حين يُهمش المجتمع المثقف الوطني، فإنه يضيّع المثقف والوطن معا، وهذه هي بلوى مصر التي تفاقمت في السنوات الأخيرة، بعد انقضاض الثورة المضادة على ثورتها النبيلة التي اندلعت في 25 يناير 2011 تنشد الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. وهي كلها من القيم التي رسختها مسيرة الثقافة التنويرية في مصر، وبثها مثقفوها المستقلون الأحرار في الضمير الوطني منذ عبدالله النديم وحتى صنع الله إبراهيم. لذلك كان طبيعيا أن تسعى الثورة المضادة، منذ حكم الإسلامجية عقب الثورة وحتى الآن، إلى تهميش المثقف، فلم يعد يُسمع للمثقف الوطني صوت في شؤون بلاده التي تبدد الثورة المضادة أرضها بلا ثمن ولا تفويض. فبعد التفريط في أوقاف محمد علي وجزيرته الكاملة في اليونان، جاء التفريط في جزيرتي تيران وصنافير، ويتردد الحديث عما قد تنطوي عليه «صفقة القرن» المشبوهة من تفريط أكبر، وما خفي كان أعظم. لأن تهميش المثقف وإخراس صوته هو التمهيد الضروري لتمادي تلك الثورة المضادة الشرسة التي لا تكتفي باستعادة سلطة الفساد والاستبداد، وبأسوأ مما كانت عليه عندما ثار عليها المصريون، ولكنها تضيف إلى ذلك تبديد أرض الوطن وثرواته.
ولأن (الكلمة) آلت على نفسها منذ بداياتها الباكرة أن تكون صوت حراس الكلمة ضد كل شقشقات كلاب الحراسة، فإنها تهتم بأن ترفع صوت المثقف المستقل الحر عاليا من جديد؛ وتدافع عن حقه في التعبير عن ضمير أمته وأمانيها، وتعيد نشر هذا الملف الذي نشرته صحيفة (الأخبار) اللبنانية، ولم تنشر مثله أي صحيفة مصرية في زمن التردي والهوان. لأن العزاء هو أن الثقافة العربية أكبر من أي نظام يُهمش مثقفيه، ولأن بنية مشاعرها الثقافية العريضة، بالمعنى الذي بلوره رايموند وليامز لهذا المصطلح، لاتزال سليمة، وقادرة على فرز الحق من الزيف، وتصحيح اتجاه بوصلة الضمير الشعبي العربي الواسع، مهما سعت الثورة المضادة لتبديد الوعي وتشويه التاريخ، وإخراس صوت العقل والضمير.