إن الروائي الذي توقّف أمام سؤال كتابة الأحداث بعد مئات السنين، يجد إجابته التي يقرّرها في غير صفحة من روايته، والتي تتلخّص في أنّ التاريخ الذي كُتِب بعد قرون من الأحداث هو تاريخ مُحَرَّف ومُزَّوّر وغير دقيق ومبالَغ فيه، مثل قصص جدّه الأول الذي كان يستحضر قصصاً خارقة عن بطولات مشكوك في أمرها.

تزوير التاريخ وكشف المعطوب

المتوكل طه

 

يبدو أن من تجليات الزلزال العنيف الذي أصاب سوريا الحبيبة أنّ خلخلة المُسلّمات، وطرح الاستفسارات، والتجرّؤ على طرح الرأي المناقض والمُعارض، باتت مُتاحة وتُلقي ما اختبأ في كهوفها من ضلالات وفظاعات وعناكب سامّة، ما يعني أنّ هذا التلاطم والتصادم والعتمات والارتباك… سيصحب معه تشققات ستمسّ وتضرب قلب كل بناء ومكوّن في المجتمع.

من هنا أدخل إلى عالَم رواية خليل صويلح “عزلة الحلزون”، والتي اجترحها من فضاء العاصمة دمشق العزيزة، المُحاطة بأصداء ذلك الزلزال، وهو وراء زجاج مكتبه، يراقب ما ينبض ويظهر ويمور أمامه، ما يجعل حضور آثار “الحرب” من حوله طبيعياً ومتوَقّعاً، وكيف أطلّت برأسها الشيطاني المُدمِّر، ص 77، وكيف نُهِبَت البلاد بشكل مفزع ص 78. إن هذه الرواية قد عكست بعمق وضراوة مأساة الحرب التي تشهدها سوريا، بطريقة غير مباشرة، بعيداً عن التنظير والاجهاش، وبكيفية تحمل كل تلك المآسي والكوارث والدماء والأشلاء والانكسارات، وتلقيها في وجهك دون استئذان. ويكفي ما قاله هنا، ليلخّص ما ذهب اليه: “تمكنّا بعد حصار طويل من عبور حقل الالغام بالمشي على أشلاء الذين انفجرت بهم الألغام قبلنا، وهم يحاولون الهرب”، ص150.

ولأن الإنسان “الطبيعي” في حمأة الأزمات يصبح إنساناً “مأزوماً” بالضرورة، فإننا سنرى صورَ هذه الأزمة تتجلّى في سلوك الناس، من خلال توجّه النُخب والأفراد نحو الخلاص الشخصي، والابتعاد عن الفعل الجماعي، وعدم الثقة بالعمل الطوعي والجمعي، عداك عن الذهاب للانتماء إلى الحلقات الصغيرة كالبلد أو الطائفة أو العشيرة أو الشلّة، وكذلك فإن المأزوم يتقمّص ويُقلّد قاتلَه، إضافة إلى أنه يستخدم اللغّة النهائية (التكفير، التخوين..الخ أو تأليه الذات وادّعاء امتلاك الحقيقة “المُقدّسة”)، علاوة على أن الكفر بالحضارة والتاريخ والثقافة والجذر الأصيل هي من مميزات المقهور والمأزوم، جنباً إلى جنب إشاعة مفردات الكآبة والإحباط والسواد، ثمّ إن تمزيق الذات بغير آليّة، والإساءة إلى الرموز وإهانتها هي من مسالك المهزوم وسجاياه العقيمة. من هنا، أيضاً، نفهم شخوص الرواية، بدءاً من الراوي المُنكفئ الخائف الباحث عن خلاصه الشخصي وسط هذا الضجيج المريب والمخيف مثل الحلزون، علماً أنه يعمل صباحاً ومساءً ليتمكّن من العيش، مروراً برئيس تحرير الموقع الإلكتروني الانتهازي المنافق، وصاحب دار النشر المُزَوِّر، والضابط كاف ومرافقه، ورهام المُتقاطِبة، وسهام التي تبيع روحها، وانتهاءً بشخصية غاندي كاز الضائعة، وباقي الشخصيات المرورية والأساسية. وأنّ كل شيء مستباح! إذ يقوم صاحب دار النشر بالسطو على الكتب التراثية، فيبدّل ويغيّر ويحذف منها، فيما يقوم صاحب الموقع الالكتروني بتزوير التاريخ، فيما يتحوّل الناس إلى ما يشبه الحيوانات الضالّة السائبة الخائبة المُستسلمة (ص154)، وبطانة كل ذلك حرب أتت على كل شيء فأشاعت الإحباط والانكسار والكآبة، مع قبضة تتحكّم وتستبدّ وتمعن خراباً في كل شيء، في لحظة ينكشف فيها التاريخ، فتظهر نتوءات الخيانة والتزوير والموبقات، بأقبح صورة، كما تبزغ مشاهد الرذيلة والمُتع الرّخيصة من الواجهات ومن وراء الجدران وفي العتمات. لهذا كان “طبيعياً”، في مثل هذه الظروف والمعطيات، أن يكون كلُّ شيء مُزوَّراً وممجوجاً وخَرِباً، بدءاً من التاريخ (القديم والجديد) وأنّ الكاتب أو الصحفي هو مُزوِّر اللحظة وليس مؤرِّخها.

ويبدو أن ثمة تماهياً بين خليل صويلح والراوي إلى درجة تنتفي فيها الفواصل بينهما، وهذا يمدّ الرواية بصلابة واقعية.

واللافت أنّ الكاتب يوطّئ لروايته بتاريخ سلالة أجداده (الهلاليين) وكأنهم ولدوا من فضاء جينيٍّ إجراميّ، فكانوا، تبعاً لأسماء الحيوانات التي يحملونها (السمحج، السحليّة، الضبع، السبع، السرحان، ابن آوى، أبو الحصين..) سيتصرّفون بحيوانيّة وغلظة وقسوة (الجدّ الذي يغزو ويسبي النساء، الجدّة التي باعت شرفها وقبيلتَها بحفنة تبغ، الجدّ مقطوع المحاشم لنزواته، قطع الطُرق في كلّ آن، سرقة الآثار ومتعلّقات الموتى..الخ ). الشهوانيّون، الشبِقون، الغزاة، الدميّون، الذين يحملن في صدورهم قلوبَ الذئاب وليس أفئدة الطيور!

ما معنى ذلك؟ معناه أنّ العتبة الأولى التي أصَّلَت مداركنا كانت عتبة ساديّة إجرامية، ما جعلنا نتاج سلالة قاتلة متوحشة باطشة، لا ترعوي عن اقتراف كل ضلالة ومهلكة! لهذا، كان تاريخنا وما زال، كما تقول الرواية، هو تاريخ عنف وكراهية وتكميم أفواه وسحْل وتبديد! الأمر الذي جعل الروائي يدعونا إلى ” الفُرجة السوريالية المجانيّة لحروب الإلغاء والإبادة: طائفة تلغي أخرى بجرعات عالية من العنف والقسوة والاغتسال برغوة صابون الكراهية من آثار الآخر وآثامه”، ص67.

إن الروائي الذي توقّف أمام سؤال كتابة الأحداث بعد مئات السنين، يجد إجابته التي يقرّرها في غير صفحة من روايته، والتي تتلخّص في أنّ التاريخ الذي كُتِب بعد قرون من الأحداث هو تاريخ مُحَرَّف ومُزَّوّر وغير دقيق ومبالَغ فيه، مثل قصص جدّه الأول الذي كان يستحضر قصصاً خارقة عن بطولات مشكوك في أمرها، وقد أصابها التبديل والتحريف، لِبُعد المسافة التاريخية بين الأحداث وتدوينها، وبسبب المُشافهة، والهوى، والجِهويّة، والطائفية، والحزبيّة، وقوّة المُتسلِّط الحاكم، وغَلَبة موازين القوى، وتفرّد الراوي المُسيطر. حتى أنّ الروائي يذكر كيف تمّت عملية تزوير العديد من أمّهات الكتب، ويورد قصة المستشرق أنطوان غالان مع الرحّالة الحلبي حنّا ذياب، ومع المستشرق الفرنسي بول لوكا، وإضافة وتأليف قصص وحكايات على ألف ليلة وليلة! كما أن الراوي في سياق تدقيقه وتحريره للعديد من كتب التراث قد اكتشف أنها تعجّ بالاضطرابات وبأيام تزعزعت بالفوضى، وكيف ظهر الشُطّار والعيّارون، دائماً، وعاثوا فساداً في البلاد، ص 82.

ويؤكّد الروائي على أنّ هذا التزوير متواصل، إذ يذكر مباشرة، وهو منكبّ على كتب التراث، كيف أنّ رئيس التحرير الحاليّ، وهو جاهل انتهازيّ، يمدح وينافق ويزوّر الحقائق، بلغته الخائبة الخشبية الجوفاء، وكيف سيصبح ذلك تاريخاً بعد سنوات!

ويوظّف الروائي كل سطر حتى يؤكد مقولاته التي يتغيّا إيصالها والطَرْق عليها وتكريسها، مثل تفاصيل ما ينقله من كتب التراث عن قمع العلماء ومؤامرات الساسة، والإتيان بمقولات تعزّز أفكاره ومقاصده المنحازة كلياً للحرية والكرامة والمفاهيم المطلقة البيضاء.

إن عصور القمع، والميتة الشنعاء للمؤلّفين، والنهايات المفجعة للعلماء والكُتّاب الموسوعيين القدماء، جعلت الكاتب يجد نفسه أمام كابوس أكثر جحيمية، وإن سيرة أولئك الضحايا الأفذاذ دفعت الكاتب لأن يقلق بخصوص الهوية والرّقابة، حتى أنه أحسّ برائحة شواء لحم بشري تتسرّب إلى رطوبة الهواء في مكتبه الحديث!

إن نقد الروائي للتاريخ القديم والجديد، من وراء ذلك الزجاج، وهو على مكتبه، جعله يلقي كل أوراق التاريخ في وجوهنا، ويحرّك فينا الساكن، ليقول إن ثمة رواية أخرى، أو وجه آخر للتاريخ، وثمة ما هو مسكوت عنه، وإن التاريخ مجموعة وثائق عن الخزي وليس سجلّاً للفضيلة، ص 95.

وأرى أنّ جرأة هذا الروائي الرائي، والناقد بحقّ وجسارة، واضحة في هذه الرواية، لكل ما هو قائم من خراب متواصل. وسنرى في الرواية مصائر مفجعة وخسارات مبهظة، لحقت بحيوات العديد من كبار كتاب حضارتنا من ابن رشد إلى الجاحظ وابن المقفع، لتظهر كارثة ملاحقة المتنوّرين وأصحاب الرأي الحرّ، وهزيمة الحكمة والعقلانية، عبر الزمن، وسيطرة التطرّف والعمى والضلال والوهم والجهل والعنف وتبديد المعرفة. ويقيم الروائي حوارات مباشرة مع العديد من كبار الأدباء القدماء مثل الجاحظ وابن رشد، ويستنطقهم ويحادثهم، ليكشف عبر الحوار معهم، عمّا لحقهم من غُبن أو تبعهم من ظُلم وإجحاف.

وعلينا أن ننتبه إلى النهايات التراجيدية لأبطال الرواية، ما يجعل إيقاعها المذبوح ينتهي إلى هذه الفاجعة الصادمة، للكثير منهم. مثلما نرى، من البداية إلى النهاية؛ كيف تُصنع الأكاذيب علناً!

إن كاتباً يقرأ ثم يقرأ ثم يقرأ بعمق ووعي وتنوّع، كما نرى تجليّات ذلك في هذه الرواية، سيجعلك تحظى منه بالضرورة بعمل يتفجّر بينابيع عذبة ثرّة من المعارف والخلاصات المكثفة، وسيؤكد لنا، مرّة أخرى، أن القراءة الجادّة والمتواصلة هي ما ينتج مسوّدة باذخة، ستصلنا صفحات ذهبية تفيض بثقافة تغري بالتصفّح والعودة للاستزادة، مثلما تملأ القارئ بقناعات تقوم على ثوابت وشواهد، كما تستفزه ليعجم كلّ المسلمات. إن هذه الرواية ترجّ الثابت الذي يبدو ساكناً، وتطرح أسئلة حارقة أمام الأحاديث والسرديات والمرويات والقصص التي أخذت رتبة القداسة والمسلمات النهائية، التي اعتقدها الناس وأقرّوها بحقيقتها، التي تبدو غير قابلة للمعاودة أو الشك.

إنّ القدرة المذهلة على السرد، بهذا السبْك السّوي، وانتقاء الكلمة الأكثر مناسبة، وشحنها بسياقٍ بلاغيّ رشيق وغير مسبوق، تتكامل مع لغة الروائي الصافية الحسّاسة المعافاة، التي ينظمها في لوحة إثر لوحة، جعلها أقرب إلى البناء الشعري منها إلى السرد النثري البارد المباشر، ما جعلها نافذة نابضة وشهيّة مريحة، ترسم لك، بمجازاتها وتشكيلاتها، المعنى صافياً ومغرياً وجديداً.

ويطعّم الروائي صفحاته بقصص تراثية فنتازية لطيفة ومسلّية، وتحمل حكمة مُقطّرة، مثل قصّة الحطّاب، وهذا يرطّب أجواء الرواية، ويشحذها بمتعة إضافية ونكهة طيبة. وبعيداً عن الذهنيّة والصنعة، يأخذك خليل صويلح، كعادته، إلى هذا التدفّق البديع، كأن السماء قد بعثته إلى الأرض ليكون روائياً بامتياز، وليبعث غير مسألة، يلجها وهو يمتلك أدوات تفكيكها، ووضعها على بساط صفحاته، بحذق ودراية.

خليل صويلح: “عزلة الحلزون“

نوفل، بيروت 2019

213 صفحة.

جريدة القدس العربي