حوار وترجمة
* لنتابع حديثنا الذي بدأناه في اللقاء الأول بالسؤال: لم تقتصر الكتابة عن منجز المهجر الإبداعي على ما حبّر بأقلام عربية، بل ويمكن تتبع مقاربات سطرت من قبل الاستعراب. كيف ترين لمرحلة مابعد هذه الكتابة الإبداعية والنقدية، أي المرحلة التالية زمنياً على موجات الهجرة الأولى؟
** كتب الكثير حول منجز المهجر الأدبي من قبل وجهة نظر عربية، سواء من قبل النقاد العرب أم من كتاب المهجر أنفسهم، وكذلك من قبل الاستعراب كما تشيرين، وعلى نحو خاص الأوروبي والأميركي اللاتيني. الآن من الممكن طرح السؤال: ما الذي يجري بعد ذلك المهجر الأول؟! هل مازال موجوداً؟! هل له استمرارية؟! هل يحتفظ الكتاب في أميركا اللاتينية المتحدرين من أصول عربية، من الجيل الثاني أو الثالث، بصلة وصل مع جذورهم؟! هل لـ"المهجر" وعي خاص به وسرديات تميزه؟!
في حقيقة الأمر، إن إمكانية طرح السؤال أو المساءلة بحد ذاتها تعني قابلية الموضوع للسجال واستقراء الواقع المهجري أو "مابعد المهجري" كما أسميه لاستنتاج الأفكار والأطروحات النقدية حوله ثقافياً واجتماعياً.
في تشيلي، وهو البلد الذي كرست له معظم وقتي، تمخض بحثي عن كتابي المعنون: "الأندلس: من شاطئ المحيط الهادئ في تشيلي"، وهو الكتاب الذي قدمته سنة 2013 في "البيت العربي" في مدريد وفي معرض الكتاب في سانتياغو في تشيلي. وأشير إلى أنني أنجزت هذا الكتاب بفضل منحة من مصرف مدريد لدراسة العلاقة بين الكتّاب في تشيلي من أجيال تعود إلى أصول عربية، مع اسبانيا ومع الثقافة العربية الأندلسية. وعليه وضعت قائمة بأهم الكتّاب في هذا المجال، وبدأت التواصل مع من بقي على قيد الحياة في مساكنهم وأماكن عملهم. وزودتني اللقاءات والحوارت التي أجريتها بمادة بحثية مهمة من حيث قابليتها التحليلية وإنتاج الأفكار وتقديم أطروحة نقدية.
الرحلة المهجرية أبعد من أن تنتهي ومازالت مستمرة؛ لأنها رغما عن الأزمنة والأمكنة ولجات موج بحرها، مابرحت متدفقة، فالواقع العربي المشرقي والأميركي اللاتني ومحطات الرحلة الأوربية، على قصرها أو طولها، مازالت موجودة. وموضوع المهجر لم يستنفذ بعد ومازال متداولاً.
* * *
* كيف رأى أو يرى المتحدرون من أهل المهجر العربي عموماً، والمبدعين خصوصاً، في أمريكا اللاتينية إلى الأندلس واللقاء مع التاريخ الاندلسي في شبه الجزيرة الايبرية؟!
* * في واقع الأمر العلاقة مع الأندلس التاريخية يختلف من بلد أميركي لاتيني إلى آخر، ويتباين من فئة اجتماعية أو ثقافية أو احترافية إلى أخرى. فعلى سبيل المثال تشكلت في البرازيل "العصبة الأندلسية" (1932) بعد وصول شاعر الحداثة الاسباني فرانثيسكو بيّاسبوسا مارتين Francisco Villaespesa Martín (1877-1936) إلى البرازيل. ومن المعروف روابطه الثقافية مع الأخوة معلوف، حتى أنه نبّه أدباء المهجر إلى الماضي الأندلسي، والبحث في فكرة ومفهوم الأندلس والتي كان يتناولها في أعماله، وإن كانت أندلساً غرائبية بل واستشراقية، وتقوم على حنين كئيب إلى البهاء المفقود. ومن خلال تجربيتي الخاصة لا أستطيع أن أتلمس الموضوع على المستوى الشعبي ذلك أن روابطي في البرازيل بقيت ضمن الفئات المثقفة. بالمناسبة تواصلت مع السيدة روز-مي معلوف ابنة شفيق معلوف، بدافع الرغبة لإجراء لقاء معها يرفد بحثي المعنون "الإبحار في الذاكرة". ومن ضمن الأسئلة التي وجهتها لها كان حول صلتها بـ"العصبة الأندلسية" وما هو معنى الأندلس في التاريخ الاسباني بالنسبة لهم وكذلك كانت رؤيتهم للعالم العربي من تلك المسافة المهجرية البعيدة. في حقيقة الأمر مازلت بانتظار أجوبتها.
حسناً، على الصعيد الشعبي للفضاء الناطق بالاسبانية في أميريكا اللاتينية، حينما كنت أسأل البعض "ما الذي تعنيه لكم الأندلس؟"، كانوا يدهشون من السؤال ويجيبون "ولكن ما الأندلس؟!!". في المراحل الأولى لم أكن أفهم استغرابهم، ولكني مع الوقت استنتجت أنهم لم يدرسوا الأندلس كواقع تاريخي وجغرافي في شبه الجزيرة الايبيرية (من 711 حتى 1492)، كما هو الحال في البلاد العربية واسبانيا والبرتغال؛ فالأندلس غائبة من الذاكرة التاريخية والحوارات الثقافية المهجرية لديهم، وهنا أتحدث كذلك عن الكتاب المبدعين والأساتذة الأكاديمين على حد سواء. بمعنى أنني تلمست هوة كبيرة بين معنى الأندلس بكل تنويعاتها (من الجنة المفقودة إلى العثور عليها .. إلى ما هنالك من سجال حولها)، والتي تزخر بها الثقافة العربية والرومانسيات الغربية، وبين معناها لدى المتحدرين من أصول عربية في أمريكا اللاتينية عموماً وتشيلي خصوصاً، فيما عدا بعض الاستثناءات التخصصية ضمن التخصص العام، كتلك التي يقدمها بعض الأساتذة المرموقين في المراكز الأكاديمية مثل البروفسور ديغو ميلوس من بين قلة آخرين.
أمر آخر تنبهت له، ألا وهو ارتكابهم لخطأ سببه لفظهم لحرفي C وZ في اللغة الاسبانية (المقابل لصوت حرف "ث" العربي) على أنه S (س)، وبالتالي فإنهن يربطون اسم الاقليم الواقع في جنوب اسبانيا والمعروف حالياً حسب التقسيم الإداري السياسي بـ Andalucía أندلوثيا (والتي يلفظونها أندلوسيا) مع الأندلس التاريخية.
* * *
* ولكن ألا يتسألون من أين أتت الكلمات العربية التي ينطقون بها في اللغة الاسبانية؟!
* * نعم بالطبع، وجوابهم يتلخص بمحض أن العرب كانوا في اسبانيا، دون الدخول في التفاصيل التي تعين موقفاً ورؤية ثقافية تاريخية. وما أقصده أنهم لا يدرسون الأندلس حتى تتشكل لديهم جدالات أدبية أو تاريخية مع هذا الواقع في اسبانيا، رغم أن العلاقة مع شبه الجزيرة الايبرية شديدة الوشائج من الوجهة التاريخية منذ وصول قافلة كريستوف كولومبوس بداية، ومن ثم إرنان كورتيس وفرانثيسكو بيثارو لاحقاً.
* * *
* ولكن لابد أن هناك بعض المبدعين المتحدرين من أسر مهجرية ممن يقدم رؤية مفارقة عن المرور العابر، أو لنقل اللامعرفة السائدة حول الأندلس التاريخية؟
* * بالتأكيد يوجد استثناءات لاستنتاجي. وهنا أود أن أسلط الضوء على شاعرة مرموقة من تشيلي تعرفت إليها وتمثل هذا الاستثناء الرفيع في قراءة الأندلس في تاريخ اسبانيا، وأقصد الشاعرة أولغا لولاس نصرالله Olga Lolas Nazrala (1927-) وهي شاعرة تشيلية تعود لأسرة متحدرة من جذور عربية فلسطينية، كما الأغلبية من أولاد وأحفاد أهل المهجر الأوائل في تشيلي.
تعيش أولغا لولاس في "سان فيليبه"، وهي مدينة صغيرة تقع على سفوح سلسلة جبال لاكوردييرا. زرتها في دارتها التي تحيطها حديقة صغيرة، وحينما أردت أن أبدأ اللقاء معها، اقترحت علي أن نخرج إلى الجنينة، وضعت لي كرسياً بين الأزهار وبدأنا بتبادل حديث ودي. أخبرتني عن تجربتها في اسبانيا، كونها درست الأدب الاسباني وقدمت أطروحة الدكتوراه في جامعة كومبلوتينسي في مدريد. وسردت لي كيف أنها اختلفت مع الأستاذ والناقد الأدبي المشهور كارلوس بوسونيو Carlos Bousoño (1923-2015)، وغصبت من وجهة نظره المحافظة تجاه تاريخ وأدب اسبانيا، مما دفعها لترك الفصل الدراسي حينئذ، والشروع في السفر في أرجاء اسبانيا كي تتعرف على أزمنة وأمكنة الأدب الاسباني الذي كانت تدرسه، الأمر الذي أدى بها للتعرف على الواقع الأندلسي. وأذكر أنها حكت لي عن الفتنة التي مارستها قرطبة على تكوينها ومشاعرها، مما أثر في كتابتها الشعرية من الناحية الصوفية، فكتبت قصيدة طويلة غاية في الجمال، تتحدث فيها عن تجربتها وصلتها مع اسبانيا ومع الأندلس التاريخية.
نعم الشاعرة أولغا لولاس هي من الشعراء القلائل ممن يستحضر الواقع الأندلسي ويتحاور معه عن وعي وبحس شعري رفيع المستوى، ولديها وجهة نظر نحو الأندلس التاريخية تتركز على الإبداعية والجوانب الثقافية فيها، فتبتعد عن النمطية والمثالية الحلمية المغلقة والمكرسة في كثير من الكتابات والسرديات الكبرى، وتقدم أندلساً (عبر قرطبة وغرناطة) غير منفصلة عن عموم قشتالة، بمعنى أنها تقدم أندلساً غير منفصلة عن الأرض.. ومادية الأرض، وبالتالي فالأندلس الخاصة بها ليست استيهامية، بل واقعية سياقية متواشجة المفهوم وملموسة كالواقع حي.
من وجهة نظري هي أفضل من تناول الموضوع شعرياً. بالطبع يوجد مبدعين آخرين تطرقوا لموضوع الاندلس في كتاباتهم، وإن بقيت الأندلس أكثر إبعاداً وترى من مسافة فاصلة، من بينهم أذكر الشاعر محفوظ ماسيسMahfúd Massís (1916-1990) المتحدر من أسرة فلسطينية قدمت تشيلي مع موجة الهجرة الأولى نهايات القرن التاسع عشر بدايات العشرين.
بكل الأحوال أعتقد أن الشاعرة أولغا لولاس، إضافة لمبدع آخر هو ولتر غريب شمالي Walter Garib Chomali (1933-)، يجسدان الشخصيتين المهجريتين الأهم من وجهة نظري لمقاربة العلاقة مع ماهو عربي، ولا يمكن فهم أدب "مابعد المهجر" دون المرور على منجزهم وتجربتهم الإبداعية.
* * *
* وماذا عن الأديب ولتر غريب شمالي؟!
* * ولتر غريب هو المثقف الأكثر شهرة في تشيلي من بين المتحدرين من أصول عربية. مولود في تشيلي لأم فلسطينة وأب لبناني، روائي حاصل على جوائز هامة، ولنصوصه السردية ميزة من حيث التجديد في تقنية استعمال علامات الترقيم. في معرض الحديث هنا أشير إلى أن أغلب المثقفين المبدعين في تشيلي، اعتبارا من الجيل الثاني والثالث، ليسوا شعراء بل كتّابَ روايةٍ وسردٍ قصصي. أما السبب في قلة الاهتمام بممارسة الكتابة الشعرية فربما يعود إلى فقدانهم اللغة العربية، وبالتالي فقدان تلك الشعرية والحس الشعري المميز للعربية، إضافة لأن لغتهم الأم الجديدة شدتهم نحو التعبير النثري السردي.
* * *
* لعل للظاهرة الروائية التي يتعارف عليها بـ"El Boom Latinoamericano" (البوم الأمريكي اللاتيني)، أو الانفجار السردي ودفقه في أميريكا اللاتينة والذي شكل تيار الواقعية السحرية في تاريخ الأدب العالمي من أثر في توجههم هذا؟!
* * لا، لا أعتقد!! فهم لم يؤثروا أو يتأثروا في المنجز الأدبي للواقعية السحرية ولم يشاركوا في تياراته بإبداعهم، فرؤيتهم للواقع هي رؤية مختلفة عن تلك التي تسم وتميز الواقعية السحرية. فالقراءة التقدية للأعمال الابداعية التي تصنف ضمن الواقعية السحرية تشير إلى تباين أسلوبي بيّن حين مقارنها بالروايات التي كتبت من قبل أقلام من أصول عربية.
* * *
* ما الذي يميز الروائي ولتر غريب عن غيره ضمن كتاب "مابعد المهجر" من وجهة نظرك؟
* * ولتر غريب يؤكد في كتاباته على أصوله العربية إلى جانب ثقافته التشيلية باستمرار. زار فلسطين وتتبع خطوات أجداده في المهجر، كما لو كان يحاول استعادة الذات المتشظية ولملمتها من خلال تجميع الذاكرة أو الذاكرات في وحدة سردية متآلفة في التخييل وروائية النص. يتعشق لديه حس الواقع مع حسه السردي، وحين يتحدث عن سيروة الهجرة والمهجر يصيبه الانفعال ويكاد يبكي من استحضار كفاح أجداده، ومقدرتهم الاستثنائية فوق البشرية على العمل ومقاومة شظف العيش في سبيل البقاء واللقمة الشريفة. ومن خلال سردياته تطرح الأسئلة وتعمر المساءلة عن كنه الأشياء، و(لماذا) هي على ما هي عليه، و(كيف) جرت!!
ويذكر أن محبته للكتب نشأت في دار العائلة، حيث كان لوالده مكتبة عامرة بالكتب، مما شكل علاقته الأولى مع الكتب ومحبته للأدب والفن. وحصل اجتماعه الأول مع ما هو عربي عبر "ألف ليلة وليلة"، حين كان يقرأ سرديات الليالي سراً وهو صغير السن وبخفية عن الأهل، رغم أنه يذكر أن والده كان يسرد له قصص من "ألف ليلة وليلة" في شبابه الأول بعد رفع الحظر عن قراءة الليالي. والروائي ولتر غريب دائم التوقف عند هذا الكتاب كمؤثر أهم في رؤيته للأدب والسرد.
حسناً، من الملفت للانتباه أن "ألف ليلة وليلة" يشكل القاسم المشترك لدى المكون الإبداعي لمعظم الأدباء من أصول عربية، كما لو كان هذا الكتاب حبلاً سرياً مع ثقافة أجدادهم الأم. وقد تحدثت مع العديد من كتاب وأدباء "مابعد المهجر"، وأستطيع أن أؤكد أن "ألف ليلة وليلة" لم يكن كتاباً مؤثراً فقط، بل هو عمل إبداعي كوّن جيلاً كاملاً من الأدباء من أصول عربية، ذلك أنهم جميعاً يحملون حكايا شهرزاد في داخلهم وفي تكوينهم الإبداعي التخييلي.
وكنادرة أذكر أنهم في تشيلي طلبوا مني أن أقدم محاضرة عن "ألف ليلة وليلة". في بداية الأمر لم أفهم تماماً سبب إصرارهم على هذا الطلب وإلحاحهم، ولكني اكتشفت أن حلولية قراءة "ألف ليلة وليلة" تسري عليهم أجميعن. فهو كتاب ماقبل النوم، بل في أحايين وأحيايين كتاب يقظة، كما حلم يقظة من سنوات العمر المهجري.
* * *
* ماذا عن فعاليات النشاط الثقافي فيما بينهم. وماهي طبيعة علاقة المتحدرين من أسر عربية مهجرية مع موجات الهجرة الحديثة الوصول إلى تشيلي!
* * ذكرت أن أغلب المثقفين من أصول عربية في تشيلي تعود جذورهم إلى فلسطين، ما عدا بنديكتو تشواكي Benedicto Chuaqui Kettlún (1895-1970). وفي جامعة تشيلي يوجد ضمن كلية الفلسفة والإنسانيات مركز للدراسات العربية تنحصر إدارته بهم، ويشاركون جميعا في نشاطاته واللقاءات التي ينظمها. وقد وضعت خطة الدراسة والبرامج العربية الأستاذة مارثيلا زيدان Marcel Zedán (المتزوجة من الباحث أوخينو تشاوان Eugenio Chahuán وهو أيضا من جذور فلسطينية).
من الملفت للانتباه أن موجة الهجرة اللاحقة بعد الانتفاضة الفلسطينية، ووصول أفراد جدد من فلسطين، أحدث صدمة لدى الجماعة المتحدرة من الموجات الأولى، خاصة من النواحي الاجتماعية، فالموجات الأولى بعد عراك طويل مع المعيش اليومي من أجل بناء حياة كريمة (بدأوا كباعة جوالين وتجار بسطاء) استطاعوا الوصول والانتماء لطبقات اجتماعية مرتاحة مادياً، ولمكانة اقتصادية رفيعة المستوى. فالواقع الفلسطيني في ذاكرتهم الجمعية (ماعدا بعض الاستثناءات ممن زار فلسطين)، كذلك فلسطين المتخيلة والمختلقة في سردياتهم المرغوبة، تختلف عن تلك التي يحملها المهاجر الجديد القادم من المخيمات في عقد الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين.
والصدمة مشتركة، فالفرد التشيلي من أصول فلسطينية قديمة لم يتواصل مع الفلسطيني القادم حديثاً من المخيمات، والثاني لم تخبر ذاكرته فلسطيني مرفه وثري ويتموضع في طبقة اجتماعية مرموقة في المجتمع.
لذلك فالتعارف والتواصل بينهما أخذ من الوقت ما أخذ، إضافة للجهد في اعتراف كل منهما للآخر بأنه ينتمي لذات الجذر الأم، هذا إن لم نتحدث عن معيقات التواصل اللغوي بداية، لأن أغلب أفراد تشيلي من أصول فلسطينية قديمة فقدوا اللغة العربية الأم لأجدادهم، ويحتفظون فقط ببعض الجمل أو الكلمات العامية، خاصة تلك التي تتمني لثقافة المطبخ العربي والموسيقى العربية، وأستثني منهم رجال الدين ممن يحتم عليه معرفة العربية وقراءة النصوص المقدسة.
ويعود الفضل في وجود اللغة العربية حالياً للهجرة الفسطينية الأخيرة، حيث مازال أفرادها يتحدثون العربية، حتى أنني في السنة الماضية وأثناء تجوالي في سانتياغو دخلت إحدى المتاجر، وتفاجأت بان البائع يتحدث العربية مع العاملة ومع أحد المارة في الشارع للاتفاق على شرب القهوة العربية. ميزت لجهة "شامية"، انتابتني مسرة فتوجهت للبائع بالعربية: "حضرتك عربي.. تعرف العربية؟"، ففرح عندما سمعني أتفوه بالعربية. وبدأنا الدردشة وتفاجأ أنني اسبانية تتكلم العربية وإن بلهجة مصرية. حسناً عرفت أنه من موجة الهجرة الأخيرة والتي أعتقد أنها، على قلتها العددية، ستلعب دوراً مؤثراً إيجابياً من حيث حضور اللغة العربية في فضاء المهجر في تشيلي، خاصة أنهم يحاولون الإقامة قريباً من سابقيهم وأهليهم وأترابهم في المهجر، والتواصل معهم في الأندية الثقافية والاحتفالات الاجتماعية والفنية والرياضية الخاصة بهم. وأعتقد أن هذا التواصل سيعمل على حثّ الأفراد من الموجات الأولى ممن فقد اللغة العربية على الاهتمام أكثر بلغة أجدادهم الأم، والقدرة على التواصل مع موجة الهجرة الاخيرة.
من جانب آخر، أشير إلى أن موجات الهجرة الجديدة لم تعد مقتصرة على الأسر المسيحية (كما الحال سابقاً) بل المسلمة كذلك، وعليه فإن بانوراما المهجر ستكون أكثر ثراء بفعل التنوع والتعدد.
* * *
* ما هي العوامل الثقافية الأكثر حضوراً في الحياة اليومية الاجتماعية والثقافية، ولا تحتاج لدراسة أو تتبع سيرتها لربطها مع أصولها أو مؤثرات عربية لوجودها.
* * في المقام الأول المطبخ العربي والأسماء العربية للأكلات، والذائقة الخاصة بالمطبخ العربي، والموسيقى والأغاني بلهجات المحلية القديمة، وكذلك الأدوات الموسيقية والتي تتناقلها الاجيال عن وعي وقصد كجزء من ثقافة أسرها المتحدرة من أصول عربية. وفي تشيلي عدة فرق موسيقية من أصول عربية مثل فرقة الأكاديمي كمال قمصية Kamak Qumsieh من مركز الدراسات العربية، وهو موسيقي يعزف على آلة العود. والأستاذ قمصية هو من القلائل ممن يشدد على تقديم أصوله العربية قبل الفلسطينية أو اللبنانية أو السورية كما هو سائد لدى آخرين، خاصة من بين المسيحيين الذين يؤكدون على مسيحيتهم في بلد الأصل، وهي حالة اجتماعية محافظة يجب أن تفهم ضمن سياق الوضع المهجري تحديداً.
* * *
* أعرف أن رحلتك إلى أميركية اللاتينية شملت المكسيك كذلك. كيف تصفين ما تطليقن عليه "مابعد المهجر" في بلد كبير كالمكسيك!!
* * الحال المكسيكي مختلف عن تشيلي. ودائما أقول أنه لمعرفة "مابعد المهجر" لا يكفي فقط معرفة الأصل المكاني، بل كذلك المكان الذي رست عنده الرحلة المهجرية، لما لتأثيرات حمولة المكان الأصل ومكان الوصول وتفاعلهما أهمية في خلق أبعاد ثقافية متباينة. العاصمة المكسيك هي قارة ضخمة بكل معاني الكلمة يبلغ عدد سكانها 8.9 مليون نسمة. انتابني الاحساس أن التجوال من المركز نحو الاطراف يكاد لاينتهي لتوالد البشر والبيوت. أما الحياة الثقافية فيها فتتفرد بتقدير هائل لعموم الإبداع والإبداعية.
روافد الهجرة الأساسية في المكسيك تأتي من لبنان بالدرجة الأولى وسورية بالدرجة الثانية. وكما هو معروف يتميز الشعب اللبناني بقدراته الخلاقة، فلبنان بحر خالص، وفكرة الخروج إلى المجهول اللامعلوم، سواء في الواقع العياني أم المتخيل، حاضرة في الأدب اللبناني منذ أوقات مبكرة. وعند وصول اللبناني إلى المكسيك يلتقي مع آخر يشابه "أناه"، والثمرة الإبداعية لهذا اللقاء مذهلة بقيمتها.
* * *
* وكيف يتم التعايش مع الواقع الاسباني من جهة، والعربي الأندلسي من جهة أخرى، لدى "مابعد المهجر" في المكسيك؟
* * على المستوى الشعبي الأمر مشابه لتشيلي من حيث اللامعرفة بالنسبة للاندلس التاريخية، كي لا أقول الجهل أو الأمية. ويتنحصر المرجعية الثقافية لهم حول اسبانيا بتجربتهم الحية مع الاسبان عموماً، دون التوقف عند الخلاسية الثقافية لملامح اسبانيا بفعل التاريخ. وتجربتهم مع الاسبان المعاصرة تدفعهم للإلفة معنا، إلا أنهم لا يغفرون للمستعمر إرنان كورتيس مافعله في المكسيك حين غزوها، فالمذابح الوحشية التي قام بها حاضرة باستمرار، والذكرة الجمعية تثبتت عند هذه المرحلة التي تحالف فيها السيف مع الكنيسة في هدف استعماري واحد في أميريكا اللاتينية. ولكنهم يفرقون بين المشروع الاستعماري لارنان كوتيث وبين الاسبان. فهم يشعرون معنا كاسبان بالإلفة لأسباب تجد مبرراتها في الثقافة بالدرجة الاولى على ما أعتقد.
أما على المستوى الأكاديمي، فقد حالفني الحظ بالعمل مع الجامعة الأهم والأضخم في المكسيك، ألا وهي الـ COLMEX "مدرسة المكسيك"، والتي تتقتصر الدراسة فيها على الدراسات العليا، حيث يقبل فيها الطالب بعد أن يتجاوز امتحان قبول عالي المستوى والتفوق في لغتين إضافة للاسبانية. بمعنى أن الطلاب الذين يدرسون فيها من نخبة الطلبة. وقد ذهلت من التميز المعرفي لدى الطلاب أدبياً وتاريخياً حين تقديمي لحلقات تدريسية فيها. وفي معرض الحديث هنا أود أن ألفت الانتباه إلى أن الـ COLMEX تم تأسيسها بمشاركة ومساعدة هامة من قبل المنفيين من الجمهورية الاسبانية الثانية بعد الحرب الأهلية، حين لجأ هؤلاء إلى المكسيك بعد انتصار فرانكو وحكمه الديكتاتوري لاسبانيا. ونقلوا معهم من اسبانيا الحمولة الثقافية والفلسفية المميزة في تلك الفترة، ومن بين الأسماء الهامة من الاسبان أذكر الفيلسوف خوسيه أورتيغا إي غاسيت (1883-1955).
ما أود قوله أن المقاربات نحو تاريخ اسبانيا ومنها العصر الأندلسي تبتعد عن الرؤية الاستيهامية المتخيلة نحو مقاربة بحثية واقعية تاريخية، وهذا بفضل التطور المعرفي والمنهجي، والتأمل النقدي والتحليل المفارق للتوصيف، والذي تأسس في المراكز الجامعية بتأثير من الأساتذة الاسبان أنفسهم، حتى أنهم الآن في "مركز آسيا وأفريقيا" التابع لـ"مدرسة المكسيك" يعملون على تأسيس المفردات وصك المصطلحات الاسبانية الخاصة بدراساتهم، مما يعني أنهم يحاولون التحرر من هيمنة مصطلحات الدرسات الانجلوساكسونية أو الفرنسية.
* * *
* أعتقد أن محمود علي مكي عمل في فترة من الفترات في المؤسسة الجامعية في المكسيك. هل مازال عمله البحثي الهام متداولاً وحياً أم أن النسيان طواه؟
بالطبع محمود علي مكي عمل في الجامعة بالتدريس والبحث، وتحتفظ الجامعة بذكرى طيبة وتقدير واحترام لجهوده، كما أن مؤلفاته موجودة كجزء هام وميراث حاضر يتم تداوله والنظر المرجعي إليه، إلا أن خطه البحثي لم يجد من يتابعه من الأجيال الجديدة، والتي تميل عموماً نحو الدراسات التاريخية والاجتماعية والسياسية للعالم العربي المعاصر في "مركز آسيا وأفريقا". ومن الأقدار أن ابنة محمود علي مكي ليلى كارمن مكي تعمل حاليا في الجامعة في مجال اللغة. وقد طرح علي أن أعمل في المكان الذي اشتغل به محمود علي مكي ومتابعة الطريق الذي شقه هو في التدريس، وأنا بانتظار أن تتحقق هذه الفرصه.
* * *
* لنسلط الضوء على المبدعين المكسيين من أصول تعود لأسر مهجرية. من يمكن أن يمثل ما أطلقت عليه "مابعد المهجر" من بينهم؟
* * من بين الشعراء لدينا الشاعران خايمة سابينس (1926-1999) وغابريل ثايد (زايد) (1934-)، أما من بين الروائيين فأذكر باربارا جاكوبس (1947-).
بالطبع لم أستطع التواصل الحي مع الشعراء، فالأول متوفي والثاني يعيش في عزلة ولا يقابل أحداً. وعلى العموم، مع إطلاعي على أدبيات خايمه سابينس أستطيع القول أنه لا يتطرق إلى ماهو عربي إلا حين يحكي قصة والده وهجرته من لبنان إلى أمريكا اللاتينية، وفي المكسيك مركز ثقافي خاص به وشارع يحمل اسمه، رغم أنني أعتقد أن حضوره يركن في البعيد ضمن الثقافة الشعرية المكسيكية. أما التواصل مع الروائية باربارا جاكوب فقد وضح لي أن صلتها المباشرة مع ما هو لبناني سببه السيرة الذاتية العائلية للأب والأجداد، ولم يمر هذا التواصل عبر فلتر الأندلس كما هو الحال لدى آخرين في تشيلي. من الواضح ما لهذه السيرة العائلية من مؤثرات في كتابة روايتها "الأوراق الميتة"، وهي رواية حصلت على تقدير وجوائز قيمة.
* * *
* إلى جانب الأدب والدراسات الخاصة بالحقل الإبداعي، هل هناك توجه يعنى بالأبحاث الخاصة بالهجرة عموماً واستعادة الذاكرة؟
* * تقام حالياً دراسات هامة جدا حول موضوع الهجرة. ومن أهم من يبحث في هذا الإطار الباحثة مارتا ديخوري في الجامعة المستقلة في المكسيك، وتتعاون في هذا المجال مع مدير المركز الثقافي اللبناني في العاصمة. ومواضيع الهجرة تتركز بشكل أساسي على دراسة منابع الهجرة، والتوزيع الديموغرافي، إضافة لدراسة تأثير القضايا النسوية المحمولة مع المهجر العربي في القضية النسوية المكسيكية، واستعادة سيرة النساء المهجريات حين وصولهن وطبيعة العمل الذي مارسنه ومطالبهن الاجتماعية والثقافية في المجتمع الجديد. ولديهم كتب مطبوعة هامة جداً ومزودة بصور توثيقية مرموقة عن سنوات الإقامة الاولى في المكسيك. وفي معرض الحديث هنا حول استعادة الذاكرة لابد من التنويه لمركز يخص شخصية مهجرية بامتياز وأقصد جبران خليل جبران، ويحتوي هذا المركز على وثائق ورسائل وأغراض خاصة بجبران وأرشيف مميز وهام. كما أود أو أشير إلى أن المركز الثقافي اللبناني يمنح سنوياً حائزة بيبلوس للمكسيكي من أصول عربية ممن حاز على اعتراف وتقدير في المجتمع والثقافة المكسكية.
كما لابد من التنويه إلى مركز آخر متخصص بالأبحاث الاقتصادية، تعمل به الأستاذة كاميلا باستور، وهو مركز مرتبط بمراكز أخرى في الولايات المتحدة، ويقدم دراسات وأبحاث هامة حول المهجر من الناحية الاقتصادية. ولكني أود أن أبسط وجهة نظر خاصة بي، وتتعلق بالقصور أو غياب المراجع العربية ووجهة النظر العربية عن أبحاث هذا المركز مما يجعل دراساتهم تنطوي ضمن إطار التوجه البحثي ووجهة النظر السائدة في الولايات المتحدة.
إن تعبير "مابعد المهجر" في جانب من جوانبه يشير إلى القول أن الحال التي وصل اليها المهجر له بدايات عربية، وعليه لابد من إضافة المصادر العربية ووجهة النظر العربية لكافة الأبحاث والمقاربات، على تنوعها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، التي تطال وضع المهجر الراهن. وأدبيا يعني ذلك التأكيد على حراك التاريخ المهجري ومصادره واستمراريته وبالتالي استمرارية أدبه.
* * *
* ما الذي تقصدينه باستمرارية المهجر في هذا السياق؟
إن اقتصار الدراسات على النظريات التي انتشرت في الفضاء الأكاديمي الأميركي وتطبيقها على المقاربات الخاصة بالأدب المهجري، إضافة لغياب المرجعيات والمصادر العربية عن دراساتهم، يجعلها معبرة عن وجهة النظر الأميركية أساساً ومنقطعة الصلة مع زمنية أصولها في الثقافة العربية. ومن جانبي أحاول أن أربط أو أضيف أهمية حضور الفضاء العربي والمنجز النقدي العربي إلى هذه المقاربات. فـ"مابعد المهجر" يعني في هذه الحالة الدفاع عن سيرورة الحالة المهجرية، وخصوصية أدبها، وعدم قطع الصلة بينها وبين العالم العربي الذي شكل بداياتها الأساسية.
على سبيل المثال أسرد حالة مرت معي حين مناقشة مع باحثة تناولت ثلاث كاتبات من الولايات المتحدة من أصول عربية. حاصله بعد تناول جبران خليل جبران كإشارة للمهجر في دراستها، تنتزع الباحثة هؤلاء الكاتبات بالمطلق من فضائهن المهجري، وتربطهن بما يسمى بـ"الفضاء الثالث" الذي نظرّ له الباحث هومي بابا. والفضاء الثالث ضمن هذا المفهوم هو نوع أدبي يضم المنجز الأدبي للكتاب الذين ينتمون لثقافتين وليس لديهم حيز خاص بإبداعيتهم ضمن فضاء الثقافة التي يقيمون بها (مثل الأفرو-أمركيون، الهنود-أمركيون، والآسيو-أمريكون، وكل أدب مخالف للمعيارية المكرسة الصارمة كالأدب النسوي والمثلي والأدب المهمش...) وبالتالي فإن إبداعهم ينزاح عن الفضاء السائد المتجانس المهيمن نحو فضاء ثالث مفارق للثقافة الأصل وبنفس الوقت الذي يبتعد فيه عن التماهي مع ثقافة مكان الإقامة.
حسناً، ما يهمني من مثال الكاتبات الثلاث هنا تسليط الضوء على فعل بحثي يتجاهل مؤثرات الثقافة العربية، وسيرورة المهجر وحراك الإبداعية ضمن جماعات المهجر، كما يتجاهل المنظار العربي لرؤية الآخر وثقافة الآخر أثناء رحلة العيش. وأعتقد أن هذا التغييب المستمر يعني عدم رؤية الحقيقة على ما هي عليه، بل صناعة حقيقة أخرى تقوم على التقطيع والقطع مع التاريخ الاجتماعي والثقافي.
هذا الأمر يبرر محاولتي عقد الصلة بين أدب المهجر وأدباء "مابعد المهجر"، سواء بالدراسة النقدية أم بتأسيس مصطلحات خاصة بهذه الأبحاث، وبالتالي تحرير الدراسات من هيمنية الرؤية الأكاديمية الأميركية.
* * *
* هل هذا يبرر استخدامك لكلمة "مهجر" أو للمصطلح الكرونولوجي "مابعد المهجر" بمقتضى اللفظ العربي في دراساتك؟
بالتأكيد. إن اصراري على هذا الاستخدام يصب في هذه الغاية. ففي اسبانيا جزء هام من دراسة الأدب العربي يتناول الأدب المهجري. ومنذ فترة بدأت ألاحظ في مراكز بحثية عدة (ثقافية واجتماعية وسياسية) استخدام مصطلح جديد، ألا وهو أدب "الدياسبورا" عند الإشارة لأدب المهجر، أي تكريس "أدب الشتات العربي" كترجمة لأدب المهجر العربي، وهي ترجمة غير موفقة من وجهة نظري. وعليه عند تدريس طلابي أشير لهم أن مصطلح "المهجر"، الذي تعارف العرب على تسميته هكذا منذ جبران ونعيمة وأبو ماضي...الخ وكل من جاء، بعدهم يجب أن لا يترجم بل يستخدم كما هو. أما من جاء بعد الجيل الأول وترك منجزه الابداعي فيمكن وضعه تحت ما أدعوه بـ"مابعد المهجر"، والسبب هو وجود أصل أو بدايات واستمرارية.
أما "أدب الشتات" فهو مصطلح يشير إلى مايشير إليه سياسياً، إضافة إلى أنه يعيد رؤية أدب المهجر ضمن رؤية مفارقة عن تلك التي وضعت أسسها ضمن إطار الثقافة العربية. ويبدو أن هذا المصطلح يأخذ بالانتشار، فقد دعيت من فترة إلى "البيت العربي" في مدريد لالقاء محاضرة حول ما دعى بـ"الشتات والأدب العربي في أميريكا اللاتينية"، ولم أبدل عنوان المحاضرة، بل قمت بالسجال حول الأبعاد اللانقدية لهذا الاستخدام ومنها السياسية، حيث يتم وضع تواز ومؤالفة بين الشتات اليهودي وبين المهجر العربي.
أعود وأكرر "المهجر" هو "المهجر" تجربة وتاريخ وسيرورة وحراك ومنظار ثقافي عربي وتسمية عربية كذلك... وقلب الحقائق لا يعني إلا تغييب الرؤية العربية لتاريخها على نحو قصدي.
* * *
* بالعودة لما كنا تطرقنا له في الجزء الاول من هذه المقابلة، ما رأيك أن بالحديث عن جانب من جوانب الترجمة الشعرية كخاتمة ننهي بها هذا اللقاء: كيف يصل المترجم لامتلاك أسلوب خاص به؟
* * طريق الوصول لأسلوب خاص في الترجمة هو طويل جدا، بدأ معي منذ مرحلة التلمذة حين واجهت ترجمة أمل دنقل في رسالتي الجامعية بتوجيه من الأستاذة كارمن رويث برابو، ومن ثم الاجتهاد والمطالعة والمشاركة في ترجمات أدبية وشعرية. وفي حالتي الخاصة رفدت تجربتي في الترجمة الشعرية مصادر أخرى قادمة من عوالم الموسيقى، والإيقاع الموسيقي، والرقص بأنواعه المختلفة، وكذلك اليوغا، وفعل ترتيل القصائد من قبل جدتي، وجميعها حقول شكلت شخصيتي وساهمت في تكوين حساسيتي الخاصة (خاصة الحس العفوي بالإيقاع والوزن الشعري والموسيقي)، بل وتتواجد في دخيلتي وتحضر أثناء الترجمة الشعرية بشكل من الأشكال.
من النافل القول ضرورة معرفة اللغتين والثقافتين لكل نص (المترجم عنها والمترجم لها)، وامتلاك حساسية خاصة وصلة وصل مباشرة مع الإيقاع وممارسة هذه العلاقة يومياً وتمييزها في المحيط. إضافة لكل ذلك أود أن أشير إلى أن الحظ حالفتي بتوجيه أستاذ مثالي في هذا المجال، وأقصد المستعرب بدرو مارتينث مونتابث، حتى أنني أعتقد أنه المترجم الشعري الأهم في اسبانيا، بل على مستوى عالمي في استعراب فضاءات اللغة الاسبانية. وهو أستاذ القسم الاكبر من أجيال المترجمين الفاعلين حالياً في اللغة الاسبانية. إضافة لتلقي تقنيات الترجمة الشعرية في دروسه، أذكر تلك الحرية التي كان يؤكد عليها في فعل الترجمة، مع التزود بنقاط علام توجه هذه الحرية نحو الترجمة الأفضل والخيارات الأكثر وفاء للأصل. أقول هذا بسبب ما يمتلك المترجم من رغبة في قيادة النص ودفعه نحو ما يرغب وحتى "تحسينه" هو دون أن يشعر. وعليه يجب احترام النص بكل ما له، وصولاً للقافية في كل بيت شعري أو الوزن أو الإيقاع لكل جملة شعرية.
في حقيقة الأمر، كان تدفق الترجمة من بين يدي يشعرني بشيء سحري يمتلكني، ولكني أعتقد إضافة لمن يرى في ذلك موهبة فطرية موجودة فيّ، أن سيروة حياتي والمران الخاص بعلاقتي مع شعرية اليومي في حياتي له أثره كذلك. ومع الاحتراف والاجتهاد المستمر أخذت بامتلاك طريقة خاصة لممارسة الترجمة وامتلاك أسلوب يخصني.
أمام كل نص أبدأ بالقراءة والترجمة الذهنية الشكلية، ثم تأتي مرحلة الغوص في بنية النص، ومعالجة المسألة الصوتية، وفهم كل كلمة على حده دون القلق من مسألة فهم كلية النص بداية، ومن ثم امتلاك ذهن قادر على تعشيق محورين أساسيين في الترجمة: المحور الأفقي العام، والمحور الأفقي الخاص بكل كلمة في القصيدة. بمعنى التزود برؤية عامة لمجمل القصيدة فالاقتراب من كل كلمة تؤلف القصيدة. وبالتأكيد التعمق في كل ما يصادفه المترجم في النص (حتى لو كان خارجه)، وهناك أمر ضروري أود التويه له، ألا وهو أن حب القصيدة التي أعمل عليها شيء هام بالنسبة لي (مثل حب أي شخص)، فالعلاقة الشعورية مع النص تتحكم بي أثناء الترجمة، فمن المهم أن يناديني شيء ما في القصيدة قبل أن أقرر الخوض في ترجمتها ومعايشتها بكثافة. حتى أن البيت أو الجملة الشعرية تجتاح جسدي وتمر على شراييني قبل أن تولد كنص جديد في اللغة التي أترجم لها. وبعد خروج النص، أتركه جانبا ليستريح.
وأعتقد أن المترجم يحب أن يحمل ورقة وقلم رصاص معه باستمرار، ذلك أنه في لحظة ما غير منتظرة (في المترو، في الحمام، في الشارع..) تحضر كلمة أو جملة متخفية كان يبحث عنها، وعليه تسجيلها مباشرة قبل أن تفر من بين يديه وتتخفى مرة أخرى.. وتنسى.
بعد فترة استراحة، أعود للنص وأتناوله من جديد بحضور النص الأصلي، الذي لا يجب أن يغيب في أية مرحلة من مراحل الترجمة. هذا يعني أن الترجمة تصاغ بشكل جيد في لغتها الجديدة عند مقارنتها بالنص الأصلي، كي تعكس ما به من حس وانفعالات؛ ففي الحالة التي يكون فيها النص الأصلي كلاسيكي فإن الترجمة يجب أن تعكس هذه الكلاسيكية، وفيما لو أن النص الأصلي يقوم على الاستغلاق في فهمه، على الترجمة أن تعكس هذا الأمر، وإذا كان النص الأصلي يمتلك إيقاعاً متسارعاً فإن الترجمة يجب أن تعكس هذا التسارع في النص الآخر، وحتى لو كان يقوم على جمل قصيرة مقتضبة متقطعة لابد من الترجمة بجمل مقتضبة متقطعة، والأمر يطال كذلك علامات الترقيم، بمعنى أن الشاعر العربي الذي يكتب نصه بعلامات ترقيم لامعيارية، فإن الترجمة يحب أن تكون وفية ولا يكتب النص المترجم بعلامات ترقيم المعيارية تخالف تلك التي اختارها الشاعر لهدف ما، وبالتالي تصل القارئ رؤية شعرية أخرى مخالفة للأصل.
في حقيقة الأمر دور النشر في اسبانيا تترك المجال واسع للمترجم كي يعبر عن قراءته الخاصة، بينما في ايطاليا وفرنسا هناك قواعد وبنية كتابة معيارية للنشر لا تسمح بالخروج عنها بسهولة.
بكل الأحوال أود التشديد على أهمية ترجمة روح وجسد النص الأصلي بتقتيات خاصة بكل مترجم. وأنا لست مع فكرة أن تكون ترجمة النص كما لو أنه كتب بلغة الوصول التي ترجم لها، بل يجب أن تكون الترجمة وفية للأصل ولكافة الانفعالات الحاصلة به، حتى أنني لست مع فكرة إنجاز القراءة الأخيرة للنص المترجم له بغياب النص الأصلي. الأصل بالنسبة لي يجب أن يكون حاضراً باستمرار في كافة المراحل.
* * *
* من من بين الشعراء العرب، من هو الشاعر الذي شعرت أمام نصه بدفق لغتين وسيالة ترجمة إبداعية؟!
* * أدونيس أقرأه بالعربية وأحسه بالقشتالية على نحو رائع منذ ترجماتي الأولى له.
* * * *
(نشرت في مجلة الثقافة العالمية، عدد.185، س.32، الكويت)