هنا ملاحظات للكاتب والصحافي الروسي ستيبان سيميونوفيتش كوندوروشكين (1874–1919) الذي عاش في بلادنا نحو خمس سنوات، بين العامين 1898 و1903، وأتقن العربية. وفيها توصيف للحياة اليومية في دمشق سنة 1902. في النص لمحات استعلائية أو "استشراقية"، هي ابنة زمانها (بطريقتها الفجة على الأقل)، وانتماء الكاتب على حد سواء. ولكنها لا تُبطل أهمية الوصف.
مقدمة
عاش الكاتب والصحافي الروسي ستيبان سيميونوفيتش كوندوروشكين (1874 – 1919) في بلادنا نحو خمس سنوات، بين العامين 1898 و1903. فقد وفد إليها شاباً بدعوة من "الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية" ليمارس التعليم في دائرة جنوب سوريا، التي ضمت حوران والبقاع الغربي والضفة الغربية حتى سنجق القدس. بدأ التعليم في مدرستَي مشغرة وراشيا الوادي، ثم ما لبث أن أثبت جدارته وغدا مساعداً للمفتش التربوي العام لهذه الدائرة. أتقن كوندوروشكين العربية، ونقل منها إلى الروسية باب "الأسد والثور" من كتاب كليلة ودمنة. إلا أن أهم ما تركه كان في فن القصة الاجتماعية، لاسيما وأنّه ينحدر من أسرة فلاحين وقد حلّ في بيئة مزارعين، فأتت قصصه السورية خالية تقريباً من الإسقاطات الاستشراقية الكلاسيكية، مليئة بالملحوظات الاثنوغرافية. أما النص الذي بين أيدينا، فقد كان فيه كوندوروشكين شاهداً على الحياة اليومية في دمشق سنة 1902، ونشره في مجلة "البشير التاريخي" في العاصمة سان بطرسبورغ، العدد 4، سنة 1903. وهو جزء من الفصل الرابع من دراسة تاريخية، أثرية، بيئية، ديموغرافية، اجتماعية، تربوية، احتلت 60 صفحة من هذه الدورية المحْكمة. والنصّ يروي بوصف سينمائي عن حياة ناس المدينة وعاداتهم بعيني شاهد عيان.
* * *
كلمات الكاتب الروسي ستيبان سيميونوفيتش كوندوروشكين
حياة دمشق في أسواقها العديدة، في حدائقها ومقاهيها. بكلمة واحدة، حياة دمشق بكاملها في الشارع وليست في المنزل، فالمنزل مكان مخصص للزوجات، والمسنين والأطفال الصغار فقط.
أظن أنّ المرء لن يجد مكانا فيه حشد كثيف من البشر يتزاحمون في الشوارع كما هي الحال في دمشق، ولا حتى في القسطنطينية نفسها. تستيقظ دمشق في وقت مبكر جداً، مع شروق الشمس. للمدنية في ذلك الوقت من الصباح جوّها الخاص من الجلبة. يسرع التجار متثائبين إلى متاجرهم وحوانيتهم، معظمهم من المسلمين، يرتدون عباءات صوفية، ويعتمرون عمائم بيضاء وخضراء. يرفعون الستائر الحديدية عن أبواب متاجرهم إلى فوق، لتظهر السلع الملونة في عتمة الأسواق المسقوفة. يجهد الخبازون برفوشهم في تحريك العجين في حلل معدنية ضخمة، يذبح الجزارون الخراف والدجاج، يدوّي رنين مطارق الحذّائين. نساء مسلمات يرتدين إزارات رثّة، سوداء أو مخططة، يسرعن الخطى بوجل، يبتعدن من وسط الطريق ليتجنبن العربات. هنا حمار يجرّ عربة كبيرة حمولتها من القصب المجفف للوقود.. لولا أذنيه الطويلتين، المتأرجحتين خلف كومة القصب البيضاء، لخال المرء أن هذه العربة تتحرك بنفسها. هنا جمل أيضاً، يبدو ضخماً تحت سقف السوق بشكل خاص، يحمل جذعا خشبياً طويلًا، يتأرجح القسم الخلفي من الجذع خلف الجمل تأرجحات مخيفة إلى الأعلى والأسفل، يميناً ويساراً، كما لو أنّه يختار ضحية ما ليسحقها بضربة واحدة. تصطف الكلاب أمام محال البقالة تنتظر الصدقات. سيوف العساكر المسبلة تحدث رنيناً، المتسولون يعولون. هكذا تستيقظ دمشق لتعيش يوماً عادياً آخر.
في دمشق عدد لا يحصى من المقاهي، وكلها ممتلئة بالناس طوال اليوم. يجلسون في خمول على أرائك ممزقة، يحتسون القهوة، يلعبون بطاولة النرد، يدخنون النارجيلة، يستمعون إلى موسيقى يعزفها رجل في الشارع، ينفخ في أنبوب آلته الموسيقية الشبيهة بمزمار القربة. يصدر عن النفخ لحن جارح مستمر، يترافق مع صوت مغن ينشّز أغنية عربية، ويتمايل إيماء وتراقصاً كما تقتضي الأغنية. يبتسم الجمهور وينظر إليه بتسامح. في كثير من الأحيان، يستمع رواد المقاهي الدمشقيون إلى روايات بعض الحكواتيين. وهم يتنقلون من مقهى إلى آخر ويروون للمستمعين حكايات عن أحداث الماضي السحيق، يزينون الحقائق بخيالهم المفعم بالحيوية. وهؤلاء الحكواتيون شعراء بالفطرة، فكاهتهم لا تنضب، مراقبون جيّدون وملاحظاتهم رائعة. حتى أنّ بإمكانهم أن يضحكوا سكان الشرق الكسالى شبه النائمين بحذاقتهم في فن الإلقاء. الحكواتيون، بالإضافة إلى ارتجالهم الشعر، هم النقلة الأمناء على التراث، يحافظون عليه ويشيعونه في الحاضر الحي.
تعطي اللغة العربية الغنية مجالاً رحباً للارتجال الشعري. والعرب مغرمون بالأبيات المنظومة ذات القوافي القابلة للترخيم والمدّ، والتي تترافق غناءً مع موسيقى آلات الإيقاع، أو العزف على الآلات الوترية برتابة. أنظروا إلى هذا الرجل المكفوف، كيف يحمل آلة وترية بسيطة في يديه، وقد انغمس في اللحن وبات مزاجه رائعاً، وها هو يصدح بصوته على الملأ، يخبرنا عبر أغنية بما مرّ به وكيف كان شعوره. أما في الأزقة بين الدور، فيسير العرب المصريون والغجر مع الدببة، يرفهون عن الزوجات والبنات المحبوسات. وفي مقابل بعض القروش، يؤدون الحيل الفكاهية المختلفة أمام المتفرجات الفضوليات.
في المساءات الدمشقية، تترك الحشود المدينة نحو البساتين والحدائق المنتشرة على ضفتي نهر بردى وفروعه. لا توجد أي رغبة لدى الشرقي بالحركة إن لم يكن ذلك لحاجة ملحّة. في الحدائق يجلس الناس كما هي حالهم في المقاهي على الكراسي والأرائك، والتي يحملها خادم الحديقة على عجل إلى الوافدين، في مقابل رسم خاص للكرسي والأريكة. ويتحلق الناس، في العادة، حلقات بحكم المعرفة أو القرابة. وبطبيعة الحال تبرز الحاجة إلى بعض المأكولات والمرطبات، وأنواعها تتوقف على الموسم: الخيار الأخضر أو المخلل، التفاح والخوخ والإجاص، والحمص المجفف، والعرق والنارجيلة. وبالقرب من كل حلقة يغرز قضيب معدني في الأرض يحمل فانوساً، ثم يظهر المتسولون والكلاب. وهكذا، يجلس الناس مستمتعين بصمت حتى الساعة العاشرة من الليل. أحياناً، يستمتع رواد الحدائق بالغناء، إذ تقصدها المغنيات اليهوديات والتركيات بشكل خاص، ليسعدن الجمهور بأغانيهن العربية البريّة، التي تترافق مع موسيقى تعزفها آلات مختلفة. تغنّي هؤلاء المغنيات جالسات أيضًا، ولا يرفقن غناءهن بأي لفتة أو حركة. وتُسمع في المقابل من الجمهور المتفاعل آهات الاستحسان، ولهذه الآهات أوقات محددة من زمن الأغنية، يحصل فيها المستمعون على متعة طربية.
يجلس المسيحيون في حدائقهم حشوداً مختلطة، نساء ورجالا معًا. أما حدائق المسلمين فللرجال فقط، إذا يعتبر وجود المرأة فيها، حتى لو كانت محجبة، أمراً غير لائق. هذا ليس في الحديقة العامة فحسب، بل حتى في المسجد، حيث يقتصر أداء الصلوات فيها على الرجال في أوقات محددة.
ها قد بدأ فنّ الكوميديا يشق طريقه إلى الشرق. يوجد في دمشق قبو صغير تحول إلى غرفة للمسرح، تقدم فيه العروض المتنوعة، منها الأغاني العربية القصيرة التي تترافق مع الموسيقى والرقص، والمسرحيات الكوميدية باللغتين العربية والتركية. كما يوجد في دمشق هواة يتدربون ويحفظون المسرحيات، وبحلول فترة الأعياد يؤدونها بموجب دعوات خاصة في المنازل. وقد شاهدتُ إحدى مسرحيات الهواة تلك، حيث أدى الممثلون تراجيديا من الحياة الفرنسية، لكن من الواضح أنّ نصّ المسرحية تعرض للتصرف الشديد. وليس من المثير للاهتمام نقل فحواها كاملة، بل يكفي القول إنها تتضمن، بطبيعة الحال، ملكاً، وجرائم قتل، وعمليات اختطاف، وما إلى ذلك من المشاهد المأسوية. وقد استمرت التراجيديا إلى درجة مات فيها نصف الشخصيات من الحبّ وكل أنواع العذاب. أثناء المسرحية، كان الفنانون يحتسون الكثير من العرق باستمرار، بحيث يمكن للمشاهد أن يسكر لمجرد النظر إليهم. يختار الممثلون أن يؤدوا مأساتهم المخمورة هذه لأن عرق صاحب المنزل، هو مكافأتهم الوحيدة لقاء عملهم. لذلك، وتحت تأثير الشرب، تُظهر المسرحية الواقع في أنقى صوره. فبحلول نهاية التراجيديا بات جميع الفنانين في حالة سكر، أما الملك، الذي يفترض أن يقتصر دوره على الظهور من دون التحدث على الإطلاق، فقد سكِر جلالته منذ بداية العرض تقريباً، ولأنه كان من المتعذر أن يحضروا ملكاً آخر، ارتجل فنانو التراجيديا، ولإظهار المزيد من الجدية، كان عليهم أن يرفعوا الملك من تحت إبطيه غير مرة، وأن يثبّتوا التاج الورقي فوق رأسه المخمور.
خلال شهر رمضان، شهر صيام المسلمين، تكتظ شوارع دمشق بالناس بدءاً من ساعات الظهيرة. إذ أن الناس وبعد تناولهم الطعام في الليل، يحاولون النوم أثناء النهار لأطول فترة ممكنة، لعل النوم يسكت طلبات المعدة، فهم لا يرغبون في الالتزام بتعاليم القرآن. في فترة ما بعد الظهر، يستيقظ الجميع ويتوجهون نحو الشوارع بهدف التسلية وقتل الوقت. جميع المقاهي فارغة. لقد اختل المسار الصحيح للحياة. يكون المسلمون خلال ذلك الوقت غاضبين بشكل خاص، تشغلهم عظات الدعاة المتعصبين وأحاسيس الجوع، ينظرون نحو المسيحيين خلال شهر رمضان بغضب، يثيرون المشاكل معهم وقد تكون دموية أحياناً، وهي في هذا الوقت من السنة أمور عادية.
في كل سنة، في اليوم الخامس بعد رمضان، تغادر قافة الحج نحو مكة. إلى هنا، ومن جميع أنحاء العالم يتوافد الحجاج كي يسيروا على طول الطريق الصحراوي الذي يحرسه الجنود الأتراك. تخلو دمشق من سكانها صبيحة ذلك اليوم، ويكتسي الميدان، الواقع على الطرف الجنوبي من المدينة، بمظاهر رسمية احتفالية. هناك تزدحم جميع الشوارع بالناس، وأمام البيوت المتواضعة المزينة بأشرطة ملونة يحتشد المسلمون وهم يرتدون أبهى حللهم. ليس غريباً في دمشق، على العكس من المدن الأخرى، أن ترى الناس يلبسون ثياباً فاخرة، وبالتحديد لثلاثة أيام في الأسبوع: الجمعة للمسلمين والسبت لليهود والأحد للمسيحيين. لكن للعيد الكبير لدى المسلمين (عيد الأضحى)، وقع خاص، فتنظف المدينة كلها حتى مقابرها، التي تكتسي بحلة خضراء، وتبدو مثل غابة صغيرة بكل معنى الكلمة. لا يوجد ما هو أكثر حزناً من الموت الذي يغدو زينة الحياة. وهكذا، لا تخرج خيمة الحجّ الرئيسة من السراي إلا عند التاسعة صباحاً، يتهادى الموكب الرسمي بشكل احتفالي متجاوزاً المدينة، حيث ينتظره أعيان السلطة وحشود الناس في مكان معين. وهذه الخيمة، وفق العرف المعمول به منذ العصور القديمة، مخصصة لأحد أحفاد النبي محمد، والحكومة تخصص له راتباً وترعاه، وبدون ذلك لا تصحّ الرحلة إلى المدينة المقدسة. يتولى أمير محمل الحجّ عبد الرحمن باشا (عبد الرحمن باشا اليوسف الدمشقي: 1871 - 1920) مسؤولياته بأمر من الوالي، ويزحف الناس للتبارك من جدران الخيمة المقدسة المطرزة بالذهب، يمسحون بها قطعاً من القماش الأخضر الرخيص ليقيهم من أهوال الطريق. يمتد الموكب حتى نقطة المغادرة في المزيريب (منطقة تقع على الطرف الجنوبي لسكة الحديد الفرنسية بين دمشق وحوران، أي نهاية خط حديد الحجاز آنذاك). وهناك فقط، بعد فترة من الوقت، تتجمع القافلة وتنطلق نحو مكة. يحيط بها الجنود المزودين بالمدافع بهدف حمايتها من هجمات البدو، ويحمل عبد الرحمن باشا معه الهدايا، التي تلعب دوراً في كبت هجمات قطاع الطرق، وهي أكثر ضمانة من الجنود والبنادق.
(المصدر السفير العربي)