يرى الناقد المصري أن استراتيجية اللعب – في النص – تحمل دلالات ثقافية تعزز من وفرة التشكيل المجازي للشخصية، وتجسد حالة تجاور الصور، وتراكمها في وعي، ولاوعي المتلقي، فضلا عن فاعلية علامات التراث، والتفاصيل الواقعية في ذلك السياق الجمالي، وما يحمله من تداخلات بين الذوات، والفضاءات، والبنى التصويرية.

تشكيل الشخصية بين تأويلات الوعي، ووفرة الصور المحتملة

في رواية «عنكبوت في القلب»

محمد سمير عبدالسلام

 

ينسج الروائي والشاعر المصري المبدع محمد أبو زيد نصا روائيا تعدديا، يحتفي بالتقنيات التجريبية في السرد الروائي؛ مثل احتمالية لغة السرد، والكولاج، والمحاكاة الساخرة، وإغواء الصورة، والتداعي الحر لعلامات الوعي، واللاوعي، واستخدام الميتا سرد في الإشارة إلى مؤلف النص، وعلاقته بالبطل / بيبو، والاحتفاء بالاستبدالات في بنى الشخصيات، وعلامات الحلم، والذاكرة، وأخيلة اليقظة في النص، كما يكثر السارد من الإشارات إلى الأفلام السينمائية، والحكايات، والأساطير التي تكتسب حضورا نصيا مغايرا في الرواية؛ وقد عنون محمد أبو زيد روايته التجريبية ب عنكبوت في القلب؛ وتوحي عتبة العنوان باللعب، والاستبدال التفكيكي، والحضور التصويري الاستعاري المضاعف لعلامة العنكبوت التي اتصلت بفضاء تجريبي تعددي داخلي يقع بين وعي، ولا وعي كل من البطل / بيبو وميرفت عبد العزيز؛ وهي شخصية تجريبية محتملة في النص طبقا لإشارات الراوي، وذاكرته؛ ومن ثم يوحي العنكبوت بتضاعف التشبيهات، والإشارات، والدوال النصية التي تنبع من استراتيجية اللعب في كتابة الرواية، ويذكرنا بغياب مرجعية الصورة في التطور الثقافي المعاصر لبنية الصور في تصور جان بودريار، وبالانتشار اللامركزي للعلامة، ودلالاتها فيما بعد الحداثية.

ويطور محمد أبو زيد من وظائف السارد، وتحولات الشخصية في النص الروائي؛ فالسارد يؤول الشخوص، والأشياء بصورة مجازية سيميائية؛ إذ يشير إلى الأرق مثلا في صورة ظاهراتية زرقاء تشبه التكوين الفني في الوعي، ويرى النادلة مثل الممثلة أودري تاتو، ويمزج بين الصور، والأصوات؛ ليثري مدلول الشخصية الفنية، ويؤجل اكتمال بنيتها، ويعزز من صيرورة اللعب، والصيرورة السردية التي تكشف عن تحولات البطل باتجاه فضاء سيميائي شعري؛ يشبه لحظة الاختفاء، أو الخروج، أو الاتحاد الكامل بفضاء كوني محتمل يستنزف تجسدات البطل العلاماتية السابقة في النص.

لقد انتقل البطل – في رواية عنكبوت في القلب – من آلام التشيؤ، والآلية الميكانيكية العبثية إلى تشكيل خصوصية الوعي المبدع بصورة احتمالية تجريبية، تعزز من لعب الدوال، والعلامات، ثم إلى الغياب التام في الفضاء الشعري / الكوني في النهاية التي تنفتح فيها الفضاءات الواقعية، والاستعارية، والحلمية، والكونية، ويصير الصوت فيها شبحيا، ويحمل أثر ذلك التراكم العلاماتي في تداعيات الكتابة، والتمثيلات الاستعارية للوجود، وللأصوات، والشخصيات، والأساطير، والاستبدالات الحلمية التي تعيد تشكيل الحواس، والذاكرة باتجاه وفرة الحضور المختلف في المتواليات السردية الاحتمالية، واتصالها بالشخصيات، والأحداث، والذاكرة الجمعية اتصالا ساخرا عابرا للبنى الفنية الزمكانية.

وأرى أن صيرورة السرد في النص قد أسهمت – بدرجة رئيسية – في تشكيل التحولات العلاماتية، والتصويرية للهوية، والصوت، والشيء، والآخر؛ فالعلامات جميعها شعرية، ومحتملة، وتقبل التضاعف النصي / السردي الذي يسائل بنيتها الأولى، أو يكملها في مسارات جمالية مغايرة، تحتفي باللعب، وتناهض آلام الشخصية، وسياقها الواقعي؛ إذ إن التفاصيل اليومية جميعها تقبل التحول الاستعاري، والحلمي مثل الصوت الذاتي نفسه؛ ومن ثم تعبر الشخصية الفنية حدودها من خلال تأويلات الوعي، وانفتاح الوجود على أخيلة الكتابة، وتكويناتها المراوغة، وفضاءاتها المتداخلة خارج مركزيات التجسد، والبنى الواقعية، والثقافية المستقرة في النص.

وربما يومئ محمد أبو زيد – في خطابه الروائي – إلى وفرة التمثيلات الاستعارية التفسيرية في واقعنا الحضاري المعاصر؛ إذ تنفلت صور الميديا، والمصنفات الفنية من مرجعياتها الأولى باتجاه العالم الداخلي للذات، وتتحول – بفعل إنتاجية الوعي المبدع – إلى صور حلمية في تداعيات الكتابة، واستبدالاتها؛ ومن ثم أرى أن استراتيجية اللعب – في النص – تحمل دلالات ثقافية تعزز من وفرة التشكيل المجازي للشخصية، وتجسد حالة تجاور الصور، وتراكمها في وعي، ولاوعي المتلقي، فضلا عن فاعلية علامات التراث، والتفاصيل الواقعية في ذلك السياق الجمالي نفسه، وما يحمله من نقاط اتصال تفسيرية نسبية، وتداخلات بين الذوات، والفضاءات، والبنى التصويرية.

*سرد احتمالي ما بعد حداثي:

يحتفي محمد أبو زيد باحتمالية الخطاب الروائي، وإشاراته التعددية اللامركزية إلى الأحداث، والشخصيات، والفضاءات؛ ففضاء الغرفة يقودنا إلى التشكيل السيميائي للعنكبوت الذي يتصل بصورة ميرفت الحلمية، بينما يقر الخطاب السردي بوجود شخصية ميرفت عبد العزيز، ثم يفكك مركزية حضورها بالإحالة إلى وقائع متعارضة، أو إلى صور تمثيلية بنيت على أصل غائب، تشير إلى التحول السيميائي لميرفت بين الوعي، وتداعيات الكتابة.

يقول السارد:

"في الغرفة سرير واحد، وكمبيوتر واحد، ومج أحمر واحد، مكتوب عليه "نسكافيه"، وشخص واحد يتمدد على السرير، وعيناه تتأملان سحابة من الرطوبة ناشعة بوضوح في السقف، ترسم عنكبوتا، وفتاة بجناحين؛ هذا الشخص يحلم بميرفت، وحتى لا أكون كاذبا، هو لا يعرف أحدا أصلا بهذا الاسم، لكن الاسم نبت في ذهنه منذ كان صغيرا، عندما فتح الصفحة الأخيرة من كراسة الحساب، في صفه الرابع الابتدائي، فوجد مكتوبا فيها ميرفت عبد العزيز"(1).

يكرر السارد صفة الوحد في إشاراته إلى الذات، والتفاصيل الواقعية؛ ليشير إلى التعارض البنائي المحتمل بين الواقع المحدود، وتمثيلاته الاستعارية الوفيرة التي توشك الكتابة أن تنسجها في عمليات الاستبدال، والتداعي؛ وقد بدأت وفرة التصوير في نفاذ رؤية السارد لما وراء فضاء الغرفة نفسه؛ وكأنه يبعث بإشارات للمروي عليه بأن الغرفة تشبه غرف ألف ليلة التي تشير إلى غرف أخرى أسطورية مجازية بداخلها.

وتنبع صورة ميرفت هنا من أخيلة اليقظة التي لا تستند إلى هوية مركزية للشخصية، وإنما تستند إلى حضور ظاهراتي، أو تشكيلي في الوعي؛ فالسارد يحيلنا إلى هوية مؤجلة، ولا مركزية لميرفت، ويشكك في معرفة البطل / بيبو بها؛ فهي مجرد علامة في نسق سيميائي لعبي من الدوال التي تقع في لعبة الكتابة؛ وأرى أن لعبة الكتابة هنا تستنزف معرفة السارد نفسها، وتمنحه حضورا تجريبيا يؤسس للغة السرد التمثيلية الاحتمالية في الجزء المتبقي من صفحات النص الروائي.

وقد أشار السارد إلى انفتاح الفضاء، وشخصية ميرفت التمثيلية منذ عتبة عنوان الفصل / الفتاة التي هبطت من السقف؛ وكأن تجسد ميرفت طيفي، وليس فيزيقيا؛ إذ تقع بين الداخل، والخارج؛ وقد تمثل تكثيفا شعريا لأصوات فنية، وتاريخية متداخلة، تسخر من مركزية حضور البطل، وتفاصيل واقعه التي تبدو أحادية في الظاهر، بينما تخفي لعب التشبيهات، والصور فيما وراء تجليها الفيزيقي.

يسائل السارد مدلول الهوية الأولى، ويمنحها مجموعة من التمثيلات الاستعارية، والاستبدالات التفكيكية وفق تصور دريدا للكتابة؛ فالدوال، والصور تؤجل مركزية الهوية، وتسهم في تطويرها شعريا في سياق يقع بين الوعي، وجماليات الانتشار العلاماتي في الفضاءات المتداخلة المتجاورة.

يشير السارد إلى وضع بيبو لقلبه على الطاولة، وعدم اهتمامه، ثم رغبته في دفنه، وإعادة إغلاق صدره مرة أخرى(2).

يحيلنا السارد إلى هوية تمثيلية للبطل تذكرنا بأبطال بيكيت، وسارتر، وجينيه، وإن كانت تتجه لملء الفراغ بتراكم العلامات الاستعارية المدهشة التي تتجاوز بنية الذات، والبنى الزمكانية؛ وكأن الذات تمارس أيضا خلاصا جماليا من الألم، أو نوعا من اللعب، والتأويل التصويري للهوية.

وتتداعى مثل هذه الهويات التمثيلية التي تقع بين الذات، والآخر، وشخصيات الفن في النص؛ فالبطل يرى أن سنووايت لن تحبه؛ لأنها تحب الأقزام، ونكتشف أنها – في بنية النص الروائي – تعمل في مقهى شهير في مدينة نصر، وتقرأ فناجين القهوة، ثم ينسج السارد متوالية سردية تحتفي باستبدالات العلامة، وتجاوز المدلول، والنهايات؛ فالسارد يقوم بتخييل قلب سنووايت الكبير بصورة فانتازية شيئية؛ إذ تجد نتفا منه كل صباح على سريرها، ويظن والدها أن المنزل مسكون، وتربي جدتها قطة لأكل الفضلات، بينما تحاول سنووايت أن تجمعها في صندوق؛ لأنها حين تكتمل ستطير بجناحين(3).

يستعير السارد هوية سنووايت من التراث الثقافي، ويمزج بنيتها الحكائية بفتاة المقهى، ثم يمنحها حضورا نصيا مضاعفا في المتوالية السردية التي ترتكز على الاستبدال، والإضافة؛ ففتاة المقهى تتخذ مظهر شخصية سنوايت، أو طيفها المنفلت من الحكاية بين الذات، والآخر، ويستبدل السارد تكوينها الفيزيقي بتكوين تصويري يمارس خلاصا جماليا شكليا أيضا من الألم، ثم يستبدل ذلك التكوين بفعل الطيران المحتمل، أو التحول النصي / الأسطوري المضاعف، أو غياب سنووايت الأخرى في فعل الكتابة، ومتواليات السرد المحتملة.

وسنجد النص يحيلنا بصورة ساخرة عابرة للأزمنة إلى تأبط شرا، وعلاء الدين، والمصباح السحري، وإلى شخصية الممثلة أودري تاتو في فيلم شفرة دافنشي، والممثلة سكارليت جوهانسون في فيلم الأرملة السوداء، ويستبدل القلق بتكوين تجريدي شخصي أزرق اللون على المقهي؛ وكأن البطل يعيش في عالم لا مركزي من التمثيلات، والاستبدالات، والهويات المؤجلة في تداعيات الكتابة، وعلاقتها بمدلول الوجود، وتعدديته، وتداخلاته.

وترى ليندا هاتشون – في كتابها شعرية ما بعد الحداثية – أن المحاكاة الساخرة تحدث فجوة أو انقطاعا في قلب اتصالية البنية، واختلافا في قلب التشابه، كما تعزز من إعادة التفكير في مدلول الأصالة، وتفكك مركزيته في تجانسها مع الإشكاليات ما بعد الحداثية الأخرى في الكتابة(4).

تحيلنا – إذا – المحاكاة الساخرة ما بعد الحداثية عند هاتشون إلى تفكيك اكتمال بنية العمل الفني، وإمكانية تجدده بصور مكملة، أو مختلفة تفكك مركزيته الأولى؛ فهي تعيد إبداع العلامة في متواليات سردية أخرى، وأزمنة، وفضاءات جديدة، وقد تمتزج الشخصية بالصور، والتفاصيل، والأصوات الأخرى؛ فمحمد أبو زيد مثلا يحيلنا إلى استبدال سنووايت لفتاة المقهى، ويولد منهما شخصية نصية أسطورية تقبل الطيران في نهاية المتوالية، وتحولات السرد؛ وكأن شخصية أميرة الثلج مازالت تقع بين الحكاية، وصوت الآخر، وأخيلة الكتابة.

وقد خرجت شخصية أودري تاتو من وعي، ولاوعي بيبو من داخل فيلم شفرة دافنشي، وقد عبر لها عن إعجابه بأفلامها، ودعاها لتناول كوبي اسبريسو؛ فاستأذنت، ولحقت بالقطار؛ فهرول وراءها؛ ليسألها عن أحدث أفلامها، ثم يمزج السارد بين دقات قلبه حين عودته إلى الغرفة، وطرقات تشبه الطرق على الباب(5).

إن البطل يدرك العلامات، والشخصيات، والهويات وفق علاقاتها بأعمال الفن، والصور، وتداعيات الأحلام، واستبدالاتها في مستوى ما قبل الكلام طبقا لروبرت همفري؛ فالشخصية الواقعية، تبدو منفلتة من تاريخيتها باتجاه صمت الحلم، ولغته التعبيرية بينما تلتبس بشخصية أودري الفنية، وصورتها التي لا تنفصل أيضا عن تاريخ الفن، بالأطياف الداخلية للبطل؛ فهو مازال يعيد قراءة الغرفة كأنها ضمن عالمه الداخلي الجمالي، والتصويري عقب لحظة تحوله إلى الثراء العلاماتي الممزوج بفراغ موقع القلب في النص.

ويحيلنا النص إلى شخصية علاء الدين، ومصباحه السحري في سياق حضاري مغاير؛ فيحول بنية حصوله على المصباح، واسترداده في الحكاية القديمة إلى انتشار صوره في وعي الآخر / الآخرين كبطل إشكالي، وحلمي منشق عن الحتميات الواقعية؛ مثل باقي أحلام بيبو وأخيلته.

أما شخصية ميرفت عبد العزيز فيمنحها السرد حضورا احتماليا تعدديا، يؤكد صورتها الظاهراتية في الوعي، واستبدالاتها النصية، والحلمية المضاعفة في السرد؛ فالسارد يومئ إلى نشوئها في الإسكندرية، ويجسد صوت ارتطام الأمواج بالصخور في أحلامها، وقد يعيد قراءتها مرة أخرى في القاهرة؛ حيث تتجلى وسط أشياء متشابهة، وتفاصيل يومية شعرية؛ مثل العناكب، والحكايات، والملابس، وباعة الأرصفة، ثم ينسج تصورا ذاتيا تمثيليا آخر لميرفت يتمركز حول خصوصيتها الاستعارية الأنثوية في بحثها عن الغرائب، والأساطير، وعلاقتها الملتبسة، والمتناقضة بالعناكب. (6).

هكذا يحتفي السارد بلا مركزية السرد الروائي؛ فالشخصية تنبثق من الوعي، ومن احتمالية التكوين في مسارات متجاورة، ومختلفة من الوجود النسبي، فضلا عن تأويلها الاستعاري لهويتها الحلمية، والكونية التي تتصل بوعي، ولاوعي بيبو، وتتقاطع مع ذاكرته كعلامة تفسيرية تقترن بتفاصيل عالمه الواقعي / الشعري، واستبدالات العلامة بداخله، كما تتداخل مع ذاته التصويرية الأخرى التي تجاوزت بنية التجسد في علامة القلب، وحلول الفراغ الذي ينطوي على إنتاجية لانهائية للعلامة في موقعه.

*التشكيل الحلمي للعلامة في مستوى ما قبل الكلام:

تمتزج الأصوات، والصور، وتتخذ شكل الاتصال الكثيف المقطع بالذات في مستوى ما قبل الكلام الذي ميز به روبرت همفري رواية تيار الوعي عند وولف، وجويس؛ فالعلامات تولد بين استبدالات الذاكرة، وتاريخ الفن، والبنى اللامركزية للسياق الحلمي النصي نفسه؛ ومن ثم تشكلت صورة العنكبوت في خطاب سردي تأويلي علاماتي لمنطق الحلم، وتداعياته النصية في الكتابة.

يحيلنا السارد إلى صورة النادلة الحلمية التي تشبه الممثلة أودري تاتو، وإلى صورة العنكبوت في طرف بلوزتها، وإلى التمتمات التي كانت بينهما دون كلام، ثم شعوره بثقل في صدره، وصعود رائحة من داخله تشبه البخور الهندي، ثم يعاين التكوين الحلمي للأرق / الرجل الأزرق الذي يرتدي زي عمال الديلفري، وبيده صندوق زجاجي يشع ضوءا أزرق. (7).

وسنجد أن السارد يشكل من علامة العنكبوت العالم الاستعاري لميرفت عبد العزيز، وحضورها الحلمي التشبيهي، والنصي، فضلا عن التجلي الداخلي للعنكبوت في وعي البطل، ولاوعيه كمفتتح للعلاقة بين وجوده التصويري، وعالم ميرفت النصي المحتمل، والمؤجل في النص.

تنطوي علامة العنكبوت في الرواية – إذا – على الاتصال بين الذات، والانتشار العلامات لصور الحلم، واستعارات الفن، وأصواته المقطعة المملوءة بالفجوات، والارتباطات التأويلية، والصور السينمائية، والأسطورية، فضلا عن التشكيل السيميائي التجريدي للأرق، وضوئه الأزرق الذي يقع بين العالم الداخلي، والفضاء العلاماتي البديل عن بنية الغرفة، أو بنية المقهى التقليدي في الواقع.

وقد ارتبطت علامة العنكبوت مثلا في خطاب كولن ولسون السردي باستعادة فانتازية لمدلول الطوطم في اللاوعي الجمعي؛ فنيال بطل رواية عالم العناكب / البرج يعاين قوة خفية خارقة مصحوبة بالخيوط، ويطلق السارد عليها سيد الموت في النص(8).

وتبدو قوة العنكبوت التخيلية الأسطورية - في نص كولن ولسون – طيفية، وتقع بين الداخل، والخارج، واللاوعي الجمعي، وإن جاءت في سياق بنية الصراع الوجودي الدائري، والمدلول الرمزي للهيمنة في مستوياتها الثقافية، والأرضية المحتملة؛ أما محمد أبو زيد فيجعل من دال العنكبوت مفتتحا للعوالم النصية، والفنية التي اقترنت بهوية ميرفت التمثيلية، وبوجود بيبو الآخر في عالم العلامات، وتشكلاتها الفنية، والحلمية المقطعة، والمتجاورة في متواليات السرد.

*إغواء الصورة:

لتاريخ الفن، والصور، والمشاهد السينمائية أثر داخلي في البطل في النص؛ إذ يتحول المشهد السينمائي المختزن في ذاكرة البطل إلى أداء جمالي في الواقع اليومي، ويذكرنا بالتداخل بين الجمالي، واليومي في تصور جياني فاتيمو لما بعد الحداثية في كتابه نهاية الحداثة؛ ومن ثم يرتكز خطاب الراوي على إغواء الصور السينمائية للبطل، وتحولها في حالة الأداء السردي الواقعي الملتبس بطاقة الصورة المستعادة من الفيلم.

يشير السارد إلى أثر فيلم أن تقتل طائرا محاكيا في وعي، ولا وعي البطل حين يتذكر بيبو رواية شخصية جريجوري بك لمثل قديم يقول: أنت لن تعرف الرجل حقا حتى تمشي في حذائه، ثم نجد البطل يبحث في صناديق القمامة عن حذاء قديم؛ ليترك الحذاء يقوده إلى حياة صاحبه الأصلي، وقد قادته الأحذية أحيانا إلى المقابر(9).

ثمة طيف مجازي، أو صوت متخيل يكمن في صورة الحذاء، وتحولها الحلمي بداخل البطل، وفي حالة الفعل / ممارسة الإغواء الجمالي للصورة في قلب الواقع اليومي؛ ومن ثم يتداخل صوت الأنا بالآخر الذي يشير النص إلى احتمالية كونه ميتا؛ فالذات تسعى – من خلال الصورة – إلى تجاوز مركزيتها في ذلك الفعل السردي التجريبي.

وقد تتمازج الصور، والتشبيهات، وتتجاور في المتوالية السردية الواحدة فيما يشبه الكولاج؛ فالبطل يقوم بتكرار سيزيفي لمشهد سينمائي حلمي يقتل فيه رجلا، بينما نستمع إلى مشهد لفرح، ثم نجد ميرفت تقبع خلف الأكورديون، وتشبه الممثلة فيروز، بينما يشبه البطل شخصية أنور وجدي في أحد أفلامه (10).

ورغم أن المتوالية السردية السابقة تحيلنا إلى عمليات الاستبدال في بنية الحلم، فإنها تحدث فجوات ما بعد حداثية في الهويات الشخصية، والحدث؛ ففيها تناقض نيتشوي بين البهجة، والغياب، وغياب مضاعف للشخصية في عالم الصور، فضلا عن التجاور بين الفيلم الحلمي الكابوسي، والفرح، ومرح الكينونة، وتأويلاتها من داخل انبعاث الأطياف الفنية وتجددها في المتوالية اللامركزية نفسها.

ويعزز محمد أبو زيد – عبر خطاب سارده – من تقنية الميتا سرد، او الميتافيكشن؛ إذ يشير الصوت المتخيل للمؤلف إلى عملية كتابة الرواية؛ فهو يشعر بسريان الشعر في دمه في لحظة الكتابة، ويعاني من لحظات توقف، ويود أن يقتل بعض شخصيات العمل أحيانا، ثم تلح على وعيه صورة بيبو؛ فيظهر في المحمول، أو يراه كبديل لأحد زملائه بالعمل(11).

لم يكن صوت المؤلف بعيدا عن حالة إغواء الصورة إذا؛ فهو يمارس الفعل الجمالي الأدائي للسرد، ونزوعه لمزج الشعري باليومي، ويدخل المؤلف هنا شبكة معقدة من العلاقات النصية المتخيلة؛ وكأنه يقع ضمن صيرورة السرد، ووفرة دواله في فعل الكتابة.

وربما طور صوت المؤلف شخصية بيبو من داخل الانفتاح الأخير بين فضاء السيارة الشعري(12)، والفضاء الكوني الفسيح الذي يتجاوز التجسدات السابقة للبطل، وتصير جميع التفاصيل طيفية شعرية.

لقد احتفى محمد أبو زيد – في الخطاب الروائي المتخيل – بوفرة الحضور التجريبي للشخصيات، والأحداث، والفضاءات، والتفاصيل، وتراكمات صور التاريخ الفني؛ ليكشف ثراء الارتباطات التفسيرية المحتملة بين الصور، وحالات الوجود، وتداعيات الكتابة المتجاوزة لبنيتها الخاصة.

*هوامش الدراسة:

(1) محمد أبو زيد، عنكبوت في القلب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 2019، ص 19.

(2) راجع، محمد أبو زيد، السابق، ص 52.

(3) راجع، السابق، ص-ص 60، 61.

(4) Read, Linda Hutcheon, A poetics of Postmodernism, Routledge, New York, and London, 2003, p.11.

(5) راجع، محمد أبو زيد، السابق، ص-ص 42، 43.

(6) راجع، السابق، ص-ص 127، 128.

(7) راجع، السابق، من ص 31: 33.

(8) راجع، كولن ولسون، عالم العناكب / البرج، ت: فكري بكر، دار الآداب ببيروت، ط1، سنة 1988، ص 196.

(9) راجع، محمد أبو زيد، السابق، ص 49.

(10) راجع، السابق، ص-ص 69، 70.

(11) راجع، السابق، ص 156.

(12) راجع، السابق، ص 216.

 

msameerster@gmail.com