"العيون التي غادرت سريعا" ديوان للشاعرة المصرية المبدعة إسراء النمر؛ صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتابة 2020 ؛ والتجربة الشعرية لإسراء النمر تواصل مسيرة التجريب في قصيدة النثر المصرية؛ وبخاصة في إعادة النظر إلى الذات في سياق شعري تصويري يستلهم بنية اللاوعي، وأحلام اليقظة الأنثوية أحيانا، أو يعيد قراءة تاريخ المتكلمة بصورة مجازية، أو يجدد بنية صوتها في النسق السيميائي التجريبي للنص الشعري؛ مثل تصويرها للحظات من النشوء المجازي المتكرر للذات في علامات المرآة، أو الشارع، أو الحائط، أو ضمن أخيلة المياه التي تذكرنا بشاعرية الطاقة الأنثوية / الأنيما، وتأملاتها لدى غاستون باشلار في كتابه شاعرية أحلام اليقظة، وقد تستعيد المتكلمة – في كتابة إسراء النمر – صوت لوركا مجازيا في لحظة الكتابة؛ لتعيد التأمل في بنيتي الموت، والحياة من داخل أثر لوركا الجمالي، وامتزاج صوته التجريبي بالذات المتكلمة في لحظة الكتابة؛ وهو ما يؤكد نزوع الكاتبة للتجريب، وتفكيك المرجعيات المستقرة عن الذات في سياقاتها اليومية، والتاريخية باتجاه صيرورة الاستبدالات التصويرية الممكنة في تداعيات النص، وفي السرد الشعري التفسيري، وإيماءات التحول السيميائي للعلامة، ولبنى الذات، والآخر، والفضاء المتضمن في خطاب المتكلمة الشعري.
وقد صدرت الشاعرة ديوانها بعتبة نص استهلالي يوحي بالتجدد المجازي لصوت المتكلمة، واستبدالاته العلاماتية الشعرية؛ وكأنها تمارس نوعا من التعاطف الكوني الذي يؤكد شعرية الوجود، وتداخلاته من جهة، ويعزز من هويتها الشعرية الأنثوية في تأملاتها الحالمة لعلامات الآخر، والحيوان، وتفاصيل الأشياء الصغيرة بصورة صوفية كثيفة، وآلية من جهة أخرى؛ وكأن التأملات، والأحلام، والصور تقع في بنية إدراك اليومي بصورة مباشرة؛ ومن ثم فهي تفكك علاقات الانفصال بين الذات، والعالم، والعلامات الكونية؛ تقول إسراء النمر في عتبة النص الاستهلالي للديوان:
"أنا نباح الكلاب / أنا مواء القطط / أنا صراخ الرضع بعد الواحدة / أنا النوافذ التي تنطفئ واحدة تلو واحدة"(1).
تستلهم الشاعرة – إذا – إيماءات الأصوات، والتفاصيل الصغيرة في سردها الشعري التفسيري للذات المتكلمة بصورة كثيفة مباشرة تضعنا في قلب السياق الشعري اليومي، وأثره الجمالي في عالمها الداخلي.
وتعيد المتكلمة قراءة وجودها الشعري النسبي الخاص عبر التحول السيميائي للصورة باتجاه طفرات الحلم السريالية التي تفكك بنى الواقع، وبنية التجسد الأولى في نص غرفة مكتظة بالرؤوس؛ تقول:
"تقول أمي / إنني مثل القطة / لأنها كلما جاءت / إلى غرفتي / لتغير الملاءة / لتكنس السجاد / لتطبق الغسيل / تجد شعري عالقا فيها ... / اليوم شهقت / حين دخلت علي / كانت كل شعرة تنبت رأسا" (2).
تنتقل الشاعرة – إذا – من بساطة اليومي إلى طفرات التحول، وأخيلة الوفرة اللاواعية لعلامات الرؤوس التي شكلت وجودا تصويريا تفسيريا للذات، وللغرفة التي أصبحت صارت مثل فضاء حلمي يستبدل الواقع سرديا، ويؤكد الاستبدالات الممكنة لتجسدات الذات، وأثرها الجمالي الذي يتراوح بين الحضور الواقعي، والوفرة الحلمية، وضمن آثار التفاصيل الصغيرة في وعي الآخر / الأم.
وقد تمتزج أخيلة اللاوعي العميقة بسؤال الهوية الأنثوية، وبالسياق اليومي الاحتمالي في نص يد تجوب البيت؛ فالمتكلمة توظف الصورة اللاواعية لليد في قراءة مدلولي الوجود، والغياب في بنية الصوت، والوجود الإنساني؛ تقول:
"البارحة / نسيت يدي / على الطاولة / وذهبت إلى العمل / لم أستطع أن أسلم / على أحد / أو أكتب أي شيء/ وحين عدت / وجدت يدي تجوب / البيت / بحثا عني / يدي التي يئست / وعادت ثانية / إلى الطاولة"(3).
تجسد علامة اليد علامات اللاوعي التي قد تتحرر من بنية الأنا في الفضاء الحلمي / المنزل، كما تؤول الرعب الذي يقترن بحالات التجسد، وتهديد الاختفاء، او الغياب، كما تشير إلى بهجة اليومي، وإلى بنية الحضور المؤقت كما هو في تصور مارتن هيدجر؛ فالذات تعيد قراءة هويتها الوجودية، والأنثوية في طفرات التصوير الشعري لعلامة اليد.
وتؤكد الذات المتكلمة – في خطاب إسراء النمر الشعري – حالة التعاطف الكوني، والتداخل التصويري بين الذات، والآخر عبر التجريب في بنية الفضاء، وعلاقته الاستعارية بالجسد، وبالإيماءات التشكيلية التي تعزز من تداخل النص، والتشكيل في الديوان في قصيدة شق طويل:
تقول:
"وسط صدري / شق طويل / شق مفتوح / كأنه حفرة / أو هاوية / أداريه دائما / بجلد شفاف / جلبته من سوق شعبي / كلما مر أحد / من أمامه / وقع فيه / حتى صار صدري / ممتلئا / بالعابرين / والشحاذين / والتائهين ... / ما يخيفني / هو أن يفكر أحدهم / أن يطل برأسه / ويباغتني"(4).
لقد صار الجسد علامة شعرية دينامية، أو مثل فضاء تكويني تشكيلي، يخترقه خط تجريدي، أو هاوية تجريبية مجازية تشبه الثقب الأسود، وتمارس فعل الجذب الاستعاري للآخر / الآخرين في نوع من اللعب السيميائي للعلامة، وسخريتها ما بعد الحداثية من مركزية الذات، ومركزية الفضاء في آن؛ ففضاء التجسد صار جماليا، وكونيا، وينطوي على حيوات الآخرين، ومراوحات الوجود بين البهجة، والألم.
وقد يقع الحضور التجريبي النسبي للجسد بين الفضاء الجمالي المولد عن المكان – في الوعي واللاوعي – وبلاغة الأشياء الصغيرة وتحولاتها التصويرية في العالم الداخلي للمتكلمة في قصيدة ظن أني شارع؛ تقول:
"ظن أني شارع / وحتى / لا أخيب ظنه / ذبت تماما / في الوحل / وحين مرت / سيارة مسرعة / من أمامه / وجدني عالقة / على شاربه / وعلى ساعديه / وبنطاله الساقط"(5).
تمارس المتكلمة هنا نوعا من الإغواء التصويري باتجاه شعرية الفضاء / الشارع، وتفاصيله الصغيرة / علامات قطرات المياه، وحياتها المجازية الهامشية الخاصة التي تنتقل – في النص – إلى موقع المتن حين تختلط بصوت المتكلمة، وخطابها؛ وكأن المتكلمة تنقل نفسها في علامة الفضاء؛ لتسخر من بنية التجسد، ومن منظور الآخر، أوتعيد تشكيل عالم الأشياء الصغيرة الجمالي ضمن المشهد اليومي، وشعريته الخاصة.
وقد تستعيد المتكلمة وهج الحياة المجازية للأشياء الصغيرة في الوعي المبدع في نص النافذة؛ فهي تشكل حضورا ظاهراتيا للنافذة في الوعي، يكشف عن العمق الجمالي للبسيط، واليومي ضمن بنيته التكرارية الخاصة، ودون أي طفرات خيالية، أو استعارية؛ وكأنها تشير إلى الأثر الجمالي الداخلي ما بعد الحداثي للمشهد اليومي نفسه؛ تقول:
"لم تكن النافذة تريد سوى / أن تقوم بدورها / أن تفتح في النهار / أن تمر من أمامها القطط / والكلاب والسيارات / والناس أيضا / لم تكن النافذة تريد سوى / أن تغمض أضلافها / في الليل"(6).
تتشكل علامة النافذة – هنا – في الوعي المبدع للمتكلمة في لقطة تسجيلية ممزوجة بالإدراك الشعري للظواهر، والعلاقات الخفية بين الأشياء التي تبدو كجزء أساسي من دينامية الحياة؛ إذ يمثل حضورها وهج الحياة، والعلاقات النسبية المعقدة بين علاماتها الجزئية، دون مركز.
وتمزج المتكلمة بين تشكيل الهوية الأنثوية، وشعريتها الخاصة، وتأملات أحلام اليقظة التي ترتكز على أخيلة المياه؛ في قصيدة العالقون بجسدي؛ تقول:
"حين أعود إلى البيت / أستحم مباشرة / لأتخلص من هؤلاء / الذين علقوا بجسدي / الذين اصطدموا / بكتفي / الذين دهسوا قلبي / دون قصد / الذين لم أنظر إليهم / ولم ينظروا إلي / الذين بلا ذراعين / أو ساقين"(7).
يشير خطاب الشاعرة إلى تشكيل هويتها الأنثوية الشعرية في خصوصية استخدامها للدوال، وارتباطها بعالم المتكلمة الإبداعي؛ فهي تبحث عن لحظة تأمل مستقلة عن بنية الآخر، وترتكز على أحلام اليقظة التي تتصل بأخيلة المياه؛ فالمياه تؤكد صفاء لحظتي التجسد، والتأمل من جهة، والتشكيل الشعري لصور الآخر، وحضورها في الصور الشيئية في النص من جهة أخرى.
وتعمق المتكلمة حضورها الأنثوي المجازي عبر علامة فراغات المرآة الاحتمالية فيما وراء الكينونة الأنثوية في نص ابتلعيني أيتها الهاوية؛ فهي توجه خطابها للصورة السردية التفسيرية للمرآة / صورة الهاوية التي تقع على هامش كينونتها، وتجسدها الخاص، وتمارس نوعا آخر من الإغواء الذي يعيد تكوين الوجود بين الانعكاس، والانعكاس الشعري، والغياب المضاعف؛ تقول:
"أقف أمام المرآة / وأنظر لا إلى نفسي / بل إليها / وأقول لها: / ابتلعيني أيتها / الهاوية"(8).
تفكك المتكلمة – إذا – علامة المرآة عبر استبدالها بأخيلة الهاوية، أو الفراغ الكامن على هوامش التجسد، ويمتزج بها استعاريا.
وتستعير المتكلمة صوت لوركا التجريبي، ويختلط بصوتها التمثيلي الخاص في لحظة الكتابة في نص لوركا؛ وكأنها تعيد قراءة الاختفاء المجازي للجسد كصورة تأويلية نسبية متجددة للوجود من داخل تجدد سيرة لوركا، وأعماله؛ تقول:
"لن أوصي / بأن تفتح الشرفات حين أموت / أو تحرق قصائدي / ولن أسمح لأحد أن يقترب من جسدي / لدي من الطير ما يكفي / ليأكلني"(9).
يصير صوت لوركا التمثيلي الآخر – في خطاب المتكلمة – تأويلا شعريا لأسئلة الموت، والحياة، والاختفاء المجازي المتجدد.
*هوامش الدراسة:
(1) إسراء النمر، العيون التي غادرت سريعا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 2020، ص 7.
(2) إسراء النمر، السابق، ص-ص 12، 13.
(3) السابق، ص-ص 14، 15.
(4) السابق، ص-ص 24، 25.
(5) السابق، ص-ص 31، 32.
(6) السابق، ص-ص 22، 23.
(7) السابق، ص-ص 18، 19.
(8) السابق، ص 60.
(9) السابق، ص 79.