يقارب الباحث الكويتي مؤثرات العولمة على الانتماء الوطني، ويسلط الضوء على تفكك عدد من الدول إلى دويلات، وتجاوز الدولة الوطنية، مما أدى إلى ضعف الانتماء الوطني إلى درجة وصلت فيها الأمور إلى مؤشرات سلبية ونتج عنها ردة فعل معاكسة تنذر بعواقب وخيمة في بقاع مختلفة من العالم.

الانتماء الوطني ... إلى أين؟

عبدالله الجسمي

 

لعبت الدولة الوطنية دورًا بارزًا في الحفاظ على الكيان السياسي والاقتصادي والاجتماعي لمواطنيها ومجتمعاتها لفترة امتدت إلى أكثر من قرنين خصوصًا بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية وخلال فترة مقاومة المستعمر، واستمر الأمر إلى العقد الأخير من القرن الماضي عندما دخل العالم مرحلة العولمة حيث شهد ظاهرتين متناقضتين، الأولى تفكك عدد من الدول إلى دويلات قومية وإثنية، في بدايتها، من جهة وتجاوز الدولة الوطنية من جهة أخرى. فخلال العقود الثلاثة الأخيرة ضعفت مسألة الانتماء الوطني إلى درجة وصلت فيها الأمور إلى مؤشرات سلبية ونتج عنها مؤخرًا ردة فعل معاكسة تنذر بعواقب وخيمة في بقاع مختلفة من العالم، والقضية لم تعد تتعلق بإقليم أو قارة، بل أصبحت مشكلة عالمية.

العولمة والكيانات الوحدوية
مثلت العولمة أحد العوامل الرئيسة في إضعاف دور الدولة الوطنية ومن ثم إضعاف مسألة الانتماء لها. فقد ساد نمط اقتصادي واحد روجت له الأطراف الداعمة للعولمة، خصوصًا الشركات متعددة الجنسيات، وهو اقتصاد السوق في معظم أنحاء العالم، وأخذت العديد من الدول في تخصيص شركات القطاع العام وتحويلها للقطاع الخاص فأضعف ذلك من قوة الدولة السياسية وجعل السياسيين رهينة بيد الشركات ومن يديرها. واستمر مسلسل إضعاف الدولة الوطنية مع عولمة حركة رأس المال وسن قوانين موحدة ذات طابع عالمي، ناهيك بالطبع عن اتفاقيات التجارة العالمية وغيرها من الاتفاقيات للتكتلات الفرعية والإقليمية التي تتطلب تشريعات وأحيانًا مجالس منتخبة لهذه التكتلات، حيث صادرت حق تشريع العديد من القضايا التي كانت يومًا ما من اختصاص مشرعي الدولة الوطنية. ولعل أفضل مثال على ذلك هو الاتحاد الأوروبي. فبعد التوسع الكبير في عدد الدول التي انضمت إليه بعد انهيار المعسكر الاشتراكي واستخدام اليورو كعملة موحدة وإلغاء الحدود بين دوله، أخذت ما يطلق عليه "نخبة بروكسل"، بصياغة التشريعات والقوانين العامة، وقامت تدريجيًا بتهميش دور الدولة الوطني وأجبرت الكثير من الأحزاب الحاكمة على صياغة قوانينها بما يتماشى مع الإطار العام لقوانين الاتحاد الأوروبي، وكذلك رسم سياسة خارجية عامة واحدة تقريبًا في التعامل مع المشكلات العالمية والإقليمية.

وهنالك عوامل أخرى ساهمت بها العولمة في إضعاف الدولة الوطنية. فبعد انتصار المعسكر الغربي في الحرب الباردة، أخذت القوى الاقتصادية الغربية الفاعلة في دولها بتشكيل الدولة ومؤسساتها بناء على مصالحها الاقتصادية البحتة، ولم تعر أي وزن أو قيمة لمواطني تلك البلدان، بل بدأت تنظر لمصالحها وفق رؤية عالمية لا وطنية.

فالدور التاريخي الذي كانت تلعبه البرجوازية الوطنية في بناء أوطانها بمؤسساتها المختلفة تلاشي تقريبا إذ لم تعد برجوازية وطنية، بل قامت الغالبية الساحقة من الشركات بنقل مصانعها وخبراتها الإنتاجية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية لدول أخرى من أجل تحقيق أكبر هامش من الربح والانتشار على المستوى العالمي، مما ساهم في تقدم تلك الدول الاقتصادي والصناعي وتراجع اقتصاد العديد من الدول الغربية أو تحقيقه في أحسن الأحوال نسب نمو متواضعة مقارنة بالدول التي تم نقل التكنولوجيا والمصانع إليها.

كما عملت على فتح الحدود وتسهيل حركة التنقل والهجرة من أجل الحصول على أيدي عاملة ومدربة وبأجور أقل مما تتطلبه العمالة الوطنية وهذا يعني أن البرجوازية، في الغالب لم تعد وطنية ولم تعد تعنى بمصالح وطنها أو مواطنيها.

ولعب اقتصاد السوق دورًا هامًا أيضًا في هذا الإطار، فهو لا يعطى أهمية للأبعاد الاجتماعية والفكرية والثقافية والإنسانية وحتى السياسية في الكثير من الأحيان، بل اقتصاد صرف يقوم على احصائيات وأرقام مجردة وعلى مصالح الشركات واحتياجات السوق ولا يعير اهتمامًا لأية أمور أخرى مهما كانت النتائج الاجتماعية أو البيئية.

العالم العربي والدولة الوطنية
ما يجرى في العالم العربي فيما بخص مسألة الانتماء الوطني يسرى على عدد من الدول غير المتقدمة صناعيًا أو في طور النمو، فمسألة الانتماء الوطني تأخذ أبعادًا مختلفة ولا تتعلق بدور البرجوازية الوطنية التقليدي كما كان الحال في الدول الصناعية المتقدمة، فهناك أسبابًا أخرى تعيق من تحقيق مسألة الانتماء الوطني لدى الكثير من المواطنين.

يأتي غياب كيان فعلي لدولة المؤسسات واستقلاليتها والتعامل معها ككيان موضوعي كأحد أبرز إشكاليات الانتماء. فتحقيق الانتماء للوطن يأتي من قوة كيانه وسيادة تطبيق القانون فيه على الجميع وتحقيق أسس مواطنة عادلة تقوم على المساواة في الحقوق والواجبات وعدم تهميش أي فئة من الفئات أو تتمتع فئة معينة بامتيازات دون غيرها. والإشكالية الموجودة تتعلق بفقدان هذا الكيان الفعلي والمساواة في الأغلبية الساحقة من الدول العربية (باستثناء دولة أو اثنتان)، وقد أدي ذلك إلى أضعاف مسألة الانتماء الوطني وبروز الانتماءات الفرعية المتمثلة في الطائفة أو القبيلة أو الانتماء العرقي.

فهناك من يقوم بتسييس التشكيلات الاجتماعية السابقة الذكر ويدفع في تقويتها ويفتت بذلك الانتماء الوطني ويضعف كيان الدولة ويساهم في تفتيت المواطنة والدفع بالانتماءات الطائفية والقبلية والعرقية وتحويل الدولة والمجتمع ومؤسساته إلى كيانات محاصصة بين مختلف فئات المجتمع. والانتماءات سابقة الذكر لا تقف عند حدود الوطن، بل تتجاوزه إلى ما هو أبعد. فالانتماء العرقي والخاص بقومية معينة يتجاوز حدود الوطن إلى الوطن الأم مثلًا أو إلى خلق كيان للعرق أو القومية المنتشرة في بلدان عدة، وينسحب الأمر على الطائفية خصوصًا الانتماء لتنظيمات حزبية ذات أبعاد أصولية سياسية يتجاوز أفرادها أوطانهم لتقديم صك الولاء لتنظيماتهم ومن يمثلها من قوى أو دول.

وكان لغياب عملية التحديث الثقافي وخلق ثقافة توحيدية في العالم العربي أثرًا كبيرًا في تراجع الانتماء الوطني. فالثقافات الدارجة لا تزال ثقافات فئوية تكرس الانتماءات السابقة للعرق أو القبيلة أو العشيرة وغيرها، ولا وجود لثقافة بديلة لتلك الثقافات السابقة على الدولة الحديثة تكون لها السطوة العليا في المجتمع وتوحد كافة فئاته في الحقوق والواجبات وتعكس انتماءً حقيقيًا للوطن، كما هو الحال في الثقافة المدنية التي وحدت الشعوب الأوروبية مع عملية التحديث التي جرت بها وجعلت ثقافاتها التقليدية ثقافات فرعية.

إن غياب كيان الدولة الفعلي ومؤسساتها الفاعلة بقوة القانون وغياب ثقافة توحيدية هو ما ساهم في إضعاف الانتماء الوطني عند الكثيرين في العالم العربي، وينسحب الأمر على الدول الأخرى في العالم التي تعيش واقعًا شبيه بواقعنا.

تراجع الثقافة المدنية وبروز النقيض
كما تمت الإشارة، جاءت الثقافة المدنية في أوروبا متزامنة مع عملية تحديث المجتمع الأوروبي وإقامة كيانات دولة المختلفة، بمعني أن عملية التحديث كانت شاملة وطالت جميع جوانب المجتمع وكيانه المادي والثقافي. وجسدت الثقافة المدنية الجانب القيمي الأهم في مسألة الانتماء الوطني ومكملة للانتماء لترابه الوطني. هذا الانتماء يقوم على أسس عقلانية متجردة من العواطف والانفعالات التي تتصف بكونها مؤقتة، فالثقافة المدنية هي نِتاج لثقافة المدينة التي جاء بها الانسان وشكلها على أسس عقلية عكست جوانب التقدم الفكري والثقافي الذي جاء به العلم، وهي ثقافة توحيدية تتجاوز أية انتماءات فرعية أيًا كان نوعها واحتضنت الأفكار والايديولوجيات ونِتاج العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة ووحدت فئات مختلفة من المجتمع ضمن إطار التنوع والتعددية.

وحدث في الآونة الأخيرة تراجع في انتشار هذه الثقافة في الدول الغربية وهذا نذير شؤم لما قد تؤول إليه الأوضاع في حال استمرار تراجعها، وهناك عدة أسباب ساهمت في ذلك نذكر أبرز ما له صلة بموضوعنا. يعود السبب الأول إلى انتشار الثقافة الاستهلاكية التي شيَّئت الإنسان وحولت كل شيء في المجتمع إلى سلعة، وهذه هي ثقافة العولمة التي جاء بها اقتصاد السوق، وقد استطاعت هذه الثقافة اختراق العديد من الحواجز الثقافية والقيم السائدة في المجتمعات لكونها لا تحمل معتقدات أو أيديولوجيات، بل هي استهلاكية بحته.

ويعود السبب الثاني إلى التعددية الثقافية التي تم تطبيقها في بعض الدول الغربية والديمقراطية في أنحاء متفرقة من العالم. فقد تم إحياء الثقافات التقليدية للشعوب الأصلية وكذلك للأقليات المهاجرة، وأعطيت بعض الفئات صلاحيات لسن قوانين وتشريعات خاصة بها تعبِّر عن قيمها الثقافية، فساهم ذلك في تشظي المجتمع وخلق كيانات ثقافية متباينة تختلف في قيمها ورؤيتها للمجتمع والأخر، وتم تسييس هذه الكيانات الثقافية مما ساهم في تحويلها إلى كتل وكيانات انعزالية تقريبًا وجاء ذلك بآثار سلبية على الثقافة المدنية وكذلك على مسألة الانتماء الوطني والمجتمع بشكل عام خصوصًا فيما يتعلق بانعزال المهاجرين.

أما الطامة الكبرى فهي النتائج العكسية التي جاءت من الانفتاح وحرية التنقل والهجرة والتي فاقت حدود الاعتدال في مسألة الانتماء وهو ظهور الأحزاب العنصرية وبقوة في كثير من الدول الغربية وغيرها. فالعالم الذي أصبحت تعاني دوله من مسألة الانتماء كمشكلة، برز على النقيض من ذلك وهو الانتماء ذو الطابع العنصري للدولة الذي يستهدف الأقليات والمهاجرين وبعض الديانات. فالأحزاب العنصرية التي نجحت في زيادة شعبيتها أو وصول بعض ممثليها إلى مراكز قيادية في أعلى مراكز الدول تجسد صيغة من الانتماء البغيض الذي لا يدعو إلى التعايش مع كافة مكونات المجتمع ويحمل خطابًا مليئًا بمفردات التعصب والعنف اللفظي والكراهية وصولًا إلى العنف والإرهاب الجسدي ضد بعض مكونات المجتمع. وهذا الخطاب والقيم والممارسات التي يحملها تتناقض مع قيم الثقافة المدنية وممارساتها التي تقر بالمساواة التامة بين الفئات المختلفة في المجتمع وتنشر خطابًا عقلانيًا يقوم على مبادئ الحوار والتعايش والتسامح بين كافة مكوناته.

لقد أصبحت مسألة الانتماء الوطني مشكلة حقيقة بحاجة للمزيد من البحث والدارسة في ضوء المتغيرات الجارية في العالم خصوصا في العقود الثلاثة الأخيرة، كما يجب دراسة جانب مهم جداً وهو آثار التطورات التكنولوجية التي ستغيّر في بنية المجتمعات المادية الثقافية، وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية اللتان ساهمتا بشكل كبير في التأثير على الكثير من الثقافات التقليدية وقيمها ومن ثم مسألة الانتماء وهذا يستحق أن يفرد له مناقشة خاصة مستقبلًا.

 

(نقلا عن مجلة العربي)