متعة حقيقية أن تشاهد أفلام صلاح أبو سيف، وأن تحلِل مشاهدها التى لا تنسى، ولكنك ستحصل على نفس المتعة تقريبا وأنت تقرأ الأستاذ وهو يحكى قصة حياته، لتكتشف أن ثراء أفلامه يرجع بالأساس إلى ثراء شخصيته، التى نضجت على نار الفقر والتجربة والكفاح، وأصقلتها الثقافة والمعرفة، فاختار السينما ليحارب بها ما يرفض ويكره، ويعبر بالصور المتحركة عن نفسه وعن الناس.
قصة الأستاذ صلاح كما سجلها وكتبها الكاتب الصحفى عادل حمودة، صدرت فى كتابٍ بعنوان «صلاح أبو سيف.. مذكرات مجهولة»، ضمن مطبوعات مهرجان القاهرة السينمائى 2018، وقدم لها الناقد طارق الشناوى، وهى فعلا إضافة حقيقية لا غنى عنها سواء فى اكتشاف منابع أعمال المخرج الكبير، أو أسباب انحيازاته الاجتماعية والإنسانية، أو حتى فى رسم ملامح عصر كامل من الفن والثقافة وصناعة الأفلام.
عبارة أبو سيف البديعة «النجاح سلم لا أسانسير» أحد مفاتيح الرحلة، ابن بولاق أبو العلا، الطفل الذى ولد لعمدة من بنى سويف، والذى شعر دوما بأنه يتيم، لأن الأب المزواج تخلى عن واجباته المالية، ردا على رفض الأم أن تعيش فى القرية، هذا الطفل عرف الفقر والشقاء، واختار مبكرا الاعتماد على نفسه، وكان انحيازه للفقراء طبيعيا ومنطقيا، لا اختيار فيه ولا مفاضلة، لقد صنع ببساطة أفلاما عمن يعرفهم.
يحضر فى الكتاب عصر بأكمله، وتحضر شخصيات عرفها أبو سيف: ألبير قصيرى قبل هجرته إلى فرنسا، كامل التلمسانى الظريف فى الحياة والعنيف فى الاستديو، كمال سليم الذى تغير فصار ديكتاتورا بعد نجاح فيلم «العزيمة»، ولى الدين سامح مهندس الديكور تركى الأصل الذى يحتقر المخرجين المصريين، تحية كاريوكا الفنانة الجدعة التى أنفقت أجرها فى «شباب امرأة» على عزائم الطعام فى الاستديو، يوسف وهبى الذى اعترف ببراعة صلاح كمونتير بعد إنكار، زكى رستم الذى كان يطلب عشر دقائق قبل التصوير لكى يندمج، شادى عبدالسلام الذى دخل إلى عالم السينما فى « شباب امرأة» كمساعد لصلاح لشؤون الإكسسوار والديكور، وطبعا نجيب محفوظ الذى تعلم كتابة السيناريو على يد صلاح.
الطفل الذى شاهد جنديا بريطانيا يقتل شابا مصريا بالسونكى، والذى أخذ لعبة من بيت فرع الأسرة الغنى فعاقبوه، والذى كان يتلصص على حكايات بنات وكالة الصوف الجنسية، احتفظت ذاكرته بكل التفاصيل، رأى السرجة والحمام الشعبى والفرن الذى يعمل فيه العمال عرايا تماما، عرف طبيعة أولاد البلد الذين يحبون الرموز والإيفيهات والإسقاطات، وعاش سنوات الصراع فى استديو مصر بين المصريين والأجانب، لدرجة أنه كان سيقتل المخرج الألمانى فيرتز كرامب بالرصاص!
ربما تكون هذه الاعترافات التى سجلها حمودة فى بداية التسعينيات من القرن العشرين، ثم راجعها صلاح بعد تفريغها، هى الأكثر جرأة، ولكنه ظل محافظا فى الحديث عن بعض التجارب، خصوصا تلك المرأة الحقيقية التى استلهم منها قصة «شباب امرأة»، سيدة عرفها فى باريس، وكان هو بطل القصة، لا تفاصيل ولا أسماء، على الرغم من أنه حكى قصصا أخرى عن صدمة الجنس عند زيارته إلى باريس.
درس صلاح أبو سيف عموما، وفى هذه المذكرات الممتعة بشكل خاص، هو أن السينما ليست مجرد حرفة ومهارة تقنية، قبل أن تمسك بالكاميرا، عليك أن تعرف أولا بالضبط ماذا تريد أن تقول؟ المخرج مجموعة خبرات ومعارف وانحيازات، وثقافته وحياته وتاريخه ومواقفه ستنقش على الشاشة بالنور إلى الأبد، صلاح أبو سيف هو أفلامه، وأفلامه فى الواقع هى كل ما اكتسبه فى الحياة، هذا بالضبط هو المخرج العظيم: موقف ورؤية ثم حرفة فى خدمة هذا الموقف وتلك الرؤية.
أتمنى أن تصدر طبعة من هذا الكتاب فى الأسواق، بدلا من توزيع الطبعة الأولى المحدودة فى مهرجان القاهرة السينمائى، الثقافة السينمائية للناس وليست فقط فى المهرجانات، وحرام فعلا أن تُحبس كتب مهمة مثل كتاب عادل حمودة فى هذه الدائرة الضيقة.
جريدة الشروق المصرية