هذه الرواية آسرة وباذخة السحر، فيها كل ما يمكن أن يحلم به أى سارد، وفى صورة ناضجة وشبه مكتملة. ثلاثة نماذج بشرية قوية رسمت بكل تفاصيلها، وتداخلت مصائرها بشكل عجيب، ولكن النماذج نفسها تعمل كمرايا عاكسة للواقع العربى، الذى يقذف بمواطنيه إلى الشتات، ثم يعمل هذا الواقع أيضا كمرآة لتحولات القرن العشرين، والسنوات الأولى من القرن الحادى والعشرين، يأتلف الخاص والعام على نحو فذ لا انفصال فيه، ورغم اتساع رقعة السرد زمانا ومكانا، إلا أن فكرة واحدة تمسك بهذه الخريطة الثرية للشخصيات وللأحداث، للجغرافيا والتاريخ: السياسة والحرب تقودان إلى الشتات، والموسيقى والحب يستعيدان الإنسانية المفقودة، وبين الرحلتين لا يمكن أن نهرب من الوطن؛ لأنه نحن بذكرياتنا وتاريخنا، وبمأساتنا التى تعذب الروح.
»النبيذة» للروائية العراقية المقيمة فى باريس إنعام كجه جى، والصادرة عن (دار الجديد)، تستحق بجدارة مكانها فى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2019، ذلك أن نجاحها الفنى واضح ومؤثر، ومن آياته تعدد قراءات النص، وصحة كل هذه القراءات، كدليل على الثراء؛ عراقيتان ومقدسى من أعمار مختلفة يمكن اعتبارهم من ضحايا لعنة المنطقة، الرواية بهذا المعنى يمكن اعتبارها شهادة عما تفعله السياسة، أو بمعنى أدق السياسة كما عرفها العالم العربى، الممزق بين الاستعمار والديكتاتورية، فى البشر، ولكن «النبيذة»، مثل أى رواية ناضجة، لا تصرخ ولا يعلو صوتها، وإنما تضع الشخصيات فى المقدمة؛ نراهم بكل نقاط قوتهم وضعفهم، ومن خلال مسيرة حياتهم نشاهد ما جرى سواء فى العراق أو فلسطين، أو حتى فى باكستان وفنزويلا، كلما تشكل الوطن والعالم، تغيرت المصائر، وكلما اقترب الحلم، ابتعد فجأة، ولكن الشخصيات الثلاث استثنائية بكل المقاييس.
فى قلب الصورة تاج الملوك، المرأة المتمردة على زمنها ومكانها، عراقية من أصل إيرانى، صحفية وجاسوسة، جسد متفجر وقلب عاشق، نموذج فريد للمرأة العربية فى سنوات التحديث، يمكن أن نعثر على مثيل لها فى مصر أو لبنان أو سوريا فى الأربعينيات، امرأة قوية مستقلة متعلمة، شرقية تمتلك حرية رجل، رسمت شخصية تاج الملوك بذكاء، فكأنها مزيج بين نزق أسمهان، وجسارة درية شفيق، من يمكن أن تشهد على زمنها المضطرب سوى امرأة «نبيذة/ منبوذة» مثلها؟!
من تاج الملوك نتعرف على صديقتها فى باريس، عراقية منبوذة أخرى تبدو مثل ابنتها: وديان الملاح ضحية ابن الديكتاتور العراقى الذى نعرفه، عازفة فى الأوركسترا السيمفونى، عاشقة الكمان التى فقدت سمعها لأن ابن الحاكم القعيد يريد أن يلهو، تخلى عنها أيضا خطيبها يوسف، بسبب سهرات ابن الحاكم القسرية، تاج الملوك أطاحت بها معركة ضد الاستعمار البريطانى، ووديان دمرت حياتها ديكتاتورية ما بعد الاستقلال، خيبتان فى الشتات، وما زال الوطن يعانى.
يكتمل المثلث بالفلسطينى التائه: منصور البادى، عاشق تاج الملوك الصامت والعابر للأزمان، القادم من النكبة، والمناضل فى فنزويلا مع هوجو شافيز، والمتمسك بأمل لقاء تاج الملوك، وهى فى التسعين، مثل تمسكه بعروبته ومبادئه، السياسة تنبذ البشر، والحب والموسيقى، والشتات يجمعهم، خيبات خاصة عكستها خيبات عامة، واللوحة هائلة، تتجاور فيها ذكريات وخطابات، أصوات ولمسات، ليالى حمراء وسوداء، بينما تندمج فى السرد شخصيات تاريخية حقيقية، من نورى السعيد والأمير عبدالإله، إلى أم كلثوم وبورقيبة وهوجو شافيز وأحمد بن بيللا، سبيكة متماسكة انصهر فيها الجميع، لوحة عصر وزمن، بقدر ما هى خريطة عواطف وأفكار وسياسات.
الرواية التى تتبادل الشخصيات الثلاث السرد فيها مع الراوى العليم، يمكن أن تقرأ أيضا على اعتبار أنها مقاومة فى مواجهة الزمن، إرادة الإنسان فى مواجهة قدره، تمسكه بالأمل فى مواجهة القهر والنبذ، تذهب الشخصيات بعيدا، ولكنها تفتح شنطة السفر، فتجد الوطن بداخلها: بغداد والقدس، الأغنيات، والتراتيل، اللهجة والمصطلحات، باقية هناك فى قلب الحقيبة، لا شىء يموت أو ينمحى، ينوء الجسد بالعمر والعذاب، تصفر الأوراق وتتهشم، وتبقى الصورة، والنغمة، وكلمة الحب، ذلك أن سر الإنسان فى الذاكرة، والعاطفة، وفى إرادة الحياة، فى المقاومة حتى فى الشتات.
جريدة الشروق المصرية