يقدم محرر (الكلمة) هنا شهادة شخصية حول الظروف التي تعرف فيها على الكاتب الياباني البريطاني، كازو إيشيجورو، الفائز بجائزة نوبل للآداب هذا العام، وكيف تلمس ثراء شخصيته الإنسانية بعد ثراء عالمه الأدبي، مع قراءة سريعة لبعض أعماله الأولى، والتعرف على بعض رؤاها واستراتيجياتها النصية.

أيام وذكريات مع كازو إيشيجورو

وقراءة في رواياته الثلاث الأولى

صبري حافظ

سررت كثيرا حينما سمعت خبر حصول الكاتب البريطاني/ الياباني كازو إيشيجورو Kazuo Ishiguro على جائزة نوبل للآداب هذا العام. فقد أتاحت لي الظروف معرفة هذا الكاتب على الصعيدين الأدبي والشخصي قبل ما يقرب من ثلاثين عاما. حيث أمضيت معه، وكانت معه أيضا زوجته الاسكتلندية الرائعة لورنا ماكدوجل Lorna MacDougal، خمسة أيام حافلة في بودابست، في لحظة تاريخية فاصلة وحرجة معا في تاريخ عالمنا المعاصر. كان ذلك في شهر يونيو عام 1989 حينما نظمت مؤسسة تُدعي «مؤسسة ويتلاند» Wheatland Foundation التي كانت ترأسها واحدة من أغنى أثرياء أمريكا وقتها، وهي آن جيتي Ann Getty، مؤتمرا أدبيا ضخما في تلك المدينة.

وكانت سمعة هذه المؤسسة، التي كانت جديدة وقتها، وتحضيراتها المهنية لمؤتمراتها الأدبية قد استقطبت اهتمامي، عندما تابعت ما كُتب عن مؤتمرها الأول الكبير الذي عقد في نيويورك عام 1987. وإعلانها فيه عن أن مؤتمرها التالي سيعقد في فينسيا/ البندقية، وأنها تهتم في مؤتمراتها بالحوار بين الأدب الأمريكي والآداب الأوروبية الكبيرة: الانجليزي والفرنسي والألماني والإيطالي، لكنها تعتزم أن تدعو في كل مؤتمر أدبا آخر من آداب العالم الأخرى للاهتمام به، والحوار مع قضاياه والمشاكل التي يعانيها كتابه.

(1) سياقات اللقاء بإيشيجورو:
لذلك حينما تلقيت عام 1988 من تلك المؤسسة دعوة للمشاركة في مؤتمرها الذي ستنظمه في بودابست في يونيو عام 1989، والذي أشارت إلى أنه سيهتم بآداب أوروبا الوسطى أساسا، وسيكون ضيفاه هما الأدب العربي والأدب الأفريقي، لبيت الدعوة؛ مع أنها كانت المرة الأولى التي اسمع فيها عن هذا المصطلح الغريب، آداب أوروبا الوسطى. فقد كنا لازلنا في زمن انقسام العالم إلى معسكرين شرقي وغربي. وكانت الدعوة سابقة لانعقاد المؤتمر بما يقرب من العام، مما يؤكد أننا بإزاء عمل ثقافي يجرى التحضير له بعناية ومهنية واحتراف. وقد جاءتني الدعوة باعتباري ناقدا مصريا وأستاذا في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن، وطلبت مني كتابة ورقة باللغة الانجليزية، وهي لغة المؤتمر الأساسية، في حدود ثمانية آلاف كلمة عن الأدب العربي في الثمانينيات. كما اتصلت بي السكرتيرة التنفيذية لتلك المؤسسة تطلب مني ترشيح عدد من الأسماء البارزة والفاعلة في المشهد الأدبي العربي لدعوتهم للحضور ففعلت.

وكانت طريقة تنظيم المؤتمر شيقة لأقصى حد، وتستهدف تجاوز مشاكل المؤتمرات المكتظة بالأوراق والعروض المبتسرة، من أجل التركيز على الحوار والنقاش الأدبي الجاد. حيث يكلف ناقد بكتابة بحث بالإنجليزية عن كل أدب مشارك، يرسل لكل المشاركين في المؤتمر من الآداب الأخرى مقدما، وقبل القدوم لبوادابست لقراءته، ومعرفة راهن هذا الأدب وقضاياه، وتحضير أسئلتهم عنه. ثم يخصص نصف يوم لكل أدب، يُعرض في أوله موجز للبحث، وقد جلس كل ممثلو هذا الأدب على المنصة، ويفتح نقاش بينهم وبقية المشاركين في المؤتمر حول مختلف قضاياه. أو ما عن لهم من ملاحظات وأفكار عند قراءتهم للورقة المرسلة لهم.

وكانت قائمة المدعوين تتضمن أسماء كبيرة مرموقة من الولايات المتحدة وعلى رأسهم سوزان سونتاج التي لم اكتشف مدى صهيونيتها إلا في هذا المؤتمر، ومن فرنسا وعلى رأسهم ألان روب جرييه، وروسيا التي جاء منها أهم شعرائها أندريه فوزنيزينسكي وبريطانيا التي جاء منها دافيد هير David Hare وكازو إيشيجورو وأنجيلا كارتر Angela Carter وأميتاف جوش Amitav Ghosh وكريستوفر هوب Christopher Hope . أما الأدب الأفريقي الذي كان أدبه هو الضيف الآخر للمؤتمر، فقد كان فيه كتاب كبار من عينة تشنوا اتشيبي Chinua Achebe ونادين جورديمر Nadine Gordimer ونور الدين فرح. وحينما وصلنا إلى بودابست، وكان في الوفد الذي يمثل الأدب العربي إدوار الخراط ومحمد برادة وبهاء طاهر وإميل حبيبي، ثم وصل بعد بداية المؤتمر بيومين أدونيس ومعه مترجمه كمال أبو ديب، اكتشفنا أنه بجانب الوفود الأوروبية العديدة، والوفد الأمريكي الكبير، كان هناك وفد من دولة الاستيطان الصهيوني. وكانت هذه أول صدمات هذا المؤتمر.

(2) بدايات تكشف الأجندات السياسية:
لأننا سرعان ما اكتشفنا أن وراء المؤتمر الذي انعقد في اليوم التالي للاحتفال الكبير بإعادة دفن إيمرا ناجي Imre Nagy، قائد التمرد الذي أدى إلى الغزو السوفييتي للمجر عام 1956، في ميدان الأبطال وسط بودابست في احتفال كبير، وإعادة رد الاعتبار له كبطل وطني هو ومن أعدموا معه، أجندة سياسية ماكرة. يديرها بدهاء في كواليس المؤتمر من خلف الستار، وفي أروقة الفندق الذي تقيم فيه الوفود، اللورد فايدينفيلد Weidenfeld الذي كان مستشارا لآن جيتي ومنظمتها، وما أدراك من هو اللورد فايدنيفيلد. إنه جورج فايدينفيلد (1919- 2016) اليهودي الصهيوني العتيد الذي ولد في النمسا وهاجر لبريطانيا بعد ضم هتلر لها، وتفرغ للعمل في المنظمة الصهيونية إبان تأسيس دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وأصبح سكرتيرا لحاييم وايزمان أول رئيس للدولة الصهيونية. ثم أصبح بعد عودته من هناك ناشرا بريطانيا معروفا (صاحب دارWeidenfeld & Nicolson ) وناشطا سياسيا في الدوائر السياسية المدعِمّة للصهيونية، حتى عينه أكثر وزراء بريطانيا ميلا للمشروع الصهيوني، هارولد ويلسون، عضوا في مجلس اللوردات، الذي واصل منه العمل على الأجندة الصهيونية حتى آخر أيام حياته، وكافأته دولة الاستيطان الصهيوني بدفنه في أرض الميعاد بمقبرة جبل الزيتون الشهيرة فيها.

وبدأ يتكشف لنا أن وراء هذا المصطلح، آداب أوروبا الوسطى، الذي استغربته في البداية عملا مكثفا ضمن مشروع إنهاء الوجود السوفييتي في أوروبا الشرقية، حيث بدا أن ثمة تركيز واضح على آداب بولندا وتشيكوسلافيا والمجر بالطبع، وخاصة الكتاب الذين عرفوا بعدائهم للاشتراكية، وفضحهم لممارساتها السيئة، تمهيدا لما جرى بعد هذا المؤتمر بشهور من هدم حائط برلين، وانهيار الستار الحديدي ونهاية عصر القطبين. وكانت أحداث ميدان تيانانمين Tiananmen Square الشهيرة في بكين قد جرت في الشهر السابق لانعقاد المؤتمر، وكان هم سوزان سونتاج الأول هو أن يصدر عن المؤتمر وبالإجماع قرارا يدين الصين على انتهاكاتها لحقوق الإنسان ووحشيتها في قمع تلك المظاهرات، وكان شرطنا في الوفد العربي للتوقيع أن يضم القرار إدانة بنفس الوضوح والقوة للممارسات الصهيونية البشعة ضد الانتفاضة الفلسطينية التي كانت لاتزال مستمرة. وهو الأمر الذي رفضته سونتاج باستماتة؛ خاصة وأن سعي هذا المؤتمر لتحقيق التطبيع بين الكتاب العرب ووفد دولة الاستيطان الصهيوني لم ينجح، حينما قرر جل المشاركين العرب، باستثناء أدونيس ومترجمه لأنه كان يتطلع للحصول على نوبل، عدم حضور جلسة هذا الوفد. وهو الأمر الذي لم يغب عن المنظمين، وأثار غضبهم وغضب الوفد الأمريكي خاصة.

وكان فايدينفيلد، الذي اكتشفنا هناك أهمية دوره في مؤسسة «ويتلاند»، قد رشح ناقدا بريطانيا صهيونيا مغمورا لكتابة ورقة الأدب الانجليزي، فأثارت الورقة التي كان المفروض فيها أن تقدم أبرز ما يدور في راهن هذا الأدب وحاضره المباشر، استياء المشاركين الانجليز قبل غيرهم من الوفود. وقد كنت أحد المعلقين الذين استهجنوا هذه الورقة، خاصة لاستهانتها بالمسرح الذي كنت وما زلت شغوفا به متابعا لأبرز ما يدور فيه. فأثارت مداخلتي اهتمام عدد من المشاركين في الوفد الانجليزي، خاصة وقد كشفت عن سعة اطلاعي بما يدور في راهنها المسرحي خاصة. وبدأت من حينها صداقة مع عدد منهم وفي مقدمتهم أنجيلا كارتر، التي رحلت مبكرا وهي في أوج العطاء، ودافيد هير وكريستوفر هوب وإيشيجورو وأميتاف جوش الذي كان يتكلم العامية المصرية بطلاقة بعدما امضى فترة طويلة في قرية «ديمتوه» قرب دمنهور أثناء إعداد رسالته للدكتوراه في علم الانثروبولوجيا عن تلك القرية التي يقام فيها مولد «أبو حصيرة»، وما يدور حول أصوله اليهودية من أساطير إشكالية معروفة. وقد استفاد منها بعد ذلك في كتابة روايته الشيقة (في بلاد عتيقة In An Antique Land) التي ظهرت بعد عامين من ذلك المؤتمر.

(3) مؤتمر طالع من عباءة من يدفع للزمار:
ومع تطور وقائع الجلسات، والأمسيات التي كانت منظمة بدقة متناهية على كل عشاء كان يُنفق عليه ببذخ ملحوظ، بدأ يتكشف لنا أن هناك أكثر من أجندة أمريكية صهيونية وراء هذا المؤتمر. وكيف أننا نوشك أن نكون في مؤتمر طالع من عباءة الكتاب الذي نشر وترجم للعربية بعد ذلك بعنوان (من دفع للزمار؟ الحرب الباردة الثقافية والمخابرات المركزية الأمريكيةCIA )، والذي يكشف عن دور CIA في معركة الاستيلاء على عقول البشر، وتوظيفها للترسانة الثقافية الغربية من صحف ومجلات ومؤتمرات في حربها ضد المعسكر الاشتراكي. فقد كان همّ المؤتمر الأول هو استخدام قضايا الثقافة وحرية التعبير في الحرب الباردة، والعمل على تمزيق الستار الحديدي وإبراز أصوات كل المعارضين له من المثقفين والكتاب، وتحرير «أوروبا الوسطى» من سطوة الاتحاد السوفييتي القديمة، وخاصة في بولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر.

لذلك كانت ضرورة أن يدين أكبر تجمع لعدد من أشهر كتاب العالم الصين أيضا فهي جزء من نفس المعسكر المذموم، أحد أركان أجنداته السياسية البارزة. ثم كانت هناك أجندة خفية أخرى هي فصل العرب عن أفريقيا، ودق إسفين خبيث بينهم وبين بقية كتاب أفريقيا السوداء خاصة، وهو الأمر الذي أخفقوا فيه، شكرا لكاتبة جنوب أفريقيا الرائعة نادين جورديمر وتشينوا آتشيبي. ثم كانت هناك أخيرا أجندة التطبيع العربي الصهيوني المعروفة، التي كرس لها فايدنيفيلد حياته، والتي واصل العمل عليها حتى آخر أيامه، بما في ذلك إنشائه لمنظمة «الحوار الاستراتيجي Institute for Strategic Dialogue» التي كان هدفها الأساسي والمضمر طبعا، هو تحقيق هذا التطبيع، وكانت هذه المنظمة من المشاركين في إنشاء جائزة البوكر العربية، وكان هذا هو السبب الأساسي لنقدي الحاد لتلك الجائزة حال تكوينها، وفي بداياتها الأولى، فقد كان لهذه المنظمة المشبوهة ممثلة في مجلس أمنائها.

كانت القضية العزيزة على قلب اللورد فايدينفيلد هي بلا شك قضية التطبيع مع العدو الصهيوني، وكانت كثيرا من لقاءاته وترتيباته لأجندات المؤتمر التحتية تدور في هذا الاتجاه فهو لا يخفي صهيونيته، بل يفخر بها. صحيح أن أغلب المثقفين العرب المشاركين في المؤتمر تجنبوا الالتقاء به، باستثناء أدونيس الذي سعى للتقرب إليه ضمن أوهام عن دور الصهاينة في إيصاله لنوبل، وحضر وقائع تقديم الوفد الصهيوني لأدبه، بينما استخدمنا هذا الوقت لزيارة معالم بودابست السياحية. ولما فشلت عملية التطبيع بين المثقفين العرب والصهاينة في قاعات المؤتمر، قرر أن يواصل العمل عليها في سهراته، وعلى موائد العشاء التي كان ينظم كل شيء فيها بدقة بالغة. وقد تمكنت العلاقة الجميلة التي أقمتها أثناء أيام المؤتمر الخمسة مع كازو إيشيجورو وزوجته البديعة «لورنا» في مساعدتي في إفشال هذا الأمر، لأنني حرصت على الالتزام بمناهضة التطبيع مع العدو الصهيوني، وتجنب أي تعامل مع رموزه في أي مجالات ثقافية أو حتى جامعية، طوال حياتي في الغرب، وهو الخط الذي حافظ عليه المثقفون المصريون حتى اليوم.

والواقع أن هذا المؤتمر كان بداية تعرفي على «إيش» وهو الاسم الذي يعرف به إيشيجورو بين أصدقائه والمقربين منه، واكتشاف جوانب شيقة من شخصيته الراقية. وكما أستهجن معظم المشاركين العرب الأجندة المشبوهة للمؤتمر، وخاصة في فرض موضوع التطبيع مع مثقفين من دولة الاستيطان الصهيوني، فقد استهجن عدد من المشاركين الانجليز تلك الأجندة أيضا، وكان في مقدمتهم إيشيجورو وكريستوفر هوب. والمدهش أن طلعت الشايب مترجم كتاب (من دفع للزمار) الشهير هو نفسه أول من ترجم روايات كازو إيشيجورو للعربية. ولم يقتصر الاستهجان على أجندة التطبيع مع دولة الاستيطان الصهيوني فحسب، بل امتد إلى تلك الأجندة المشبوهة التي طرحها المؤتمر من خلال كلمة الوفد الإفريقي الذي ضم كتابا كبار بأي معيار من المعايير، ولكنه اختار أن يقوم ناقد نيجيري إشكالي هو شينويزو Chinweizu بكتابة الورقة الإفريقية التي ركز فيها على أن العرب استعمروا أفريقيا، وعصفوا بثقافاتها، وأجبروا سكانها على اعتناق الإسلام، بطريقة لا تختلف كثيرا، من حيث العنف والوحشية، عما قام به الأوروبيون تجاهها عبر تجارة العبيد، ثم الاستعمار الذي دمر هو الآخر ما تبقى من الثقافات الإفريقية. وأن العرب الذين جاءوا من أفريقيا إلى هذا المؤتمر، ويقصد الكتاب المشاركين من مصر والمغرب، لا علاقة لهم بأفريقيا وإنما ينتمون لسلالة مستعمريها من غزاتها العرب.

وهي إشكالية أخرى لا مجال هنا للتمادي في تناولها، خاصة وأنه ينسب تراث مصر الفرعوني الكبير إلى أفريقيا السوداء، ويصر على الفصل بينه وبين تاريخها القبطي وحاضرها الإسلامي على السواء. اللهم إلا أنها أثارت اهتمام كاتبة أفريقية مرموقة هي نادين جورديمر، التي كنت أُشرف وقتها على رسالة للدكتوراه في الأدب المقارن تقارن بين أعمالها وأعمال الكاتبة الفلسطينية سحر خليفة، حيث قمت وقتها بالحديث المطوّل معها عن الأدب العربي، والمشترك بين قضايا عالمها الأدبي وما يدور في فلسطين.

فهي برغم كونها يهودية الدين والثقافة مثل سوزان سونتاج، إلا أنها ليست صهيونية مثلها، وتتحلى بقدر كبير من الدماثة والتفتح العقلي. وقد شجعتها على قراءة ثلاثية نجيب محفوظ وكان قد فاز قبل عام من هذا المؤتمر بنوبل، عندما طلبت مني أن أرشح لها شيئا من أدبنا العربي. وهو الأمر الذي شاقها، ودفعها فيما بعد، وعن طريقي لدعوة نجيب محفوظ لمؤتمر أدبي كبير في جنوب أفريقيا، وقد أبلغتها باعتذاره عن عدم جضوره، ثم لكتابة مقدمة جميلة للترجمة الانجليزية لآخر أهم أعماله، وهي (أصداء السيرة الذاتية).

(4) كازو إيشيجورو .. الكاتب والإنسان:
لكن ما دفعني لكتابة هذه الذكريات القديمة هو فوز كازو إيشيجورو بجائزة نوبل. وكيف أن مداخلتي للرد على كاتب الورقة الانجليزية، والتأكيد على مكانة المسرح الانجليزي وأهميته، وذكري لعدد كبير من أهم المساهمين فيه في سبعينيات القرن وثمانينياته، استقطبت اهتمام عدد من المشاركين في الوفد الانجليزي، ودفعتهم للحديث معي، وتوطدت العلاقة معهم أثناء المؤتمر عندما عرفوا أنني أقيم في لندن مثلهم وأعمل في أهم جامعاتها. وكان اهتمامي بالتنظير للكتابات العربية الجديدة، وأعمال جيل الستينيات العربي خاصة، وما أحدثوه من نقلة سردية مميزة تخلخلت بها أسس السرد الواقعي التقليدي وتفجرت معها تنويعات شيقة وجديدة عليه، قد دفعني إلى الاهتمام بالأعمال الروائية الانجليزية منذ سبعينيات القرن الماضي وفي ثمانينياته، وبتلك النقلة السردية التي أحدثتها في الرواية الانجليزية، ومن بينها أعمال كازو إيشيجورو وتيموثي مو Timothy Mo وسلمان رشدي وبين أوكريBen Okri وأهداف سويف وغيرهم من الكتاب الذين كانت أعمالهم قد بدأت تترك بصمتها على حاضر الرواية الانجليزية.

فهم جميعا كتاب نشأوا في منطقة بينية بين ثقافتين مختلفتين، أحدهما الانجليزية التي يكتبون جميهم بها، والأخرى: اليابانية بالنسبة لإيشيجورو، والصينية بالنسبة لمو، والهندية بالنسبة لرشدي، والنيجيرية بالنسبة لأوكري، والعربية بالنسبة لأهداف سويف. وكلهم جاءوا إلى الثقافة الانجليزية وهم في مرحلة التكوين اللغوي والثقافي معا، مما جعلها لغة التفكير وبالتالي التعبير الأدبي لديهم؛ ولكنهم عاشوا أيضا في بيوتهم لغات أخرى وثقافات ورؤى وتكوينات مختلفة. وبالتالي جاءت كتاباتهم مغايره لما كان سائدا في هذه الرواية في الجيل السابق عليهم، جيل الواقعية الملتزمة ذات النزعة السياسية عند كينجزلي إيمس Kingsley Amis وألان سيليتو Alan Sillitoe وجون وين John Wain وموريل سبارك Muriel Spark وكولن ماكينس Colin MacInnes وغيرهم من كتاب الرواية الانجليزية عقب الحرب العالمية الثانية في الخمسينيات وبدايات الستينيات.

وقد آثرت التنظير لما قدمه هذا الجيل الجديد الذي ظهر في تلك المسافة البينية وما تسود فيها من هجنة في الكتابة السردية الانجليزية الجديدة، بما دعوته بكتابة الذات الفاقدة لمركزيتها Decentred Self والقادرة بسبب نشأتها في/ بين ثقافتين أن ترى الثقافة من الداخل والخارج على السواء، وأن تصبح الذات والآخر معا. وهو الأمر الذي يميز كتاباتهم، ولا تستطيعه الذات المتمركزة على ذاتها، والتي تصارع دوما توترها مع آخر أجنبي. وقد كانت هناك سمة مشتركة بين هذه الموجة الجديدة التي هلّت على السرد الانجليزي في سبعينيات القرن الماضي، وبين موجة جيل الستينيات في السرد العربي، وهي أن لكل منها سماتها العامة كموجة سردية متميزة، ولكن لكل كاتب من كتابها صوته الخاص ولغته السردية المتفردة. فكما هو الحال في سردنا العربي مع جيل الستينيات في مصر مثلا، حيث يختلف صوت عبدالحكيم قاسم ولغته السردية عن محمد البساطي أو بهاء طاهر أو إبراهيم أصلان أو صنع الله إبراهيم حيث لكل منهم لغته وصوته وعالمه الفريد، ولكنهم يرسمون جميعا لوحة فسيفسائية ثرية هي التي ميزت كتابة هذه الموجة السردية؛ نجد نفس الأمر مع إيشيجورو ورشدي ومو وأوكري وأهداف سويف وغيرهم حيث لكل منهم صوته المتفرد ولغته الخاصة وإيقاعات جمله المختلفة، برغم أن كتاباتهم جميعا تنتمي لتلك الكتابة الجديدة المتميزة عما سبقها بنزعة الذات الفاقدة لمركزيتها.

وكنت قد قرأت رواية إيشيجورو الأولى (مشهد باهت للتلال A Pale View of Hills) 1862، والثانية (فنان العالم الشارد/ الهائم An Artist of the Floating World) 1986، لكني لم أكن قد قرأت وقتها روايته الثالثة (بقايا النهار The Remains of the Day) التي صدرت قبيل انعقاد هذا المؤتمر بأسابيع، وأصبحت أشهر رواياته بعد فوزها بجائزة البوكر عقب عودتنا منه، ثم تحويلها إلى فيلم شهير. ولما ناقشت معه فكرتي عن تلك الكتابة الفاقدة لمركزيتها، وتفرد كل صوت فيها عن غيره من الأصوات التي يكون مجموعها لوحة فسيفسائية، وكيف أنها تضيء لنا جوانب في روايتيه لم يكتشفها النقد الانجليزي في تعامله معهما. وكيف أن «إتسوكو Etsuko» راوية الرواية الأولى وهي يابانية في منتصف العمر تعيش في بيت ريفي في جنوب انجلترا، استطاعت بسبب قدرتها على رؤية ما دار لها في اليابان، ونجم عنه ابنتها الكبرى «كيكوKeiko » من زوجها الياباني الأول «جيرو أوجاتا Jiro Ogata»، من الخارج والداخل على السواء، هو سر أهمية المسكوت عنه في تلك الرواية. وأننا بدون هذا المدخل المتميز لا نستطيع أن نسبر الجدل المسكوت عنه والمهم في الوقت نفسه بين ابنتيها من ناحية، ولا بين حياتيها في كل من اليابان ثم بريطانيا، ولعبة السرد والذاكرة المراوغة فيها من ناحية أخرى.

وقبل الحديث بشكل تفصيلي عن هذه الرواية، دعني أقدم لك، يا قارئي العزيز، شيئا عن سيرة كازو إيشيجورو، فقد ولد في ناجازاكي في 8 نوفمبر 1954 لأم من بنات المدينة اللواتي نجون من قصفها بالقنبلة النووية عام 1945، وأب من طوكيو تخصص في علم المحيطات، وأمضى كازو سنوات طفولته الخمس الأولى في ناجازاكي. وفي عام 1960 استدعى المعهد الوطني البريطاني للمحيطات بمدينة ساوثهامبتون الساحلية في جنوب انجلترا أباه للاستفادة بخبراته العلمية، وتعاقد معه للعمل كباحث فيه، وهو معهد جامعي بحثي متخصص في علوم الأرض والبحار والمحيطات. فجاء بأسرته المكونة من «إيش» وأختيه، وسكن في مدينة جيلفورد، وهي ضاحية تقع بين هذه المدينة ولندن، تسكنها الشرائح الموسرة من طبقة المهنيين التي تعمل في لندن، وتحرص على أن ينشأ أولادها في بيئة انجليزية خالصة، بعيدا عن مدينة لندن المكتظة بالمهاجرين.

وفي هذه المدينة التحق «إيش» بالمدرسة الابتدائية، وكان الأجنبي الوحيد فيها. وبعد إنهاء دراسته الابتدائية انتقل إلى المرحلة الثانوية، في مدرسة الضاحية المجاورة «وكنج» Woking Grammar School» وكان الأجنبي الوحيد فيها أيضا. وكان طوال هذه الفترة وحتى السابعة عشر من عمره يعيش مع أسرته التي حرصت على تنشئة أبنائها في ثقافة يابانية خالصة، حيث كانت اليابانية هي اللغة المستخدمة في البيت. فقد كان تعاقد الأب للعمل في المعهد الوطني البريطاني لعلوم البحار لمدة أربع سنوات في بداية الأمر، وكانت الأسرة تعتزم العودة بعدها لليابان، ومواصلة حياتها فيها. ولهذا حرصت الأسرة لا على أن يتكلم أبناؤها اليابانية بطلاقة في البيت والممارسات اليومية فحسب، بل على أن يتابعوا المقررات المدرسية التي كان يدرسها أترابهم في اليابان. خاصة وأن في اليابان سلاسل من الكتب المدرسية الشعبية الشهرية التي تساهم في تقوية التلاميذ في المراحل المختلفة، ومساعدتهم في البيت على التميز في المدرسة.

ويروي إيشيجورو كيف أن أسرته اشتركت لهم في تلك السلاسل التي كانت تصل إلى البيت بانتظام عبر البريد، مشكّلة بذلك خيطا يربطهم باستمرار باليابان. وكانت الأم تهتم بأن تدرّسها لأبنائها الثلاثة بعد عودتهم من مدارسهم الانجليزية. وتحرص على ضرورة الانتهاء من دراسة كتاب الشهر، قبل أن يصل كتاب الشهر التالي. بل إنه يعترف في حديث لاحق معه بعدها بسنوات، أن معرفته الواسعة بكثير من أمهات الكتب الكلاسيكية الغربية، في شتى المعارف والآداب، لم يحصل عليها من دراسته في المدارس الانجليزية العادية التي التحق بها، ولكنه استقاها من سلسلة كتب التقوية المدرسية اليابانية تلك.

لكن الأمر سرعان ما تغير بالتدريج، ولم تقرر أسرته البقاء نهائيا في بريطانيا إلا بعد أن كان «إيش» في مرحلة الدراسة الثانوية. لذلك لعبت هذه النشأة بين ثقافتين قويتين دورا مهما في تكوينه، بالرغم من أنه لم يزر اليابان بعد مغادرته لها إلا في عام 1989، أي بعد ما يقرب من ثلاثين سنة. ومع ذلك، كما يقول في لقاء له مع كنزابورو أوي Kenzaburō Ōe (الفائز الياباني الثاني بجائزة نوبل للآداب 1994 بعد ياسوناري كواباتا Yasunari Kawabata 1968) في تلك الزيارة الأولى: «لقد نشأت وفي رأسي تصور راسخ لذلك البلد الآخر الذي تركته ورائي، بلد آخر بالغ الأهمية، تربطني به أواصر عاطفية قوية. وكنت وأنا في انجلترا أبني صورة هذا البلد في رأسي: يابان متخيلة» هي التي أدار فيها فيما بعد روايتيه الأولاتين.

وبعد أن انتهى من دراسته الثانوية، عام 1972 لم يلتحق مباشرة بالجامعة، وإنما قرر أن يأخذ ما يعرف هنا بالسنة الفجوة Gap Year، وهو تقليد انجليزي حميد، درج عليه أبناء الشرائح الانجليزية الميسورة لتوسيع أفق أبنائهم. ينوّع فيه الشاب وهو في مقتبل حياته خبراته ورؤاه عبر الارتحال الذي تموله أسرته عادة، أو العمل في أعمال مؤقته لتمويل رحلته. وهو تقليد كان المقصود منه تدريب أبناء تلك الطبقة على الحياة خارج بريطانيا منذ الصغر، كي يتمكنوا فيما بعد من إدارة أصقاع الامبراطورية المختلفة في كبرهم. ولأن «إيش» كان مولعا منذ صباه بالموسيقى الحديثة والغناء، وكان ملهمه فيهما هو بوب ديلان، الذي فاز بنوبل في السنة السابقة له لطرافة المفارقة، فقد أمضى هذه السنة الفجوة، حاملا جيتاره ومتجولا في أصقاع كندا والولايات المتحدة. يبعث بين الحين والآخر بتسجيلات لأغنياته، علّها تحظى بمن يقبل انتاجها أو توزيعها في لندن. وكان يكتب في هذه الرحلة يومياته عن كل ما يعيشه أو يمر به.

ولما عاد لبريطانيا في العام التالي التحق بجامعة كينت في مدينة كانتربري العريقة، ودرس فيها الأدب الانجليزي والفلسفة، وتخرج منها عام 1978 بتفوق. وبعد عام قضاه في الكتابة، التحق ببرنامج ماجستير الكتابة الإبداعية بجامعة إيست آنجليا الرائد هنا في بريطانيا، حيث كان يدرّس فيه مالكولم برادبري Malcolm Bradbury وأنجيلا كارتر، وتخرج منه عام 1980، وكانت محصلة تجربته/ دراسته فيه هي روايته الأولى التي نشرت بعد ذلك بعامين. وكان من الطبيعي أن يدور عالم هذه الرواية، كحياته نفسها، بين بريطانيا واليابان. بل كان طبيعيا أيضا أن تظل اليابان فيها هاجسا يلقي بظلاله على ما يدور في حياة بطلتها في بريطانيا.

(5) كارثة نجازاكي .. ومشهد باهت للتلال:

وحتى يتابع القارئ معي هذا النقاش فإنني سأتوقف معه بشيء من التفصيل عند رواياته الثلاث الأولى، ثم أعود لرواية بقية قصة تعرفي على إيشيجورو الإنسان بعدما كان الكاتب فيه قد شاقني بتميزه وفرادة عالمه. ولأنني أحب أيضا أن يكون تناولي لهذا الكاتب متصلا بهذا التصور الذي كونته عن موجة الكتابات التي ينتمي إليها، والتي وصفتها بأنها سرد الذات الفاقدة لمركزيتها أو التي لا تتمركز على ذاتها أحب أن أشير هنا إلى أن سيرته الشخصية، التي توشك أن تكون تنويعا فريدا على سيرة جل الكتاب الذين ذكرتهم والذين ينتمون لتلك الموجة من الكتابة الروائية الانجليزية، تؤكد أهمية النشأة بين ثقافتين لزحزحة مركزية كل منهما وزعزعتها، دون أن يقلل ذلك من عمق معرفة الكاتب بهما. حيث يؤكد لنا في حديث معه، أن وعي منذ بدايات حياته في المدرسة أنه يرى الأشياء بشكل مختلف عن بقية زملائه.

وتكشف لنا روايته الأولى عن أهمية هذه الرؤية المختلفة. حيث تقدم لنا الرواية عبر «إتسوكو»، راوية النص بضمير المتكلم، وهي يابانية في منتصف العمر تعيش في بيت ريفي في جنوب انجلترا، وفي جغرافيا تشبه منطقة جيلفورد التي نشأ فيها «إيش». وقد جاءت ابنتها «نيكيNike » لزيارتها من لندن، ومكثت معها خمسة أيام في شهر إبريل، وهو أقسى الشهور كما تقول لنا رائعة إليوت «الأرض الخراب». ونيكي هي ابنتها الثانية من زوجها الانجليزي الراحل شيرنجهام الذي كان صحفيا مختصا بالشؤون اليابانية. أما ابنتها الكبرى «كيكو «Keiko من زوجها الياباني الأول «جيرو أوجاتا» Jiro Ogata وكان رجل أعمال، فقد انتحرت في غرفتها التي كانت تستأجرها، بعيدا عنهما كليهما، في مدينة مانشستر، قبل زيارة نيكي تلك بأسابيع، وروت الصحافة الخبر على أنه أمر عادي، وكأن الانتحار من طبيعة اليابانيين.

ويتحرك السرد بحرية في الزمان والمكان، عبر ذاكرة إتسوكو وأحلام يقظتها، وبين ناجازاكي في اليابان وبريطانيا. ويدور السرد في نهاية سبعينيات القرن الماضي، أو بداية ثمانينياته في بريطانيا وهي الفترة التي تشكل فيها وعي «إيش» نفسه. كما تجيء زيارة «نيكي» لأمها عقب انتحار اختها وعدم حضورها لجنازتها، وعلى السطح لا يبدو أن أيا من الأم أو ابنتها مشغولتان بشنق «كيكو» لنفسها في غرفتها، ولكن في عمق الأحداث يظل شبح انتحارها مخيما على كل ما تقولان وتفعلان. أما ماضي الرواية والذي تسرده «إتسوكو» فإنه يرتد بنا، وهو يتناول زواجها الأول وحياتها في ناجازاكي إلى أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وهي الفترة التي عاشت فيها المدينة صدمة الدمار الرهيب الناجم عن الحرب العالمية الثانية والتي انتهت بالقنبلة الذرية الثانية التي أسقطتها الولايات المتحدة عليها. حيث جاءت إتسوكو من ضاحيتها الشرقية، وما أن أفاقت المدينة من زوابع الرماد الذري، حتى هلّ عليها الجنود الأمريكان، وعاشت ما دار أثناء الحرب الكورية 1950-1953 التي انتهت بهزيمة أميركا فيها.

بين هذين الزمنين والمكانين نتعرف على حياة إتسوكو الزوجية المستعادة عبر ذاكرة مراوغة، لا تفصح مباشرة عن الأشياء، وإنما تقدم لنا ندفا كاشفة وموحية منها. وهي حياة تبدو وكأنها تعاني فيها من عسف زوجها القاسي وإهماله لها، دون أن تصرح بذلك، حيث لا يشغله غير عمله وقراءة الصحف وتوقع أن تلبي كل طلباته. ولا يهمه حتى أن يهتم بأبيه «سيجي أوجاتاSeiji Ogata »، أثناء زيارته لهما ذات صيف تستعيده لنا «إيسوكو». وهي الزيارة الأولى له منذ ترك نجازاكي قبل عدة شهور، عقب نشر مقالة عنه؛ كتبها أحد تلاميذه القدامي «شيجيو ماتسودا Shigeo Matsuda» وهو للمفارقة صديق ابنه جيرو، ونشرها في إحدى الصحف يهاجم فيها سلوك الأب المهني أثناء الحرب من منظور ماركسي، ويتهمه بأنه ضلل تلاميذه، وقاد بلده بالتالي إلى الحرب التي انتهت بالهزيمة والدمار. وأنه طرد خمسة مدرسين ممن عارضوا الحرب عام 1938 من المدرسة التي كان يعمل بها، مما أدى إلى تشويه سمعتهم وسجنهم. ويريد الأب أن يرد ابنه على تلك المقالة المشينة دفاعا عن شرف العائلة. لأنه مقتنع أنه قام بواجبه تجاه وطنه على خير وجه، وأنه دافع طوال حياته عن القيم اليابانية الصحيحة.

لكن جيرو غير مشغول بتلك الأمور، ويترك أباه كي يتعامل وحده مع هذه الاتهامات فلا يجد عزاءه إلا في اهتمام «إتسوكو» به، وتوقيرها له حيث تدعوه تحببا بـ«أوجاتا المبجلOgata-San » فهو الذي كان قد اختارها لابنه، وساعدها بعدما فقدت أسرتها في القنبلة الذرية على ما يبدو. والواقع أن أوجاتا المبجل، وهو مدرس متقاعد يمثل الجيل الذي عاش الحرب، ويعتقد أنه قام بواجبه فيها، ويحاول هو الآخر أن يعقلن حياته من خلال استعادته لها، يجسد لنا ما قالته الأكاديمية السويدية في تبرير منحها الجائزة لإيشيجورو «إن رواياته بقوتها الانفعالية الكبيرة تكشف لنا الهوة الكامنة خلف إحساسنا المتوهم بالعالم.»

وليس أوجاتا المبجل وحده هو الذي يتخبط في الهوة الكامنة وراء إحساسه المتوهم بالعالم، ولكن تشاركه فيه بدرجات مختلفة «إيسوكو» التي لا تريد أن تعترف بالهوة الكامنة خلف إحساسها بعالمها ومسؤوليتها عن انتحار ابنتها مباشرة؛ وإنما تقدم لنا إحساسها بالذنب من خلال روايتها لقصة تعرّفها وهي، حامل في ابنتها الأولى، على «ساشيكوSachiko » التي كانت في الثلاثين وقتها، وابنتها «ماريكوMariko » التي كانت في العاشرة، والتي انتقلت من طوكيو هي وابنتها الصغيرة إلى نجازاكي للحياة مع عمها، بعدما فقدت زوجها في الحرب. وقد انعكست معاناة ساشيكو من الفقر والوحدة والحياة في كوخ حقير لا كهرباء فيه على أطراف المدينة المخرّبة، على ابنتها فأهملتها.

وكانت تتركها وحدها لساعات تمضيها في التقرب من «فرانك» الجندي الأمريكي الذي قد يخلّصها من فقرها ومعاناتها ويأخذها معه إلى أمريكا. وما أن وجدت ترحيبا من «إتسوكو» بابنتها، حتى واصلت هذا الإهمال. وهو ما أدى إلى انسحاب ماريكو من العالم وتقوقعها على نفسها أكثر. وإلى هروبها عبر النهر إلى عالم مشحون بالأخطار، في نوع من الرغبة في تدمير الذات، بدلا من الرغبة في تدمير الأم التي تهملها وتسبب جل معاناتها. لأننا نكتشف بالتدريج مدى تعقد العلاقة بين ماريكو وأمها، وهذا التعقيد هو سبيلنا إلى فهم العلاقة الأكثر تعقيدا بين «إتسوكو» وابنتها المنتحرة.

وسرعان ما نكتشف ونحن نفك شفرات سرد «إتسوكو» عن «ساشيكو» وابنتها أننا بحق بإزاء سردها عن نفسها، وعن وعيها بأنها جلبت كيكو إلى بريطانيا، وهي تدرك أن هذه النقلة ليست في مصلحتها، وأنها حنثت بوعدها لها بأنه إن لم يعجبها الأمر في المهجر فستعود بها فورا إلى اليابان، لذلك تعترف قرب نهاية الرواية لنيكي «لقد كنت أعرف طوال الوقت أنها لن تكون سعيدة هنا، ومع هذا فقد قررت المجيء بها إلى هنا» (ص176). وكأننا بإزاء اعتراف مضمر بالقتل. أنها تستخدم لغة تتسم بخداع الذات من أجل حمايتها من الإحساس الياباني العميق بالذنب. إحساس جيل بأكمله تنخره الحيرة مما جرى في الحرب العالمية الثانية، ومن المسؤول عن هزيمة اليابان فيها. وتستخدم كل من إتسوكو وأوجاتا المبجل التبرير العقلاني، والحديث عن الآخرين بدلا من مواجهة النفس، وهما استراتيجيتان للدفاع عن الذات، ونقل مشاعر الإحساس بالذنب إلى العالم الخارجي.

إن ما هو شاحب وباهت في هذه الرواية، ليست التلال البعيدة، التي يشير إليها العنوان، وإنما الماضي الحميم، الذي يوصف أكثر من مرة بأنه كآثار جرح اندمل ولكنه ظل كعلامة حميمة في الجسد نفسه، والذاكرة البعيدة التي لا يفيد التشبث بها بجعلها قادرة على توضيح الأمور، والتصورات الغامضة التي لا يمكن تبين حقيقة دوافعها. حيث تقول لنا «إيسوكو» وهي تتحدث عن علاقتها بزوجها الياباني: «لم يكن أبدا من طبيعة علاقتنا أن نناقش الأمور مباشرة». وليست هذه فيما يبدو من طبيعة اليابانيين. لأن روايات إيشيجورو كما قال هو نفسه في مقابلة معه «ليس همها هو الوقائع الصلبة، وإنما المشاعر المحتدمة، وكيف يستعمل كل منا الذاكرة لأغراضه الخاصة.» فوراء السطح الهادئ للسرد هناك قلق حاد بقدر ما هو خافت هادئ. لأن الرواية في مستوى من مستويات التلقي فيها، وخلف ما يبدو أنه مجرد استقصاء امرأة لماضيها عقب انتحار ابنتها، تقدم لنا حقيقة الدمار الذي عانته مدينة ناجازاكي بعد كارثة القنبلة النووية التي ألقتها عليها أمريكا. وكيف أنه ترك بصمته الدامية على كل من «اتسوكو» و«ساشيكو» وأحالهما إلى امرأتين مارستا أبشع الجرائم دون وعي، وهي جريمة قتل الابنة.

وتتسم روايته الأولى تلك بذلك النفس الخاص الذي ميز كتاباته من البداية، وهو الإيحاء، والمفارقة، والتركيز الذي يبلغ حد التكثيف، والكتابة المليئة بالثقوب الناجمة عن «غربالية» الذاكرة، وهي تسعى إلى استعادة الماضي، وعقلنة الحياة عبره بلا جدوى، لأن الذاكرة بطبعها خؤون. ولكنها مع ذلك مترعة بالعواطف والرؤى النفسية المحتدمة. وهي في الوقت نفسه رواية عن كيفية استخدام البشر لقصص الآخرين للتغطية على قصصهم، أو بالأحرى لفضحها.

ويبدو السيد أوجاتا المبجل، وهو يتخبط في بيت عنكبوت رهيب يحاول فيه عقلنة ما قام به، والتنقيب في طوايا الذاكرة بحثا عن تبرير أخلاقي وعقلاني لحياته التجلي الأول لبطلي عمليه التاليين: الرسام «أونو» في (فنان العالم الشارد/ الهائم) ورئيس الخدم «ستيفن» في (بقايا النهار)؛ لأنهم جميعا شخصيات مولعة بعقلنة أخطائها المهنية الماضية، من خلال آليات دفاعية معقدة يمتزج فيها القهر بالإسقاط بالمعنى الفرويدي، أي اتهام الآخرين بها، بدلا من الاعتراف بالأخطاء الشخصية أو الإخفاقات المهنية في تقدير المواقف تقديرا صحيحا. لذلك فإننا أيضا بإزاء رواية يعد الموت الموضوع الأساسي فيها، الموت الفلسفي والمادي على السواء. لأن دراسة إيشيجورو للفلسفة تركت ميسمها على كل أعماله، وزودتها ببعد عام وراء كل ما هو حميمي وخاص؛ كما هو الحال مع كاتبنا الكبير نجيب محفوظ الذي زودت دراسته للفلسفة واهتمامه بالسياسة أعماله بذلك العمود الفقري القوي الذي يمكنها من الصمود للزمن.

(6) فنان العالم الشارد/ الهائم:
بعد أربعة أعوام من صدور هذه الرواية الأولى صدرت رواية إيشيجورو الثانية (فنان العالم الهائم) فهو كاتب مقل تستغرق كتابة العمل منه وقتا طويلا. وتركز الرواية على بطلها «ماسوجي أونو Masuji Ono» الرسام الذي يعاني من تعثر مسيرته الفنية في نهايات حياته، ويحاول التنقيب في حياته خلال عشرين شهرا تمتد من أكتوبر عام 1948 إلى يونيو 1950، وهي الفترة التي تشكل زمن أحداث الرواية الراهن. ويوشك أونو أن يكون نسخة جديدة من «أوجاتا المبجل» فكلاهما كان رساما ومدرسا للرسم، وكلاهما يعاني من تقدم العمر بعدما فقد زوجته، وكلاهما مؤمن بالأفكار القومية الفاشية اليابانية التي سادت في اليابان قبل هزيمتها العسكرية. كما يعاني كلاهما من تبدل رؤى أبنائهما وأفكارهم السياسية عما اعتقدا هما فيه، وكرسا حياتهما له من أفكار. لكن الفرق الكبير بين الأثنين، أن الرواية الثانية تدخلنا إلى قلب تاريخ اليابان أبان الحرب العالمية الثانية، وإلى أعماق الشخصية اليابانية الأبوية الصارمة، بدلا من رؤية أوجاتا المبجل من خلال منظور زوجة ابنه المدينة له والتي توقره إلى حد كبير.

ومثل الرواية الأولى، تعتمد هذه الرواية أيضا على سرد الراوي/ البطل الرئيسي للنص بضمير المتكلم، وعلى استراتيجيات الماضي المستعاد عبر ذاكرة هي بطبعها خؤون. ومثل «إتسوكو» ينظر «أونو» إلى ماضية بمزيج من الرثاء والحنين والرغبة في تجنب أي مواجهة للحقائق الموجعة، أثناء التنقيب عما جرى من أخطاء. وتدور الرواية في مدينة يابانية صغيرة انتقل إليها أونو عام 1913، وتعلم فيها حرفته، ولمع فيها نجمه حتى وصل إلى قمة تألقه كرسام للإمبراطورية عام 1938، حيث تألقت رسومه الدعائية للحرب، وحازت شهرة كبيرة، وصولا إلى انحدار فنه وسمعته عقب هزيمة اليابان عام 1945. وحينما تبدأ الرواية في اكتوبر عام 1948 يكون أونو قد فقد كلا من زوجته وابنه الوحيد أثناء الحرب، ولم يبق له إلا ابنتاه: الكبري «ستسوكو Setsuko» وهي في أواخر العشرينيات من عمرها، متزوجة ولديها طفل، والصغرى «نوريكو Noriko» وهي في منتصف العشرينيات من عمرها وتعيش مع أبيها. ولن نصل إلى نهاية الشهور العشرين حتى تكون نوريكو قد تزوجت وأصبحت حبلى في انتظار طفلها الأول، وتكون ستسوكو قد أنجبت طفلها الثاني، بينما يتحول تعثر أونو الفني وتحوله إلى رسام متقاعد إلى ما يقرب من العجز الجسدي، بعدما تعرض إلى ذبحة صدرية تركته شبه عاجز.

ونتعرف على أحداث حياة أونو الماضية من خلال استطرادات يعود فيها إلى أمجاد ماضية في اليابان الإمبراطورية، بينما هو مشغول في الحاضر، بالتغلب على العقبات التي تقف في طريق زواج ابنته الصغرى نوريكو، حيث اعترضت أسرة زوجها المرتقب عليه وعلى ماضيه الفاشي، وأنهت الزواج في اللحظة الأخيرة. ومن خلال تلك العودة إلى الماضي نعرف أنه سخّر فنه لخدمة بلده في زمن الدعاية الحربية الإمبراطورية، وتبرير أهداف الإمبراطور في السنوات الممهدة للحرب العالمية الثانية. ونكتشف أيضا أنه مسؤول، وإن بطريقة غير مباشرة، عن موت ابنه «كينجي Kenji» وزوجته «ميشيكو Michiko». لأن «سوشي Suichi» زوج ابنته الكبرى يوحي لنا أكثر من مرة بأن أناسا مثل أونو ساهموا في تضليل البلاد، ودفع شبابها، بمن فيهم ابنه إلى تلك الهجمات اليائسة عبر حقول الألغام، والتي تعد من وجهة نظر الجيل الجديد قمة أعمال تدمير الذات الحربية.

لكن أونو لا يريد الاعتراف بمسؤوليته عن ذلك، ولا عن أن انسحاب أسرة «مياكي Miyake» في اللحظة الأخيرة من الزواج بابنته، له أي علاقه بماضيه. ويبرر ذلك بأنها أسرة معتزة بكرامتها، ولم تقبل أن يتزوج ابنها من أسرة أرقى منه.(ص19) وأن تعثر زواج نوريكو لا علاقه له بسمعته الماضية، وشهرته السابقة التي أصبحت عبئا عليها في الحاضر المغاير كلية لزمن شهرته ونفوذه؛ وإنما لأن الحرب وقعت في الوقت الخطأ، وعرقلت أحداثها زواجها. بل عندما يخبره حفيده بأن أباه أبلغه أنه كان رساما شهيرا، ولكنه توقف لأن اليابان انهزمت في الحرب، ويطلب منه أن يريه رسومه يقول له إنها كلها ملفوفة بعناية في الوقت الراهن، ومحفوظة في مكان بعيد. ولا يستطيع أن يريه إياها، وكأنه يتحدث عن ماضية الملفوف بعناية، والذي يمكن أن يوضع جانبا وفي مكان بعيد.

لكن ابنتيه قلقتان عليه، وتتخوفان من أن إحساسه بالذنب قد يدفعه إلى الانتحار، كنوع من الاعتذار النبيل عن دوره في دفع بلاده إلى حرب خاسرة. فقد قرأتا مؤخرا أنباء قيام أحد أشهر ملحني الأناشيد الامبراطورية الحربية وقتها بالانتحار، لدوره في تعبئة الجماهير للحرب. وتخفف ستسوكو من مخاوفها بالتذرع بأن أباها لا يحق له أن يشعر بالمسؤولية عما جرى في الحرب، لأنه كان مجرد رسام، وعليه ألا يتحمل من هم أهم منه تجاه الماضي. بل إنها تعترف بأن أحد الجيران لا يعرف بأن أباها كانت له أي علاقة بعالم الفن. لكن أونو لا يستطيع أن يتخلى عن التشبث بأهميته الماضية، ولا يفكر في الانتحار، ولا يريد أن يتحول إلى كبش فداء لهزيمة بلاده. لأنه يعتقد أنه «إذا ما دخلت بلادك الحرب، فإن عليك أن تفعل كل ما تستطيع لدعمها، لا عار في ذلك». (ص55) بل إنه شديد النقد لحاضر اليابان الذي يصفه بالأمركة التافهة، التي لا يهمها غير المصالح الذاتية، والتي سممت أفكار الجيل الجديد ورؤاه. لكن خطيب نوريكو يعتقد أن هناك الكثير الذي يستطيع اليابانيون تعلمه من الأمريكيين، فيما يتعلق بالحريات الفردية، والممارسات الديموقراطية.

ومثل «إتسوكو» يسعى أونو إلى تبرير أعماله لا بالحديث المباشر عن ماضيه، وإنما بالحديث عن الآخرين. حيث يمدح «سوجيمورا Sugimura» وهو زعيم محلي لمشروعه الكبير لإصلاح المدينة «إن الرجل الذي يصبو إلى التغلب على العادية والتوسط، وأن يرتفع فوق اليومي والعادي يستحق احترامنا بلا شك، حتى ولو فشل في نهاية الأمر». (ص134) ويعترف أونو: «لا استطيع أن أفهم كيف يمكن لأي شخص يحترم نفسه أن يتجنب طويلا المسؤولية عن أفعال ماضيه. قد لا يكون هذا أمرا يسيرا بالقطع، لكن هناك بالتأكيد متعة الإحساس بالفخر والكرامة التي تنتج عن الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبها المرء في حياته. وعلى أي حال، ليس ثمة عار في الأخطاء التي ارتكبت عن إيمان بما تظن أنه أفضل الأفكار، ولكن العار هو في عدم الرغبة في الاعتراف بالخطأ». (ص124)

لكنه برغم هذا الاعتراف لا يني في عقلنته لماضية أن يسقط في شراك الحنين له، وأن يتعامل بشكل انتقائي مع وقائع ماضيه ذاك عبر مرشح ذاكرة انتقائية تتسم بقدر من خداع النفس والكذب عليها من خلال استراتيجيات الكبح والإسقاط. وهو يتعلل دوما بالذاكرة، ويكرر في أكثر من موقع من الرواية، ربما لا تكون هذه الكلمات هي ما قلتها بالضبط في هذا الموقف! أو لا أتذكر إن كانت هذه كلماتي أم كلمات الآخرين! أو ربما أنني لا أتذكر ما جرى في الأسبوع السابق على ذلك! فنحن هنا بإزاء سرد تريق بعض أجزائه الشك على بعضها الآخر، سرد يعتمد على الذاكرة وهي بطبعها مليئة بالشراك الخادعة التي يمكن التوهان في فيافيها.

وهذا الاستخدام الحاذق للذاكرة الانتقائية ينقلنا إلى تيمة أخرى من ثيمات هذه الرواية المهمة؛ ألا وهي العلاقة بين السلطة والأفراد وخاصة في بلد كاليابان حيث كانت فيه سلطة الإمبراطور مقدسة. لأن أونو يعلل نفسه بأنه لم يكن ممن انصاعوا لمختلف أشكال السلطة دون نقد أو تساؤل. بدءا من سلطة أبيه الذي كان رجل أعمال متسلط عارض اتجاه ابنه لاتخاذ الرسم حرفة له، لأنه كان يربط الفن بالتحلل والفقر وفقدان الإرادة والسيطرة، ويعتبره نقيض التجارة والعمل الجاد. وقد حرق رسوم ابنه كي يثنيه عن مواصلة هذه المهنة، لكن هذه المعارضة هي التي حمّست الابن لرفض مادية الأب الفجة، ودفعته للنجاح في فن الرسم الذي يعشقه.

صحيح أنه بدأ حياته في هذا الفن في محترف أقرب ما يكون إلى الورشة التجارية التي تهتم بالسرعة في الرسم وزيادة الانتاج، ولا تهمها جودته، عندما كان يعمل في ورشة «تاكيدا Takeda». لكن الأمر سرعان ما تغير حينما انتقل إلى فيلا معلمه الحقيقي في مهنة الرسم «الأسطى» «سيجي مورياما Seiji Moriyama» والذي كان يتدرب على يديه، ويلقبه الجميع بـ«موري المبجل Mori-san». وعلى يدي «موري المبجل» الذي تدرب معه لسبع سنوات، يعتبر أنها هي التي صقلت مهاراته الحرفية، تعلم ما هو الفن حقا! الفن الذي يعلو على عادية الحياة اليومية، والرسوم التجارية، الفن الذي يستطيع اقتناص هشاشة أضواء الفوانيس المعلقة على بيوت المتعة، التي يسيل فيها الشراب وتعمرها فتيات الجيشا، والحياة البوهيمية المكرسة للمتعة والجمال. الفن الذي يمسك بجمال لحظة الغروب، ويتجاوز الواقع من أجل اقتناص جماليات العالم الهائم الشارد، الذي منح اسمه لعنوان الرواية، والذي لابد أن يكون هو غاية الفنان.

وقد تمرد أيضا على هذا الأسطى المبجل والذي حرق رسومه هو الآخر لما وجد أنه لا يستجيب فيها لتغيير تقاليد الرسم اليابانية، ولا يتبنى بها نزعات التحديث الغربية التي تهتم بما يمكن دعوته بالفن للفن. وبالتدريج أخذ يعامله كخائن لمدرسته، ويشجع الآخرين على تجنبه وحرق رسومه. هنا تبدأ المرحلة الثالثة في مسيرته كرسام، والتي توشك أن تكون عودة للمرحلة الآلية الأولى، ولكن بمنظور مختلف. لا يهتم بجماليات ما كان يدعوه في جدله مع «موري المبجل» بالمتع العابرة، ولا بالاستغراق في متاهات الفن للفن التي بدأ يراها، بعدما تعرف على السياسي القومي الشوفيني «ماتسودا Matsuda» وعلى جمعيته (الحياة الجديدة)، على أنها ضد الالتزام الوطني. وأصر على أهمية أن يلعب الفنان دورا ملموسا في نهضة بلاده، والتعبير عن طموحاتها العسكرية.

هذا التمرد على معلمه، كما يعلل نفسه الآن، هو الذي أدى إلى تميزه، وتجلل بشهرته الكبيرة إبان الحرب. دون أن يعي المفارقة التي ينطوي عليها الأمر، وكيف أن تمرده المزعوم ذاك، أحاله هو وفنه إلى أداة في خدمة الأهداف الامبراطورية والعسكرية، حيث بلغ قمة سلطته، وأصبح هو «الأسطى» أبان تزعمه لحملة «اليابان الجديدة» وتسخير رسومه للدعاية لها، وللولاء المطلق للإمبراطور، وكرسها لإنتاج الرسوم التي تمجد النزعة العسكرية، وتدعو الشباب إلى حمل السلاح، وتصور اليابان على أنها عملاق وسط مجموعة من العجزة والأقزام، وأن الوقت قد حان لتحتل المكان اللائق بها، ولأن تكون لها امبراطورية لا تقل حجما وأهمية عن امبراطوريات بريطانيا وفرنسا.

ونحن لسنا بإزاء مراحل ثلاثة في تطوره الفني من النزعة التجارية إلى الفن للفن إلى الفن في خدمة سلطة جائرة، وإنما إزاء ذات تسعى لتبرير تاريخها، وقد انصرف عنها ما كانت تتصوره من اهتمام ومكانة. يهمها أن تضخم دورها، حتى ولو شارك في هزيمة اليابان، بدلا من تقبل أنها لم تقم بأي دور. ذات تتخبط، كاليابان نفسها عقب هزيمتها وكارثة إلقاء القنبلة الذرية عليها، في مزيج من الفخر والحنين السري لما أنجزته في تلك الحرب، والإحساس المبهظ بالذنب لما جلبته من دمار. ذات تتخبط في شراك ذاكرة مراوغة، وتعاني من الدوران في دائرة مفرغة. ذاكرة تهتم بتبرير ذاتها بشكل انتقائي، يتذكر معه أونو كيف أنه حينما أصبح هو نفسه معلما مشهورا، فإنه شجع تلميذه «شنتارو Shintaro» على التمرد. ولكنها لا تتذكر جرائمه. وأنه خان تلميذه «كورودا Kuroda» حينما تماهي مع السلطة التي كان يتمرد عليها من قبل، في صورة أبيه ومعلمه الأول، في نوع من تبادل الأماكن بحرق رسومه واتهامه بعدم الوطنية وتسليمه للشرطة.

إن ما تتميز به هذه الرواية هو تلك القدرة الفنية على التغلغل فيما وراء المرئي والمصرح به، والغوص وراء السطح الهادئ إلى أعماق النفس البشرية السحيقة، واصطحاب القارئ إلى نوع جديد من القراءة المستبصرة القادرة على التعرف على المسكوت عنه والمومئ به. إنه سرد يعي أهمية المسكوت عنه في أي بوح بشري، وكيف أنه لا يقل أهمية عن المعلن والمصرح به. يعي أهمية المرايا والحبكات الثانوية، التي لا يقل اهتمامه بها عن الحبكة الرئيسية التي لا تغيب أهميتها عن سرده، وتظل تشد اهتمام القارئ لمتابعة القراءة والكشف عن أسرارها الخبيئة والتي لا يصرح عنها كلية أبدا. وهي فضلا عن ذلك رواية مثقلة بإحساس اليابان بالذنب، ولكنها تعي في الوقت نفسه إحساسها بالكرامة والاعتزاز بقدرتها. وحتى التفاؤل بمستقبلها؛ لأن أونو يبدو أكثر تفاؤلا في نهاية الرواية وهو يؤكد «إن أمتنا، برغم ما قد تكون قد ارتكبته من أخطاء في الماضي، تبدو وكأن لديها فرصة أخرى للتطلع إلى مستقبل أفضل». (ص 206).

(7) بقايا النهار .. رواية المسكوت عنه:
تعد رواية إيشوجورو الثالثة (بقايا النهار The Remains of the Day) 1989 رواية المسكوت عنه بامتياز، بالصورة التي تبدو فيها وكأن خريطة البوح فيها هي نفسها خريطة الممحو أو المسكوت عنه، وكأن كل ما يحدث أو يقال يستهدف رسم معالم ما لم يُقل وما تم كبحه أو التمويه عليه. لأن كل ما يدور فيها سواء من الأحداث أو الذكريات المستعادة مرسوم بعناية تتغيا تجنب ما تخفيه بنية السرد المراوغة والواعية بأن تحتها بنية لا تقل عنها مراوغة هي بنية المسكوت عنه والممحو. بالصورة التي يصعب معها معرفة أي البنيتين هي البنية السردية الأساسية في الرواية، تلك التي تتخلق مما يقوله لنا بطلها جيم ستيفنز Stevens أم التي تتكون مما يسكت عنه أو يخفيه. لأن الرواية تعتمد على آليات الكبح النفسية المعقدة على المستويين الحسي الجنسي، والسياسي على السواء، ناهيك عن مستوى علاقته المعقدة مع زميلته، مدبرة البيت House Keeper، الآنسة كينتون Kenton، التي انجذب إليها وعانى، كما عانت هي، طويلا من كبحه لهذا الانجذاب.

إذ يمكننا الزعم أن لهذه الرواية موضوعين أساسيين: أولها وأكثرهما وضوحا هو كيف نضيع الفرص التي لا تتكرر كثيرا في التعبير عن مشاعرنا، وكيف أن الخوف من التعبير عن المشاعر، أو التوجس من أن يجرح الآخر مشاعرنا، أو يستغل ضعفنا إذا ما عبرنا عنها، يؤدي إلى تضييع فرص لا مجال لاستعادتها أبدا. فالرواية من هذه الناحية رواية عن نكران الذات إلى حد كبح المشاعر، وتفويت الفرصة على النفس، وكيف أن تلك الفرص المبددة لا يمكن استعادتها مهما كانت درجة الندم عليها. أما الموضوع الثاني فهو أن الشخصية الأساسية في الرواية، وهي شخصية كبير الخدم، تقدم لنا استعارة بالغة الدلالة لمدى عجزنا عن التحكم فيما نكرس له حياتنا من مسيرة مهنية. وكيف أن كلا منا يلعب في حياته دورا مماثلا لرئيس الخدم الذي يتفانى في مهنته، ولكنه لا يدرك مدى استغلال إسهامه بشكل طيب، أو إساءة هذا الإسهام. هنا تجيء أهمية «ستيفنز» كاستعارة مهمة لمتغيرات عالمنا المعاصر عن عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية، الذي تدور فيه أهم أحداث الرواية، وأهمية أن يستطيع الإنسان فيه التحكم في مسيرة حياته أو السيطرة عليها مهنيا على الأقل، أو أن يكون له حق الاختيار في كيف يُستخدم إسهامه فيها بشكل حر ومفتوح وبه قدر من الشفافية.

وتستخدم الرواية ضمير، المتكلم كالروايتين السابقتين، حيث يرويها البطل الرئيسي، ستيفنز، طوال أيام رحلة قصيرة لا تستغرق أكثر من ستة أيام في ربوع مناطق الريف الانجليزي الساحرة في جنوب غرب انجلترا، يستعيد فيها جل ما دار في حياته. وهي رواية رحلة بالمعنى الأشمل لهذا المصطلح. حيث أنها رحلة فعلية في ربوع الريف الغربي ببريطانيا، أو ما يسمى ببلد الغرب West Country وهي أكثر مناطق انجلترا ثراءا وجمالا، من حيث طبيعتها الخلابة التي استهوت كتاب الرواية الرومانسية مثل توماس هاردي. وهي رحلة تتسم بطبيعة دائرية في الزمن والجغرافيا على السواء، لأنها تنتهي بالعودة إلى المكان الذي بدأت منه، أو بالأحرى إلى الموقع النفسي والعقلي الذي انطلقت منه.

بل إن عناوين النص الداخلية تتصل بأيام هذه الرحلة الست، والأماكن التي زارها في كل منها، وهي أماكن إذا ما تتبعناها على الخريطة، بمنطق أطلس الرواية الانجليزية الذي بلوره فرانكو موريتي، سنكتشف دائريتها المراوغة في الجغرافيا. وهي في الوقت نفسه رحلة في الحفر في أغوار النفس البشرية عامة، وفي أغوار بطلها وشخصيتها الرئيسية خاصة، وكل من عاش معهم أو اتصل بهم، من الأب إلى الزميلة إلى الحبيبة، إلى سيد القصر الذي كرس كل حياته لخدمته. ولأنها ليست رحلة خطية من المنطلق حتى الهدف، ولكنها رحلة عودة أيضا إلى الماضي وإلى المكان نفسه، لذلك فهي تدور بين زمنين أيضا يفصل بينهما أكثر من عشرين عاما: هي الفاصل بين الزمن الذي عملت فيه معه الآنسة كينتون (1922-1933) وخمسينيات القرن الماضي التي هي حاضر الرواية.

لذلك فإنها تعتمد، كالروايتين السابقتين، على استراتيجيات الاستعادة السردية، وعلى انتقاءات الذاكرة، وهي بطبعها مراوغة وخؤون. وعلى الحركة الحرة في الزمن. وتبدأ الرواية في شهر يوليو عام 1956، أي قبل شهور قليلة مما يعرف في بريطانيا بـ«حرب السويس»، أو ما نعرفه نحن باسم العدوان الثلاثي على مصر، والذي أعقب تأميم قناة السويس، وتأسست نتيجة لمقاومته سمعة عبدالناصر العربية الواسعة. لأن هذا العام عام محوري بحق في تاريخ بريطانيا، فهو عام بداية النهاية بالنسبة لامبراطوريتها وصعود الولايات المتحدة الأمريكية. وليس من المصادفة أن تبدأ الرواية بهذا الصعود الأميركي قبيل تحققه بشهور، حيث تبدأ بشراء الأميركي، السيد «فرادي Farraday»، لقصر دارلنجتون Darlington Hall الذي ظلّ ملكية خالصة لعائلة دارلنجتون طوال قرنين من الزمان، ربما هي عمر الامبراطورية البريطانية نفسها. أو بالأحرى عمر صعود وريثتها الأمريكية وخاصة بعدما خسرتها بريطانيا في حرب التحرير الأمريكية.

تبدأ الرواية بأن يطلب السيد الأميركي الجديد لقصر دارلنجتون من ستيفنز، كبير الخدم، وهي مهنة مهمة لها تقاليدها الراسخة في البيوتات الأرستوقراطية العريقة، أن يتعلم كيف يدير القصر بأربعة موظفين فقط، نفس القصر الذي أداره ستيفنز من قبل بفريق عمل من الخدم والطباخين والسفرجية مكون من 17 شخصا يعملون جميعا بتناسق تام تحت إمرته، وفي أيام عزّ القصر وازدهاره (وهي السنوات العشر الممتدة من العشرينات وحتى الثلاثينات) وصل هذا الفريق إلى 28 شخصا. لكن السيد الأميركي الجديد، فنحن هنا بإزاء الفرق بين عصرين ومنهجين، يرى أن وضعه الحالي، بعد تدهوره عقب موت اللورد دارلنجتون، واختفاء سيل الزوار والمترددين عليه، واستقالة عدد من العاملين به بسبب التقشف، ووصول عدد الخدم تحت إمرته إلى أربعة فقط، هو الوضع الذي يجب أن يستمر عليه، الحال فيه. على أن يوظف للخدمة المؤقتة بعض المساعدين حينما يستضيف مالكه الجديد فيه زوارا كثيرين. خاصة وأنه سيمضي وقته بداءة بين الحياة في القصر والحياة في الولايات المتحدة. وكأن القصر، وهو استعارة لبريطانيا نفسها، وقد آلت ملكيته إلى الأمريكي، يجب أن يظل في حالة العز القديم الذي ذوى، ولم تبق منه إلا آثاره القديمة.

ويطلب منه السيد الجديد طلبا استغربه ستيفنز في بداية الأمر، ولم يواجهه أبدا في حياته المهنية الطويلة التي استمرت لأربعة عقود، لكنه سرعان ما استحسنه بعد طول تفكير؛ يطلب منه أن يأخذ إجازة من العمل يرفّه فيها عن نفسه؛ لأنه سيغيب عن القصر بالولايات المتحدة طوال الشهرين القادمين: أغسطس وسبتمبر. وأنه لا يتوقع أن يظل حبيسا في القصر طوال تلك المدة؛ فالأفضل له أن يروّح عن نفسه بأن يشاهد المنطقة القريبة وهي من أجمل مناطق انجلترا الطبيعية. وقد فكر ستيفينز بأن يرد عليه بأنه شاهد أفضل ما في انجلترا دوما دون مبارحة مكانه في القصر، من موقعه ككبير للخدم، حيث تردد على القصر أفضل ما فيها من رجال ونساء، على مر الأعوام لكنه لم يفعل. وقد سمح له السيد الجديد بأخذ سيارته واستخدامها في تلك الإجازة، ووعد بأن يدفع تكاليف البنزين أيضا.

هكذا يبدأ البطل الراوي في مواجهة نفسه وحياته الماضية، حيث يقدم لنا فصلها الاستهلالي حيرة ستيفنز في تقرير نوع الملابس الملائمة لمثل هذه الرحلة، مع أن لديه الكثير من الملابس الفاخرة التي آلت له من سيده القديم ومن بعض زواره. وهي حيرة تكشف عن حيرة أعمق بين ذاته العملية/ المهنية، وذاته الفردية التي يتخوف من مواجهتها، أو بالأحرى مواجهة العالم بها. لذلك فإن عودة الرواية في النهاية إلى مسألة الملابس تلك، في نوع من البنية الدائرية، التي يرتد فيها إلى لحظة البداية، وقد قرر ألا يخلع ملابس رئيس الخدم أبدا، هي نوع من الإخفاق في مواجهة النفس والعالم معا، والتخفي وراء حجاب الدماثة والتقاليد الانجليزية العريقة.

والواقع أن هذه الحيرة تمتد إلى الرحلة أيضا التي حاول أن يجد لها هدفا، وهو زيارة زميلته القديمة، الأنسة كينتون، وإن تغير اسمها الآن إلى «السيدة بن Mrs Benn» فربما تقبل العودة إلى عملها القديم، كمدبرة للبيت، والذي تركته قبل أكثر من عشرين عاما. وبعد أن عملا معا لما يزيد على عشر سنوات. فقد التحقت كينتون بالعمل معه في قصر دارلنجتون عام 1922، وهو نفس العام الذي التحق فيه أبوه بالعمل معه هو الآخر، وتحت أمرته ككبير للخدم. وغادرت العمل في الثلاثينيات كي تتزوج وهو الأمر الذي استهجنه فيمن يعملون معه، ولا يكرسون حياتهم كلية للخدمة في تلك البيوتات الارستوقراطية العريقة. حيث ينتقد أكثر من مرة من يلتحقون بالعمل تحت إمرته، من أجل البحث عن علاقات غرامية فيه تنتهي بالزواج، كما حدث مع معاونة في المطبخ وأحد مساعدي السفرجية، ووقوعهما في الحب وتركهما معا للعمل من أجل الزواج والحياة في قبضة الفقر والمسغبة.

ولكن تعلل ستيفينز بأنه قد يقنع الآنسة كينتون/ السيدة بن بالعودة للعمل، هو محض وهم من أوهامه الكثيرة التي سنتعرف عليها طوال الرحلة، وكلما غُصنا معه أكثر في الرحلة الأهم في مسيرة حياته الشخصية والمهنية على السواء؛ وهي الرحلة الإدراكية والنفسية التي سترهف وعيه بنفسه وبالعالم من حوله، بعدما ظل حبيسا في عالم قصر دارلنجتون الرحب والضيق معا. لأنه ما أن يبدأ في هذه الرحلة، ويواجه العالم الذي ظل لعقود بعيدا عنه، عالم الواقع اليومي لغيره من بني وطنه، حتى تبدأ كثير من قناعاته وتصوراته في التزعزع. وحتى يدرك بالتدريج أنه أمضى حياته في خدمة لورد كان ألعوبة في أيدي هتلر والنازية.

حيث نتعرف من خلال استرجاعاته للماضي على أن العلاقة بين اللورد دارلنجتون، والارستوقراطية الألمانية تعود إلى سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى، وعلاقته القوية مع/ أو وقوعه في غواية الانجذاب الإيروتيكي إلى/ الأرستوقراطي الألماني «هير بيرمان Herr Bremann» الذي زار قصر دارلنجتون لأول مرة عقب الحرب وهو لايزال في الزي العسكري، ثم تتابعت زياراته على فترات منتظمة، وتوطدت علاقته مع اللورد دارلنجتون، حتى أخذ الأخير يتردد بدوره على برلين في أواخر العشرينيات. ثم توطدت علاقات اللورد الألمانية بعد صعود هتلر، واستخدام قصره في استضافة الكثير من المحادثات السرية التي تستهدف تكريس دور هتلر الأوروبي ومهادنته.

فالرواية تتحرك بين واقع بداية نهاية الإمبراطورية قبيل حرب السويس، وبين مرحلة الثلاثينيات وغواية مهادنة هتلر إبان فترة صعوده، وكيف أن اللورد دارلنجتون كان عنصرا فاعلا في هذه المهادنة. والغريب أن ستيفنز لا يتماهى مع أبيه المنحدر من الطبقة الدنيا، بقدر تماهيه مع سيده الارستوقراطي اللورد دارلينجتون. حيث تقيم الرواية تقابلا واضحا بين الرجلين، وهو تقابل يحسم فيه ستيفنز اختياره لصالح اللورد على حساب أبيه. فعلاقته بأبيه الطبيعي الذي كان أيضا ساقيا وكبيرا للخدم مثله، تتحول من علاقة ابن إلى علاقة رئيس له في العمل. حينما يوظف أبيه بعدما تقدم به العمر ساقيا تحت إمرته في القصر عام 1922، وهي سنة وصول الآنسة كينتون للعمل في قصر دارلنجتون. لكن الأب سرعان ما يتعثر في العمل، ويسقط، فلا يرحمه ابنه، وتتحول سقطة الأب الفعلية إلى سقطة الرمزية معا، حيث ينحدر بعدها من سفرجي إلى خادم تنظيف، ثم موته في الليلة الكبيرة، ليلة الاجتماع الدولي الكبير في قصر اللورد دارلنجتون، والذي تم في سرية بين الألمان والفرنسيين والأمريكان والانجليز بالطبع.

فلا يأبه ستيفنز حتى بالتعريج على الغرفة التي مات فيها أبوه كي يغلق عينيه، ويترك الأمر للآنسة كينتون؛ لأنه مشغول إلى أقصى حد بألّا تحدث أيّ هفوة أثناء هذا الاجتماع الكبير، وبالسهر على احتياجات المشاركين فيه. وهو الاجتماع الذي يبدو بكل ما أحيط به من السرية، وما دار فيه من نقاش، وكأنه ذروة تحققه المهني، وما حققه فيه ليلتها من إحساس كبير بالفخر والانتصار ككبير للخدم. (ص110) وهذه المقابلة التي تختار الرواية أن تجريها بين الحدثين، مقابلة دالة على خيارات ستيفنز التي وضعت واجبه المهني، فوق أي من التزاماته الأسرية جاه أبيه، أو حتى الشخصية، تجاه نفسه كما سنعرف فيما بعد. بالصورة التي ينحاز فيها إلى أبيه الرمزي/ الطبقي اللورد دارلنجتون سيد قصر دارلنجتون Darlington Hall الذي يعمل كبيرا للخدم فيه.

وإذا كان ستيفنز قد أخطأ في اختيار الانحياز إلى أبيه الرمزي الذي يبدو الآن عبئا سياسيا عليه، ولهذا ينكر معرفته به أمام الغرباء أثناء رحلته، بسبب مسيرة بريطانيا بعد ذلك في الحرب العالمية الثانية، وندمها على أي من محاولاتها السابقة لمهادنة هتلر، وفقدانها لآلاف من مواطنيها في الحرب ضده؛ فإنه أخطا أيضا في كبت مشاعره العاطفية، ودفن ميوله الشخصية تجاه الآنسة كينتون أثناء فترة عملهما معا. ومع أن كينتون وقفت بجانبه عاطفيا أثناء موت أبيه، فإنه حتى لم يستطع أن يفعل معها الشيء نفسه حينما ماتت خالتها، التي كانت للعديد من الأسباب بمثابة الأم الحقيقية لها (ص176). وبدلا من مواساتها والحدب عليها في تلك اللحظة الحرجة، كما فكر أن يفعل، ينسحب من الموقف دون كلمة عزاء، متذرعا بتجنب التدخل في أحزانها الخاصة.

ويبلغ خطأه تجاهها ذروته حينما تقدم لها في إحدى إجازاتها القصيرة خطيب، لم تكن تحبه، وهو الأمر الذي تركها في حيرة، وكانت في حاجة إلى أقل كلمة أو إشارة من ستيفنز لترفضه، ولكنه لم يفعل أيضا. وظل يحافظ على قناع العلاقة المهنية الصرفة معها طوال الوقت إلى حد أنه لم يدعُها أبدا باسمها الأول، وظلت دائما الآنسة كينتون، وهي الطريقة الانجليزية للاحتفاظ بالمسافة الفاصلة والتراتب بين البشر ووضع كل منهم في مكانه. هل كان ستيفنز يحرص على اتساق مواقفه، ويرفض الاعتراف بمشاعره لأنه ينتقد الذين يقيمون علاقات عاطفية أثناء العمل؟ كما رأينا من موقفه الناقم على من فعل ذلك بين فريق الخدم تحت إمرته! أم أنه يتسم بقدر من العمى النفسي، وعدم القدرة على/ أو التخوف من/ سبر أغوار نفسه الحقيقية؟ يبدو الأمر أقرب إلى الإجابة بنعم على السؤال الثاني. لأن الرواية، وقد بدأت بصدمته إزاء مزاح السيد الجديد بأن له صديقة، أو علاقة عاطفية مع الآنسة كينتون، بدلا من الاقتناع بأن غايته من لقائها في الرحلة، مهنية محضة، تستخدم في أكثر من مناسبة توشح طريقه في الرحلة بالضباب. (ص 117، 151، 160)

وهو هنا ضباب فعلي ومعنوي على السواء، لأنه اللقاء نفسه معها في هذه الرحلة، وقد كانت قد انفصلت عن زوجها، لم تتغير فيه قدرته على مواجهة نفسه بحقائق ما جرى، ولا على قسرها على التصريح بخطأ التخلي عنها. مما دفعها في نهاية هذا اللقاء لأن تقرر أن عليها العودة لزوجها فهو أكثر البشر حاجة إليها، ناهيك عن أن سماعها منه قبل التقائها بستيفنز أن ابنتهما حامل في أول حفيد لهما، قد ساهما في أن تحسم أمرها، وألا تستجيب لدعوة ستيفنز للعودة معه للعمل من جديد في قصر دالنجتون. ويظل ستيفنز في نهاية هذا اللقاء الذي اختارت الرواية أن تجريه في ليلة مطيرة، غارقا في أمطاره، لا يستطيع حقا الاعتراف بأخطائه أو بالأحرى مواجهة نفسه على حقيقتها. فالروية تستخدم معه طوال الوقت الإفضاءات المبتورة، والتعلل بعدم التذكر بوضوح، كي تزيد من ضبابية موقفه.

إن آليات التذكر المراوغة عنده مصدرها آليات الكبت بالمعنى الفرويدي الدقيق لذلك المصطلح، والذي ينطوي على دفن الوقائع القديمة في الذاكرة، ومقاومة إي استدعاء لها، وإبعادها كلية عن منطقة الوعي. وهو يمارس هنا الكبت الجنسي لمشاعره تجاه الآنسة كينتون، بنفس الدرجة التي يمارس بها الكبت السياسي بتماهيه مع آراء سيده اللورد دارلنجتون، والذي يعد أيضا أبا استعاريا له، يعاني على الطريقة الفرويدية أيضا من الإخفاق في قتله، وأقصى ما فعله في رحلته هو إنكار معرفته به. ويسعى دوما لنسيان كل ما سمعه عنه من أن الحزب النازي يتلاعب به .. وأنه أكثر أفراد الارستوقراطية الانجليزية فائدة لهتلر وحيله الدعائية الفجة، كما أنه يعلل نفسه بأن ليس عليه، وفقا لأعراف مهنته وتقاليدها، أن يعرف ما يدور بين اللورد وبين زواره الألمان الكثيرين. (ص222، و225)

فالرواية كلها مكتوبة بلغة خداع الذات، اللغة التي تخفي المعنى أكثر مما تعبر عنه. فحينما يخبرنا أن حياة اللورد دارلنجتون قد تبدو اليوم في أحسن الظروف وكأنها قد بُددت بشكل محزن وفي القضايا الخاسرة، (ص201) فإنه بشكل أو بآخر يتحدث عن نفسه. وهذا يتكرر أيضا حينما يحدثنا عن أن حياة كينتون قد سيطر عليها هي الأخرى الخراب والضياع (ص48)، فإنه يحدثنا أيضا عن نفسه، أكثر مما يحدثنا عنها. فهو يستخدم في استدعاءاته للماضي ما يمكن دعوته بتلوين الذاكرة بأثر رجعي، وإضفاء هالة من رواء الحنين عليها. لأن الكبت الذي يتخفى وراء قناع الالتزام بالمهنية إلى أقصى حد، هو ما تتوشح به الحياة التي عاشها في العقود الثلاثة من العشرينيات وحتى بدايات الخمسينيات، أيّ الأعوام الفاصلة بين زمني الرواية: زمن شبابه وعزّ قصر دارلنجتون الماضي، حيث كان موقع الاتصالات السياسية والدبلوماسية السرية المهمة في تاريخ بريطانيا، وزمن كهولته وحاضر القصر الجديد بمالكه الأمريكي الذي لا يعرف رئيس الخدم المتمرس القديم كيف يتعامل مع مزاحه الأمريكي الغريب. لكنه الانهيار الذي تعاني منه انجلترا منذ أمد طويل.

(7) عودة إلى اللقاء الشخصي ببودابست:
بعد أن صحبت القارئ في عالم روايات إيشيجورو الثلاثة الأولى التي صدرت قبل لقائي به، كي يتعرف على مصادر تنظيري لكتابة الذات الفاقدة لمركزيتها، والتي وسمت الشخصيات الأساسية في كلا الروايتين الأولاتين، ثم أسفرت عن نفسها بوضوح في الرواية الثالثة رغم دورانها في سياق ثقافة واحدة على العكس من الرواية الأولى. أعود إلى طرحي لتلك القراءة عليه، وكيف أنه وخاصة في روايته الثانية رد بشكل غير مباشر على الذين يعتقدون أن اليابان لم تعترف بأخطائها عما ارتكبته أثناء الحرب العالمية الثانية، لأن الخطأ الأكبر الذي ارتكبته أمريكا في حقها بإلقائها القنبلتين الذريتين عليها، كان أكبر من كل الجرائم التي ارتكبت في تلك الحرب. وأن كتابته هذا كله بلغة أخرى هي لغته، وعن ثقافة مغايرة لثقافة هذه اللغة هي أيضا ثقافته، يضعه في مركز كتابة الذات الفاقدة لمركزيتها.

وقد شاقته هذه القراءة. وليس ثمة ما يرسخ بدايات أي علاقة مع كاتب أكثر من أن تكون قد قرأت لها شيئا، وأن تناقشه في قراءة لأعماله لم يتعرف على مثلها من قبل. وكانت هذه البداية مدعاة لأكثر من حديث طويل أثناء التنقلات العديدة بين المواقع التي كانت تحدث في حافلة أعدها المنظمون للمشاركين، أو في فترات ما بعد الغذاء وقبيل الجلسات أو بينها. وقد اكتشفت في هذه النقاشات أن «إيش» من الكتاب القليلين الذين يستطيعون الحديث بذكاء ونفاذ بصيرة عن أعمالهم. وأنه قد قرأ قراءات واسعة في مختلف الآداب العالمية، وكانت تشوقه قراءة ما يستحق القراءة من الأدب العربي الحديث الذي رشحت له عددا من نصوصه المضيئة والمتاحة في ترجمات انجليزية جيدة، وهي قليلة.

وما دعم هذه البداية الطيبة أن زوجته، لورنا ماكدوجل، والتي رافقته في تلك الرحلة كانت أخصائية اجتماعية، فلما أخبرتها أنني بدأت حياتي العملية أخصائيا اجتماعيا، ورأست وحدة اجتماعية في إحدى قرى الدلتا المصرية لثلاث سنوات، شاقتها التجربة، وطلبت مني المزيد من المعلومات حولها، والحديث عما تقدمه الخدمة الاجتماعية في مجتمع يعاني من الفقر وافتقاد أساسيات الحياة البسيطة، كما هو الحال في ريف مصر. المهم أنه بدأ بيننا ما يمكن تسميته ببدايات صداقة مبشرة، توطدت أثناء الرحلة بحديثي أكثر من مرة مع «إيش» وهو الاسم الذي يناديه به أصدقاؤه، عن روايتيه. وسره كثيرا وقتها أنني ربطت من خلال ذلك الطرح النظري للكتابة الفاقدة للمركزية بين السيد «أوجاتا المبجل» حمو بطلة الرواية الأولى، وهو يتخبط في بيت عنكبوت رهيب يحاول فيه عقلنة ما قام به إبان الحرب العالمية الثانية، والتنقيب في طوايا الذاكرة بحثا عن تبرير أخلاقي وعقلاني لحياته، وبين الرسام «أونو» بطل روايته الثانية في تخبطه في مواجهة أسرار ماضيه المرتبكة.

لكن دعني أعود إلى مواصلة الحديث عن الجانب الإنساني لهذا الكاتب الجميل الذي يصفه أحد أقرب أصدقائه إليه بأنه من هذا النوع النادر من الكتاب والفنانين: «فنان بلا ذات متضخمة An artist without Ego»، كما يقول صديقه لأربعين عاما الناقد روبرت ماكروم Robert MaCrum. وهو ما يستدعي العودة إلى أجندة هذا المؤتمر المضمرة. فعندما أخفق المؤتمر في تحقيق التطبيع بين العرب والكتاب الصهاينة في الجلسات المفتوحة، باستثناء كاتب واحد كان يسعى وقتها لنوبل، لم ييأس اللورد فايدينفيلد من تحقيق أجندته الصهيونية التي أصبحت الآن علنية، ولم تعد مضمرة بعد كل الاحتجاجات التي عبر عنها الصهاينة الأمريكيين خاصة.

وقرر أن يحققها بطريقة مغايرة؛ وذلك من خلال استخدام منظمي المؤتمر والمشرفين على تفاصيله الإجرائية، أو ما ندعوه باللجنة التنظيمية/ الإجرائية التي كان يرأسها فيما يبدو. وطلب منها وهي تنظم جلوس المشاركين على موائد العشاء، إجلاس كل كاتب عربي بجوار كاتب من دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين. ذلك لأن موائد العشاء كانت تخضع لتنظيم دقيق، وكان العشاء فيها بأطباقه المتتابعة يستمر لساعتين أو أكثر. فما أن ننزل من الحافلة وندخل قاعة العشاء التي كانت تتبدل كل مساء، حتى نجد أن الموائد مجهزة، وأن مكان كل شخص محدد سلفا بمائدة معينة، واسمه في بطاقة توضح مكان جلوسه عليها، وبالتالي تحدد من يجلس عن يمينه، ومن يجلس عن يساره، أو بالأحرى مع من يدير حديثه طوال العشاء، وسهرته الممتدة في مثل تلك المناسبات.

وحينما وجدت أنهم أجلسوني بجوار واحد من هؤلاء، في العشاء التالي مباشرة للجلسة التي قاطعناها، طلبت من «إيش» و«لورنا» أن أبدل مكاني مع أي منهما، وهو الأمر الذي تفهماه بسهولة، وأنجزاه على الفور. فقد كنت قد حدثتهما عن خلفية موقف الكتاب العرب من عملية التطبيع، ورفض الأغلبية العظمى منهم، والكتاب المصريين خاصة، لاتفاقية السلام الجائرة التي عقدها السادات مع العدو الصهيوني. وهي الاتفاقية التي جرت الهوان والتردي على مصر والعالم العربي من ورائها. وهو الأمر الذي سرعان ما جذب انتباههما وانتباه كثير من المشاركين في المؤتمر، حينما طرح الوفد العربي موضوع إضافة الانتفاضة للبيان الذي تزعم الوفد الأمريكي أن يصدر عن المؤتمر لإدانة الصين، وكيف عارضت سوزان سونتاج بشراسة ومعها الوفد الأمريكي وغيره من الوفود وعلى رأسها بالطبع وفد دولة الاستيطان الصهيوني، إضافة أي إشادة بالانتفاضة الفلسطينية التي يقاوم فيها الأطفال العزل، وبالحجارة، الاحتلال؛ ناهيك عن إدانة دولة الاستيطان الصهيوني على ممارستها البربرية ضدهم. ولا زلت أذكر حتى اليوم بشيء من الامتنان، والإحساس بـأهمية الاعتصام الإنساني بالموقف الأخلاقي الأعلى، أن «لورنا» بادرت في العشاء التالي بتغيير مكان البطاقة بنفسها، حينما اكتشفت قبلي أنهم فعلوا نفس الشيء في اليوم التالي.

هذا جانب آخر من جوانب هذا المبدع والإنسان الرائع الذي أسعدني فوزه بالجائزة. لإننا بإزاء كاتب ذو حس إنساني مرهف، لا يقبل ممارسة هذا القهر المراوغ لزميل تعرف بالكاد عليه، وهو يري أنهم يريدون أن يفرضوا عليه ما لا يريده، وأن يسيئوا استخدام الدماثة التي يتحلى بها الكتّاب عادة، لتمرير أجندات سياسية مرفوضة، أقر هو بعدالتها ومشروعيتها من خلال نقاشاتنا معا، ولا يستطيع أن يتجاوز عن حقه في ممارسة الرفض لما أرادوا فرضه عليه. وسوف تكون هذه المواجهة بداية لكسب هذا الكاتب لقضايانا العادلة التي بدأ منذ ذلك التاريخ وعيه بها، وحرصه على اتخاذ مواقف عادلة تجاهها.

.

هوامش:

استخدمت في هذه المقالة طبعات روايات إيشيجورو الانجليزية الآتية:

  1. A Pale View of Hills (London, Faber and Faber, 1982)
  2. An Artist of the Floating World (London, Faber and Faber, 1986)
  3. The Remains of the Day (London, Faber and Faber, 1989)