يقولون: وهل هذا زمن الشعر، بعد أن أصبح الإنسان يدافع عن جسده وحياته وطعامه، وبعد أن أصبحت القيمة فى رصيد البنك؟ فأقول: بل لعل هذا بالتحديد ما يجب أن يجعل الشعر ضرورة؛ لأنه يذكرنا بالقيمة والمعنى وبالإنسانية المهدورة، ولأنه يجسم الخطر والأزمة، ويصرخ لإيقاظ الغافلين، ويسترد القيمة للكلمة وللموقف والمعنى، ولأنه يبعث الإنسان المحطم والمحطم مبدعا جسورا، وقادرا على بعث الجمال من قلب القبح.
وهذا ديوان بديع من أفضل ما قرأت فى 2020 بعنوان «عواء مصحح اللغة» للشاعر عبدالرحمن مقلد، صدر عن منشورات الربيع، لا يكتفى فيه بتوصيف ما وصلت إليه الأرض الخراب من أحوال نراها كل يوم فى أنحاء الدنيا، ولكنه ينقل مأزق الشاعر وآلامه، مثلما يجعل من الشعر ضرورة وشهادة، وصرخة فى وجه القبح، ورقصة فى ساعات الهدنة، ونقطة وفاصلة وأقواسا تنظم الفوضى، وعواء إذا لزم الأمر، الصامت المراقب لن يسكت، والكلمات والمجازات ستعلن الحرب، ستعيد الاعتبار للإنسان المقهور داخل الإنسان.
رغم أن لكل قصيدة تفردها وجمالياتها وطاقتها ومفرداتها وصورها وموسيقاها، فإنها تصنع فى النهاية لوحة واحدة مدهشة ومخيفة: الأرض الخراب التى تحدث عنها إليوت لم تعد نبوءة شاعر، صارت واقعا تنقله الفضائيات والأخبار، ولكن الشاعر لم يعد صوتا مفردا وحيدا، لقد أخذ يستحضر فرسانا آخرين، يستعير أصواتهم وأقنعتهم، ويلوذ بفروسيتهم، الشاعر هنا صار مصحح اللغة، ودون كيخوتة، وتمثالا لرجل يحمل ابنته ويرقص، وعازفا حطموا آلة كمانه، وروح عمة وأم تنقلان الوصايا، وتظهران فى الأحلام.
الشاعر هنا لم يعد وترا، ولكنه صار أوركسترا بأكملها، واحته طفلة وحبيبة، وذاكرته لا تخلو من انتصارات صغيرة وكبيرة، وهو لا يكتفى بأن يقف غريبا ومحاصرا بالبنوك وبالقروض وبالفوائد مستحقة الدفع، ولكنه يعلن عن تمرد محسوس، حتى لو كبتوا الصوت، حتى لو كان مضطرا للركض فى مساحة ضيقة، ما زال يمتلك بعض ذكريات، وما زال يمكنه أن يغازل موظفات البنوك، وأن يهتك ماكينات صرف النقود، بعد أن يسخر منها بصلاة افتراضية.
كلما استحضر مقلد فى ديوانه أزمة الشاعر، أحسسنا بضرورة الشعر، وبأهمية أن تتحالف حتى الطبيعة والحيوانات مع البشر على طرد الأرواح الشريرة، وكلما تجسم القبح فى نفايات وحروب ودمار، عرفنا أهمية وجود ماريا، الطفلة الملاذ، وحتمية مواجهة الذين أفسدوا الحياة، بل إن دون كيخوته بكل إخفاقاته، وبجميع معاركه الخاسرة، ومصحح اللغة بكل قيوده ومحاولاته اليائسة للتصحيح، والرجل محطم المستشفى وكلبه الأجرب، أكثر إنسانية وفروسية من أبطال العصر الإلكترونى، على الأقل لم تحسم المعركة نهائيا بعد، فهناك من يؤثر أن يكون رهين الموسيقى، وهناك من يمنح العبارات معانيها، ويحمى للكلمات شرفها المنتهك، وهناك من يتذكر الجنود المنسيين، ومن يصنع من الصفيح والنفايات تمثالا يرقص فى سكونه، لا قلق ما دام هناك طير يعلو بالجناحين إلى آخر ضوء يلوح.
لا مكان لنقطة فى آخر سطور رؤية مقلد المفزعة والكابوسية والمبشرة أيضا، الشاعر حى وشاهد، صار متعدد الوجوه، ولديه عائلة يتحدى بها الخيبات، أما الكلمات فهى أقوى مما نتصور، بودلير والمتنبى وبيسوا حاضرون، ودون كيخوته يتجلى فى كل زمن وعصر، أصبح رمزا لا يموت، حتى لو اتهموه بالجنون، ماريا تهدهد أباها لكى ينام، وكلاب الحى يمكن أن تتحد مع الشعراء، والعيون ترى أن الجمال وراء أقنعة صامتة.
الشاعر مصحح اللغة يترجم فى الحقيقة معاناة كل إنسان حقيقى، وهو يرى جنون العالم، يقول:
«ماذا يفعل يا ابنتى / الشاعر بستانى اللغة / سوى أن يرثى الموتى / أو يتريث بضع دقائق كى تحتضن الأم بنيها / أو ينفجر الأب ويغلق عين الولد / وأن يقتبس الغارق آخر نفس / ويمر قطار المنتحبين / ليس عليه سوى أن يضع زهورا للدبابة / كى تقتات / ولا تضطر لصيد مزيد من صحبته / ويزين وجه نساء منهوكات العرض / ويضع فواصل كبرى / بين القاتل والمقتول».
ولكن مقلد يصف أيضا لحظة طرد الروح الشريرة، هى قصيدة تتجاوز فى رأيى حالة بعينها، إنها لحظة انتصار على القبح، وصورة تمرد على من يصنعه، تمرد من الناس والطبيعة معا:
«وتمنعه الأرض من وطئها / يطارده النهر / تطرده الصحراء / وتركله الريح / ويحتدم الشعب فى الفرح العام / لا أحد خارج السرب يبدو.
هنا فقط يصبح للأفعال قوة، تستقيم الألف المعتلة، وتزهو النقطة فوق الحرف، ويبتسم دون كيخوته بعد طول عذاب.
جريدة الشروق المصرية