يكتب الناقد أن الكتاب ينقسم إلى اثنتي عشرة مغناةً، تتناثر على صفحات الكتاب كموتيفات مشرقة، تضيء باطن هذا النشيد الطويل والعميق، ليجلي بصفائه رؤى بابلو نيرودا الذي استبطن الوقائع والحوادث والمَشاهد العينيَّة، ليجسِّدها في إرهاصات عالية الوتيرة، وبنبرة متوهجة تحمل موسيقاها الواضحة في طيات النص

إضاءات بابلو نيرودا في مرتفعات ماتشو بيتشو

هاشم شفيق

الشعراء العظام والنادرون، ممن حملوا موهبة كبرى، تبقى تظهر بعد غيابهم وانتقالهم إلى حياة أخرى، أعمالهم في طبعات عدَّة، وكتب نقدية ونظرية تتناول تجربتهم، وكتب سِيَرٍ ذاتية تبحر في أعماق حياتهم، كاشفة عن الجديد والمضمر والمُلغَّز في تجاربهم الإبداعية، وهنا إذا كان الشاعر يحمل صفة العالمية، فلسوف يُترجم إلى أكثر من لغة، ترجمات متنوعة ومختلفة. ثمة كتب وبيوغرافيات تظل تتكشَّف وتصدر هنا وهناك، لتواكب حياة هذا الشاعر الخالد، لكي تستمر حياته الجمالية والافتراضية بعد رحيله عن دنيانا. ومن بين هذه العبقريات القليلة، يبرز دائما اسم الشاعر التشيلي بابلو نيرودا، فثمة وعلى مدار عقود بعد الرحيل الغامض له، دراسات وترجمات وبحوث وتعليقات، آخرها كان خبر يتناول سبب موته المفاجئ، بعد الانقلاب الفاشي على الرئيس المنتخب ديمقراطياً، سلفادور الليندي، الذي كان الصديق الأقرب للراحل الكبير نيرودا. كشف الخبر حقيقة إقدام السلطات الانقلابية في تشيلي على حقن الشاعر بإبرة قاتلة، بُعَيد الانقلاب الدموي بأيام قليلة.
ينتمي نيرودا إلى الشعراء الغزيرين إبداعياً، في نتاجهم الشعري، وهو شاعر نضال وموقف إنساني عام، وصاحب رؤيا وخيال واسع، ولذا تميَّزتْ تجربته الشعرية بالانتساب إلى العالم. شعره محمول على موجة واقعية، ذات مزيج سريالي وفنتازي وسحري، يغتذي من مفردات وعناصر ورموز الطبيعة والكون وفضاء الحسيِّات، من هنا تعدَّدتْ مواضيعه الجوهرية، وصُقلت تحت ضوء توهُّج الشاعر الجامح، الممتد في كل تفصيل صغير وحيوي وحسِّي، فضلاً عن ذلك فهو شاعر حب، وتُرجمتْ له في هذا المجال قصائد كثيرة إلى العربية، إذ ترجمها أكثر من واحد، ومن هنا أيضاً غزارته، وتعدُّده وتوغُّله في الثنايا الدقيقة لنسيج الحياة عامةً. وهو بغزارته هذه، يُشبه إلى حد ما الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس الذي لا يُجارى في الغزارة الشعرية، وأيضا يشبه في تولهه وشغفه بالمرأة، الشاعرين الفرنسيين لويس أراغون وبول إيلوار، وبالعربية نزار قباني.
وأذكر في هذا الصدد من الترجمات القديمة لبعض شعر نيرودا، ترجمة اللبناني ميشال سليمان. ولعلَّ أهم ما أثار ولعنا بنيرودا ونحن شبان في نهاية عقد السبعينيات المنصرم، هو مذكراته الساحرة والأخاذة والباعثة على الإدهاش، ولذا جاء حفظنا لأغلب تفاصيلها وحوادثها ووقائعها ومجرياتها الشعرية، تلك التي اعتمدت السرد الموحي، المتوَّج بعناصر الشغف والتشويق، وهو يسرد حكاياته وسيرته البهيجة في تشيلي، وفي العالم الذي جابه، وطاف فيه وعرفه واستكشفه، فهو الدبلوماسي والشاعر والكاتب الذي حلّ في أكثر من حاضرة أوروبية، وأمريكية لاتينية، فعاش تفاصيل تلك العوالم الفاتنة، والساخرة، والمحزنة كذلك في بعض مناحيها، ومن هنا تسميتها، أي تلك المذكرات بـ «أشهد أني قد عشت» وكانت بترجمة ناجحة من الكاتب محمود صبح، وقد صدرت في بيروت حينذاك .
لقد تُرجم إلى العربية كاملاً، كل من الشعراء العالميين بول إيلوار، رامبو، بونفوا، بودلير، برنارد نويل، كافافي، توماس ترانسترومر، والت وايتمان، ولكن نيرودا ظل في منأى عن ذلك، ربما لدواع كثيرة، لعلّ أبرزها هو تعدد إنتاجه الشعري الذي يحتاج إلى أديب عربي متبحِّر في الإسبانية، لكي يقدِّمه كلَّه بحلة عربية .
كان الدافع لسرد كل ما سبق، هو الترجمة الجديدة من قصيدة طويلة تقع في نشيد ايقاعي بوليفوني، مرهف وسائغ وجذاب لـ «مرتفعات ماتشو بيتشو» من لدنِّ المترجمة سحر أحمد .
من النادر أن تجد ترجمة تشدك إليها، منذ المقطع الأول، لتدعوك إلى هذه الوليمة الجمالية، من الصور والمعاني والكلمات الصاعقة والمحتدمة في هذه البالاد، وهذا الميلودي المتصاعد في الأعماق: «ريح لريح، هواء في شِباك، حمل الخريف نقوده المتناثرة من أوراق الشجر» المغناة الأولى.
ينقسم الكتاب إلى اثنتي عشرة مغناةً، تتناثر على صفحات الكتاب كموتيفات مشرقة، تضيء باطن هذا النشيد الطويل والعميق، ليجلي بصفائه رؤى بابلو نيرودا الذي استبطن الوقائع والحوادث والمَشاهد العينيَّة، ليجسِّدها في إرهاصات عالية الوتيرة، وبنبرة متوهجة تحمل موسيقاها الواضحة في طيات النص، ككورال أممي، يوآخي بين الطير والبشر، بين الشموس ووسن فتاة حالمة، بين الريح والخريف والعصف، وبين الحب الحارق والدامع والمتوهج:
«دفنت وجهي في الأمواج العميقة،
ركضتُ قطرة ماء في الكبريت المسالم،
وكالأعمى عدتُ إلى ياسمين ربيع الإنسانية المضنى» المغناة الأولى.
لعل مماهاة وذوبان هواجس وشعر نيرودا، مع الكائنات والموجودات والحيوات، ومزجها على نحو خيميائي وسحري مع الحياة الإنسانية، هو ما يمنحها حقلاً من الدوال السيميائية، فتظهر الدلالة تحمل سرّ وهجها وحركتها الدينامية المومضة، في نسيج متناغم مع العالم، متناغمة معه، على نحو مموسق، ومُهرمن ومدوزن لهذا الصنيع الأوبرالي، ليغدو هذه الخلاصة، وجود وحياة وعناصر كونية، مجتمعة كلها في هذا العزف المتقن للفن الشعري من يد نيرودا:
« دعاني الموتُ الجبارُ مراتٍ ومرات، ملح مستخفّ في الأمواج،
لنكهته الخفية، طعمُ حطام السفن الغارقة، وقمم الجبال
أو هياكلُ فسيحة صنعتها الريحُ وعواصف الثلج،
جئتُ إلى العصر الحديديِّ،
إلى مضائق الهواء، الى كفن الحقول والصخور» المغناة الرابعة .
وحين يدهم الموت حياته مرات ومرات، هنا وهناك، وهو المترحل والمجازف والمغامر والشريد والطريد، من قبل الشرطة والحكام ورجال الحدود، وهو الشاعر حامل مشعل الإنسانية ونار بروميثيوس، ليقول للموت الذي يصفه بالبحر:
«أيُّها البحر الشاسع، أيها الموتُ!
أنت لا تأتي موجاتٍ، بل تعدو كالفجر الصادق،
أو كأعداد الليل المطلقة،
لا تتسللْ كالنشال، لا تأتِ من دون لباسك الأحمر» المغناة الرابعة.
إن هذه الملحمة الشعرية، بدروسها الفنية، وصياغاتها المتجوهرة، وإيقاعاتها الحارة، المحتدمة والفوارة والمتواترة، تجعل من هذا العمل عملاً ميلودياً يميل إلى الدرامي والتراجيدي، لما تحمله المفردات والتموجات الصوتية داخل القصيدة، لكي تغدو ملحمة إنسانية، يتداخل فيها السيمنتالتي والاصطراع العنيف مع الحياة، حين تنعطف في مداراتها لتصبح قاسية، وغير قابلة للتصديق، وهي تطحن البشر، في الحروب والصراعات الدموية التي تحدث وتنتاب العالم، بين حين وآخر:
« طُحِن الرجالُ كحبات الذُرة في صومعة الأفعال
المنسية التي ليس لها قرار في الأحداث المُزرية» المغناة الثالثة.
يتحدث نيرودا هنا ولكأنه قد طال حتى الأحداث العالمية التي تلتْ موته بعقود، وحروب الطغاة الصغار في الشرق الأوسط، ليست بعيدة عن مثل هذه النبوءة الشعرية، فالشعراء دوماً يتخطون زمنهم، ليقولوا بالآتي، والذي سيقع، حتى لو كان بعد مرور وقت طويل غبّ موتهم بأزمنة متعاقبة، والمتنبي مثال ساطع على ذلك .
لقد مرَ أعلاه وصف لشعر نيرودا بأنه في أحد مناحيه الفنية، يتلبس السمة السريالية، المحكومة بالتداعي الحر والمنفلت عشوائياً، من غير فاصلة، أو رادع فني يوقف التدفق الكلامي، المفتوح كحنفية من الكلمات المتلاحقة والسريعة وغير الموصولة بحروف العطف والتقنيات الشكلية للمراسم الكتابية، فلا رابط بين بيت مع الذي قد سبقه، سوى الإيحاء، حتى يغدو البيت الشعري مستقلاً بذاته ومنفصلاً تقنياً عن البيت الآخر، باستثناء الرابط الدلالي والرؤيوي لشطر من هذه البالاد الغنائية:
«حِصنٌ ضائعٌ، سيف معميٌّ.
حزامٌ كوني، خبزٌ مقدس.
سلمٌ جارفٌ، جَفن هائل.
رداءٌ ثلاثيّ، غبارُ الصخر.
مصباحُ الصوَّان، خبزُ الحجر.
حيَّة معدنية، وردة البحر» المغناة التاسعة.
أما عن الحب الذي ذكرناه في البدء، فإن بابلو نيرودا يميل في نهاية هذا العمل المفعم بالرموز والموحيات والإشارات البليغة، الى الحب الإنساني، وما هذه المرتفعات التي يتحدث عنها طوال صفحات الكتاب، لم تكن إلا عن محنة الإنسان أمام جبروت المال والجشع والاستعباد، من جنس أبيض لجنس آخر، ملون في أرض مترعة بالفحم والوقود والدفائن الذهبية، والتي يعمل بها أقنان مقهورون، في مناجم الفحم، فيسقط من يسقط وينتهي، دون علم أحد في تلك الأقبية المظلمة والنائمة تحت سلسلة مرتفعات ماتشو بيتشو:
«مَن سينثر باقات الزهر الميتة، تتساقط بين يديكِ،
وينثر ليلته التي تقشرتْ، عن فحم الجيولوجيا؟ « المغناة التاسعة.
تحت سقف هذا العناء، كتب بابلو نيرودا ملحمته الإنسانية، لتكون نشيداً عاماً للإنسان والطبيعة والعالم الذي يفقد كل يوم المزيد من إنسانيته، والمزيد من الاعتداء على السلام والأرض، وعلى القانون الحياتي للبشرية .
بابلو نيرودا: «مرتفعات ماتشو بيتشو»
ترجمة سحر أحمد، دار أزمنة، عَمَّان 2017
72 صفحة.

 

عن جريدة القدس العربي