بقدر ما يكتب لنا الكاتب المصري الكبير عن صديقه الراحل، ويكشف لنا الكثير من أبعاد شخصيته الفنية والإنسانية معا بأدوات القاص الماهر، بقدر ما يكتب لنا عن عذوبة الصداقة وقدرتها على قهر الموت، وعن أحوال مصر في هذا الزمن الردئ.

صديقي حسن سليمان

بهاء طاهر

كأني كنت على موعد وداع معه.
كنت أقضي الصيف في جنيف كالمعتاد على أن أعود إلى القاهرة في وقت ما من شهر سبتمبر. واضطرتني ظروف أن أقطع الإجازة لأرجع للقاهرة أربعة أيام أعود بعدها إلى جنيف. وصلت بالليل ونمت مجهدا فأيقظني رنين الهاتف مبكرا في الصباح. كانت سكرتيرة حسن سليمان تنعيه بصوت باكٍ. صرخت "لايمكن" فقالت لي إن الجنازة ستكون ظهرا في مسجد الكيخيا.

لم أصدق الخبر في ذهني لم يكن حسن سليمان والموت يقترنان أبدا. كان يضج بالحياة في الصحة والمرض على السواء؟ اعتدنا أن نعلم أن حالته تتدهور وأنه يدخل المستشفى في حالة خطرة بين الحين والآخر، لكنه سرعان ما يرجع أكثر حيوية وتمردا. ذلك المتمرد الأبدي.

في آخر زيارة له في منزله مع صديقتنا المشتركة الكاتبة والصحفية منى أنيس، كان في فترة نقاهة من أزمة حديثة. استقبلنا مجهدا خافت الصوت، وبعد دقائق من حديث كئيب عن المرض وعن الموت انتفض حسن سليمان القديم، حسن سليمان الحقيقي، وراح يهاجم بعنفه المعتاد وبسخريته اللاذعة كل ما لايعجبه ومن لا يعجبه في البلد. لم يوفر أحدا ولا مؤسسة من النقد والهجوم، بدءا من النظام الساسي التعيس ، إلى حالة الصحافة والفن المتردية، مع وقفة خاصة من الهجوم اللاذع على وزارة الثقافة ومسؤليها، والفساد الضارب أطنابه فيها، وترفيع من لا يستحق، وإقصاء من يستحق من الفنانين. وتبادلنا الابتسام منى وأنا: ها هو حسن الذي نعرفه. المشتبك مع الحياة الملم بكل التفاصيل (لا أدري كيف وقد كان في الفترة الأخيرة يلازم البيت أو المستشفى معظم الوقت). أما حديثه قبل ذلك عن المرض والموت فمن جملة المبالغات التي اعتدناها منه. ليته كان.

مات إذن أقدم أصدقائي من الفنانين وأكثرهم موهبة. لا أرثيه لأنه هو والرثاء لا يلتقيان أيضا. سيظل دائما بتراثه الفني أكثر حياة من كثير من الأحياء. ولا أمجده أيضا. سيتكفل التاريخ بإنصافه من جحود أهل الحل والعقد في وطنه. سأتحدث في هذه الكلمة فقط عن علاقتي به التي امتدت نصف قرن أو يزيد، وكانت مليئة بفترات من الصداقة الحميمة تخللتها أيضا فترات من الخلاف ومن القطيعة. سأتوقف بإيجاز عند لحظات دالة ترسم صورة صادقة لشخصيته (من منظوري بالطبع). أما الحديث عن فنه فسيتكفل به من هم أقدر مني.

عرفته وأنا في السنة الأولى بالجامعة عن طريق شقيقه الشاعر محمد سليمان، صديقي وزميلي بالكلية نفسها. كان هو قد تخرج في كلية الفنون الجميلة قبل فترة قليلة، وبدأ العمل بالفعل. أما مكان اللقاء فكان من أغرب منتديات القاهرة، وهو مقهى (بستوني) الذي لا يعدو أن يكون مدخلا لا يسع أية موائد أو مقاعد، بل يقتصر على معدات صنع الشاي والقهوة وينثر بعد ذلك مقاعده المتواضعة على الرصيف. وفي هذا المقهى كان يتجمع شباب الفنانين والأدباء في حينها. هناك عرفت إلى جانب حسن سليمان الفنانين الذين تصدروا بعد ذلك ساحة الفنون التشكيلية، ومنهم ضمن آخرين الراحلان مصطفى أحمد والنشار، والفنان جورج البهجوري مدّ الله في عمره، وكاتب القصة والروائي صبري موسى وكاتب المسرح محمد سالم، والموسيقي والمايسترو فيما بعد يوسف السيسي. أذكرهم جميعا وأذكر جلساتنا هناك كلما مررت بهذا المقهى الذي مازال قائما في مكانه وعلى حاله نفسها أمام القنصلية الفرنسية، وإن يكن فيما أظن قد فقد دوره القديم. أذكر حسن سليمان بصفة خاصة، لم يكن يطيق الجلوس لفترة طويلة فكان يقوم ويتمشى بضع خطوات قبل ان يعاود الجلوس. ولفت نظري من أول لقاء معه. كان يمشي دائما مشدود القامة مرفوع الرأس سريع الخطو كأنه يهرول، أكاد أقول كأنه يحلّق. تنسى جسمه القصير وتشعر أنه هامة وقامة عالية. وحين يتحدث كانت كلماته تتدافع وافكاره تزاحم بعضها البعض فأضطر إلى شحذ انتباهي لكي أتابعه. أعجبت به قبل أن أرى لوحاته وكان هناك ما يشبه الإجماع من زملائه على موهبته الفريدة.

ويملأ نفسي حسرة حتى اليوم موقف يتعلق بلوحاته. فقد شارك في معرض جماعي للفنانين التشكيليين بمناسبة العدوان الثلاثي وكانت اللوحات تباع بأسعار رمزية أظن انها كانت عشرة جنيهات. واجتذبتني في المعرض أعمال حسن سليمان التي كان لها موضوع واحد هو الخيول الجامحة. واستخدم حسن في رسمها ألوانا غير مألوفة في أعماله أذكر منها اللون الأحمر بصفة خاصة. تمنيت لو أقتني لوحة منها ولكني لم أكن أملك في حينها الجنيهات العشرة. وظللت فيما بعد أطارد حسن سليمان مطالبا إياه بأن يبيعني لوحة من لوحات الخيول بأي سعر، فيقسم لي إنها قد بيعت جميعها، وإنه شخصيا لا يملك لوحة واحدة منها. وقلت له منذ فترة قريبة أتمنى ياحسن قبل ان أموت أن أقتني احدى لوحات الأحصنة، فأغرق في الضحك وقال وبماذا ستفيدك مادمت ستموت؟ لم أقل له إنها ستمتعني مادمت حيا.

لكن ليس لي أن أشكو. فقد أهداني حسن عند زواجي لوحة لإبريق نحاسي. وكان أيامها مفتونا بالأواني، وكنت أنا مفتونا بأعماله دائما.

غير أني عرفت أيضا جانبا آخر في حسن غير المصور العبقري والكاتب الموهوب. كان مغرما بالدعابة وبتدبير ما نسميه في مصر "المقالب" لأصدقائه. أي الإيقاع بهم عن طريق مزح تتفاوت قسوتها. وقد نالني شخصيا "مقلب" شديد في بداية عملي بعد التخرج. إذ زارني في المكتب الحكومي شاعر كان معروفا أيامها بأناقته البالغة وإفلاسه المزمن. لم أكن قد التقيت به من قبل لكنه قال لي إن حسن أرسله إليّ. رحبت به وطلبت له فنجانا من القهوة وظللت متحيرا لصمته. غير أنه استجمع شجاعته أخيرا وقال لي إن حسن أبلغه أنني أعرف سيدة ما تقرض نقودا بالفائدة أو "بالفايظ" على حد تعبيره. حين أفقت من ذهولي من هذه الكذبة الضخمة والمشينة نهضت أطارد الشاعر البائس وأنا أسبّه وأسبّ حسن في الوقت نفسه.

ذهبت في المساء والغيظ يتملكني لألتقي بحسن في المقهى وأحاسبه أو أنتقم منه حسبما يتيسر. وحين رآني مقبلا من بعيد ومنظري ينذر بالشر إذا به يغرق في الضحك ممسكا بطنه، وهو يتلوى من شدة الضحك قائلا "حلوة. مش كده؟" لكن السعادة والفرح الطفولي في وجهه لم يكونا كافيين لينفثئ غضبي إلا بعد حين. وأظن أن حسن ظل مغرما بهذا النوع من المزاح فترة طويلة من عمره، وكنت أسأل نفسي دائما حين أرى معارضه الفنية شديدة الأسر بما تشيعه من شجن وفي بعض الأحيان من طابع تراجيدي صريح كيف يمكن أن يتفق الأمران؟

ربما يتفقان في وجدان فنان يستوعب المتناقضات ليؤلف منها انسجاما تفتقده الحياة ويحققه الفن.

وربما كانت الحقيقة أيضا هي أن السخرية والمزاح كانا مجرد قناع. غير أني كما قلت لم أعرف فنانا مقبلا على الحياة مثله. كان يذكرني دائما بعبارة جميلة للكاتب الروسي تشيخوف يقول فيها "أنا أحب الطبيعة، أتمنى أن آكلها" وكان حسن يتمنى بالفعل أن يأكل الحياة ويهضمها. يفعل كل شيء بحماس، يرسم ويكتب ويسمع الموسيقى ويتابع المسرح وآخر الكتب... إلخ.

كنا لبعض السنوات جارين أعزبين، واعتدنا أن نلتقي في الأسبوع الواحد مرتين أو ثلاث مرات نذرع فيها شوارع القاهرة طولا وعرضا. وفي معظم الأحيان كان يفاجئني باكتشاف شيء جديد يتحمس له. عشقه لمنطقة جامع السلطان حسن والقاهرة الإسلامية معروف بالطبع، وقد ذرعناها معا مرات ومرات. وكان يتوقف فجأة ونحن نسير ويرفع رأسه متطلعا إلى شرفات قديمة أو مشربيات أو يتأمل زاوية ما من إحدى الحارات، فأثق أنه سيعود بمفرده مرة أخرى إلى ذلك المنظر الذي استوقفه، وأني سأراه ذات يوم في بعض لوحاته جزءا من تكوين أشمل يعبر عن فكر حسن ورؤيته الفنية (وأكرر المثيرة للشجن بألوانها وخطوطها).

ولكن عشق حسن للمعرفة لم يكن يقتصر على اهتماماته البصرية. أذكر أنه صحبني ذات مرة في منطقة الأزبكية لندخل من حارة إلى حارة إلى زقاق ليدلني على اكتشافه لمقهى صغير يتجمع فيه عدد من الصعايدة لابسي الجلابيب للاستماع الى واحد من آخر منشدي السيرة الهلالية (غير السياحيين). وكان حماس الزبائن وتفاعلهم مع المنشد وحوارهم معه يرجع بنا إلى قاهرة قديمة حقيقية نعشقها معا. وفي مرة أخرى صحبني إلى منطقة ما بالقرب من حي الحسين، لأنه اكتشف هناك تجمعا لهواة صراع الديكة المحظورة قانونا في مصر، ولكن تعارك الديكة البائسة وتبادل الجروح لم يستهوني، رغم غرام أدباء امريكا اللاتينية بالكتابة عنه، وذكرني بمصارعة الثيران التي لم تستهوني حين شاهدتها مع كل الاحترام لهمنجواي.

ولكن بالنسبة لحسن سليمان لم تكن المسألة هي أن يعجبه عراك الديكة أو لا يعجبه. المهم هو أن يراه ويعرفه. المهم ألا يفوته شيء في الحياة يمكن أن يضمه إلى ذخيرته. وفي هذا كان تلميذا وفيا لصديقه الكبير يحيى حقي الذي كان يفتنه أن يعرف كل صغيرة وكبيرة من حياة الناس البسطاء. لم أصحبهما في جولاتهما معا، ولكني أتخيل أي متعة كان يجدها كل منهما في صحبة الآخر.

غير أني تذكرت يحيى حقي أيضا ونحن في رحلة الوداع لحسن سليمان. أراد مثلما أراد كاتبه الأثير أن يرحل دون ضجة. لم يشأ أن يُنشر له نعي، أو أن يقام له سرادق عزاء. وكنا في جنازته حفنة من أصدقاء لا أكثر.

أفهمك تماما يا حسن. مادامت الحياة التي تعشقها قد انتهت، ففيم تهم طقوس الموت؟

وداعا صديقي الفريد.