يكشف الباحث المغربي هنا أهمية التلاقح بين المجالات المعرفية الثلاثة، وحتمية تناول كل منها في علاقاتها المتشابكة بالآخرين. لأن موقع الفاعل المعرفي اليوم هو بين مواقع، بين مختلف الحقول والمقتربات. لذلك فعليه هدم كل الأسوار والعصف بالحدود التي من شأنها أن تقتل الكائن والمعرفة التي تنسج حوله.

الفلسفة والأدب والسوسيولوجيا: الترحال الممكن

عُثمان لْكْعَشْمِي

 

«يصعب على كثير من المثقفين العرب أن يهدموا الأسوار التي تفصل بين الأجناس الأدبية، وبين هذه ومجالات أخرى للدراسة والبحث. وهكذا تراهم يقيمون خانات محكمة التحديد والحدود تميز ما هو أدب عما هو اجتماع أو تاريخ أو فلسفة ... والظاهر أن الدراسات المعاصرة في مختلف المجالات قد أقامت قنطرات تصل هذا الفرع من المعرفة بذاك حتى غدا في أغلب الأحيان من المتعذر جدا الفصل بين هذا الصنف وذاك، سواء عند الباحث ذاته أو فيما يتعلق بمجال من مجالات البحث».

عبد السلام بنعبد العالي

«كل تعريف للأدب يفشل في بناء موضوعه (objet) والاحاطة بهذا الموضوع بصفة مقنعة. ولعل هذا الفشل يرجع إلى الإصرار على دراسة الخطاب الأدبي بمعزل عن الخطابات الأخرى ».

عبد الفتاح كيليطو

الفلسفة، الأدب السوسيولوجيا أية علاقة؟ هل هناك علاقة ممكنة بين الثالوث المعني؟ كيف يمكن تحديد هذه العلاقة، هل هي علاقة تداخل واتصال أم أنها قطيعة وانفصال؟

طالما كان هناك نفور صريح وصارم معلن عنه، للفلسفة من حيث هي ميتافيزيقا عن فنون الأدب والعلوم، طبيعية كانت أو إنسانية واجتماعية. فمع تأسيس اللحظة العلمية الحديثة، في القرن السادس عشر، بماهي لحظة قطيعة مع الميتافيزيقا الأرسطية ومعها الأورغانون الأرسطي (الذي حل محله الأورغانون الجديد لفرنسيس بيكون) بالنسبة للعلوم الطبيعية وغير الطبيعية من الرياضيات والمنطق نفسه، أو بالنسبة للعلوم الإنسانية والاجتماعية في القرن التاسع عشر، من حيث انفصالها عن الفكر السياسي والاجتماعي ذو الحس الفلسفي، أو بالنسبة للأدب الحديث، وجدت الفلسفة نفسها في أزمة. الشيء الذي فرض عليها أن تعيد النظر في ميتافيزيقاها المتحجرة، وتعطي أولوية للإبستيمولوجيا في كل تفكير فلسفي في علاقتها بأبنائها العققة: العلوم. مُبتغية من وراء ذلك تحويل الفلسفة إلى إبستيمولوجيا للحقيقة، من شأنها أن تعيد الاعتبار لكليانية الفلسفة وأمومتها المفقودة.

من ميتافيزيقا أرسطو إلى وضعانية أوجست كونت، إن لم نقل إلى قبضة هيجل الذي أعلى بالفلسفة إلى مرتبة التاريخ، عرفت الفلسفة حركة قطائع وانفصالات وهجرات عن كل من العلوم الحديثة والأدب والعلوم الإنسانية من بينها السوسيولوجيا. ينطبق ذلك على الفلسفة كما ينطبق على العلوم، فهذه الأخيرة هي الأخرى أصبحت تستمد علميتها من درجة ومدى انفصالها عن كل نمط تفكير يوسم بأنه فلسفي. لكن سرعان ما تفتأ الفلسفة في الانفصال عن ذاتها، مجاوزة لذاتها، مجاوزة ميتافيزيقاها وكليتها التاريخية مع مفكري الاختلاف: من تفكيكات وتأويلات. لكي تكون معاصرة.

على الرغم من الانفصال العنيف، إن لم نقل المتوحش، للفكر (والتفكير) العلمي المستحدث عن نظيره الفلسفي (القتل الرمزي للأم) من ناحية وعن التخييل الأدبي من ناحية ثانية، فإن التحولات والتغيرات التي مسّت المجتمعات الغربية وغير الغربية، من تسارع للتاريخ في المعاصرة، ومن سيولة، فرضت على الفلسفة ومعها السوسيولوجيا والأدب إن لم نقل مجمل المجالات المعرفية المتعددة أن تتجاوز الاعتقاد الضيق في التخصص المجالي والانغلاق المفقود في هويات وغيتوات (ghetto) معرفية مغلقة ومحصنة، قد تقتل أي فعالية للمعرفة في علاقتها بالواقع والكائن.

بعيدا عن كل نزعة تخصصية أو جدران معرفية مغلقة فرضتها منظومة الحداثة، علمية كانت أو معرفية ومجتمعية، فإن الرهان اليوم هو التلاقح والتفاعل المستمر بين مختلف الحقول المعرفية لعله يُمَكِّننا من فهم ما أصبحت عليه كياناتنا من التعقيد والتشابك والعشبية، من الاختلاف والتعدد. دون أن يعني ذلك تطابق ووحدة المعارف في سلسلة وكلّية مغلقة، بقدر ما يعني تفعيلا للاختلاف بما هو انفصال عن الذات وجرح للهوية، إن لم نقل تمزيقا للتاريخ.

استعمالنا لعبارة أدب يتجاوز معناه الكلاسيكي والقديم في الثقافة العربية بما تحيل له من أخلاق وفضائل ومواعظ تقوم على ثنائية الأمر والنهي، إلى معناه الحديث الذي تتضمنه كلمة littérature ، كما نجدها عند الرومانسية الألمانية في نهاية القرن الثامن عشر. نفس الأمر ينطبق على استعمالنا لكلمة سوسيولوجيا sociologie، وإن كانت هذه أقل لبسا لاحتفاظنا بنفس الأصل الإتيمولوجي لها، الذي ارتبط رسمه بأروبا القرن التاسع عشر (مع أوجست كونت وغيره)، التي يتجاوز معناها ما نجده لدى ابن خلدون، على سبيل المثال، باسم العمران البشري. لكن دون أن تمنعنا تلكما الكلمتين المستحدثتين من القول بانعدام تضمنهما تأويلا قبل ميلادهما الاتيمولوجي، أو يقذف بنا مفهوم التجاوز إلى إنكار مفعولات، الأدب القديم في الحديث، والعمران البشري في السوسيولوجيا.

ماذا يعني الأدب، كيف يمكن تحديد النص الأدبي؟ ما هي السوسيولوجيا، وكيف يمكن تحديدها؟ قد لا يُعنى الأديب ومعه السوسيولوجي le sociologue بهذا السؤال: سؤال التعريف. فكلاهما يمارس أو بالأحرى يساهم في إنتاج خطابه المعرفي سواء كان ذا طابع أدبي أو سوسيولوجي، دون أن يُسائل تلك الممارسة وعملية الإنتاج تلك. إذا ما بحثنا فيما ينعت عادة بأنه تاريخ الأدب وتاريخ السوسيولوجيا، سنجد أنهما لا يكلفان نفسهما عناء تحديد ماذا تعنيه عبارة سوسيولوجيا وعبارة الأدب، إلا إذا كان يقصد بذلك التحديد تلك التعريفات القاموسية، أو تلك التي تعلنها تأريخا للأفكار، المدارس، الاتجاهات والنظريات. لنقل في أبعد احتمال، إما أن تأخذ طابعا نقديا-النقد الأدبي- بالنسبة للأدب، أو طابعا إبستيمولوجيا بالنسبة للسوسيولوجيا (إبستمولوجيا السوسيولوجيا). لهذا يبقى سؤال التعريف، سؤالا فلسفيا. لا غنى للأدب كما للسوسيولوجيا عن مفعولاته. الفلسفة في نهاية المطاف هي علم التعريف، من حيث هي إبداع وصنع وبناء للمفاهيم والتصورات. فهي تعمل بشكل مستمر على بناء التعاريف والحدود بما فيها هي- ذاتها. قد تبدو في الأفق، بأنها مهمة مستحيلة التحقق في ظل التعدد الذي تعرفه الميادين المعرفية، بل ميادين الميدان المعرفي الواحد، كما هو الأمر مع الأنواع الأدبية (الأدبيات) أو الهوامش الأدبية والسوسيولوجيات أو الهوامش السوسيولوجية، بحيث انفجر الأدب في أنواعه (أجناسه) من شعر، حوار مسرحي، رسائل، سير ذاتية، مذكرات، رواية. وانفجرت السوسيولوجيا في هوامشها: سوسيولوجيا التربية، سوسيولوجيا المعرفة، سوسيولوجيا الأدب .. وسوسيولوجيات كل سوسيولوجيا. لكن ما يجعلها ممكنة هو انسيابها من داخل الميادين المعرفية نفسها، مع الأخذ بعين الاعتبار مسألة الانفصال والاتصال في مختلف الخطابات، دون إعطاء أولوية لخطاب على آخر.

في نفس السياق نقرأ لعبد الفتاح كيليطو في مقاله المسوم بـ"تعريف الأدب" : «كل تعريف للأدب يفشل في بناء موضوعه (objet) والاحاطة بهذا الموضوع بصفة مقنعة. ولعل هذا الفشل يرجع إلى الإصرار على دراسة الخطاب الأدبي بمعزل عن الخطابات الأخرى». ينطبق ذلك على الأدب، على السوسيولوجيا وعلى الفلسفة أيضا: بوصفها خطابات متشابكة ومنشبكة. فأي حفر في خطاب مخصوص من تلك الخطابات لا يستقيم إلا في علاقته بالخطابات الأخرى. تلك هي مهمة كل أركيولوجيا أو بالأحرى وصف أركيولوجي يرمي إلى تحديد الفوارق والاختلافات. فالخطاب لايوجد إلا بوجوده-مع.

مادامت السوسيولوجيا (أو نمط معين منها) منغلقة على ذاتها ويراد لها أن تكون تطبيقية وتقنية، فإنها لن تتجاوز كونها مجرد آلية في يد الآلة (الدولة) مشرعنة لفعلها السياسي؛ الذي تضاهي برودته برودة الوحوش الباردة. هذا من الناحية العملية، أما من الناحية النظرية فإنها لن تنفك على الاجترار، لكي لا أقول التكرار حتى بمعناه الفلسفي المعاصر. لهذا وجب على السوسيولوجيا مجاوزة ذاتها. تلك المجاوزة التي لا يمكنها أن تتحقق إلا من خلال تقويض تراثها، ضربا لأوثانها، إقامة جينيالوجيا لميتافيزيقاها، أركيولوجيا لخطابها، خلخلة لمعانيها، تفكيكا لبنياتها، مفاهيمها، نظرياتها، ومناهجها، تجديدا لأنطولوجياها. ذلك لن يتأتى إلا من خلال التفكير المستمر للسوسيولوجي في سوسيولوجياه وممارسته، بالانفتاح على فكر الاختلاف والأدب والسيميولوجيا.

لسنا بحاجة في هذا المقام إلى استحضار واستدعاء بعض الكتاب العرب، وهم قلة، من قبيل الخطيبي بين الفلسفة والسوسيولوجيا والأدب ... نفس الأمر مع فاطمة المرنيسي بين الأدب والسوسيولوجيا، وغير العرب كفوكو، دريدا، بارط وبلانشو .. وغيرهم من الكتاب المعاصرين، الذين يتعذر علينا تصنيفهم في مجال معرفي بعينه أو وضعهم إن لم نقل سجنهم في خانة معينة محكمة الإغلاق. لكي نثبت أهمية التلاقح ونؤكد على ضرورة الترحال المعرفي بين المجلات المعرفية. فهذا يصنف في النقد الأدبي، وتلك في السوسيولوجيا، وذاك في الفلسفة. بعيدا عن كل تلك التصنيفات الجاهزة التي تعمل على تعليب فكر يجعل من مقوماته الأساسية اللا تعليب. إن موقع الفاعل المعرفي اليوم هو بين مواقع، بين خانات وميادين. ذلك ما يجب على المثقف العربي إدراكه واستيعابه أنّى كان ميدان اشتغاله وفاعليته، فيلسوفا كان، أو أديبا أو سوسيولوجيا. على أن يجعل من مهامه المركزية : هدم كل الأسوار، وتحطيم كل العلب وتفجير لكل الخانات، التي من شأنها أن تقتل الكائن أولا والمعرفة التي تنسج حوله ثانيا.

عندما نطرح مسألة العلاقة بين خطابات ثلاث: الفلسفة، الأدب والسوسيولوجيا، لايعني ذلك أي محاولة إلى تأديب السوسيولوجيا أو سسلجة sociologisation للأدب (ممارسة سوسيولوجيا الأدب فحسب) في علاقة الأدب بالسوسيولوجيا. أو نرمي إلى سسلجة الفلسفة، أو تحويل السوسيولوجيا إلى فلسفة ما في علاقة الفلسفة بالسوسيولوجيا. أو نبتغي تأديب الفلسفة إن لم نقل تحويل الأدب إلى فلسفة معينة، في علاقة الفلسفة بالأدب. وإنما ما نعنيه بذلك هو تفعيل كل مفعول خطابي لمفعولات خطابية أخرى، أي: إعلانها ترحالا بين خطابات من داخل كل خطاب في تفرده ومغايرته.