هذه كما يقول عنوانها هي عشر ترنيمات يعزفها كاتبها بمناسبة رحسل حسن سليمان، ويتناول فيها تقاطعات مسيرته الشخصية كشاعر وفنان، مع مسيرة الراحل الكبير.

عشر ترنيمات في حسن سليمان

أحمد فؤاد سليم

(1)

مات حسن سليمان علي ما يبدو وهو راغب في الموت.

ظل إستثنائيا، وحيدا في الكون يبني عالمه حتي ضاق عليه، فتماهي فيه وجعل من هذا العالم قبره، ووجوده، وعدمه. عرفته أول الستينات، وجمعتنا الصداقة بمسافات عدة. ولكنه كان يسألني كيف يحْكِم السرد في اللغة العربية. وكنت يومذاك أجالسه في مقهي الآمريكيين بناصية سليمان باشا، ونتبادل معا المعرفة حول قيمة الحرف في الكلمة، وقيمة الكلمه في الجملة، وإيقاعها، وعطفها، ومجراتها. وكان يدهش لمحاوراتي، ويسألني: كيف تعلٌّمت هذا وذاك، فلا أحير جوابا، ولكن عيناه كانتا تلمعان وكأنهما الدقٌّاق في القلب.

يسكن كلانا في مربع واحد وسط القاهرة، فهكذا كنا نلتقي في اليوم مرتين أو ثلاث، وكنت أراقبه يمشي في الطرقات، ويتوقف عند النواصي، ويتلفت يمنة ويسرة، وكأن هاتفا صاح به في صمت الطريق. فإذا فاجأته في أوقاته تلك يسألني عما إذا كنت قد رأيتها؟ فأعجب من قوله وأرد عليه سؤاله بقولي: من هي؟ فيقول لي أحِبٌها، وقد أعطتني موعدا بمقهي 'لاباس' غير أنها لم تأت. ثم يفاجئني وهو مفجوع الفؤاد كيف تتعرفون إلي البنات؟ كيف لي أن أتقرٌّب منهن؟ كان سؤاله جادا ينم عن عتمة في القلب المتعب.

كان فنانا حقيقيا. أي أنه كان يعرف كيف يكون ذاته. وكان خطٌّاء، ومتعجٌّلا، وقاسيا في الحكم علي أصدقائه ومعارفه. كان يطلق عليهم أوصافا كمثل الطعنات الموجعة، ويقول لي ونحن نزرع الطريق إلي المقهي: أليس كذلك؟ فكأنه كان راغبا أن أكون ذو ميل علي هواه. 

(2)

لم يعرف الهدنة في فنه. أفضل ما عمله لوحته التاريخية: الجنٌّاز، وفيها يبدو التابوت وكأن الوجود قد حشر بداخله. وكانت لوحتا الخياطة والعمل في الحقل من بين العلامات التي جعلت إسمه محفورا بين الناس. فلما مال في الطبيعة الصامته نحو موراندي، وضعوه يومئذي فوق ميزان حساس خشية الوقوع عند الحافة.

وهو رسام بلا مثيل. وأظنه مّلّكّ القدرة علي التعبير الحق، واستفز الفضاء في الأسود والأبيض حتي منحهما النطق. وفي مجلة المجلة استطاع أن يصكها ـ في زمن قصير ـ بمستويات في أداء الصورة ما كانت لتوجد قبله في مجلة ثقافية. فلو كان هناك فضل فيما جري، فليكن اعتبارنا ليحيي حقي الذي حفز المخفي في حسن سليمان، وجعله إذْ ذاك فصيحا. هكذا هو وقع في أسر يحيي حقي. أحبه حتي النخاع، وأخذ عنه لحظة السؤال عن غير الموجود. كان حقي يبادرك بهمهمة قصيرة وكأن روحا دهمته، فيسأل عن شئ دون رغبة في معرفة الجواب. هكذا كان أيضا حسن سليمان وكأنه صار صنوا للمعْجّبّة في يحيي حقي.

لم يكن عيبا كون حسن سليمان ليس كاتبا مقتدرا، ولكنه بقي إلي جانب فنه صاحب طروحات، ومنتج لأفكار، ويملك ميزة تحليل البِنْية في العمل الفني، وبنفس القدر فهو يعرف كيف يفعل فعلته في الفن، وفي الموسيقي. كم دعاني في الستينات لأستمع إلي اسطوانة كلاسيكية جديدة. وكانت عيناه تلمعان كطفل يختزن خبث العالم بينما هو يراقبني وأنا أستمع لكونشرتو الفيولينة لجوهان سباستيان باخ.

كان حسن سليمان يحب باخ، وفيفالدي، وهاندل وطريقة كزالس في العزف علي آلة التشيللو، وأسلوب أوستراخ علي الفيولينة. وكان تصنيف مكتبته الموسيقية علي أساس مقام العازفين الإنفراديين.  

(3)

وبنفس القدر اعتبر الطبيعة الحية والميتة وجعلها وكأنها موازيا لحالة وجودية.

كان يجمع الزلط، والرمل، والأسلاك، والأخشاب. ويحاول أن يقرأ بنياتها، رسمها وكأنه باحث في فضاء الصورة عن متعة الظل والنور. وهو كان إذْ ذاك يرسم بينما هو يعرف أن تلك ليست صورا للبيع، وإنما هي للزمن الباقي. وقد اختلف الحال فيما بعد، وجرفته قسوة الشارع، حتي بقي محاصرا في مرسمه من عزلة الصديق عن الصديق. غريبا حتي أنه كان يبدو ماشيا وكأني به أبا حيان التوحيدي الباحث عن قبره في الصحراء.

فإذا جلست في مجلسه عليك أن تتقبل السلطة والهيمنة أو تنفض يدك وتذهب. يحادثك طويلا، محتجا، وساخرا، ومرٌّا ولا تعرف متي يفرغ ومتي يترك لك مجالا تختار فيه تّحرٌف الألفاظ.

تذكٌّرني أحاديثه تلك، بتلك المتواليات المنظورية التي أخذ يرسمها للآنيات. إذْ هو علي غير ما كان يعرف موراندي. كان يري أن الإناء رمز لوجود تم الكشف عنه مجددا. وكأن يري فيه الأشياء التي هي مجكْنةج هذا الوجود وجواهره. فإذا هو يرسمها من زواياها التي تخفي عجزها مرة بعد مرة، وكأني به يدق فوق مقام واحد علي وتر من أوتار آلة القانون.

نعم كان مغاليا،غير أن تلك كانت لسانيته المرٌّمزة التي تنسج بِنْية الصورة عنده. 

(4)

منذ 42 عاما كتب حسن سليمان نصا حزينا عن البطة.

كان يدهشه الطير، والحيوان، والنفايات في الطروقات،غير أن طائر البط البلدي ظل يتوقف عنده. يراه كما لو أنه علامة من مغارات العالم القديم. يباغته ذلك الضعف الكوني المتمثل في بطة بلدية مرسومة فوق لوح من الجص. فلا هي قادرة علي الطيران برغم جناحيها،ولا هي قادرة علي النطق برغم ضجيجها. تبدو تلك البطة كمثل مأساة أغريقية، مكتوفة النفس والجسد. تغتسل في اليوم مرات وكأنها لا تعرف في وجودها سوي الطهارة من الإثم البشري. إذْ ذاك كان حسن سليمان يحسها ويشمها ويتملاٌها، وكأنها صنوه الحزين.

وفي الصفحة رقم 136 بالعدد 112 من مجلة المجلة، أبريل 1966، كتب حسن سليمان مسرده الحزين عن البطة:

ذات صباح كنت أسير علي غير هدي. تلقي بي الطروقات إلي مكتبة تشعرك بالسأم والملل. إلي أن التصق بصري ببطة حزينة لفنان مصري قديم. بطة وحيدة مطبوعة علي كارت بوستال. كتب علي ظهره كتابة هيروغليفية من مقبرة حتشبسوت.

ويواصل حسن سليمان قوله:

إن الفنان وهو يبدع عمله الفني إنما يتصرف من وحي عواطفه وأفكاره. وهذا هو الذي حدث بالنسبة لذلك الفنان الفرعوني وهو يكتب هذا الجزء، إذْ نسي نفسه فلم يرسم لنا هذه البطة التي تستعمل كفعل، بمعني يسمع، وتنْطّق وشا بمعني بطة.، نسي نفسه فعبٌّرتْ لنا هذه البطة عن حالة حزن، وأزمة نفسية يمر بها الفنان فجاءت أصدق وأبلغ ما يكون عليه العمل الفني.

بطة وحيدة يغرقها الحزن.

أليس أروع ما كتبه كيتس،قصيدته ترنيمة إلي البلبل،التي ابتدأها قلبي يتصدع من الألم. 

(5)

في منتصف الستينات رسم حسن سليمان لوحته الرائعة لطائر الأوز، فجعلها وجودا محضا يناظر غربته. إن الأوز الذي أحبه هو هنا معادله الموضوعي الذي ظل يلازمه. فها هنا نضع أيدينا علي تلك الحياة الداخلية لفنان يملك ميزة التعبير. يبدو الأوز وكأن حسن سليمان رسمه بيده مباشرة مستخدما راحته فوق فضاء الصورة، فبدا اللون المينوكرومي من درجات السيبيا آسيانا محزنا. وتبدو اللوحة وقد غمرها تساؤل مهيب عن وجود محيٌّر.

فاللون يبدو متراوحا بين العتمه، والخفوت، والإفصاح، وكأن حسن سليمان نسجه بغير عمد، فبدا كمثل جلد حي، عصبي الوقع.

إن الأوز هنا ليس هو ذاك الذي نعرفه في الأسواق، وإنما هو الطائر الإنسان. الطائر الذي لا يستطيع الطيران. طائر يكشف عن وجود مجرد. فلا لغة، ولا ذكريات، ولا تاريخ، ولا زمن، وإنما هي الظلال وحدها التي تشهد علي حجم الجسد. 

(6)

في عام 1965 أو نحوها قرأ حسن سليمان قصيدتي المنشورة بصفحة الأدب بجريدة الجمهورية يومئذ. كانت تحت عنوان مدينة الرخام فأعجبته، وكان إذْ ذاك يحاضر في المعهد العالي للسينما، فها تفني وقد قرر أن يقرأها علي الطلاب في مجال لصناعة الأخيلة في السيناريو. كانت القصيدة مأساوية تحكي عن عجز العالم. وأظنها تقابلت مع روح حسن سليمان الباحثة عن الحزن. وأما أنا فقد غلب عليٌّ اغتباطي لاختياره لقصيدتي تلك، وفي بعض منها كنت أقول:

هذه رأسي تدحرجها الرياح إلي المدينة
والضوء يسقط فوقها،
ويلفٌها،
وأنا الغريب بجثتي
أنا الغبار
يتسلق العظم علي بياض الجبس
يخضر الجدار  

وقد ظل حسن سليمان لزمن متأثرا بمدي هذا العجز البشري الذي أفصحت عنه القصيدة. ومنذ ذاك تبادلنا الأشياء معا وكأننا نصنع معا إناء واحدا. 

(7)

اختلفنا معا وطال ابتعادنا أعواما حين عّرضْت عليه عام 1977 أن أقيم لأعماله عرضا شاملا لتجربته كلها في قاعات الأدوار الثلاثة لمجمع الفنون بالزمالك (قصر علي باشا فهمي سابقا). ولكنه رفض. ألححت عليه الرجاء، واستخدمت ضغوطات الزمن السابق، فقال لي أنه لا يتعامل مع الحكومة! وبينما هو يتحدث معي زاد حنقه، فاستشاط من غضب خفي، وأخذه الكِبّر عليٌّ دون وجه حق. بعد ذلك عاودت الكرة، وكانت سبع سنوات قد مضت،فإذا هو يرفض مرة أخري.

إذْ كان يراني ساعتئذ حكومة

وبذلك ظلمني في طريقي وفي مبغاي، ثم كففت عنه رغبتي حين رأيته يعرض في الهناجر. 

(8)

أحب حسن سليمان كمال خليفة وكان يتأمل رسومه العاصفة في الأبيض والأسود ويراه فنانا ذو قدر ومكانة. وقد أحبه كمثل ما أحب يحيي حقي، وقال لي: فتش عند كمال خليفة، فقد كتب كثيرا ولكنه لا ينشر ما يكتب. وهكذا ذهبت إلي كمال خليفة الذي لم يكن يملك سوي حصيرة قديمة، وبعض الأغطية، وأدوات للشاي والقهوة علي الأرض، ورأيت عيناه كمثل ما رأيت عيني حسن سليمان. كلاهما يريان الداخل بأكثر مما يريان الظاهر، وكلاهما يملكان عينا فاحصة ومقتحمة، وبصٌّاصة، حتي أنك لا تملك أمامها سوي الإعتراف بالخبئ في النفس. 

(9)

لقد تم استغلال حسن سليمان كفنان بصورة لم يسبق لها مثيل، إذْ استولت بعض البيوت التجارية ـ الآرتيزانية ـ علي أعماله ـ مبكرا ـ منذ منتصف الستينات وقامت بتسويقها وبخاصة بين عدد من أنصاف الأجانب، وبين السياح الموسميين. أحد تلك البيوتات أخذ له مركزا نهاية شارع عبد الخالق ثروت، حين اكتشف في شيئيات ذلك الفن الحاضر سببا للترويج له بثمن باهظ وبأي ثمن أحيانا ـ كان ذلك البيت التجاري الذي يتسم بعلاقات مع عديد من الأجانب داخل وخارج مصر قد قام بدور لا أظنه كان محمودا، إذْ لم يكن يعنيه القيمة إلا بقدر ما يتيحه الكم المنمط من مكاسب. لقد وجد حسن سليمان نفسه مكبلا بين الجموح والأحباط، وبين التمرد والطوعي، وبين الأنصياع والرفض، وبين الامتثال والعصيان، ولعله في سنواته العشرين الأخيرة كان كمثل هاملت يبحث عن وجوديته في الموت المبكر، ويتوق إلي من يشهد عليه بين الناس، ويجعله علي مثل ما بدأ عندما رسم الخياطة التي بلغت ذروة تطال خياطة فيرمير الشهيرة. 

(10)

قبل عام زارني الفنان الكبير السوري يوسف عبد الكي وهو صديق قديم لحسن سليمان، وقال لي أنه يعد فيلما عنه وعن حياته، فباركت مبادرته تلك، ولما طلب مني أن يري أعمال حسن سليمان في متحف الفن الحديث فتحت له الأبواب كلها عله يفعل لحسن سليمان ما لم يستطع هو أن يفعله من أجل نفسه.

فهل فعلها عبد الكي.
هل وضع اللمسات الأخيرة لفيلم حسن سليمان.
هل صوٌّره قبل الموت، وبعد الموت.
وهل سجل طعنات الموت علي خصره.
هل سحب يداه وجعل من كل أصبع معني كما كانت تتملاه الريشة الحزينة.
هل ذهب إلي مواطئ القبر. ورأي هناك شاهده.

نعم، لقد مات فنان قدير لا يعوض، وكنت قد عركت صحبته ما يقرب من أربعين عاما، فلست أدري ما إذا كنت قد عرفته حقا، ولست أدري ما إذا كان هو بدوره قد عرفني ـ ولكني أدركت للتو أن موته بمثابة احتجاج علي ما جري في سنين العمر.