يكتب الناقد الأردني أن المعري حالة فريدة قابلة لتعدد القراءات، لأن الثقافة دوما بحاجة إلى من يجدّدها، ويثير سكونها. وأبو العلاء شيخ عقلاني مؤمن من نوع فريد، صدّق بالنتيجة الكلية، لكنه لم يطمئن إلى الطرق الموصوفة إليها، إنه لا يجدف إلا ضد ما يعدّه طرقا مستهلكة في معرفة الله

أبوالعلاء المعري: المبصر في «جوقة العُمْيان»

محمد عبيد الله

(1)

أبو العلاء، أحمدُ بنُ عبد الله بنِ سليمان...المعرّي (نسبة إلى بلدته: معرّة النعمان) التّنوخي (نسبة إلى قبيلة: تنوخ). جاء في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (ت463هـ) أنه "ولد لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. وكان أبو العلاء ضريرا عمي في صباه، وعاد من بغداد إلى بلده معرة النعمان فأقام به إلى حين وفاته. وكان يتزهّد ولا يأكل اللحم، ويلبس خشن الثياب...مات في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وأربعمائة"[1].

وذكروا أنه: "عمي من الجدَري، وجدّر أول سنة سبع وستين وثلاثمائة، فغشي يمنى حدقتيه بياض وأذهب اليسرى. رحل إلى بغداد سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، ودخلها سنة تسع وتسعين، وأقام بها سنة وتسعة أشهر، ولزم منزله بعد منصرفه من بغداد سنة أربعمائة، وسمى نفسه: رهْنَ المحبَسين. وكان عمره ستا وثمانين سنة، لم يأكل اللحم منها خمساً وأربعين سنة"[2].

وفصّل ابن الجوزي بعض مسلكه في حياته: "وبقي خمسا وأربعين سنة: لا يأكل اللحم ولا البيض ولا اللبن، ويحرّم إيلام الحيوان، ويقتصر على ما تنبت الأرض، ويلبس خشن الثياب، ويظهر دوام الصوم"[3].

أما أسرة المعرّي فبنو سليمان من تنوخ، أسرة من فضلاء الشام ومدينة المعرة، وقد عرض لها المؤرخون ومصنفو التراجم، قال ابن العديم: "وأكثر قضاة المعرّة وفضلائها وعلمائها وشعرائها وأدبائها من بني سليمان، وهو سليمان بن داود بن المطهَّر"، وقد تتبع ابن العديم تاريخ الأسرة وعرّف بأعلامها وقضاتها وصولاً إلى أبي العلاء وإخوته، والأجيال اللاحقة منها ممن عرفهم بعد أكثر من قرن على وفاة أبي العلاء. وفي كنف هذه الأسرة تثقف أبو العلاء وتعلّم وتهيأ له من يعتني به أحسن اعتناء، من اهتمام والده القاضي الذي كان أول معلم له، فما قصّر في تعليمه والعناية به طفلا، ولما رأى نبوغه زاد من عنايته، وأخذه إلى حلب حيث يقيم أخواله مما مكّنه من سماع شعر المتنبي فقرأه على "محمد بن عبد الله بن سعد، راوية أبي الطيب في حلب". ونذكّر باهتمام أخيه الأكبر أبو المجد محمد بن عبد الله بن سليمان. وكذلك اهتمام أبناء أخوته، منهم "أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله..ابن أخي أبي العلاء قاضي معرة النعمان، فإنه روى عن أبيه أبي المجد محمد، وعمه أبي العلاء أحمد، وتولّى خدمة عمه بنفسه، وكان برّاً به، وكان يكتب لعمه تصانيفه، ويكتب بإذنه السماع والإجازة لمن يطلب ذلك من عمه".

نعرض لدور هذه الأسرة بصورة سريعة لننبه إلى دور الأسرة العربية والإسلامية في التنشئة العلمية، وإلى أنها كانت البيئة العلمية لأبي العلاء، وما من شك أن ذكاء أبي العلاء وقدرته النادرة على الحفظ والفهم فاقت كل تصور، ومع بروز مواهبه كانت أسرته تتجاوب معه وتهيئ له الظروف الملائمة، وحتى عندما اختار العزلة رعته الأسرة ورحّبت بضيوفه من طلبة العلم، وقد ظل هذا الاهتمام قائما بعد وفاة أبي العلاء وظلت الأجيال اللاحقة تروي أخباره وتعتني بمؤلفاته.

وقد عدد ابن العديم شيوخه، في المعرة وحلب، كما سمى عددا كبيرا ممن أخذوا عنه من أهل المعرة ومن غير أهلها. ومن أحسن ما أفادنا به أيضا تعداده لكتّاب أبي العلاء ونسّاخه، "وأخصُّهم ابنُ أخيه أبو محمد عبد الله بن محمد ..، فإنه كان ملازما لخدمته، ويكتب له تصانيفه، ويكتب عنه الإجازة والسماع لمن يسمع منه ويستجيزه..وكان برّا بعمه مشفقا عليه، وتولى قضاء المعرة..ولأبي العلاء فيه شعر يمدحه ويشكره على ما فعله..ومن كتابه جعفر بن أحمد بن صالح..وكان من أعيان كتابه وكتب الكثير عنه، وقرأ عليه كثيرا من كتب الأدب وروى عنه، وخطّه على غاية من الصحة والضبط. ومن كتابه أبو الحسن علي بن عبد الله، ولزم الشيخ أبا العلاء، وكتب كتبه بأسرها..وكان خطه مورّقا حسن الضبط والإتقان..ومن كتابه: أبو الفتح محمد بن علي بن عبد الله (ولد الشيخ أبي الحسن)، ووضع له الشيخ كتابا لقّبه: المختصر الفتحي، وكتابا يعرف بـ عون الجمل في شرح كتاب الجمل. ومن كتّابه جماعة من بني أبي هاشم لا أتحقق أسماءهم...ومن كتّابه إبراهيم بن علي بن إبراهيم الخطيب، وهو كاتب حسن صحيح الخط، متقن في الضبط، كتب معظم كتبه وتصانيفه بخطه..."[4].

وهذا الجانب وحده يحتاج إلى درس مستقل بما يبرز جانبا مضيئا من طريقة تأليف أبي العلاء وصلته بكتّابه ونسّاخه. وجاء أيضا في أخبار المعري مما له صلة بحاجته إلى الكتابة والكتاب: "وكان يملي على بضع عشرة محبرة في فنون من العلوم وأخذ عنه ناس وسار إليه الطلبة من الآفاق وكاتب العلماء والوزراء وأهل الأقدار وسمى نفسه رهْن المحبسين؛ للزومه منزله ولذهاب عينيه، ومكث خمسا وأربعين سنة لا يأكل اللحم تزهّداً"[5].

وحين مرّ الرحالة الفارسي ناصر خسرو بمعرة النعمان سنة 438هـ، وثّق للمعري صورة لافتة كأنه المعلم الأهم في هذه المدينة إلى جانب طلّسم العقرب الذي رسم على عمود في مدخلها: "وكان بهذه المدينة رجل أعمى اسمه: أبو العلاء المعرّي، وهو حاكمها، وكان واسع الثراء عنده كثير من العبيد، وكان أهل البلد كله خدم له. أما هو فقد تزهّد..واعتكف في البيت، وكان قوته نصف منّ (كيل أو وزن!) من خبز الشعير، لا يأكل غيره، وقد سمعت أن باب (سرايه) مفتوح دائما، وأن نوابه وملازميه يدبّرون أمر المدينة ولا يرجعون إليه إلا في الأمور الهامة، وهو لا يمنع نعمته أحدا، يصوم الدهر ويقوم الليل ولا يشغل نفسه مطلقا بأمر دنيوي"[6]. هي صورة عابرة لرحالة عابر، ولكنها تمثل من جهة أخرى مكانة المعري عند أهله وتلاميذه، والحقيقة التي نعرفها أنه لم يكن حاكما ولم يكن غنيا أو ثريا، ولكن الاحتفاء به وتقديره بلغا كل غاية حتى يهيأ للزائر أنه الحاكم الثري رغم تقشّفه وزهده. لم يكن واسع الثراء ولكنه كان كريماً حقا، يستقبل التلاميذ وينفق عليهم ويرعاهم. ولم يكن يتاجر بعلمه وكتبه، ويصحّ فيه ما قيل في الخليل بن أحمد عن النضر بن شميل: أكلت الدنيا بعلم الخليل وهو في خصّ لا يشعر به! وكذلك هو حال المعري، شكل علمه ثروة فكرية ومادية للأجيال اللاحقة من الرواة والشراح والنساخ (والناشرين في عصرنا).

أما مصنّفات المعري، فهي كثيرة متنوعة، أملى معظمها بعد سنة 400هـ، أي في حقبة عزلته التي تفرّغ فيها للعلم والإملاء، واكتفى من الدنيا بأقل القليل. وقد احتفظ ياقوت الحموي وابن العديم وغيرهما بتسجيلها ووصف بعضها، ولم يظهر حتى اليوم إلا أقلها. ومن أسباب ضياعها ما تعرضت له المعرة بعد قرابة نصف قرن من وفاة أبي العلاء، فقد احتلها الفرنْجة، وأحرقوا مكتبة المعري ومكتبات المدينة والمدن الأخرى التي احتلوها. ويبدو أن ما سلم من مؤلفاته ما تداوله الناس خارج المعرة. ووصلت مؤلفاته وفق تعداد ابن العديم إلى سبعة وستين مصنفا، وقريب من ذلك ما سجله ياقوت الحموي.

(2)

اختلف الناس في أمر المعري، وفي النظر إلى شعره ونثره وفلسفته ومعتقده وطريقة حياته؛ وما يهمّنا من أمر هذا الخلاف أن المعرّي اشتبك مع الناس من كل جيل ولون، ووجدت فيه كل فئة بعضَ ما يحسن أن تقوله، وفق موقعها وطبيعتها. وهو أمر يشير إلى أن المعري قد تحوّل من علم مفرد إلى "ظاهرة" في تاريخ الثقافة العربية، كما غدا محرّكا أساسيا في مجالات متنوعة: نقدية، ودينية، وفلسفية، وأدبية، ولغوية.. فهو ظاهرة متشعّبة امتدت إلى مختلف الحقول، وتسربت تأثيراتها بكل اتجاه.

ووفق ذلك يمثل المعرّي طاقة ثقافية وفكرية وأدبية كبرى في الثقافة العربية، وقد تجاوزت الكتب والبحوث التي تناولته آلاف الكتب والبحوث والمقالات، وتعدّدت طبقات قرائه واتجاهاتهم وتخصّصاتهم، وهذا اختبار لجدّية آثاره وعمقها، ومؤشّر على بعض ما تتضمّنه من نقاط القوّة والعمق، وما تستدعيه من القراءة والتأويل. والمعرّي في هذا التشكيل الفريد حالة قابلة لتعدد القراءات، وهو أمر إيجابي في نظري، لأن الثقافة دوما بحاجة إلى من يجدّدها، ويثير سكونها. في كل حقبة أو قرن هناك محرك أو محركات كبرى؛ في القرن الثاني يمكن تسمية عبد الله بن المقفّع الكاتب الناثر الذي مثل لقاء مبكرا بين الفكر والسياسة والأدب والأخلاق، وفي القرن الثالث كان الجاحظ محركا مشاغبا ومجادلا فطنا، ومؤلفا نشطا، وفي القرن الرابع كان المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس، وفي القرن الخامس كان المعرّي هو من يحتل هذه المكانة، وبين هؤلاء جميعا: ابن المقفّع، والجاحظ، والمتنبي، والمعرّي روابط وصلات متعددة عميقة، تمثل لوناً من ألوان حياة الثقافة العربية وتداخل حلقاتها. والعجيب أيضا أن الأربعة قد واجهوا اتهامات عقدية وسياسية لا نحسب أنها بعيدة عن الإحساس بأثرهم وخطرهم قديماً وحديثاً.

ويمكن تشبيه المعري بـ"بحر" صبّت فيه روافد متنوعة، عربية وأجنبية، ولكنه لا يشبه أياً من روافده، بل يختلف عنها، دون أن تنقطع صلته تماما بها، فقد اتصل بروافد متعددة، ولكنه كيّفها مع وعيه، ودمجها بشخصيته المستقلّة البارزة، وطوّر الأفكار والأشكال بحيوية بالغة، ولذلك نعدّه الابن "غير الضال" للثقافة العربية الإسلامية في انفتاحها وفي تنوّعها، في جدلها الصاخب، وفي وراثتها لكل ما سبقها، ثم أداؤه بروح جديدة. وعبقريته الفذة هي المحطة التي مثلت إبداع التواصل بين الثقافات، بعيدا عن الجمود والحرْفية والسطحية. ولقد جادل المعري فرقا ومذاهب وأديانا وأناسا، وتعرض أيضا للنقد من كل اتجاه، ولسنا نضعه فوق النقد، بل هو داعية من دعاة النقد، طبق منظور النقد في حياته وشعره وتفكيره، فنقد نفسه وقرّعها وبكّتها أشدّ تبكيت قبل أن ينقدَه الآخرون، وناله ما ناله من "أذى" بسبب بعض أسئلته، وشغبه ضدّ السائد والساكن.

وتبعا لهذه "الوضعية" من التفاعل والاتساع، فلم يقتصر الاهتمام بالمعري على الثقافة العربية الإسلامية وحدها، بل تعدّاها إلى دوائر الاستشراق، وإلى ألوان من الاهتمام الأجنبي بهذا المثقف المختلف، فقامت دراسات مقارنة وترجمات إلى مختلف اللغات، ولم يفتر هذا الحماس حتى اليوم، مما يفضي إلى أن المعري أديب أقرب إلى العالمية، انطلق من خصوصية ثقافته، وتمكّن من إنجاز ما يمكن أن يجد فيه الآخرون شيئا يخصّهم. وفي كل ذلك شواهد على هويّة ثقافية مميزة مهما يكن اختلافنا معها في التفاصيل أو الجزئيات.

والمعري أيضا شاهد على حياة الموروث العربي، وبقائه، وقيمته، وإمكانياته المتعددة، ويمكن باستعارة صورة البحر وروافده، أن يتحول بحر المعري إلى رافد أصيل من روافد ثقافتنا المعاصرة، وهذا سبب آخر يجعلنا نعنى به ونعيد زيارته من حين إلى حين. ومن أمثلة هذا الأثر ما في الشعر الحديث والرواية والقصة القصيرة من لقطات إبداعية تسترجع بعض أصداء المعري. وأكتفي بتذكيركم بقصيدة الجواهري:

قف بالمعرة وامسح خدها التربا واستوح من طبب الدنيا بما وهبا

وكذلك صور معبّرة للمعري في شعر بدوي الجبل، والبياتي، وأدونيس، ومحمود درويش... وهو ما يستحق اهتماما ودراسة في إطار الصلات العميقة بين التراث والمعاصرة. وصور أخرى في الرواية والأنواع السردية الأخرى. ومن أمثلة التفاعل مع شخصية المعري ما كتبه الشاعر الأرمني (أويديك اسحاقيان) في قصيدة مطولة نشرت في كتاب باسم (ملحمة المعري[7])، وهي مثال من التفاعل بين آداب المنطقة والطاقة الإبداعية التي تمثلها شخصية المعري. وكتب البولندي-الألماني ستانيسواف ستراسبور في السنوات الأخيرة رواية (بائع الحكايات) التي جمع فيها بين المعري ودانتي في صورة منافسة بين الاثنين يدافع فيها كل منهما عن تصوره للعالم الآخر[8].

(3)

ولو وقفنا قليلا عند صورة المعري شاعرا لتذكّرنا ابتعاده في معظم شعره عن بعض الأغراض التقليدية، كالمديح والهجاء والوصف الحيادي، وأنه ارتفع بالشعر العربي إلى مناخ جديد يلتقي فيه الشعر مع الفكر، فهو بحق كما وصفه المرحوم طه حسين، الشاعر الفيلسوف الوحيد في شعرنا العربي القديم، فقد جمع بين النظرة الفلسفية إلى الحياة والأفكار والواقع، وإلى التعبير عن هذه النظرة ناقدا وناقما ومصححا في كثر من الأحيان، واللزوميات في رأي طه حسين: "إلى أن تكون كتاباً فلسفياً أقرب منها إلى أن تكون ديواناً شعرياً"[9]، ونضيف أيضا بأنه عنّى نفسه بتطبيق أصعب ما تقتضيه فلسفته على نفسه، ولم يكن فيلسوفا نظريا فحسب. بل جمع بين الرؤية والعمل، وبين التفكير والتعبير في جدل قوي خالد فريد.

لقد عمّق المعري الصلة بين الشعر والفلسفة، ونقل الشعر العربي الغنائي العاطفي على وجه الإجمال، والمفعم بالتصوير والمبالغات إلى قوة تعبيرية جديدة، متحديا ألوان البديع والبلاغة، وإذا كانت تجارب سابقة اهتم بها مما تمثل في تجارب: أبي تمام، والبحتري، والمتنبي، قد بلغت ما بلغت من قوة وحيوية، فلقد تشرب تلك التجارب، فأفاد من قوة التعبير والتصوير والتجديد عند أبي تمام، بلاغة الصنعة التي عرفها أبو تمام وأتقنها، ولكن لم يتهيأ له فكر معمّق يفيد من طاقاتها، فبدّدها في المديح والهجاء وما أشبه ذلك. وأولع المعري بالمتنبي فهو شاعره الأثير الذي أحس بأنفاسه في حلب موطن المتنبي مدة من الدهر، وموطن أخوال المعري بني سبيكة، وحوّل لمحات الحكمة عند المتنبي إلى فلسفة جديدة، بما اجتمع له من تكوين نفسي وثقافي، وبما مال إليه من مثالية فلسفية، أما حكمة المتنبي فأقرب أن تكون حكمة تحدّها شروط الواقع. أعجبته لفتات المتنبي وسمى ديوانه "معجز احمد"، بما في هذه التسمية من ظلال وآفاق، وغدا أستاذا في شرح شعره وتعليمه في دروسه.

وقد ورث المعري اللغة العربية، باتساع معجمها، وبما فيه من غريب ونادر، وورث أساطير اللغة وسردياتها، وفي شعره ونثره قراءات نادرة للمسكوت عنه في ظلال هذه الأساطير، فهو من هذه الناحية قارئ مؤوّل للموروث، قارئ مبدع وليس مقلدا أو اتباعيا! وهو بذلك يقدم درسا متجددا عميقا: كيف نتّصل بالموروث وكيف نعيد فيه النظر ونفيد منه بطريقة متجددة إبداعية؟؟

ولنأخذ مثالا واحدا يؤيد ما نقول: قصة الإسراء والمعراج قصة إسلامية تستند إلى حادثة مقدسة، أولعت بها السرديات الإسلامية فأشبعت فراغاتها وملأتها بالعجيب الذي لا يمسّ الأصول المقدسة لها، ولكنه أيضا ليس منها، بمعناها التاريخي، هذه القصة تحولت عند المعري إلى لون سردي جديد يعد رائده بلا جدال، ونعني أدب الآخرة أو الأدب الأخروي الذي التفت إليه العالم مع الكوميديا الإلهية لدانتي ومع فردوس ملتون المفقود، وقد ذكرت دراسات كثيرة رسالة الغفران وأصالتها وأحقيتها التاريخية كعمل إنساني رائد في هذا المجال.

وقدم لنا المعري لونا جديدا من السخرية المكتومة الجادة، ربما أفاد من الطريقة التي انتهجها المتنبي في بعض شعره ومواقفه، ولكنها بلغت عند المعري مداها البليغ. السخرية التي لا تهدف إلى الإضحاك وإنما تتولد من مفارقات الحياة، وتدفعنا للتأمل قبل كل شيء. ومن أمثلة ذلك ما جاء في رسالته (رسالة الغفران) وكذلك رسالة (الصاهل والشاحج).

ومن شعره في هذا الباب ما يعتمد فيه على المفارقة والتضاد[10]:

ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة وحق لسكان البسيطة أن يبكوا

يحطّمنا ريب الزمان كأننا زجاج ولكن لا يعاد له سبْك

ويسخر من كنيته (أبو العلاء) وهو يرى الإنسان يهبط أو ينزل ولا يعلو، يقول[11]:

دعيت أبا العلاء وذاك مينٌ ولكن الصّحيح: أبو النزول

ويلتقط تحية جاهلية قديمة (أبيت اللعن) ليسخر من أصحاب الإمارة والملك[12]:

يا أيها الملْك ما آساك في نفس معاشر بأبيت اللعن حياكا

وفي حياته ابتعد المعري عن الحكام والأمراء، وكان موقفه حاسما في أن يضرب عن سياسة عصره، وهو يرى انحطاطه السياسي، ولكنه مع هذا الإضراب، لم يعفِ السياسة من نقده، فانتقد الحكّام والأمراء، ووجّه لهم سهامه. واضطر في بعض الأحيان -على كره منه- إلى المداراة وإلى شيء من "التقية" السياسية واضطر إلى مقابلة بعضهم، كما في مواجهته للأمير صالح بن مرداس وردّه عن المعرة.. وكذلك مراسلاته في أواخر حياته مع داعي الدعاة الفاطمي الذي كان عقلا ولسانا للدولة الفاطمية. في هذه المواقف نجد المعري وهو يعاني الحرج ويتكرّه أو يتحرّج من هذه اللقاءات ويحاول أن يجد سبيلا للنفاذ منهاـ والتخلص من إكراهاتها بطريقة علائية متميزة.

ويظهر موقفه الحازم من سياسة عصره في ديوان لزوم ما لا يلزم بوضوح، كما في قوله[13]:

مُلّ المقام فكم أعاشر أمة أمرت بغير صلاحها أمراؤها

ظلموا الرعية واستجازوا كيدها فعدوا مصالحها وهم أجراؤها

 

وقوله[14]:

توحّد فإن الله ربك واحد ولا ترغبن في عشرة الرؤساءِ

ويقول في نقد صريح لساسة عصْره، ربما يكشف عن بعض أسباب موقفه الحاسم[15]:

يسوسون الأمور بغير عقل فينفذ أمرهم ويقال ساسهْ

فأفِّ من الحياة وأفّ مني ومن زمن رئاسته خساسهْ

وقد اعتزل أبو العلاء وزهد في أمور، وبالغ في أمور، والزهد هو الوجه الآخر للمجون وفق جدل الثنائيات، إنه ضرب من "تكثير الانقطاع والغلو في الامتناع". لاحظوا مثلا أن زهده في الممتلكات المادية والاكتفاء بالقليل القليل، قابله ذلك الكرم أو الثراء اللغوي، كأن ثروته هي اللغة ومحمولاتها واستعمالاتها المفعمة بالمعنى. ويمكن القول إن تشدده المفرط في بعض المسالك، ولّد عنده ضربا من الغلو اللغوي والتعقيد الأسلوبي الذي لا يبعد عن طبيعة شخصيته المركّبة العويصة.

وله قول مشهور في التعبير عن سجونه وعزلته هو قوله[16]:

أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسألْ عن الخبر النبيث

لفقدي ناظري ولزوم بيتي وكون النفس في الجسم الخبيث

 

ويقول[17]:

ولي مذهب في هجري الإنس نافع إذا القوم خاضوا في اختيار المذاهب

ولم تكن العزلة قرارا مفاجئا عام 400هــ، ولم تنبعث لسبب طارئ، ولا يبدو أن لها صلة بشيء جرى له في بغداد، وإنما هي أمر توافق مع بنيته ونفسيته، ولذلك لا يخفي ذلك في رسالته أو بيان عزلته في ما كتبه لأهل المعرة: "فوجدت أوفق ما أصنعه في أيام الحياة عزلة، تجعلني من الناس كبارح الأروى من سانح النعام...وهو أمر أسري عليه بليل..ليس بنتيج الساعة، ولا ربيب الشهر والسنة، ولكنه غذيّ الحقب المتقادمة، وسليل الفكر الطويل..والمثل السائر يقول: خلّ امرأ وما اختار"[18].

اختار المعري العزلة وارتضاها لنفسه انطلاقا من تطوره العقلي، وكذلك مذهبه في الزهد، زهده في الطعام والمال والزواج، ولقد تعرّضت عزلته لتطوّرات ولشيء من تخفيف القيود، فلقد تساهل في استقبال الناس وطلبة العلم، واستجاب لأهل المعرة حين التمسوا خروجه ليلقى صالح بن مرداس عندما داهم المعرّة؛ فهي عزلة مدروسة وليست ضربا من الانقطاع التام، ولقد كان على صلة بالناس في تلك العزلة الاختيارية، وربما تحوّلت في بعض أدوارها إلى ضرب جديد من التواصل الحيوي فرضه الفيلسوف بطريقته ووفق شروطه.

ومن الناحية الفلسفية التأملية يظهر المعري في شعره وبعض نثره صاحب "نظرة نسبية" ومنظور فلسفي يقوم على الشكّ، وضرورة السؤال الفلسفي والوجودي، وهو لا يدّعي امتلاك حلول أو أقوال قاطعة أبداً، ولقد طلب اليقين والحقّ، وظل عقله اليقظ يتساءل ويجادل في كل اتجاه، وهذا وحده من دون النظر في النتائج أمر حيوي بالغ الأهمية، فليس بالإمكان تقديم يقين أو حقيقة معرفية تامة، وإنما الأمور والحقائق نسبية، أقصى ما يقال فيها الظن والحدس، كما يقول في إحدى لزومياته[19]:

أصبحت في يومي أسائل عن غدي

متخبّراً عن حاله متندّسا

أما اليقين فلا يقين وإنما

أقصى اجتهادي أن أظنّ وأحدِسا

يقول المرحوم الشيخ عبد الله العلايلي: "ومن بين هذا وهذا نخرج بأن الغاية من اللزوميات كانت بالقصد كل القصد لبثّ الريب والشكوك في شكل حادّ، يغري الأحياء بالتساؤل والنظر من جديد، كما يغريهم بشيء آخر، بالهرب من أنفسهم على ما اجتمع فيها من قبْليات ورواسب سابقة من آراء وأصداء رغبات. إنه بهذه الشكوك الحادة، يدفع بهم إليه، يدفعهم إلى مثل منزلته المتوحّدة الجاهدة، وإلا ظلوا متخبطين تخبطا مضحكا مبكيا، عبّر عنه بسخريته اللاذعة في تصارع العميان:

وبصير الأقوام مثلي أعمى فهلموا في حَنْدس نتصادمْ"[20]

(4)

ولا بأس أن نعرض لشيء مما يتصل بتعقيد أبي العلاء أو تصنيعه وفق تسمية المرحوم شوقي ضيف، فصعوبة أبي العلاء وتعقيده أول ما قد يجابه القارئ المتلصص على هذه التجربة الفريدة، وهي عزلة أخرى أرادها المعري اختيارا لا عجزا عن الوضوح، ولنا في بعض كلامه أدلة وأدلة، فهو عندما يريد بلاغة البساطة فإنه لا يجارى فيها، لكن البساطة لا تناسبه إلا كنمط عيش يجعل من الحياة التي تتمظهر بالبساطة تجربة معقدة مريرة، ولقد وصف له الفرّوج كدواء، فلما أدني منه خاطبه مشفقا وأبى أن يكسر تعففه وزهده.

أما توظيف المفاهيم والاصطلاحات اللغوية والعروضية والبلاغية وإدماجها في اللغة الأدبية فظاهرة متميزة تنم عن جرأة فنية من جهة، وعن محاولة للربط بين طاقات هذه المصطلحات والمحتوى الفكري الجديد الذي يعبر المعري عنه. يقول مثلا مستندا إلى دقة المعرفة بالأصوات العربية وطبائعها الصوتية الخالصة[21]:

اجعل تقاك الهاء تعرف همسها والراء كررها الزمان مكرّر

فالهاء كما نعرف من الأصوات المهموسة، والراء صوت تكراري، وهو هنا يسترجع هذه الطاقات، ولكنه يريد أن يمتد بها كي تعانق مداها الدلالي، فيغدو تكرار الراء مثلا يعكس تكرار الزمن، وهمس الهاء يقترب من التعبير عن التقوى بما فيها من خفوت وجرس خفيّ.

والمعري صاحب الطاقة السمعية والإيقاعية الرهيفة العالية يستطيع التلاعب الأصوات وتكوين جناسات ومطابقات لا حصر لها تروّع السامع وتطرق أسماع المتلقي بوقعها الغريب الشبيه بالإيقاع الأسطوري للغة الأولى، نحو قوله[22]:

اهجُرْ ولا تَهجُر وهجّر ثم لا تُهْجِر فيُذهِبَ ماءك الإهجارُ

ولا يخفى تلاعبه باللفظة التي لها أكثر من ضبط وأكثر من معنى، ولكنها متقاربة الاشتقاق. من الهجر بمعنى (الترك)، والهُجر بمعنى الكلام البذيء الذي يذهب حياء الإنسان ويسقط هيبته. واللعب على الأمر والنهي في نوع من اللعب اللغوي الذي ربما كان بديلا عن ألعاب أخرى ووجوه من التسلية منع أبو العلاء نفسه الجادة عنها.

ويقول أيضا[23]:

وأراعُ من تِرْبي ولا أرتاع من تُربي، وفي قرب الأنيس خطارُ

وقريب من ذلك قوله في استعمال وظيفة الباء (حرف الجر أو الخفض) في المجانسبة بين الباء (اسم الحرف) والباء (بمعنى الزواج) وما يتراء في ذلك من ثنائية القطع والوصل[24]:

لا تدنونّ من النسا ء فإن غبّ الأري مرُّ

والباء مثل الباء تخــ فض للدناءة أو تجرُّ

وأصعب وأعقد من هذا قوله[25]:

كريت عن الشهر الكريت وجزته فما لي أكرى عن زماني إذا أكرى

وهي ظاهرة من الظواهر المميزة في شعر المعري، ولا شك أن لها وظائف عميقة تتجاوز ما قد يتراءى من بديع أو مصطلح أو معرفة، إلى مدى آخر يعانق فيه المفهوم دلالات فكرية وفلسفية تستبد بوعي المعري وتفكيره. وفي جانب من هذه الظاهرة يعمد إلى الاشتقاق فيرى أبعاد بعض الألفاظ ومحمولاتها ويفتحها على دلالات تعينه على تقديم نقده. فيقول متصرفا ومشتقا من أسماء الأقاليم والمدن[26]:

كل البلاد ذميم لا مقام به وإن حللت ديار الوصل والرِّهمِ

إن الحجاز عن الخيرات محتجز وما تهامة إلا معدن التهم

والشام شؤم وليس اليمن من يمن ويثرب الآن تثريب على الفهم

وقوله في اللعب على حرفي اللام والباء:

تواصل حبل النسل ما بين آدمٍ وبيني ولم يوصل بلامي باءُ [27]

هذا جانب واحد ومثال واحد من تعقيد أبي العلاء، فإذا أضفنا إليه غرابة الألفاظ والتراكيب، والتلميح إلى أساطير وسرديات قديمة، وكذلك التعقيد على مستوى المعنى فإن شعره ونثره شبكة من التعقيدات والغموض. ولا يستغرب في هذا الحال أن يقوم المعري نفسه بشرح بعض شعره ونثره، إما للدفاع عن نفسه في مواجهة الاتهام وسوء الفهم، أو استجابة لطلب بعض الطلبة والمستملين.

والمعري ربما يكون أكثر أدباء العرب عناية بشرح كتبه وشعره، وإنتاج غيره. والحرص على الشرح ورفع اللبس يمثل منهجا قائما بنفسه عنده. حتى إن هذه الظاهرة لا تتوقف عند ما نعرف من مؤلفات كاملة وقفها على الشرح والإيضاح والتفسير (نحو: ضوء السقط، وزجر النابح)، وإنما تمتد إلى نصوص صغرى في الشعر والنثر. ومن قرأ الغفران والصاهل والشاحج تذكر تلك "الاستطردات" التي تقطع السرد لينتقل إلى التوضيح والشرح ورفع اللبس وتأويل التلاعب الدلالي. ويوضح ذلك حرصه على الوضوح رغم غموضه، كي لا يساء تأويله، وكذلك إدراكه صعوبة لغته وما تستدعيه من التفسير. والأمر أو الباعث الثالث مهنته التي انشغل بها وهي التعليم، وإن لم يكن يتقاضى أجرا على ذلك سوى طلب الثواب ونشر المعرفة.

(5)

يمثل سقط الزند المرحلة الأولى من المعري، ومعظم ما فيه يمثل إنتاجه حتى سنة 400هـ، أي قبل عزلته والتزامه بلدته وبيته في القسم الثاني من حياته. ووجود بعض القصائد أو المقطوعات مما نظمه بعد هذه السنة لا يغير التقسيم بل يؤكّده، إذ إن تلك القصائد مثلت كما يبدو استئنافات اضطرارية للأغراض القديمة، وهي أشبه بمرحلة سقط الزند، ولذلك وضعها أبو العلاء في هذا الديوان ولو أنها قيلت بعد سنة 400 هـ.

وأما سبب التسمية فقد أوضحها المعري نفسهـ وعنه نقلها شارحو السقط الاوائل، وفي مقدمتهم الخطيب التبريزي تلميذ أبي العلاء: "كان قد لقّب هذا الديوان بـ (سَقْط الزند) لأن السقط أول ما يخرج من النار من الزند، وهذا أول شعره وما سمح به خاطره، فشبّهه به. وما أملاه فيه سمّاه: (ضوء السقط) غير أنه وقع فيه تقصير من جهة المستملي، وذلك أنه استملى معنى بعض أبيات منه وأهمل أكثر المشكلات"[28]. والمقصود بـ (ضوء السقط) شرح أبي العلاء نفسه لديوان سقط الزند. فهو عنوان أول شروح الديوان شرحها المعري وفق ما سأله المستملي.

ويوضح التسمية أيضا قول الخوارزمي شارح الديوان: "سماه بسقط الزند لأن السقط أول ما يسقط من الزند عند القداح، ولا يكاد يخرج من الزند إلا بتكلّف شديد، والزند ها هنا مجاز عن الطبع، وهذا الديوان أول شعر لفظه طبعه في غرّة عمره، وهو قليل متكلّف بالإضافة إلى بقية شعره"[29].

ويمثل هذا الديوان بدايات وخطوات قويّة للمعري في مضمار الشعر، من ناحية إتقان القول في أغراض متنوعة من الشعر، ومن ناحية ما يكشف عنه من قدرات بيانية ولغوية، وما يعكسه من ثقافة المعري واستيعابه لماضي الشعر العربي، ويبدو من هذا التنوع ومن القول في أغراض معروفة ومجهولة وكأنه يروّض نفسه أو يدرّبها في سبيل الإتقان والإجادة.

ولا يخفى أيضا تأثيرات المتنبي عليه في أمور كثيرة، حتى إن شخصيته تكاد تلتبس أو تقترب من طريقة المتنبي في التعبير عن كبريائه وعلو نفسه[30]:

ورائي أمام والأمام ورائي إذا أنا لم تكبرني الكبراء

بأي لسان ذامني متجاهل عليّ وخفق الريح فيّ ثناء

تكلم بالقول المضلل حاسد وكل كلام الحاسدين هراءُ

ومن هذه المرحلة قصيدة نونية اهتم بها الدارسون لقوة الصورة فيها بما فيها من تصوير الظلمة والنور[31]:

عللاني فإن بيض الأماني فنيت والزمان ليس بفانِ

ولامية أخرى تذكر بلاميات المتنبي[32]:

ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل عفاف وإقدام وحزْم ونائلُ

ومنها أبيات شهيرة:

وإني وإن كنت الأخير زمانُه لآتٍ بما لم يستطعه الأوائل

ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً تجاهلت حتى ظُنّ أني جاهلُ

فيا موت زرْ إن الحياة ذميمةٌ ويا نفس جِدّي إن دهرَك هازل

 

ولا يخفى في هذه النظرة الخاطفة إرهاصات تفكيره الذي استبد به فيما بعد. ولوّن حياته وسيرتهب بطابعها الفلسفي المميز.

ومن هذه المرحلة داليته التي لا تبعد عن مناخات صاحبه المتنبي[33]:

يكررني ليفهمني رجال كما كررت معنى مستفادا

ولو أني حبيت الخلد فردا لما أحببت بالخلد انفرادا

فلا هطلت علي ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا

ولي نفس تحل بي الروابي وتأبى أن تحل بي الوهادا

هذه النفس المترفعة المستعلية المستقلة هي التي ربطته بالمتنبي إلى جانب أمور أخرى، وهي ذاتها التي تعقد بها استقلالها حتى كونت جزءا من شخصية أبي العلاء وخصوصيته.

ومع مسحة الحكمة والتأملات العارضة التي تظل أقرب لمدرسة المتنبي هناك ظاهرة الميل إلى البداوة رغم أن المعري حضري، وليس بدويا إلا في أصوله البعيدة، وهذا الميل نفسره بميل الثقافة والتشوق إلى اللغة الخشنة، وهو ليس بدعا في هذا، فقد خرج العرب قبل المعري من بداوتهم، ووسعوا القطاع الحضري الذي كان محدودا قبل الإسلام، ولكنهم حافظوا مع ذلك على بداوة اللغة وحصروا وظيفة الأعراب بوصفهم رسلا أو بريدا للغة العالية التي تكاد تطيح بها الحواضر المختلطة.

وفي سقط الزند قصائد تؤرخ أحداثا هامة ومؤثرة في سيرة المعري، كقصيدته في رثاء أبيه، وكقصيدتيه في رثاء أمه، وقصيدة أخرى ربما تكون من أواخر هذه المرحلة يعرض فيها لتجربة رحلته إلى بغداد[34]:

وبالعراق رجال قربهم شرفٌ هاجرت في حبّهم رهطي وأشياعي

وفي سقط الزند مجموعة من القصائد تتعلق بوصف الدروع سميت بـ "الدرعيات"، ولسنا نعرف بالضبط مبعث نظمها عند المعري، أهو الرياضة والسوس، كما كان الحال مع أغراض أخرى؟ فالقصائد لا تتكشف عن غاية واضحة، ولا يظهر فيها ارتباط مع فكر المعري، وإنما هي قصائد تعتمد دقة الوصف، والخبرة الدقيقة في سلاح العرب وأسماء أجزائه وتفاصيله وصناعته، مما يدل من جهة على سعة ثقافة المعري ومعرفته اللغوية والموروثة. وهي إجمالا توسّع لموضوع وصفي حاضر في الشعر القديم، وليس الموضوع بحد ذاته جديدا أو لافتا، فقد وصفوا الدرع والقوس والسيف والرمح والبيضة وما إلى ذلك، بل توسع هذا الوصف إلى درجة من الإتقان الرفيع عند الشماخ في وصف القوس منذ أن كان غصنا في شجرة حتى استوت قوساً لا مثيل لها في قصائد تحتفظ بها ذاكرة الشعر القديم.

أما ختام هذه المرحلة فتنتهي إلى قصيدة فذة مميزة ما زالت تتردد كعلامة في حياته كلها. وهي داليته الرثائية[35]:

غير مجد في ملّتي واعتقادي نوح باك ولا ترنّم شادِ

هذه الدالية بلغت نضجا في التفكير والتعبير، وفي أخبارها أنها قيلت في رثاء فقيه حنفي، اسمه أبو حمزة، توفي قبيل الأربعمائة أي قريبا منها في نهايات القرن الرابع الهجري. ووفق بحثي فقد وجدت أن المرثيّ في هذه القصيدة اسمه أبو حمزة الحسن بن عبد الله بن محمد بن عمرو التنوخي المعري مات قبل الأربعمائة. وهو فقيه حنفي من أقاربه، ولكن أهمية القصيدة ليست في المبعث الحقيقي لقولها أو نظمها، بل فيما تضمره من بذور عزلة المعري بعيد ذلك بزمن قصير. كما أنها تجيب عن بعض أشار إليه في رسالته إلى أهل المعرة، ورسالته إلى خاله لتعزيته بوفاة أخته أم المعري التي توفيت في هذه المرحلة نسها، فكأنما اجتمعت عوامل سرعت من إعلان قرار اختمر قبل ذلك بزمن طويل. الدالية إحدى البوادر المهمة في هذا السبيل وهي تمهد بوضوح وقوة للعزلة والزهد ولعالم اللزوميات والغفران.

لقد خرج من رثاء الفقيه الحنفي إلى رثاء الإنسان من حيث هو كائن، فخرج من الفردي إلى الوجودي، وحشد في هذا التحول حزما من الصور والمتضادات التي جانس بينها أو تمكن من نسجها ليكون وحدة جديدة على مبدأ الصراع والتضاد بين قطبي الحياة والموت، وليعصف سؤال المصير بكل شيء.

وسؤال المصير بما فيه من تجاذبات الوجود بين الحياة والموت هو السؤال الذي سيظل حاضرا في مساءلات أبي العلاء في المراحل التالية من حياته.

(6)

أما لزوم ما لا يلزم وهو ديوانه الفلسفي، فقد وضع له المعري مقدمة تشكّل أساساً لتلقّيه على مستوى الشكل والمضمون، أولها تفسير التسمية التي شاعت مع استعمال المعري لها، وغدت نوعا بلاغيا بديعيا يكرر البلاغيون والنقاد الاهتمام به. وفي المقدمة كشف عن مضامين التفكير ومنازل الرؤية بأسلوب أبي العلاء ولغته المواربة: "كان من سوالف الأقضية (ج.قضاء) أني أنشأت أبنية أوراق، توخّيت فيها صدق الكلمة، ونزّهتها عن الكذب والميط (الغلو، المبالغة)...فمنها ما هو تمجيد لله الذي شرف عن التمجيد، ووضع المنَن في كل جيد. وبعضها تذكير للناسين، وتنبيه للغافلين، وتحذير من الدنيا الكبرى التي عبثت بالأول، واستجيبت فيها دعوة جرول (الحطيئة):

جزاك الله شرا من عجوز ولقاك العقوق من البنينا

فهي لا تسمح لهم بالحقوق، وهم يباكرونها بالعقوق. وإنما وصفت أشياء من العظة، وأفانين (ج.فن، نوع) على حسب ما تسمح به الغريزة. فإن جاوزت المشترط إلى سواه فإن الذي جاوزت إليه قول عرّي من المين (الكذب). وجمعت ذلك كله في كتاب لقّبته: لزوم ما لا يلزم"[36].

ويستوقفنا في هذه الرؤية جملة أمور هامة في تلقّي أبي العلاء وقراءته، منها:

  • تحيّز أبي العلاء للصدق، ونأيه عن "الكذب"، بكل مستوياته، ومن ضمنها غلو التخييل، الذي يدخل في هذا الكذب الفني. ويتراءى في هذا الاختيار مناهضة القول النقدي المشهور: أحسن الشعر أكذبه. في هذه المرحلة من التفكير ينتقل المعري إلى قاعدة: أحسن الشعر أصدقه، تفكيرا وتعبيرا.
  • الموقف من الدنيا: يطوّر المعري هجاء الحطيئة لأمه، لينتقل به إلى هجاء الدنيا بوصفها الأم الكبرى التي اختلت علاقتها بأبنائها من الطرفين: "فهي لا تسمح لهم بالحقوق، وهم يباكرونها بالعقوق". وهذا الاختلال أساسي في نظرة المعري، وسينعكس ذلك على هجاء مرير بصور مختلفة للدنيا وإلصاق صفات قبيحة بها، كمخاطبتها بكنية "أم دفر" التي تعني الرائحة المنتنة، أي: أيتها المنتنة! أيتها الجيفة! وهو خطاب أقرب للشتيمة وإعلان العقوق الذي أشار إليه. والأبناء ومنهم المعري لا ينالون منها ما يحسبون أنه حقوق لهم، ولعل منها حقوقا معنوية ومادية، لم ينلها، فقرر أن يكون موقفه الانصراف عن كل شيء!

ويظهر ذم الدنيا وإعلان كراهيتها بوضوح في اللزوميات[37]:

فلا تشرّفْ بدنيا عنك معرضةٍ ... فما التشرّف بالدنيا هو الشرف
واصرف فؤادك عنها مثلما انصرفت ... فكلّنا عن مغانيها سينصرف
يا أمّ دفر لحاك الله والدة ... فيك الخناء وفيك البؤس والسّرف
لو أنك العِرْس أوقعتُ الطلاق بها ... لكنّك الأمّ مالي عنك منصرف

ويقول متأففاً من الأم "الخسيسة" على غير طبيعة الأمهات[38]:

خسستِ يا أمّنا الدنيا فأفّ لنا بنو الخسيسة أوباشٌ أخسّاءُ

ويراها في صورة أخرى امرأة حائض لا تبلغ الطهر أبداً[39]:

ووجدت دنيانا تشابه طامثا لا تستقيم لناكح أقراؤها

هويت ولم تسعف وراح غنيّها تعبا، وفاز براحة فقراؤها

وإذا زجرت النفس عن شغف بها فكأن زجر غويّها إغراؤها

ويرى الدنيا بمنظار متشائم عندما يراها أشبه بالميتة أو الجيفة التي تحيط بها الكلاب[40]:

أصاحِ هي الدنيا تشابه ميتةً ونحن حواليها الكلاب النوابحُ

  • غرض آخر أعلن اختياره هو "تمجيد الله"، وما يتخلله من "عظة". وهو أيضاً غرض ظاهر في اللزوميات، وإن يكن تمجيدا مغايرا للتمجيد التقليدي، ومختلط بطريقة أبي العلاء. فالعظة التي تعني الإفادة من درس الدنيا، واتخاذ موقف منها، والاتجاه إلى "الله" هي المسافة التي يحاول المعري ملأها. المسافة من الدنيوي إلى الإلهي، وهي بلا شك مسافة وجودية مستحيلة الملء، وفي هذه المحاولة كانت اللزوميات.
  • ويظهر في الفقرة السابقة التي اقتبسناها، وفقرة أخرى في نهاية المقدمة الوعي النقدي الذي لا يفارق المعري بل يضيء دوما سبل كلامه، فيقول:

"وقد كنت قلت في كلام لي قديم: إني رفضت الشعر رفض السقب غِرسه، والرألِ تريكتَه، والغرض: ما استُجيز فيه الكذب واستُعين على نظامه بالشبهات. فأما الكائن عظة للسامع، وإيقاظا للمتوسّن، وأمرا بالتحرّز من الدنيا الخادعة وأهلها الذين جبلوا على الغش والمكر، فهو إن شاء الله مما يلتمس به الثواب. وأضيف إلى ما سلف من الاعتذار أن من سلك في هذا الأسلوب ضعف ما ينطق به من النظام لأنه يتوخّى الصادقة، ويطلب من الكلام البرّة، ولذلك ضعف كثير من شعر أمية بن أبي الصلت الثقفي، ومن أخذ بفريّه من أهل الإسلام. ويروى عن الأصمعي كلام معناه: أن الشعر باب من أبواب الباطل، فإذا أريد به غير وجهه ضعف. وقد وجدنا االشعراء توصلوا إلى تحسين المنطق بالكذب وهو من القبائح، وزينوا ما نظموه بالغزل وصفة النساء ونعوت الخيل والإبل وأوصاف الخمر، وتسببوه إلى الجزالة بذكر الحرب واحتلبوا أخلاف الفكر وهم أهل مقام وخفض في معنى ما يدّعون أنهم يعانون من حث الركائب، وقطع المفاوز، ومراس الشقاء"[41].

أما الشكل الإيقاعي الذي اختاره فيتضمن تفسير التسمية: " لزوم ما لا يلزم، ومعنى هذا اللقب أن القافية تلزم لها لوازم لا يفتقر إليها حشو البيت ولها أسماء تعرف". ثم لخص قواعد القافية واستخلص تسمياتها ومصطلحاتها العروضية، فوجد أنها تتمحور في مصطلحات تتصل بالحروف، وهي ستة: الروي، والردف، والتأسيس، والوصل، والخروج، ولهذه الخمسة اثنتا عشرة منزلة أو صورة بحسب صور استعمالاتها في الشعر العربي. أما الحركات فمصطلحاتها ستة: الرس، والإشباع والحذو، والتوجيه، والمجرى، والنفاذ. ومنازل الحركات أيضا اثنتا عشرة منزلة أو صورة. وقد شرح هذه المصطلحات وناقشها مناقشة دقيقة وضرب أمثلة عليها من الشعر القديم.

ثم جاء لالتزاماته الإضافية التي "لا تلزم" بمعنى أنها لم تكن تشترط، فهي إذن قيود إضافية إلى القيود اللازمة، قال: "وقد بنيتُ هذا الكتاب على بنية حروف المعجم المعروفة ما بين العامة، لا التي رتبها العلماء بمجاري الحروف، (أي ترتيب: ألف باء، الهجائي، وليس الترتيب الصوتي)..وقد تكلّفت في هذا التأليف ثلاث كلف:

الأولى: أنه ينتظم حروف المعجم عن آخرها.

والثانية: أنه أن يجيء رويّه بالحركات الثلاث وبالسّكون بعد ذلك.

الثالثة: أنه لزم مع كل رويّ فيه شيء لا يلزم من ياء أو تاء أو غير ذلك من الحروف"[42].

وهي أمور تمثل تحديا وركوبا للصعب، مال إليه أبو العلاء واختاره اختيارا، ومن له أقل معرفة بصنعة الشعر يدرك ما في هذه الطريقة من صعوبة، فالروي وهو أثبت حروف البيت والقافية غدا عنده حرفان وليس حرفا واحدا، وهو يصر أن يستعمل الحروف جميعها، وهناك حروف صعبة ليس فيها ألفاظ كافية اجتنبها الشعراء في قوافيهم، وهو يريد أن يستوفي وجوه الحركات كلها. ويلزم نفسه بهذا الضرب من المشقة اللغوية والعروضية اختيارا. تماما كما شق على نفسه بالامتناع عن أكل اللحم ومنتجات الحيوان من بيض وحليب، وكما شق على نفسه بالامتناع عن الزواج والإنجاب، وغير ذلك.

ومما يتكرر في اللزوميات شكوى المعري من الغربة، كأن يقول[43]:

أولو الفضل في أوطانهم غرباء تشِذّ وتنأى عنهم القُرباءُ

وكذلك وضوح النقد، مثل: نقد الأدباء وأهل الأدب[44]:

وما أدَب الأقوامَ في كل بلدة إلى المين إلا معشرٌ أدباءُ

ويقول في نقد هذه الطبقة[45]:

بني الآداب غرّتكم قديماً زخارف مثل زمزمة الذبابِ

وما شعراؤكم إلا ذئابٌ تلصّص في المدائح والسباب

وكذلك نقد المذاهب والفرق والتدين التقليدي، ومن ذلك نقده فرقة من فرق الباطنية، ممن أقروا بالله ولكنهم أنكروا الأنبياء[46]:

أقروا بالإله وأثبتوه وقالوا: لا نبي ولا كتاب

ووطء بناتنا حل مباح رويدكم فقد بطل العتاب

تمادوا في الضلال ولم يتوبوا ولو سمعوا صليل السيف تابوا

وهو لا يدعو إلى قتالهم، وإنما يتأمل هذا العجب العجاب، وكيف تفرق الناس وضلوا، وكيف أن الخوف وحده يردعهم، دون أن تكون التقوى أو الإيمان الداخلي هو ما يحملهم على التوبة.

وينقد بوضوح صور التدين "الشعبي"، ولا ينصرف نقده إلى جوهر الدين فثم فرق كبير بين الدين والمتدينين أو المتظاهرين بالدين[47]:

قد حجب النور والضياءُ وإنما ديننا رياء

يا عالَم السوء ما علمنا أن مصلّيك أتقياءُ

كم وعظ الواعظون منا وقام في الأرض أنبياء

فانصرفوا والبلاء باقٍ ولم يزل داؤك العِياءُ

حكم جرى للمليك فينا ونحن في الأصل أغبياءُ

ويقول في لزومية أخرى كأنه يقدم خلاصة لأطياف المتدينين بعدما خبر الناس واستكشف ما وراء ظاهرهم[48]:

وقد فتّشت عن أصحاب دينٍ لهم نسك وليس لهم رياءُ

فألفيت البهائم لا عقول تقيم لها الدليل ولا ضياء

وإخوان الفطانة في اختيال كأنهم لقوم أنبياء

فأما هؤلاء فأهل مكر وأما الأولون فأغبياء

أي أن خبرته أفضت إلى تقسيم الناس إلى صنفين: صنف يمثل تدين العامة، دون عقل، ودون استدلال على شيء، وهم فئة ساواها بالبهائم لجهة تعطيل العقل، إذ بالعقل ينماز الإنسان. والفئة الثانية الذين لديهم شيء من الفطانة صورهم مختالين يريدون بمظاهر التدين مكانة وعزّا، أي أنهم ماكرون يستثمرون الدين لدنياهم. فالناس وفق هذا في زمنه -على الأقل- بين فئتين: فئة البهائم، وفئة المختالين الماكرين.

وينقد بعض الوعاظ في تناقض ظاهرهم مع باطنهم، وفي ريائهم وعدم صدقهم[49]:

رويدك قد غررت وأنت حرّ بصاحب حيلة يعظ النساءَ

يحرّم فيكم الصهباء صبحاً ويشربها على عمْد مساءَ

إذا فعل الفتى ما عنه ينهى فمن جهتين لا جهة أساءَ

ويرى المذاهب وهي تتخذ لتكون سبيلا للسلطة والزعامة[50]:

إنما هذه المذاهب أسبا ب لجذب الدنيا إلى الرؤساء

وينقد أداء العبادات نفاقا أو كيداً، فهي ينبغي أن تؤدى على صدقها الأول[51]:

إذا رام كيدا بالصلاة مقيمها فتاركها عمدا إلى الله أقربُ

وقريب من ذلك قوله في نقد تدين الناس تأسيسا على الخوف الدنيوي[52]:

والناس يطغون في دنياهمُ أشراً لولا المخافةُ ما زكّوا ولا سجدوا

وهو يواجه بأسى المكون الذئبي المتوحش في الإنسان هذا الذي لم تهذّبه الأديان والمذاهب[53]:

يغدو على خلّه الإنسان يظلمه كالذيب يأكل عند الغِرّة الذيبا

ويتوسّع سوء ظنّه بالبشر وبما ارتكبوا من شرور ومفاسد مستندا أغلب الظن على ما يسمعه من فساد عصره وما يتناهى إليه من اختلال البشر، فيقول مثلا في الرد على من يتهمون الدهر ويتنصلون من مسؤولية الإنسان[54]:

فما أذنب الدهر الذي أنت لائم ولكن بنو حواء جاروا وأذنبوا

وله مذهب عجيب في التوحد والواحدية اهتدى إلى أمره الشيخ عبد الله العلايلي، وشرح كثيرا من غوامضه وعلله، ويغلب أن يكون هذا الضرب من التفكير من أسباب توحده وامتناعه عن الزواج، بما لا يبعد عن إحساسه الفادح بأخطاء البشر وقلة اهتدائهم، وامتد هذا الموقف بشكل وجودي ليتطلع من خلاله إلى بدء العالم، وأكثر ما يتكرر في ذكر (آدم) يتعلق برؤيته إلى البدايات والمآلات، فيرى السعادة في العهد الأول، ربما في زمن غامض لا يدرك زمن وحدة آدم قبل انضمام حواء إليه، فيقول[55]:

بدء السعادة أن لم تخلق امرأة فهل تودّ جمادى أنها رجبُ

وما احتجبت عن الأقوام من نسك وإنما أنت للنكراء محتجبُ

وكثيرا ما يلح على واحدية آدم، وفردية الإنسان وكأنما هي امتداد لواحدانية الله، ويكفي الإنسان الصادق أن يكون واحدا من خلق الله[56]:

لا تكذبنّ فإن فعلت فلا تقل كذبا على رب السماء تكسّبا

فالله فرد قادر من أن تدعى لآدم صورة أو تحسبا

وإذا انتسبت فقلت إني واحد من خلقه فكفى بذاك تنسّبا

الموقف من الحج:

في زمن المعري نعلم من شعره وصفاً لفساد حكام مكة أو أمراؤها الذين يسميهم "رجال شيبة" ولذلك يعفي النساء وغير النساء من الحج، لأن الحاج لا يأمن على نفسه، فضلا عن طلب أولئك الأمراء للمال وحده، وهم يسيئون للحاج ولمناسك الحج دون أدنى احترام للمكان المقدس، أي أن الحج أفرغ من معناه، وموقف المعري ليس بدعا فلقد أفتى بعض الفقهاء بعدم الحج في مثل هذه الاحوال، خاصة وأن الحج يرتبط بالاستطاعة ويختلف عن الفروض الأخرى. المهم أن المعري يدمج بين الحج وهذه الصورة لفساد من يتولونه ويستقبلون الحجيج[57]:

أقيمي لا أعد الحج فرضا على عجز النساء ولا العذارى

ففي بطحاء مكة شر قوم وليسوا بالحماة ولا الغيارى

وإن رجال شيبة سادنيها إذا راحت لكعبتها الجمارى

قيام يدفعون الوفد شفعا إلى البيت الحرام وهم سكارى

إذا أخذوا الزوائف أولجوهم ولو كانوا اليهود أو النصارى!

وينقد المعري عدوى التقليد والاتباع كما يظهر في قوله الساخر[58]:

تثاءب عمرو إذا تثاءب خالدٌ بعدْوى، فما أعدتني الثوباءُ

ولم يفعل هو أكثر من مقاومة "الألفة" أو نزعها، ليصل إلى يقين أو حقيقة. وفي هذا بعض ما يعين العقل على التخلص من عدوى الأفكار والتفكير والاعتقادات أو عدوى الثوباء كما رمز لها بعمق ودقة وسخرية.

وهو أخلاقي مثالي ينكر على الناس كذبهم وريائهم، ويجعل رفضه لمنكراتهم سببا وجيها لعزلته واحتجابه[59]:

وما احتجبت عن الأقوام من نسك وإنما أنت للنكراء محتجب

وقوله في مفارقة الجوهر للمظهر[60]:

يحسُن مرأى لبني آدم وكلهم في الذوق لا يعذب

ما فيهم برّ ولا ناسك إلا إلى نفع له يجذب

أفضل من أفضلهم صخرة لا تظلم الناس ولا تكذب

وقوله في معنى قريب[61]:

إن مازتِ الناس أخلاقٌ يعاش بها فإنهم عند سوء الطبع أسْواءُ

أو كان كل بني حوّاء يشبهني فبئس ما ولدت في الخلق حوّاءُ

وكذلك يشمل نفسه بهذا الذم وسوء الظن[62]:

بني الدهر مهلا إن ذممت فعالَكم فإني بنفسي لا محالة أبدأُ

وأخيرا فإن أبا العلاء شيخ المعرة رحمه الله شيخ عقلاني مؤمن من نوع فريد، صدّق بالنتيجة الكلية، ولكنه لم يطمئن إلى الطرق الموصوفة إليها، ومن هنا نسوي بعض ما قد يظنّه القارئ تناقضا أو مفارقة بين إقراره الإيماني في مواضع كثيرة من شعره ونثره، ونقده أو تجديفه في مواضع أخرى. إنه لا يجدف إلا ضد ما يعدّه طرقا مستهلكة في معرفة الله، وهي طرق لم تقنعه ولم تدل عقله المضيء، فالخلق ليس عبثا وفق منظوره، ولكن ما لم تتوصل الأذهان والعقول إليه هو فهم التفاصيل إلى تلك الكليات فهما سليما. ولقد رفض كل مذاهب عصره، ونقدها نقدا صريحا، وكأنه يمهد السبيل لفلسفة "جديدة" وفهم "جديد" للعقل. نقد المرجئة والمعتزلة بل والمذاهب كلها. نقد فهم الناس لها. وحاول أن يرى جوهرها.

أما مراده الأخير أو العالم المثالي الذي يطلبه فيبدو وسط ضباب الصورة السوداء، إنه ليس مطلبا عسيرا ولكن اقتتال البشر وفسادهم جعل عالمه المأمول مستحيلا. ومن الصور الواضحة القليلة التي عبر فيها عن مراده المأمول قوله[63]:

ما أحسن الأرض لو كانت بغير أذى ونحن فيها لذكر الله سكّان

 

أستاذ اللغة العربية وآدابها/ جامعة فيلادلفيا/ الأردن

الهوامش والإحالات:

 

[1] . الخطيب البغدادي، الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، (ت463هــ)، تاريخ مدينة السلام، تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، ط1، بيروت، 2001م، 5/398.

[2] . أبو البركات ابن الأنباري، (ت577هــ)، نزهة الألبّاء في طبقات الأدباء، تحقيق إبراهيم السامرائي، دار المنار، الزرقاء-الأردن، ط3، 1985م، ص258-259.

[3] . ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد، (ت597هــ)، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تحقيق محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1992م، 16/22.

[4] . ابن العديم، الإنصاف والتحرّي في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري، ضمن: إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء، لمحمد راغب الطباخ، دار القلم العربي، حلب، ط2، 1989م، 4/108-109.

[5] . مقدمة سقط الزند، طبعة أمين هندية، القاهرة، 1901م، ص4.

[6] . ناصر خسرو علوي، سفر نامه، تر: يحيى الخشاب، ط.الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993، ص55-56.

[7] . نشرت بالعربية، ترجمة ودراسة: نظار ب.نظاريان، ط2، دار الحوار، اللاذقية، 1994.

[8] . نشرت الرواية بالعربية ترجمة جورج سفر يعقوب، دار الآداب، بيروت، 2014.

[9] . طه حسين، تجديد ذكرى أبي العلاء، دار المعارف، القاهرة، ط6، 1963، ص202.

[10] . شرح اللزوميات، إشراف حسين نصار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993م، 2/342.

[11] . المصدر نفسه، 3/31.

[12] . المصدر نفسه، 2/365.

[13] . المصدر نفسه، 1/66.

[14] . المصدر نفسه، 1/76.

[15] . المعري، اللزوميات، تحقيق أمين الخانجي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 2/32. (وقد أخلّت طبعة حسين نصار من شرح اللزوميات بعدة حروف منها حرف السين، ولذلك اضطررنا للرجوع إلى أكثر من طبعة لاستكمال الصورة).

[16] . شرح اللزوميات، بإشراف حسين نصار، 1/297.

[17] . المصدر نفسه، 1/171.

[18] . رسائل أبي العلاء المعري، تحقيق عبد الكريم خليفة، منشورات اللجنة الأردنية للتعريب والنشر والترجمة، ط1، 1976، 1/218.

[19] . المعري، اللزوميات، تحقيق أمين الخانجي، منشورات مكتبة الخانجي، القاهرة، 2/31. (المتندّس: الذي يستعلم الأخبار).

[20] . عبد الله العلايلي، المعري ذلك المجهول، دار الجديد، بيروت، ط3، 1995م، ص109.

[21] . شرح اللزوميات، بإشراف حسين نصار، 2/91.

[22] . المصدر نفسه، 2/101.

[23] . المصدر نفسه، 2/97.

[24] . المصدر نفسه، 2/121.

[25] . المصدر نفسه، 2/132.

[26] . المصدر نفسه، 3/152.

[27] . المصدر نفسه، 1/3.

[28] . من مقدمة التبريزي، ضمن: شروح سقط الزند، تحقيق مصطفى السقا ورفاقه، بإشراف طه حسين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط3، 1986م،1/3.

[29] . من مقدمة الخوارزمي، ضمن: شروح سقط الزند، 1/18.

[30] . ديوان سقط الزند، طبعة أمين هندية، القاهرة، 1901م، ص33.

[31] . المصدر نفسه، ص35.

[32] . المصدر نفسه، ص44.

[33] . المصدر نفسه، ص46.

[34] . المصدر نفسه، ص63.

[35] . المصدر نفسه، ص82.

[36] . اللزوميات، تحقيق أمين الخانجي، 1/ص1. وشرح اللزوميات، بإشراف حسين نصار، 1/19.

[37] . شرح اللزوميات، بإشراف حسين نصار، 2/148.

[38] . المصدر نفسه، 1/58.

[39] . المصدر نفسه، 1/37.

[40] . المصدر نفسه، 1/344.

[41] . اللزوميات، طبعة الخانجي، 1/ص32. وشرح اللزوميات، بإشراف حسين نصار، 1/49-50.

[42] . اللزوميات، طبعة الخانجي، 1/22-23. وشرح اللزوميات، بإشراف حسين نصار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1/40-41.

[43] . شرح اللزوميات، بإشراف حسين نصار، 1/53.

[44] . المصدر نفسه، 1/55.

[45] . المصدر نفسه، 1/199.

[46] . المصدر نفسه، 1/118.

[47] . المصدر نفسه، 1/62.

[48] . المصدر نفسه، 1/63.

[49] . المصدر نفسه، 1/73.

[50] . المصدر نفسه، 1/80.

[51] . المصدر نفسه، 1/106.

[52] . المصدر نفسه، 1/407.

[53] . المصدر نفسه، 1/148.

[54] . المصدر نفسه، 1/104.

[55] . المصدر نفسه، 1/111.

[56] . المصدر نفسه، 1/153.

[57] . المصدر نفسه، 1/90.

[58] . المصدر نفسه، 1/54.

[59] . المصدر نفسه، 1/111.

[60] . المصدر نفسه، 1/127.

[61] . المصدر نفسه، 1/60.

[62] . المصدر نفسه، 1/58.

[63] . المصدر نفسه، 3/212.

ملاحظة: عنوان المقالة مستوحى من قول نزار قباني في طه حسين:

ارم نظارتيك ما أنت أعمى إنما نحن جوقة العميان