ثمّةَ من يتحدّثُ عن اشتقاقٍ لفظيٍّ من أشور، يسري بنا إلى آشور السريانيّة.
في واقع الأمر إنَّ السّريان هم الآراميّون، وهم خلاصةُ أسلافهم من أكّاديين وعموريّين وكنعانيّين، وغيرهم.. من بناةِ الحضارة الإنسانيّة.
هذا لا يتناقضُ مع مقولةِ أنّ المسيحيين اتّخذوا هذه التسمية -السريان- ليتميّزوا عن أبناء جنسهم من الآراميين، أتباع العقائد الأخرى، وتحفلُ الكثيرُ من الرّقمِ والكتابات المكتشفة، بنصوصٍ تعودُ إلى ماقبلَ المسيحيّة، إحداها ترجمة للتوراة ذُكرت فيها سوريا، ولم تُذكر آرام.
أمّا النّصوصُ الشعـريّة فلم تخضع لقافيةٍ، فيما أسّست موسيقاها لأنماطٍ من الشعر لمّا تزل موجودة، بعضها اعتمدته الكنائس لأناشيدها، وبعضُها تحوّلَ إلى موروثٍ شعبيٍّ، خارجَ نطاقِ كلِّ المؤسّساتِ الرسميّة، قديمها و جديدها، بما يعبّرعن قطيعةً ناشِبةٍ مع حضارات السّلف.
ما يهمّنا في هذا الشّأن، ونحنُ نرصدُ تلك القطيعة التي أقامتها "الثقافة العربيّة أو الإسلاميّة" النَّاشئة، مع شرقنا القديم، أن نرصدَ آثارها التي تسيطر على المشهد الثقافي والحضاري، حتى الآن.
إنّ كلَّ الدِّراسات، الغـربيّة منها على الخصوص، تؤكّد على أنّ السوريّينَ ابتدؤوا أهلَ حضارةٍ وأهلَ فكر وشعر، وسنجدُ مؤرّخاً يونانيا من القرن السّابع قبل الميلاد "ديوروس الصقلّي" يقول بأنّ استنباطَ الكتابة يعودُ إلى السّريان.
وإذا كان بابنيان الحمصي من أعظم حقوقيّي التاريخ، بشهادة الغـرب قبل الشّرق، فإن بريدصون السرياني يعدّ من أعظم الشعراء، وإن كان ثمّةَ من يعتبرُ القدّيس مار أفرام السّرياني أشهرهم.
العربُ من ناحيتهم اشتهروا بإطلاق تسمية (النّبط) على القوم الذين استنبطوا الأرض واستقرّوا عليها، من أسلافهم أهلِ الحواضر السّوريّة، كالبتراء وتدمر.
في حقيقة الأمر، هم أطلقوا هذه التسمية على السريان ليميّزوهم، باعتبارهم لم يكونوا أهل بداوةٍ وترحال، ميّزوهم وتفرّغوا لحكايات الكرم وفصاحةِ الّلسان. وهكذا لم ترصد مصنّفاتهم شيئاً مهمّاً عن تلك الحضارةِ الأمّ. لقد شيّدَ العرب فوقها ركاماً هائلاً من أحاديثهم، وأذكار انتصاراتهم، ومن أسفارهم.
لن يكونَ غريباً أن نعترفَ بأنَّ ذلك الرّكامَ لم يأتِ كتغييبٍ واعٍ لجانب حضاريٍّ نستشعرُ الغربة عنهُ، مادامتِ اللغة العربية تحفل بمفردات تلك الحضارة، بقدر ما كان دفاعاً غريزيّاً غيرَ واعٍ عن مشروعِ الدّولةِ الدّينيّة وفقَ فهمِ حكّامها لفكرة الدّولة، لذلك وجدنا العربَ يتحدّثونَ عن هجراتهم السّاميّة كمَدخَلٍ.. مًجرّدِ مدخَلٍ للتباهي بحضاراتٍ سبقتهم على أنّها منجزٌ غير قابلٍ للنّقاش لأجدادهم، دونَ أن يتكلّفوا َ عناءٍ أيِّ ربطٍ موضوعيٍّ بينها وبين أولئك الأجداد، بدون شكٍّ هم ظلموا اسلامهم وعروبتهم، بغضِّ النّظرِ عن إيِّ موقفٍ منهما، حينَ دمجوا الفكرتين في تنظيرهم البائس لفكرة "الخلافة-الدّولة" كما ظلموا عباقرةً مازال ذكرُهم يتردّد في بيوتات الحضارةِ كمبدعينَ لها، عباقرةً ينتمونَ إلى هذه الأرض التي انبثقت منها الحضارات الإنسانية قبل عشرة آلاف عام.
خمسةَ عشرَ قرناً، مرّت على ثقافةٍ ما انفكّت تتوالدُ نفسها، ومازلنا حتى الآن نرتطم بنفس الكتّاب والشّعراء، وبنفس مفرداتهم التي ردّدها "أجدادُهم الميامين". هؤلاء سينفرونَ "خفافاً وثقالا" في وجه كلّ محاولةٍ لربط ثقافتنا بأصولها، تحتَ عناوين غير واضحة.
الآثار الواضحة سنجدها في انتشار الفكر السّلفي والعودة إلى التفاسير القروسطية للدين، وسنجدها بالغةَ الوضوح، لدى الجهاتِ التي تقدّم الانتماء الدّيني على الانتماء المديني أو الحضاري.
هم لا يقولون بأنّهم ضدّ الحضارة، أو ضدّ الحداثة، لكنّهم وبدفاعهم الغريزي عن "حضارتهم" الملفّقة يعودون وبدون تفكيرٍ، إلى ماضيهم الركيك.
لا يختلف الأمر عند الحديث عن الأدب أو عن الشّعر، فالقطيعة الثقافية ليست شيئاً مختلفاً عن ذلك الرّكام التاريخي الذي سبقَ ذكرُهُ، وهيَ ستطالهما.. وسنجد شعراً بنفس المفرداتِ البائدة، وآخر يتلقّفُ رزقهُ عن موائدَ غريبةٍ.. رغمَ محاولات الإبتكار.. القليلة، الموجودة بالفعلِ لا بالأمنيات، والتي تسعى جاهدةً لاستئنافِ الخَلق.
من هذا المنطلق فإنّ قلّةً من المفكّرينَ تقبلُ بضرورةِ إعادة القراءة، للتاريخ والأدب على السّواء، قراءة تشملُ الأدبَ العربيَّ برمّتهِ، لاستعادةِ جذوره، إذ كيفَ لقومٍ أن يؤسِّسوا للمستقبل، إذا كانت بُناهُمُ الثّقافيّة ملفّقةً.
هكذا إعادة.. لن تكونَ شافيةً، إذا كرّرت الخطأ وأغفلت عشرة آلاف عامٍ من تاريخ الإنسانيّة، لم يهملهُ الغربُ بغضِّ النّظر عن أسبابهِ و خلفيّاته، وأهملهُ العرب.
في نفسِ السّياق أتوقّف مع دراساتِ المستشرقين، لا لأهمّيتها، بل كشهادةٍ على ما أقول.. فثمّةَ كثيرٌ من المستشرقين كـ روبنس دوفال وغيرهِ ممّن كتبوا عن ذلك التاريخ وعن مبدعيه، حتّى انّ أحدهم قال: قد يكون بريدصان السرياني رائد الشعر الحر في عالم الأدب الذي لم تعرفه أوربا إلا في القرون المتأخرة، ولم يعرفه العرب إلا في القرن العشرين على أيدي قلّةٍ من الشعراء، يذكرون هنا: بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة.
وهنا أستحضرُ جُملاً متقطّعةً لأفرام السرياني:
من يطمرُ الزّوانَ غداً صباحَ الأحد؟ الأسبوعُ يتمرّغُ في بيدر الشّمس/ سيولُ الخمرةِ تطفئ لهيبَ الجحيم، المحرقةُ أحرقت جحيمَ الخطايا، والجفاءُ صوّحَ بذور الزوان.
وأسأل: عن مفردات الأحد - الشّمس - الزوان.. وعن أصولها الآراميّة.
مع ملاحظةِ أنّ أوّل تقفيةٍ للشّعر السّرياني كانت بعد القرن السادسِ الميلادي، ومع ملاحظةٍ ثانيةٍ وهيَ أنّ أيّ عملٍ نهضَويٍّ يطالُ الثّقافة أو الأدب، سيظلُّ بلا قيمة، إذا لم يكن ابناً شرعيّاً لحضارةٍ غير ملفّقة.
أختمُ بالثّانية، حتّى لا يقصر أيّ متحذلقٍ فهمَنا للتطوّرِ،على أنّهُ مجرّد هتكٍ للمقدّس، أو تحطيمٍ لّلغة، أو هدمٍ لبنيانِ القصيدة العربية.