يتساءل محمد حسن عبدالحافظ الباحث المصري والمدير الأكاديمي بمعهد الشارقة للتراث في كتابه “السرد والجنوسة في سيرة بني هلال”: هل “السيرة الهلاليّة” إنتاج حكائي أنثوي، وأداؤها الشعري ذكوري؟ ويركز على فرضية تعدد الصوت السردي في سيرة بني هلال. لا يقف على القرائن السيميائيّة لأصوات الرجال والنساء فحسب؛ وإنما يعرج على دلالات ما ينطوي عليه تعدد الأصوات من تعدد لوجهات النظر، وتعدد للخطاب، أي الانتقال، عبر سيميائيات التأويل، من المعنى المستقر على الحقيقة الثابتة، وعلى الدلالة القارة الوحيدة، إلى البحث عن المحتمل والمتعدد والمختلف في مجال إنتاج العلامات السرديّة في “سيرة بني هلال
يكشف عبدالحافظ أن سؤال هل السيرة الهلاليّة سيرة نسوية؟ لم يتأسس في ذهنه قبل التقائه بالراوية والمؤدية رتيبة رفاعي، مطلع عام 1996، ذلك اللقاء الممتد إلى عام 1998. ويشير في استهلالها -الموثق مرئيّا- إلى أن السيدة رتيبة تعيد صوغ الأساس الذي يقوم عليه مولد البطل في السيرة الهلاليّة، حيث تستبدل بطولة خضرا ببطولة أبوزيد، ليتحول البطل المحوريّ من ذكر إلى أنثى. وفي الوقت نفسه، تعمل الراوية (المؤدية) على تضفير تقاليد الأداء التي تلقتها عن أبيها بمنظورها السردي، ومنها قيم البطولة التي تحملها الشخصيات الذكورية، كما تعمل على تبئير متعدد، لخطاب سرديّ مُضْمَر، يؤدي إلى الإفصاح عن الملفوظات السرديّة الكاشفة عن جنوسة قيم البطولة في السيرة الهلالية، وتحريرها من سياجها الذكوري.
إفصاح نسوي
ويوضح عبدالحافظ كما يكتنز خطاب الراوية الحكائي بتفاصيل وأحداث وقيم متصلة بالنطاق الأسري والعائلي في السيرة، ويمثل إفصاح المرأة التلقائي عن علاقات القرابة والنسب، وعن تمثيل الأنثى لمشاعر تلك العلاقات، شغفا طبيعيّا في سردها، ليس على نحو تلاوة سلسلة القرابة والنسب الذكوري المعهود؛ وإنما القرابة والنسب الأنثوي أيضا، مما يُسْرَد -أو لا يُسْرَد- في روايات الرجال، فطِيْبَةْ هي أم خضرا، ونُهَى بنت حمضل، وحسن أخو الجاز، وعديلة أم زيدان، وسرحان زوج شمَّا، إلخ. تضع السيدة رتيبة النساء في مرتبة البطولة، أو ترتقي بالبطولة إلى مرتبة النساء، على نحو ما يتبدى من الوجود الحيوي للشخصيات البؤرية: خضرا، الجازية، سُعْدَى، دَوَابة، وغيرهن، في المشاهد المركزية لـ”السيرة الهلاليّة”، وهو وضع لا يختلف عما نجده، على أنحاء متعددة، في خطاب الرواةـ المؤدين- الشعراء الذكور؛ ذلك لأنه لا فكاك للراوي الرجل من الالتزام بالشفرات السرديّة النِّسْوِيّة، المضمرة والظاهرة، في السيرة الهلاليَّة.
ويضيف أنه في الأساس السردي للسيرة الهلاليّة، نفترض وجودا خفيّا ومبهما لـ”شفرات” حكائيّة نسوية أولية؛ تتسم بقابليتها للتعديل، ظاهريّا، بعمليات تشفير ثانوي، لكن الشفرات الأولى تظل منيعة في جوهرها؛ لأنها شفرات حدثيّة، على نحو ما ينتجه سرد “رحلة خضرا إلى بلاد العلامات” من خطاب سردي إرشادي يقود شاعر السيرة -حتما- إلى “تشعير الرحلة”، وتسريدها، من منظور نِسْوِيّ، لكن الشعراء الحاذقين في تحويل شفرات الحكايات وترميزها، والبارعين في القيام بتدخلات تعاقبية عميقة، تنزع إلى تشويش الاتصال على محور الوضع الاعتباري للحس النسوي في السرد، يوهمون بأن ذكورية الأداء والتلقي تنسحب على الخلق الفني والتاريخي للسيرة الهلاليّة.
مسرح صوتين
ومن ثم، فإننا نطرح الفرضية التي تقارب سيرة بني هلال بوصفها فضاء سرديّا استراتيجيّا، يتمازج فيه صوت النساء الحكائي المؤسس لقواعد السرد السيري، ولقيمه الرمزية، من جانب، وصوت الرجال الشعري المؤدي لها من جانب مواز. ويتنوع فيه، عبر شفرات الحكي النسوي، أداء الرجال، على أصعدة رئيسة: النوع الشعري، والمدرسة الموسيقية، وآلاتها.
ويطرح عبدالحافظ تساؤلات سعيا إلى إجاباتها عبر تحليل نص السيرة الهلالية: هل تمنحنا المقاربات السيميائيّة التأويلية، لسرود السيرة الهلاليّة، فرصة لتحليل الأدوار الاجتماعية والرمزية للنساء، داخل خطابات “السيرة الهلاليّة” وخارجها؟ ولاكتناه أصواتهن التي قاومن بها هيمنة الرجال على اللغة بالكتابة؟ هل يقودنا ذلك الصنف من المقاربات للنظر إلى “السيرة الهلاليَّة” بوصفها فضاء للبطلات وللشخصيات النسوية: خضرا، الجازية، عطور الجيب، شَمَّا، شيحة، الناعسة، عالية، ريَّا، دَوَابَة، هُوْلَا، ميّ، عزيزة، سُعْدَى، شمعة، حُسنة، زُبيدة، وغيرهن؟ وإلى افتراض نسج المرأة لحكايات “السيرة الهلاليّة”، كحياكتها لحكايات “ألف ليلة وليلة”؟ إذ تُعَدُّ “ألف ليلة وليلة” أبرز ما وُسِمَتْ به النساء، على صعيد قيادة السرد، في تاريخ الإبداع الإنساني، حيث تحتل شخصية شهرزاد المساحة الأهم في الذاكرة السرديّة الإنسانية، أكثر حضورا من شخصية خضرا والجازية في “سيرة بني هلال”، ولكن الأميرة خضرا ليست أقل حضورا من الأميرة ذات الهمة، فرحلة خضرا، بوليدها سلامة، تحمل كثيرا من العلامات الرمزية المشتركة مع رحلة ذات الهمة وولدها عبدالوهاب.
المتوارية المتفوقة
ويؤكد عبدالحافظ أنه لا ينبغي الاكتفاء بالاحتفاء بالشخصيات السرديّة على حساب الأحداث السرديّة ودراميتها وإيقاعاتها -هكذا غالبا تعمل الثقافة السائدة على تنميط الشخصيات التاريخية، على حساب تأويل الأحداث التاريخيةـ أي النظر إلى خضرا والجازية ودَوَابَة، وسُعْدَى، وغيرهن، بوصفهن شخصيات سرديّة فاعلة في سيرة شعبية منسوبة إلى قبيلة “بني هلال” أو “الهلايل”، أو إلى بطل ذكر على نحو ما يوسم بـ”سيرة أبوزيد”، وليس -حصرا- بوصفها امرأة تتوارى خلف صدارة الأبطال الفحول. لقد تحدت شهرزاد وخضرا هاجس خيانة الزوجة في إدراك شهريار، وفي وعي رزق، وكلتاهما تفوقتا في ظرف خطر داهم، فقادت شهرزاد الحكي السردي المؤسِّس لـ”الليالي”، وقادت خضرا الرحلة السرديّة المؤسِّسَة لموتيفات السيرة الهلاليّة، والمكوِّنة لقيم البطولة.
ويرى عبدالحافظ أننا نحتاج إلى فحص مختلف الأفعال والقيم الانزياحية في التراث المتسلل إلى المأثور، من مثل ما يتأسس عليه قول عبدالحميد الكاتب “خير الكلام ما كان لفظه فحلا، ومعناه بكرا”، وكأنه بذلك يعلن -حسب تعبير عبدالله الغذامي- عن قسمة ثقافية يأخذ فيها الرجل أخطر ما في اللغة، وهو “اللفظ”، وللمرأة “المعنى”، هذه القسمة أفضت إلى قسمة أخرى أخذ فيها الرجل “الكتابة” واحتكرها لنفسه، وترك للمرأة “الحكي”، مما أدّى إلى إحكام الرجل السيطرة على الفكر اللغوي والثقافي.
وعلى كتابة التاريخ من منظوره الذي يرى فيه نفسه صانعا للتاريخ. وظلت ثنائية اللفظ والمعنى، وثنائية الكتابة والشفهية، ثنائيتين مركزيتين في تاريخ العقل العربي، صارت على أساسها الشفهيةُ فضاء للنساء، والكتابة فضاء للرجال، حيث سعى الرجل إلى قنص اختراع الكتابة لنفسه؛ ليقعِّد سلطته المطلقة على اللغة، فغلب التذكير على التأنيث في التقاليد والتشريعات والسلطة والفنون، إلخ. ثم صنع الرجل قواعد ثابتة لا فكاك من اندراج الأنثى تحت وطأتها، عبر تقديس المكتوب؛ من أجل ضمان طاعة النساء المطلقة للرجل، وطاعة الرجال للرجل، وطاعة سائر الرجال والنساء للرجل.
يقول عبدالحافظ “بما أن المرأة معنى والرجلَ لفظٌ، فإن اللغة صارت للرجل، وليست للمرأة، وصارت المرأة موضوعا لغويّا، وليست ذاتا لغوية. ذلك هو المؤدى الثقافي التاريخي العالمي عن المرأة. ففي كل ثقافات العالم، تظهر المرأة بوصفها معنى من معاني اللغة، نجده في الأمثال والحكايات، وفي المجازات والكنايات. ولم تنطق المرأة بوصفها فاعلا لغويّا، أو كائنا قائما بذاته، وفقا للتصور القائل بأن المعنى البكر يُعْوِزُه اللفظ الفحل، لكي ينشأ في ظله. يمثل هذا التصور، بالنسبة إلى فرضيات هذه الورقة، وغيره من التصورات، وما يترافق معها من وقائع إبداعية وأدائية، مجالا للتفكيك عبر السيميائيّة، وموضوعا من موضوعات التحليل السردي، المفصح عن المرأة بوصفها ذاتا وموضوعا، ولسانا وخطابا، ومعنى ومنتجة للمعاني، ليس في مضمار السرد فحسب؛ بل على أصعدة اللغة والإبداع والأداء أيضا”.
ثنائيات مركبة
ويشير إلى أنه في رحم الثنائيات المركزية المذكورة، ثمة ثنائيات يجسدها الصراع بين أطرافها، مثل الصراع المصطنع بين الشعر والسرد، حيث بدا الشعر مركزيّا في الثقافة العربية، بينما ظل فن القص مهمَّشا إلى حدّ نبذ القصّاص، وتحقير النتاج السردي، بوصفه خياليّا، وكاذبا، ومخلا بالتاريخ الوقائعي، وبوصفه مجال العامة في مختلف سياقات الاجتماع الشعبي العربي
ويعتقد عبدالحافظ أنه آن الأوان لاستبطان الحس النسوي العميق في الإبداع الحكائي والشعري الشعبي؛ بعد أن سيطر الحس الذكوري طويلا على مقاليد فنية ليست ذكورية على نحو مطلق، وآن الأوان للبحث عن صوت الأنوثة المتواري في الذكورية، وإعادة النظر إلى الذكوري الذي يُبْطِن الأنثوي، دون التورط في الوقوع بأحد شَرَكَيْن: تنظير يُجدد تطرُّف المنظور الذكوري، أو تنظير يمتثل لنسوية تؤدي إلى إنكار تركيب المرأة ونتائجه؛ أي إنكار المرأة ذاتها؛ أي التفكير وفق استراتيجية نُجَاوِز بها خطابين: المهيمِن والمهيمَن عليه.
جريد العرب اللندنية