يصور القاص المصري في نصه المكثف الأثر العميق الذي تخلفه تجربة التعذيب في كيان الإنسان من خلال ما يعيشه متقاعد من أخيلة تدور حول تلك التجربة المفزعة التي تتخفى تفاصيلها في أعماق النفس لتتجلى في آخر العمر والإنسان يتأمل حياته وتجاربه.

صفعاتٌ وركلاتٌ

رجب سعد السيّد

 

الآن، وبعد أن تخطيتُ السبعين، لا يجب أن أستمر في ترددي؛ ولأجرِّبَنَّ الاعترافَ كتابةً بما كابدته من تاريخٍ شَقِيٍّ، لعلَّ إفشاء سِـرِّيَ المشين، الذي تكتمتُه كلَّ هذا الزمن، يخفف الضغوط التي تجرجرني إلى عتبة أمراض الدماغ، إن لم أكن قد تخطيتُها بالفعل.

ولا أريدُ المرور بمحلات أطباء النفس، فلديَّ اعتقادٌ راسخ بأنهم أبعد ما يكونون عن الإحاطة بمعالم النفس البشرية، ولن يحيطوا بها، فهي أشد تعقيداً مما تتيحه لهم تقانيات الفحص والتشخيص المتوفَّرَة لديهم، والمتغيرة على الدوام، وبضاعتهم مجرد نظريات تتغير من حين لآخر، وتتغير معها قائمة ما يوصون به من كيماويات يصعب تحديد مسارها، ووقعها، بدقة.

تصادفَ أن عايشتُ لبعض الوقت أحدَ معارفي، ساقته ظروف عمله إلى مخالطة امرأة إسرائيلية، وواقعها، وظل شهوراً في حالة رعب، يتفحَّصُ جلده ودمه، حتى اطمأن إلى براءته من أي عدوى بأمراض تنقلها العلاقات الجنسية. غير أنه لم يسلم تماماً، إذ أصاب دماغه عطبٌ، فأصبح لا يغادره وسواس يؤكد له أن ثمة عناصر من الموساد، يتخفون في هيئات كثيرة، يطاردونه ويتآمرون ضده، حتى تدهورت أحواله، وأفسدت معايشته للرعب الدائم حياته. ولم ينجح الأطباء إلا في تخفيف قلقه وما ينتابه من هواجس.

وكان يأنسُ لي، لأنني قلتُ له إنني أصدقه فيما يراه ويسمعه هو وحده. ووجدتُني أُسِـرُّ إليه بأمر الصفعات التي لا تختار إلا أن تقع على قفاي، والركلات المؤلمة التي تصيبُ أسفلَ ظهري، من حين لحين. فنظر إليَّ مستغرباً، وراح يقهقه، فلما جاءت زوجتُه تقول: (خير .. اللهم اجعله خير)، كان يضربُ كفَّاً بكفٍّ، فاندفع يخبرها: (تصوري .. رجب هـوَّ كمان بينضرب على قفاه، وبالشلاليت!).

والتفتَ إليَّ مُلِحَّاً أن أحكي له ولزوجته عن صفعاتي وركلاتي. وكان في حالة شغفٍ طفولي، وقد تفككتْ جهامة ملامح وجهه التي لازمته منذ ضربته تلك الحالة المرضية القاسية، فلم أتردد، آملاً أن أسعده، وأُبعده عن هلاويسه مع عملاء الموساد من الباعة الجائلين وعمال التليفونات. ولم يطل انتظارُه وزوجته، فبدأتُ أحكي ...

قلتُ لهما إن حكاياتي، في معظمها، عن ركلات وصفعات لم توجَّه ، مادِّيَاً، إلى وجهي وقفاي ومؤخرتي، وإن كانت أشد وقعاً وقسوةً وألماً، غير أنني ذقت بعضاً من النوع المادي المباشر، وأحسستُ بالأكُفِّ اللحيمة الغليظة تهوي على وجهي وقفاي، وبالأقدام تدقُّ جسمي وترجُّه رجَّاً.

كانت البداية بحفلٍ بدأت طقوسه بزيارة لبيتنا في فجرٍ يوم من الأيام التي شهدت أحداث الاحتجاجات على (أحكام الطيران)، وكنتُ شاركت في جانب منها. واقتحم (زوار الفجر) حجرة نومي في بيت أسرتي، وأخذوني من فراشي بمنامتي، عاري القدمين. ولما حاولتُ أن أقاوم، دقَّ كفُّ أحد عناصر الهجوم وجهي، وهو يقذفني بالسباب: (عامل لي بطل يا ابن اللبوة)!.

طالت الإهانات أمي وأبي وهما يحاولان إنقاذي من الاختطاف.

ووجدتُ في (البوكس) عدداً من الشباب المختطف، في مناماتهم، وكنت أعرف بعضهم. وانتهت رحلة الاختطاف في مكان لازلت أجهل موقعه حتى الآن، وإن كنتُ علمتُ فيما بعد أنه سرداب في قسم شرطة العطارين1، كانت الظلمة تسوده طول الوقت، اللهم إلا عند فتح بابه لإدخال مزيد من المختطفين، ويكاد يخلو من هواء، وبلا مرافق صحية، فكانت روائح البول والبراز خانقة.

وبقيتُ هناك ليلتين؛ وكان الزبانية يُخرجونني مع غيري، من حين لآخر، لا من أجل التحقيق معنا، ولكن لنتلقى (الطريحة)، التي هي مزيد من الصفعات والركلات، وغيرها من إهانات جسدية. ثم تمكن أبي، وكان موظفاً مدنياً في وزارة الداخلية، من إجراء بعض الاتصالات الخاصة للإفراج عني. وخرجتُ وأنا أتعجب من أحوال وطن علمنا، وحدثنا عن الحرية والعدالة والكرامة، ثم يتراجع عن كل ذلك حين نحاول أن نحادثه، ويلقي بنا في مبالة مظلمة، وتتورم وجوهنا من صفعاته، وتشرخ ركلاتُه عظامَ العُصْعُص!

أبدت زوجة صديقي امتعاضها، كأن ما أحكي عنه لا يزال ماثلاً أمامها. وأبدى صديقي دهشته، لا لشيئ إلاَّ لأنه لم يعرف مني هذه الحكاية، في وقتها، بالرغم من زمالتنا في العمل لما يقرب من ربع قرن. ورفع ساقيه، وتربَّع في جلسته على المقعد المقابل لمقعدي في شرفة بيته؛ ودقتْ كفُّه كتفي برفق وهو يحثني على أن أحكي عن مزيد من الركلات والصفعات: "هاه .. هاه ..!".

 

1 – أحد مراكز الشرطة الرئيسية في مدينة الإسكندرية.