟ إذاً أنت عدو!". وقد أثار أنصار الملكيّة الاعتراض نفسه، ووضعني أنصار الاتجاه القوميّ الكرديّ في صف "الشوفينيين العرب"، ووضعني أنصار الاتجاهات الطائفيّة في حقل الكفار. وكان جوابي للجميع واضحاً: لا أحد فوق النقد. وما أود ذكره هنا، أنّي لست على وفاق مع "موضة" هذه الأيّام، التي يبدؤها الكتـّاب الشيوعيّون سابقا، قائلين: لم تكن علاقتي بالتنظيم سوى فترة محدودة... أنا أقول إنني فخور بمبادئي الاشتراكيّة، وإنني أشد ّالمدافعين عن نقاوتها ضد التحجر الستالينيّ، وضد انغلاق الآفاق الإنسانيّة في بعض جوانبها النظريّة والتطبيقيّة، وأشد الناقدين لأوجه الخلل فيها. وأنا لست ممن تنطبق عليهم مقولة "ولا يهم إذا كان..."، التي أراد د. نجم تطبيقها على فخري كريم وسعد البزاز. أنا ممن كان، ويكون، وسيظل متمسكا بموقفه العلميّ الإنسانيّ الإجتماعيّ، بصرف النظر عن تقـّلب الحكومات والأحوال.
كيف فات د. نجم ذلك؟
6- وربطا بالسؤالين السابقين يصوغ د. نجم سؤالا تكميليّا، لكي يدعم أفكاره ويوصلها الى أبعد مدى. هل كنتُ محايدا في معالجتي لموضوع العنف؟هنا نقف عند إشكال فلسفيّ، يرغمنا على إعادة النظر في مكوّناتنا العقليّة.
بدءأ لا بد لي أن أصحح بعض الالتباسات الكتابيّة الشائعة. لم يكن هدفي من كتاباتي كلـّها البحث في موضوع العنف لذاته. إنّ الهدف النهائيّ من دراسة العنف ذو شقـّين: نفسيّ - اجتماعيّ (السلوك والأفعال)، وفلسفيّ (البحث عن مثل أعلى، عقليّ، يحدد جوهر الصراع بين الخير والشرّ). يصوغ د. نجم استنتاجة حول "لا سلميتي"، من طريق أمثلة تتعلق بالحرب الأهليّة الإسبانيّة. ويصل الى نتيجة أنني انحزت الى الجمهوريين. وهذا دليل كاف على انحيازي الى صف العنف.
إنني أرى أنّ د. نجم وقع في لبس نظريّ وتطبيقيّ عظيم وخطير، لأنـّه خلط خلطاً عاميّاً بين حياديّة البحث العلميّ وحياديّة الموقف الفلسفيّ والفكريّ. وهما أمران مختلفان تماماً. عدم التمييز بينهما يجعلنا نساوي بين هتلر وغاندي، وبين حمرة الدم وحمرة الورد.
لو أعاد د. نجم قراءة الفصل المتعلق بفترة ما بعد الحرب العالميّة الأولى لوجد أنـّني اخترت من الجبهة الإسبانيّة كاتبين للتحليل، بدرجة أساسيّة، هما همنغواي وأندريه مالرو. الأوّل تعاطف مع الجمهوريين شعوريّا، والثاني قاتل ميدانيّا. لماذا هذا الاختيار؟ لقد اعتدنا في حياتنا الثقافية أن لا نسأل السؤال الصحيح. بل نجيب، من دون الحاجة الى صياغة سؤال ضروريّ. أي نجيب على ضوء ثقافة الشائعات. ذلك وجه من وجوه معضلتنا العقليّة والحياتيّة الكبيرة. أحسب أن د. نجم يعرف من هما مالرو وهمنغواي، وماذا يعنيان! كانت مناقشاتي شهادة توثيقيّة لإظهار بشاعة الحرب على الجبهتين، وفي المنطقة الحرام أيضا. وقد أوردت أمثلة من الجبهتين. وهنا كانت أدوات البحث والفحص والتقويم محايدة تماماً. لم تحجب، أو تنقص، أو تزور، أو تستبعد ملمحا يؤثر على التقويم والاستنتاج. وهذا ما أعنيه بالحياديّة البحثيّة. أما الحياديّة الفلسفيّة، حياديّة المثل الأعلى الإنسانيّ، فهي خرافة لا أؤمن بها على الإطلاق. خرافة تشبه الجدل حول "المسألة القندرية". لا حياد بين الشرّ والخير البتـّة، إلاّ في عقول الشريرين. إنّ ممارسة هذا الحياد تساوي بين فرانكو ولوركا. وهذا أمر لا يقبله ضمير أو عقل أو منطق. هل يعرف د. نجم عدد وأسماء الكتاب العالميين الإنسانيين الذين وقفوا في صف "الجمهوريين"! لا أعرف أيهما يفضّل د. نجم لوركا الجمهوري أم فرق الإعدام الموالية لفرانكو الفرانكوي؟ باختصار، توجد حياديّة بحثيّة، منهجيّة، هي حياديّة الوسائل والوسائط والمنطق. وتوجد حياديّة فلسفيّة تتوقف عند حدود ما هو نسبيّ ومطلق،.يجب على الباحث التفريق بيهنما. بخلاف ذلك سيصبح كلّ شيء مجرداً من الخصوصيّة والمعنى، وهذا ما تريد مقالة د. نجم الوصول اليه.
7- وربطا بالحياد، بثوبه العمليّ، وليس الفلسفيّ. أورد د. نجم في كتابه "هومسيك" مثالا على إيجابيّة المثل الثقافيّ العراقيّ، فذكر اسمين: فخري كريم وسعد البزاز، يمثلان "التعبير الصادق والمتوازن المقرون بالفعل والسلوك والموقف ". هل هذا حياد، بالمعنى البحثيّ والفلسفيّ؟ الشخصان الأكثر إثارة للجدل والشك في ذممهما الأخلاقيّة والثقافيّة والماليّة، يرفعان الى مرتبة المثل الأعلى، على حساب آلاف الوطنيين والشيوعيين والقوميين والإنسانيين والمستقلين، من أكاديميين وعلماء وأدباء ومثقفين؟ ما الذي يجمع بين هاتين الشخصيتين عدا ما توصمان به من أفعال؟ يجمع بينهما أمر واحد: إنّهما يمثلان سلطة ماليّة وسياسيّة مغرية! ما معايير الحياد لدى د. نجم في هذا المثال غير المستحبّ ثقافيّا؟ قد يُعجب المرء بحجم مؤسستي الرجلين وبمهارتهما، ولكن كيف يقرّ عقله أنهما مثال للـ "التعبير الصادق"، "المتوازن"، "المقرون بالفعل"، " وبالسلوك"، "وبالموقف"! من يقرأ هذا التوصيف، لا يجد حرجا في أن يضع، بعد أسميّ الرجلين، عبارة "صلـّى الله عليهما وسلـّم". بماذا يذكرنا هذا الضرب من المديح؟ هل ينبغي علينا إعادة دورة إنتاج الشر الثقافيّ لمصلحة صنم بضاعيّ جديد!
إنّ اختلاق خير في غير موضعه، أو العكس المبالغة في الشر في غير موضعه سيّان. إن وصف توني بلير، على سبيل المثال، بالديكتاتور إخلال تام بالمقاييس العلميّة كافة، وأولها الحياد والموضوعيّة. إنّ بلير ليبراليّ مضلِـّل وفاسد الضمير. لكنّه ليس ديكتاتوراً، كما يصفه د. نجم في أحد استطراداته التمييعيّة. إنّ فساد ذمة اللبرالي لا يحوله الى ديكتاتور، إلا إذا كنّا نروم فكّ الحصار عن الديكتاتور الحقيقيّ. تعميمات كثيرة جداً، غير معللة علميا، من هذا القبيل، سادت مادة المقالة: " الحب برأيي أقوى في (إنسان العصر) من الكراهية والعنف" ، "ازداد الكيل بمكيالين بعد 11 ايلول" و" العنف لم يُعرّف دوليا"، وغيرها من الشطحات الإنشائيّة.
8- يستنتج د. نجم أنني أتهم صدّام بالعمالة. لا أعرف من أين جاء بمثل هذا الزعم. ولو أنه قرأ كتابي " من يصنع الديكتاتور" الصادر عن دار الجمل 2008، والمنشور في كبريات الصحف والمجلات العربية: السفير والنهار والآداب، لعثر على فصل كامل عنوانه "صدّام عميلا"، أتفحص فيه بدقـّّة بحثيّة "حياديّة" تامة، التهم التي كيلت لصدّام، وأناقش مصادرها وتأويلاتها.
9- يكرر د. نجم تأكيد صفة التحامل على البعث مرة أخرى، من خلال كلمة وصفيّة، وجدها خاطئة تماما، لا تنطبق على الموصوف. هي إطلاق صفة حاكم يتمتع بـالـ "جهل" على صدّام. يصححها د. نجم، بدعوى أنّ صدّاما، حاكماً وشخصاً، أحد مثقفي العراق. من هو المثقف بالمعنى الخاص؟ إنّ حاكما قاد بلادنا، بإصرار ورعونة الجهلة، الى سلسلة من الحروب المتتالية، في بلد يملك كلّ مقومات الرخاء والنجاح تنتفي منه، حاكماً، بالمعنى العام والخاص، صفة "ثقافة"، ولا تليق به إلا صفة الجهل. وأعني بها تحديدا جهل شقاوات الأحزاب، الذين يلبسون حلـّة القادة العسكريين وما هم بعسكريين، ويُلبّسون زيّ المثقفين وهم شقاوات شوارع، لم يصنع عالمهم الافتراضي كمثقفين سوى جيش الوشاة. راجع كتابات (!) صدّام من "خندق واحد لا خندقان"، مروراً بـ "زبيبة والملك"، حتى رواية "الصحوة الكبرى"، التي سيكتبها نيابة عنه بطل ثقافيّ من أبطال الأمّة. صفة مثقف لم تنسب الى صدام وحده، شاركه فيها مثقفون لامعون أُخر، مثل القذافيّ. وإذا كانت صفة "مثقف" الصداميّة أشيعت على يد أشخاص معروفين، لأسباب معروفة للجميع، فإنّ تأكيدها على يد أكاديميّ، والدفاع عنها باعتبارها إشكاليّة بحثيّة هامّة، أمر يقلل من مكانة وصدقيّة البحث العلميّ. لقد وصف بعضهم كتابات صدّام بأدب " المزابل". لكنـّي كنت الوحيد، الذي نشر دراسة موسعة، "محايدة جداً"، بست وأربعين صفحة، تحلل وتوثق ما سمّاه الآخرون جهلا أواستنكافا، أوتقيّة، أدب المزابل. هذا حياد بحثيّ أيضاً.
في مواجهة الأحداث المأسويّة المتقلـّبة هناك وقت للغضب الحكيم، وآخر للهدوء الحكيم.
10- يقول د. نجم "العنف ليس خاصا بالعراق أو بالبعث أو بصدام". لذلك هو مندهش لأنّ البعض يدرس البديهيات التي يعرفها الجميع، مثل العنف، الحرب، الديكتاتورية. ويتساءل: هل نحن الشعب الوحيد الذي عاش الحروب والديكتاتوريات والعنف؟ ثم يصل الى استنتاج مفاده أنّ تلك الظواهر جزء من طبيعة عالمنا، لماذا نخصّ بها شعبنا، وتحديدا حزب البعث، وعلى وجه أكثر خصوصيّة ديكتاتورنا؟
لا أريد الدخول في نقاش عبثيّ مع من يقول: إن الأورام السرطانيّة تصيب البشر كافة، لذلك لا ضرورة لدراسة وتشخيص هذه الأورام المنتشرة في بلادنا. أليس من واجبنا أن ندرس عنفنا وحروبنا وديكتاتورنا؟ هل سنوكل ذلك الى خبراء دوليين؟ ما مهمة المثقف في مواجهة الحرب والعنف؟ وهل وجود العنف في بلدان أخرى يعفينا من دراسة أشكال وأسباب نشوء واستفحال هذه الظاهرة في مجتمعنا، والبحث عن سبيل ينقذنا منها؟ ما الذي يخيفنا من الخوض المعمّق في أورام الحرب والعنف والديكتاتورية؟ شعوب كثيرة وصلت الى توازنها الإنساني من طريق الإدراك، والوعي، والمعرفة المعمقة، الناقدة، والقاسية، التي يسميها د. نجم مستنكراً: جلد الذات. بعد حرب فاقت الحربين العالميتين الأولى والثانية طولاً، بعد غزوين أحمقين متتاليين لجارين، بعد هجوم بربريّ متواصل على مجمل شرائح الشعب، بما فيها حزب البعث نفسه، بعد أن وصل قطع الرؤوس الى بيت الرئيس نفسه، نحن في حاجة ماسة الى جلد التاريخ جلدا. من دون خشية على مشاعر حميد سعيد، أو محمد سعيد الصحاف، أو غيرهما. هؤلاء جزء تاريخي من مهازل ومآسي حروب البعث، لم نصنعهم نحن، بل صنعوا أنفسهم بأنفسهم، وصنعوا معهم كوارثنا الحياتيّة والثقافيّة.
11- سؤال د. نجم المتعلق بتأويل الأساطير، يعيدنا مجددا الى علاقة التفكيك بالبعث. عناصر العنف في الأسطورة العراقيّة موجود ما يماثلها في أساطير الشعوب الأخرى أيضا، لماذا إذاً نحشرها في خرج العراقيين؟
أنا أرى أنّ هناك خصوصيّة عالية لكلّ ثقافة، ولكلّ واقع أسطوريّ منتج ضمن ثقافة معينة، بصرف النظر عن أوجه التشابة العامة. النصّ الأسطوريّ الذي ذكرته في كتابي يشبه التحامل على البعثيين، ويشبه قضية الحياد الفلسفيّ والبحثيّ. إنّها معضلة التوقف عند السطح، ولا أعني سطح النصّ، وإنـّما سطح الواقع الذي أنتج النصّ، ومرجعياته الحسّـيّة والتأويليّة. حينما يعاقب الآلهةُ البشرَ على شغبهم في الأسطورة، إنـّما يعاقب الآباء الحاكمون رعيتهم بسبب تمردهم على هذه الأبويّة الإلهيّة. هذا واقع منصوص عليه في الرقم. لا نستطيع إهماله لأنّ بعض العنف الموجود في نصّ من نصوص الحضارة اليونانيّة أو الهنديّة، يشابه كثيرا أو قليلا عنفنا. هذا نصنا، وهؤلاء آلهتنا، وذلك شعبنا، وفي النهاية هذه ثقافتنا، التي تستوجب ربط حلقاتها ببعضها، القديمة والجديدة، وفي النهاية ربطها بالحلقة الأشمل: التاريخ البشريّ والثقافيّ العام.
12- هذا يوصلني الى السؤال الأخير: استهجان التعليق على نصّ الّسيّاب " الظلام هناك أجمل". وهذا التساؤل يلخّص تسلسل الاستنتاجات كلـّها في موضوع محدّد: لماذا نعبّر بهذه الطريقة وليس بتلك؟ من يخلق في وعينا تعبيرا معيـّنا؟ هل تعابيرنا وأخيلتنا تنبع من ضرورات لا صلة لها بالواقع البيئيّ والاجتماعيّ وبالأوالات النفسيّة وبالمصالح الشخصيّة؟ هل تنبت الصور في وعينا وعلى ألستنا من فراغ؟ هذا السؤال أجبت عنه حينما تحدثت عن أدباء ادّعوا كذبا أنّهم أرغموا بالقوّة على تمجيد الحرب وإعلان الولاء لصدّام أو لعدي، أو لغيرهما.
من دفع السيّاب الى هذا التعبير المرعب: "الظلام هناك أجمل"؟ لماذا يكون الظلام أجمل؟ من حبّب الظلام في نفس الشاعر؟ أليس هو ضيق نفسه، ومرضه، وبرمه بتفاهة الحياة، وتحامل السياسة الإجراميّ على جسد ووعي ومصير الشاعر؟ كان الناس منشغلين بالأحداث الكبرى: تدمير بعضهم لبعض. كيف لهم أن يتنبهوا الى شاعر عليل، يجرّ خطاه الى قبر مظلم! لم يكن ممكنا للسيّاب أن يختار النور، لأنـّه كان يتحدث عن وطن غارق في ظلمة السياسة والاحتراب. ما أجمل هذه المطابقة بين إظلام النفس والجسد وإظلام الحياة، التي تجعل تمنّي الظلام آخر الأحلام وأعزّها! لكنّ حسن المطابقة الفنيّة لا يعفينا من التساؤل: لماذا نمجّد الظلام؟ إنّه السؤال عينه، الذي جعلني أتساءل: لماذا فضّل حميد سعيد التعامل بـ "القندرة"، وليس بغيرها، مع المثقفين العرب؟ وهو السؤال عينه الذي يجعلني أتساءل عن سبب إضفاء صفة "المثقف" على صدام والقذافي وغيرهما من الجهلة؟
كنت أتمنى أن يتمنى الّسيّاب شيئا آخر غير الظلام يلوّن جمال العراق. ولكن لم يكن هذا متاحاً وواقعيّاً، لأنّنا في عصر الظلام. ولو أنّ الّسيّاب فعل ما أتمناه لأنتج نصّاً شعريّاً لا يستحق الخلود. ظلام العراق لحظة إراغميّة قاسية وجوديّاً، ولحظة إبداعيّة مدهشة شعريّاً. لكنّ جمال التعبير شيءٌ، والحفريات الباحثة عن ولادة التعبير شيءٌ آخر.
التفكيك هو أن نلمس ما تحت السطح، وأن نصل الى القعر.
13 - لو أعدنا ترتيب نقاط اعتراض د. نجم نجد أنـّها مركـّزة، بدرجة أساسيّة، في موضوعات محدّدة، يربطها رابط واحد: البعث.
ما الاستنتاج الذي يوحيه هذا التسلسل، إذا ربط بتقييم د. نجم الايجابيّ، الذي لم يتوقف عند هذه النقاط "الضرورية"، عند كتابة كتابه "هومسيك"؟ ما الذي حدث بعد الـ "هومسيك"؟ لا أعرف - ويهمنا كثيرا أن نعرف - لأنّني أتعامل مع النص باعتباره وثيقة أخلاقيّة، ومستندا ضميريّاً.
14 - أما عنوان المقال "العنف غريزة أم ممارسة ثقافية؟" فلم أجد له مناقشة في المقالة ولو بكلمة واحدة. ولا أعرف كيف أفسر هذا. فهناك عنوان، وهناك مقالة، وقبلهما كتاب، لا تربطها ببعضها روابط معلـّلة، ولا ركزة رأيّ. هذا مجرد استنتاج عابر، أوردته لطرافته.
نعم، العنف غريزة. لكنّه يغدو بنية ثقافيّة حينما يتحول الى ممارسة جماعيّة، والى روابط قانونيّة، وتربويّة، وإعلاميّة، ونفسيّة، والى علاقات سلطويّة وثقافيّة وفنيّة تبادلية، تملك شرطيّة النظام "السيستام"، تسيّر حياة الأفراد والجماعات، وتتحكم بمسارات تفاعل وتطور المجتمع. هذا الجواب يتعلق بالمنهج أيضا، بالتفريق بين سطح الظاهرة وبين بعدها المعرفيّ الأعمق. إن تعبير "المسألة القندريّة" عنف غريزي بامتياز في دوافعه الداخليّة. لكنـّه عنف مصاغ بطريقة ثقافيّة، ولأغراض ثقافيّة. فهو جزء من تاريخ الثقافة، وصورة حسـّيّة لثقافة العنف البعثيّ تحديداً. وما نقاشنا هذا سوى انعكاسات مختلفة لتلك الصورة في وعينا.
كيف لنا أن نفصل الغريزة عن الثقافة حينما تغدوان مشروعاً حربيّاً وحزبيّاً مترابطاً ومتكاملاً؟
هل صدّام كائن غريزيّ محضّ، أم ثقافيّ محضّ، أم أنـّه يقع بين المنزلتين؟
لو أنّ صدّاما اختار السلام (غير ممكن بمواصفاته الشخصيّة)، لو أنـّه بنى لنا أبراجاً للعلم والترفيه والصحة والتجارة، بدلاً من غزواته الفاشلة، وبدلاً من حروبه الكارثيّة الخاسرة. لو فعل ذلك لأرغمنا على إزالة صفة " الشقاوة والبلطجي" عنه، ولربما أرغمنا أيضا على حشره في طائفة المثقفين تجاوزاً.
لكنّه لم يفعل ذلك. لماذا نفعل نحن، نيابة عنه، ما فشل هو فيه شخصيّاً؟
ختاما: مقالة د. نجم ترغمني على التوقف عند ظاهرة فريدة لدى عراقيي المهجر، ممن سايروا النظام الديكتاتوريّ. وهي تمسكنهم وإشهار بكائيّاتهم علناً في أوّل خروجهم من العراق. لكنّهم حالما يكتشفون أنّ المنفى لا يقلّ فساداً عن الداخل، بل يفوقه وساخة، يبدأون بنسيان أنفسهم ويعودون الى ما كانوا عليه. حينما تأملت ردود من دافعوا عن أنفسهم، باستثناء أفراد نادرين جداً، أبرزهم عبد الستار ناصر، وجدت الآخرين، الذين ذكرت مواقفهم في كتاب "ثقافة العنف"، ينقلبون وحوشاً بأنياب جارحة جداً. وهذا يشمل كثيرين منهم: فيصل عبد الحسن، ولؤي حقـّي وغيرهما. لقد حرص المثقفون المكتوون بنيران الديكتاتورية على ايجاد أعذار تبرّر لخصومهم شدّة انفعالهم، من منطلق إنسانيّ قوامه التسامح ومنح المخطئين فرصة لتجريب حياة أخرى كريمة، وتقبّل الحقيقة المرّة. وهو موقف يأخذ بنظر الاعتبار ثقل العار الذي ارتكبه ممجدو العنف والحرب، وحقهم الطبيعي في البحث عن آفاق جديدة للعيش بسلام وطمأنينة. إن موقف د. نجم المتأخـّر جدّاً، والمكرّر جدّاً، قد يوهم القارئ، غير الخبير، بأنّه ينتسب الى فئة المنتقمين لسعادتهم الغاربة أيضاً. لذلك يتحمل د. نجم مسؤوليّة إخراج نفسه من هذا الانطباع الظالم، الذي نسجه حول نفسه، ربما من دون قصد. لقد أحزنني موقف د. نجم في مقالته، لأنّني أتمنى له أن يبقى محافظاً على روح الأكاديميّ فيه، التي نحترمها ونحتاجها في زمن الفوضى السياسيّة والعقليّة. لكنّي لا أنفي خشيتي من أن تؤثــّر كلماته، باعتباره أكاديميّاً، في دارسين وقرّاء، فاتتهم قراءة الأصل، وأدمنوا ثقافة الشائعات، وهي ظاهرة فاشية في حياتنا العقليّة.
الموضوعية ليست بضاعة للمقايضة أو للإهداء في المواسم. الموضوعيّة البحثـيّة ابنة العلم بحياديـّتها، والموضوعيّة الفكريّة ابنة العقل والضمير بانتمائها وانحيازها. تغليب إحداهما على الأخرى، عند الطلب، إفساد تام للتوازن المعرفيّ والأخلاقيّ.
لكلّ هذه الأسباب حرصت في كتاب "ثقافة العنف" وكتبي اللاحقة على تأكيد مقولة الفيلسوف جورج سانتايانا: " من ينسى الماضي محكوم عليه بتكرار هذا الماضي".
شكرا لأخي د. نجم لأنّه أتاح لي فرصة تكرار ما جرت مناقشته منذ عشر سنوات خلت.