تتبلور “قصيدة نثر” الشاعرة بخصائص عامّة لا تمحو خصوصيتها، لأحدث أشكال قصيدة نثر ما بعد الحداثة، وبالأخص القصيدة التي تسير كقصة، والقصيدة التي تنبض بسخرية مستفزّة، مع تركيب الجملة الشعرية على مسنّنات الكتابة الآلية السوريالية، وتطعيم اللغة بما يجسد روح العصر، والغموض الذي يتحدى فهم وذكاء القارئ، وينصب له فخاخ اصطياده.

إبداع محلّق بشغف الإمتاع وانصهارات الروح

المثنى الشيخ عطية

 

لا يُنصَح حتماً أن تقرأ قصيدةً من مجموعة “باسمٍ غير مستعار”، وهي السادسة الجديدة للشاعرة المصرية غادة نبيل، خلال قيادتك السيارة؛ (وكأنّ هذا سيحدث حتى لو سمح الشرطي الضاحك من سذاجتك بذلك!)، لأن الشجرة الراكضة من غابتها إلى الطريق بسرعةِ انعكاس صورتك في بحيرة عيني من سرقتْ كوكب حلمك، وأنت تقضم تفاحة نيوتن من على رصيف محطة آينشتاين، في شاشة ماك بوك، سوف تعيدك إلى شجرة النبيّ المباركة الشمالية أو الجنوبية التي أضاءت كوكب حلمك من قبل. وربما تشعر، مستلقياً تحت سطوع نور بروجيكتور الجراحة على نور داخلك الذي يكاد أن يضيء المكان، بالتي سرقت حلمَك في مدينةٍ لا مرئية رآها إيتالو كالفينو، بعيني ماركو بولو، فتبدأ بقراءة شرلوك هولمز، بعيني سيزيف وهو يتأمّل دوائر صخرته في بحيرة عيني من قطعت حبل سرّتك المختفي داخل غار إلاهتك الضائعة، وربما تواجه صوتَ أجنحة ذبابةٍ غير طنانة برؤية “قوبلاي خان”، لإحساس الراهب الصيني “مائة عين”، وعينٍ أخرجتُها للتو من حلمي كوكباً، كي أعيد صياغة لحظتي، في قراءة “القصيدة”.

وإذن، أين النصيحة في كيفية القراءة؟

قد يبدو هذا سخريةً من تركيب قصائد غادة نبيل المخالف النَّفور وغير المتآلف، لكنه التقدير النبيل الخالي من التهليل، لمجموعةٍ شعريةٍ مشرقة، تدفع قارئَها من خلال التركيب الإبداعي الغني المسرنِم لحواسه بقصائدها، وبنار الشغف التي توقدها في خلاياه، إلى محاولة إعادة تركيب لحظته التي ركّبها له غيره، إيماناً أو قسراً أو خداعاً؛ وقد يستطيع قارئُها ربما استرجاع نقطةِ بَدءٍ من طفولته لذلك؛ ولكن مع سماع صوت الشاعرة:

“حين ترصّ صور الذاكرة، يجب أن تعرفَ كيف تحميها، متى تقوم بأرشفتها، وبعثها، وإلا لن يبقى معك، ما يثبت الفرق بين الحلم والهذيان. على أحسن تقدير، قد يبقى ماكيتُ مدينةٍ، بناس ماكيت، بأعياد ميلادِ ماكيت، سيارات هيلمانٍ وأقفاصُ مانغو ماكيت، لم يعدْ لهم وجودٌ، فهل تريد ذلك؟ هل ينقصك الزّحام ومدينة كالفينو المفضّلة، التي زرتَها ليوم واحدٍ، في سنّ تسمح بالتذكّر، ولا تتذكّر غير محل ّالسّيني كاميرا، الذي أضاع اليوم كلّه؟”.

“باسمٍ غير مستعار”، وحتماً هو غير “سمسم”، الذي استخدمه “علي بابا” قبلها، حيث لا تسمح رؤيتها لإبداع ما بعد الحداثة بذلك، تفتحُ غادة نبيل، ظاهراً، صفحات بنية مجموعتها، ببساطة تشكيلٍ تتوالى فيه أربعٌ وخمسون قصيدةَ نثرٍ: أربعة عشر منها بعناوين لا تفتتحُ قصائدها، وأربعون نزلت عناوينُها طوعاً لفتح قصائدها، ولتخفيف اسوداد رأس الصفحات بالعناوين السوداء، لكنها حفظت لنفسها مكانتَها في الفهرس.

وتفتح غادة باطناً، أو “تَفشَخ” إن استعملتُ روح مبضعها الشعري، في قصيدتها الفادحة الجرأة عن “الفَشْخ”، أعمدةَ هرقل المتوفزة حتى حدود انبثاق الضوء بشكل غير محدود، من بؤرة الغياب الغامر الذي يُحِلّ الحضورَ في روحك وروح المكان.

داخل هذا الحضور الذي سوف يتواطأ بسهولةٍ مع تمرّد حواسّك على عقلك لعيشه؛ تبزغُ “قصيدة نثر” غادة نبيل، مستعيرةً كل ما تستطيع أن تصهرَ في بوتقة شغفها، من قيود الثقافة العربية والعالمية، التراث، اللغة الفصحى والمحكية، الخوف من فشل الاستشعار، والجرأة التي تصل حدّ الوقاحة، كي تحطّم هذه القيود، وتُنتِج قصيدةً طازجةً حرّةً من عبث أصابع الآخرين، وأَخَصّها أصابع الشاعر اليوناني الذي استباح عذرية الاسكندرية “كفافي”، الذي:

” سيمدّ إصبعاً للسماء، ويلمَسها (لا تنسوا، هو يحبّ إدخال إصبعه في الأشياء، يؤمن أنّ فتحات أجسامنا، أنفٌ، فمٌ، شرجٌ، موجودةٌ لإدخال أشياءَ طويلةً فيها)، وسيعود يحكي: أنا كالفرنساوية بروست وجينيه، أمهاتنا الأهم”.

وداخل هذا الحضور المتموّج، تتبلور “قصيدة نثر” غادة نبيل بخصائص عامّة لا تمحو خصوصيتها، لأحدث أشكال قصيدة نثر ما بعد الحداثة، وبالأخص القصيدة التي تسير كقصة، والقصيدة التي تنبض بسخرية مستفزّة، مع تركيب الجملة الشعرية على مسنّنات الكتابة الآلية السوريالية، وتطعيم اللغة بما يجسد روح العصر، والغموض الذي يتحدى فهم وذكاء القارئ، وينصب له فخاخ اصطياده، بغنىً يضعه على صراط التغيير، ويلقيه ربما في جحيم انصهارات روحه، كي يكتشف بنفسه نعيم راحته.

كما تتبلور قصيدة نثر غادة، بخصائص خاصّة تُميّزها بين كوكبة شعراء قصيدة النثر الذين يسيرون على هذا النهج، ولا تخفي هذه الخصائص نفسها، إذ تتجلّى “باسمٍ غير مستعار” يجسّدها، حرّة، كما حورية ماء تستلقي على الرمل، عاريةً إلا من الشمس، ولا تعكس سوى نفسها، كمحور للمجموعة التي خصّصتها الشاعرة كما يبدو من أجل إبرازها، شكلاً متوحّداً بمضمونه، ومجسّداً لها في لحظات كتابتها: حرّةً، متوحّدة بذاتها، ومعدية بتأثيرها.

ضمن هذه الخصائص التي يمكن وضعها تحت ظلّ “الحريّة” كقبّة شفافة، يلمَس القارئ أشكال وأرواح التجريب التي يشير لها المحرّر في تقديم المجموعة، تحت ملاحظة أن الكاتبة “تستخدم مفردات من العامية المصرية، إضافة إلى اشتغال تجريبي بصري في مجمل الديوان وأحياناً يركّز بشكل خاص على دمج الكلام أو إلغاء علامات الترقيم”. كما يلمَس القارئ منذ بدء المجموعة بقصيدة “القصيدة”، نزعةَ الشاعرة إلى أسطرة الشّعر، لنزع الأسطرة عن منتجات البشر في الواقع، وذلك بإدخال النصوص الماضية الخالدة منها والفانية، في كتابة الحاضر، وإخضاعها لرؤية هذه الكتابة، بجرأة استخدام سياق كلام النص الماضي نفسه، مثلما يجري مع شجرة سورة النور:

“أما حين تكون السيدة هي القصيدة، فليس مطلوباً غير أن تكون مغطاة بالزفت، بلا لغة، كقرآن مهزوم. لا تعرف متى تم تعليق عيون سوداء وخضراء بدلاً من الزيتون، في شجرةٍ كانت اسمك من نبيك. تكاد تقفز على الحصى اللاهب، دون حذاء”.

ويتخطّى هذا الإدخال المتفاعل حدودَ الثقافي الجمعي المحلّي إلى النصوص العالمية، حيث يخضعُ الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو لمعالجة مرئياته ومدنه اللامرئية، كما يخضع غابرييل غارسيا ماركيز لمعالجة “خريف بطرياركه”، و”حبّه في زمن الكوليرا”، وإن بسوق نصوصٍ وفق سياقاته؛ ومثل ذلك تفعل الشاعرة مع كفافي، إضافة للكثير الكثير الذي يغني قصائد المجموعة، ويثري القارئ بالثقافة، ويغريه في ذات الوقت بالتفاعل مع الثقافات، حباً ونقداً وكرهاً ونقضاً وإثراء للحياة.

ويلمس القارئ بقوة، سواء ضمن القصائد التي تعالج الأسطرة مثل قصيدة “في غرفة نقية واسعة”، أو التي تخلو منها، جرأةَ إخضاع كل ما هو مألوف وما اتفق عليه إلى مراجعة كونه، والنظر إلى جميع ما تكوّن، بل وما يولد من التكوّن، بعينٍ شكّاكة، حرّاقة، نفّاذة، ساخرةٍ جديدة؛ كما في القصيدة التي تعكس روح السخرية المميزة للشاعرة بتألّق، عن الحديقة المخصصة لتماثيل المختارين من التاريخ، والموجودة في الإسكندرية باسم “حديقة الخالدين”، الذين:

“بعضهم، من موقعه، يمكنه رؤية ساحة إعدامه كلّ ليلة للأبد، مما بدا عقوبةً غير مفهومةٍ للفانين، بينما حظي آخر بتمثال، ليس لمواقفه الوطنية كما يُشاع، بل لقدرته على “التنكيت والتبكيت”، على من لجأوا للحديقة من شباب الماكستون فورت، وتمّ تفسير استبعاد النساء من الخلود، بعلّة نقص الدين والعقل”.

ولا يغيب عن القارئ مدى تداخل الذاتي والموضوعي في القصائد النابضة بمضامين اجتماعية ناقدة، لا يسلَم منها الدين، ولا المعبود: “المدين باعتذارات تستغرق أبديته، ومن ناحيتي لا أشك أنه يشعر بالذنب، إلى أن يصنع نسخة ثانية منكَ، تقدر أن تحبني”.

كما لا تغيب جرأةُ تصوير السخط على الرّياء والمرائين وعلى “بذاءات ما يحدث في العالم، بقصيدة مفرطة في البذاءة، تنزع من البصاق قفازاته ليخرج تفاً، مع تعرية اللغة من أدبها المرائي المصطنع.

“باسم غير مستعار”، مجموعة شعرية مميزة تتمحور حول مفهوم الإبداع، التميّز، ورؤية العالم والكتابة عنه بعينٍ طازجة على الدوام، وربما هي تساعد القارئ بمضامينها، على فهم ما يعنيه مَسخ الذات، وتفادي أن يرى نفسَه أو طفلَه تلميذاً أبله في طلائع حزب البعث ويلثغ بلسان بشار الأسد، أو كذاباً مقهقهاً في المؤتمرات ببذاءة السيسي، أو جثةً تمشي خارج حراك الجزائر بزوغان أعين بوتفليقة.

 

غادة نبيل: “باسمٍ غير مستعار”

منشورات المتوسط، ميلانو 2019

111صفحة.

جريدة القدس العربي