يرى الناقد المصري أن الخطاب الشعري يقوم على علاقة الاتصال، أو التعاطف مع البنى المتداخلة من الفضاءات، والعلامات، والأحلام التي تشبه كثافة ألوان سيزان في فراغ آخر، يتجاوز بنى الإدراك المستقر للعلامة من جهة، وحالة انفصال العمل الفني عن هوامشه التصويرية، وانطباعاته التفسيرية التي يمكن أن تكتسب فاعلية مجازية في الفضاء التجريبي من جهة أخرى.

بلاغة الحوارية الداخلية والمنظور التجريبي للذات والعالم

في ديوان «شيء من هذا الغبار» لعاطف عبد العزيز

محمد سمير عبدالسلام

 

"شيء من هذا الغبار" ديوان شعر حديث للشاعر المصري المبدع عاطف عبد العزيز؛ صدر عن منشورات المتوسط بميلانو بإيطاليا، وبغداد بالعراق سنة 2019 ؛ وتكشف قصائد الديوان عن الاتصال الجمالي بين الصوت المتكلم، وظواهر العالم، وتفاصيل الواقع، والنغمات التفسيرية الداخلية المولدة عن الاتصال بالآخر، أو بالفضاء السيميائي التجريبي، أو بعلامات الفن التي لا تنفصل – في كتابة عاطف عبد العزيز – عن السياق الاحتمالي ما بعد الحداثي الملتبس بين الوعي، والتجليات الشعرية الطيفية للوجود، والإنتاجية الدينامية الداخلية للعلامة، وتحولاتها، واستبدالاتها وفق علاقات التناغم، والاختلاف التي تذكرنا بتفكيك بنية التكرار في خطاب جيل دولوز؛ فلكل بنية إشارية في الديوان مجموعة من الهوامش، والمراوحات التصويرية الإدراكية التي تؤكد تعددية المنظور، وإعادة تشكيل علاقة الوعي بالعالم، والعلامات الطيفية الملتبسة، وإمكانية قراءة الوعي لذاته في هوامش المشهد، وتحولاته باتجاه حالة الأداء التمثيلي التي تفكك مركزية المتكلم، وتعيد تشكيله كعلامة ضمن وفرة العلامات الفنية، والانطباعات النفسية، والنغمات التأويلية التي لا تنفصل عن بنية واقع احتمالي، يذكرني بحديث جياني فاتيمو بالتداخل بين بنيتي الفن، والواقع الحقيقي في كتابه نهاية الحداثة؛ ومن ثم يعمق النص اتساع حدود الوعي عبر اتصاله بالظواهر، والتشكيلات الفنية؛ مثل تشكيلات الفضاء المجازية، أو أثر اللوحة الجمالي؛ مثل لوحة مستحمات سيزان، أو تحولات مقطوعات الموسيقى الكلاسيكية في فضاء الغرفة، حتى يصير الوعي نفسه فضاء تفسيريا أو تمثيليا، يعيد تشكيل تداخلات الأصوات اللاواعية بصورة مولدة عن جماليات الحقيقي نفسه في القرية، أو يبدو المتكلم في حالة من الأداء التمثيلي خارج مركزية الوعي المدرك حين ينتقل الأخير إلى موقع المراقب للذات من الخارج، أو المصور الفوتوغرافي لجماليات المشهد من منظور نسبي مغاير.

وتشير عتبة العنوان / شيء من هذا الغبار إلى الاتساع المحتمل لكل من الوعي، وعلامات الفن، والواقع، وظواهر الوجود حين نعيد النظر إليها وفق مدلولي السياق، والأثر؛ وكأننا دائما قيد الوقوع في حالة أدائية تمثيلية ضمن سياق تتحول فيه أعمال الفن، والقراءات المحتملة للذات، والواقع، والآخر باتجاه بكارة أخرى مغايرة تتجاوز مرجعيات البنى الأولى للعالم في اتساع انطباعاته الجمالية النسبية؛ حتى لوحة سيزان سوف تكتسب حياة أخرى في ذاكرة المتكلم، ووعيه، ولاوعيه؛ فهي تكسب فضاء الغرفة انفتاحا على أثر العلامة المنفلتة من سياقها الأصلي – في اللوحة – باتجاه شعرية جديدة للعب المجازي في الفراغ ضمن عالم المتكلم، وتفاصيل واقعه التي بدت ممزوجة بكثافة التكوين الفني الطيفية في المشهد، وهوامشه السيميائية الملتبسة التي تحمل أثر الماضي، وتستنزفه في آن.

يقول في نص رفيف المستحمة:

"الرجل الذي كاد أن يفسد خيالنا

بأريج شهوته،

حين تركها بين أيدينا حبيسة

في تواله المشدود

بتنا غير مسئولين عن نزواته

في تتبع الخلاسيات الذاهبات إلى النهر،

ولا عن تلك الفوضى

التي تحدثها التصاوير القديمة إذا انفردت

بنا في الغرف النائية."(1).

ونلاحظ هنا التجدد العلاماتي لبكارة حضور الخلاسيات خارج لوحة سيزان؛ إذ تتصل بنى العلامات – في السياق الشعري – بتكرار ضمير المتكلم، وبمساحة الفضاء المرحة الصاخبة التي تبدو نغمة تعيد تشكيل الماضي بصورة مختلفة، وطيفية كثيفة، وتقع في مسافة بينية بين الوعي، واللاوعي، والفضاء التجريبي، وانطباعات مشهد سيزان الأولى، ولكن بصورة متحولة في سياق احتمالي من الصخب، واللعب ضمن بنية الغرفة التجريبية.

يقوم الخطاب الشعري – في النص إذا – على علاقة الاتصال، أوالتعاطف مع البنى المتداخلة من الفضاءات، والعلامات، والأحلام التي تشبه كثافة ألوان سيزان في فراغ آخر، يتجاوز بنى الإدراك المستقر للعلامة من جهة، وحالة انفصال العمل الفني عن هوامشه التصويرية، وانطباعاته التفسيرية التي يمكن أن تكتسب فاعلية مجازية في الفضاء التجريبي من جهة أخرى.

ويؤكد ريجيس دوبريه – في كتابه حياة الصورة، وموتها – حالة التداخل بين تاريخ الفن، ولحظة الحضور، بما تحمله من حياة أخرى طيفية للصورة؛ إذ يرى أن الطبقة المائية الباطنية التي تربط من الخارج، ومن تحت الحضارات، والعصور المتباعدة، تجعل منا معاصرين لكل الصور التي ابتكرها الإنسان؛ ذلك أن كل صورة تنفلت – بشكل عجيب – من زمانها، ومكانها (2).

وكان أندريه مالرو قد أشار أيضا إلى مدلول المتحف الخيالي لآثار الفن في كتابيه المذكرات المضادة، وأصوات الصمت، وإن ارتكز خطاب ريجيس دوبريه على الأثر الجمالي الممتد للصورة، والتأصيل لخصوصيتها التكوينية في نفس المتلقي؛ هكذا نعاين بكارة لحظة تشكل مشهد سيزان، ولكن في سياق زمكاني مغاير، وفي عالم المتكلم الداخلي، وأحلام يقظته - في نص عاطف عبد المجيد- الذي يعزز من ثيمات الصخب، واللعب، والتحول الطيفي للصورة؛ وهو تحول يشبه الموسيقى الداخلية المحولة عن طاقتي اللون، والتكوين الطبيعي / الداخلي فيما وراء لوحة سيزان.

وقد تبدو الحوارية الداخلية بين الأصوات ضمن قراءة شعرية تفسيرية، وتصويرية للحظات تشكل الذات، والآخر / الأنثى بين كل من التكرار، والاختلاف؛ فالصوت ينسج خطابا شعريا تفسيريا يحيلنا فيه إلى هويته، بينما نجد أن هذه الهوية تتشكل في صور تأويلية، تؤكد الاختلاف، وولوج عوالم الحلم، واللاوعي، أو نماذج الحكايات القديمة، أو العلاقة النيتشوية بين إيماءات البهجة، وإيماءات المأساة، وإن جاءت هنا بصورة مؤقتة احتمالية، وتؤكد تصور كريستيفا حول المحتمل الدلالي في النص الشعري؛ فالمتكلم يحيلنا دائما إلى هوية لها هوامش تصويرية واسعة في تداعيات النص، وتأكيده لقوى الاختلاف.

يقول في قصيدة رسائل البحر:

"أرمي أنا شباكي، ثم آخذ قيلولة، تحملني إلى الماضي الذي بات محض فجوة شاغرة.

روحك، مدربة على اختبار الضجيج الذي يتصاعد في هامش البهجات: البهجات قبل زوالها.

أما يدي فصديقة الرمال البليلة، وهشيم الأقداح"(3).

تشير الحوارية الحلمية – في الخطاب الشعري – إلى العلاقة النصية التداخلية بين حركتي التناغم، والاختلاف؛ فالتناغم يتجلي في ثيمة اتصال وعي الذات، والآخر / الأنثى بالعلامات الكونية؛ مثل المياه الخيالية، والرمل، وعلامات الذاكرة، والبهجة؛ أما الاختلاف فيبدو في ثيمتي الصمت، ومراوحات الفراغ التي تزدوج بأثر البهجة في المشهد، وكذلك في صورة الهشيم التي تذكرنا بمدلول الغياب النيتشوي لديونسيوس في حواريته مع التصاعد الموسيقي لنغمات البهجة الأنثوية، والتحولات السريالية لعلامات الذاكرة؛ فالبهجة تتجسد في مشهد المياه بوصفها تكوينات حية شيئية، بينما يبدو الماضي كتكوين تعبيري يشير إلى الفراغ الذي ينطوي على هوامش الصخب، والتشكيل التصويري الكثيف لنطاق الغرائز طبقا للتصور الفرويدي، وإن جاءت الصور الدالة على الذات المتكلمة، والأنثى؛ لتؤكد الهوية، وهوامشها النسبية الاحتمالية – في تداعيات النص – في آن.

ويرى جيل دولوز بصدد تفكيك بنية التكرار من داخل تمثيلاتها النسبية التي تدل على التباسها بالاختلاف – في كتابه الاختلاف، والتكرار – أن التكرار قد يأتي بصورة تمثيلية، أو أنه قد يضم انتقالات، ومتنوعات، واختلافات، قادرة على جذبنا بعيدا عن نقطة الانطلاق، والتي تبدو كحالة مختلطة، لا يكون التكرار فيها محضا، ولكن فقط تقريبيا. (4)

يحيلنا دولوز – إذا – إلى تفكك بنى التكرار من داخل تمثيلاتها، وتحولاتها النصية في سياق الإحالة إلى نقطة انطلاق قد تأتي ملتبسة بالاختلاف؛ وهو ما نجده في الإحالات الاستعارية في خطاب عاطف عبد العزيز الشعري إلى الذات، والأنثى في سياقات حلمية تفسيرية، تؤكد لحظة الحضور، بينما تنفلت من مركزيتها إشاريا، ودلاليا في الصيرورة النصية.

وقد تحيلنا الحوارية – في الخطاب الشعري – إلى الحضور الطيفي التجريبي لشخصية أناهيد في نص بعنوان أناهيد؛ وكأن أناهيد قد انبثقت من عوالم الموسيقى في فضاء المتكلم، ووعيه، ولاوعيه، وصيرورته السردية في النص؛ فقد تجلت الشخصية في فضاء الغرفة المنفتح على نماذج الفن، وأثر الموسيقى في عالم المتكلم الداخلي؛ ومن ثم جاء اتصالها بالمتكلم من داخل سردية الغناء، والتداخل بين علامات التفاصيل، والأشياء الصغيرة في الغرفة، وتصاعد الأغنية في المشهد؛ يقول:

"- هل تحب ليلى مراد؟

باغتني السؤال في الغرفة الرثة، التي تطل على الليل من سطح بناية عجوز، فوضعت شريطا في المسجل، ثم انشغلت بإعداد شيء نشربه.

بقيت أناهيد تتنقل في المكان كفراشة، وهي تتفحص أشيائي المبعثرة تحت خليط من صوت ليلى، والمطر الذي عاود الهطول"(5).

ينفتح تكوين الغرفة في المشهد – إذا – على جماليات الأغنية، وأثر أناهيد الطيفي في وعي المتكلم، واستحضار أعمال الموسيقى العابرة لحدود الزمكانية، والتفاصيل الشعرية النسبية لليل، والمطر، والأشياء التي تقع في مسافة بين حضورها الصامت، وهوامشها التصويرية في الوعي، وفي السرد الشعري لحالة الحوارية الجمالية التي تتقاطع فيها الأصوات، وعلامات الفن.

وتتسع الحوارية الداخلية من داخل تخييل الذات عبر المراوحة بين علامتي المرآة، والفراغ؛ فالمتكلم يعاين الحوارية الطيفية مع كل من الجسد، والفراغ، والوعي المراقب للذات في حالات التجسد، والتمثيل، والفراغ الكامن في بنية المرآة الفنية، وفيما وراءها من أخيلة تؤجل بنية الحضور عبر انتشاره المحتمل في ذلك الفضاء الفني الملتبس بكل من الفراغ، والتجسد المضاعف؛ يقول في نص طرف ثالث:

"أن يصبح المرء مرآة،

يعني أنه صار طرفا ثالثا بمعنى الكلمة،

الطرف الأعمق حضورا في ذاك الحوار الصامت

ذاك الذي كان قد بدأ أمام تفاحة

تشبه غيرها،

ثم أبدا لم ينته"(6).

يرتكز الخطاب الشعري عند عاطف عبد العزيز هنا على لحظة التحول الفني بالمرآة، أو حالة التوحد بصورتها التي تؤكد التجسد، وما وراء ذلك التجسد من انتشار محتمل للصور داخل التجويف التشكيلي الصامت المخيل – في حلم اليقظة المرآوي – الذي يشبه المياه في إنتاجيته للصور المؤولة للذات، والتي تقع بين المشابهة، أو التناغم في علامة التفاحة الشبيهة، والاختلاف في الصور المؤجلة لمركزية حضور الرائي في المشهد؛ فتارة يبدو مثل مراقب، أو طرف ثالث، وأخرى يتجلى كنسخة تمثيلية تجسد المفارقة بين الإحساس الذاتي بالوجود، وحدس الغياب المحتمل في الفضاء التجريبي للمرآة.

ويعزز الخطاب الشعري – في ديوان عطاف عبد العزيز أيضا – من تعددية قوى النص؛ مثلما يراها كل من بارت، وكريستيفا، كما يؤكد تعددية المنظور، والتقاطعات، والتداخلات النسبية للرؤى التسجيلية للواقع في قصيدتي يوم عمل، ووضع معقد.

يقول في قصيدة يوم عمل:

"في الصباح ..

ينهمك طالبان في كتابة قصيدة واحدة، عن حبيبة مشتركة.

الحبيبة، كانت قد حملت إلى المقابر منذ أسبوعين، بعد أن أتلفتها الحمى.

في الظهيرة:

ظهيرة، ولا شيء"(7).

يعرض النص لحالة من التناقض ما بعد الحداثي، وكذلك تعددية في قوى النص التي تضع الحبيبة في موقع المركز، ثم تكشف عن غيابها في آن؛ ويعيد تشكيل صخب الحب الذي يذكرنا ببترارك، وأوفيد، ثم يحيلنا إلى استعارة الفراغ في الظهيرة؛ وكأن النص يحتفي بالتعددية، والتعارضات البنائية الداخلية في المسافة بين الحياة، وتجلياتها السردية اللامركزية التي تنطوي على الغياب، والفراغ، والصخب التمثيلي في آن.

يقول في قصيدة وضع معقد:

"من زاويتي

رأيتني أشبه برجل يحمل طفلة على كتفيه،

ويعبر بها مستنقعا ضحلا.

بينما من مكانها،

رأتني مجرد عامل إضاءة يمر

في موقع معد للتصوير حاملا على كتفه

مصباحا مطفأ"(8).

إننا أمام تنازع للقطات النسبية في النص، وتعددية للمنظور تذكرني بأشكال الفوتوغرافيا التجريبية المعاصرة التي تعيد قراءة الواقع طبقا لتعددية الرؤى المجازية الممكنة من منظور الرائي؛ وهو ملمح تجريبي في خطاب قصيدة النثر عند عاطف عبد العزيز؛ فقد بدأ المتكلم بتمثيل ضمير المتكلم، وتأويله لوجوده الخاص كمثقف يقوم بالتحليل الفلسفي، ثم أعاد قراءة اللقطة نفسها من موقع أو من منظور تجريبي مجازي آخر؛ فتجسد كرجل يحمل طفلة يعبر بها مستنقعا ضحلا، ثم بدا من منظور المرأة مثل شخص في موقع للتصوير؛ وكأن الذات تتنازع بنيتها المؤجلة اللقطات الفوتوغرافية المتباينة، والرؤى التكعيبية النسبية المحتملة للوجود، وهوامشه التمثيلية التي تعيد قراءة نقطة البدء دائما.

 

*هوامش الدراسة /

(1) عاطف عبد العزيز، شيء من هذا الغبار، منشورات المتوسط بميلانو، إيطاليا، وبغداد بالعراق، ط1، سنة 2019، ص 8.

(2) راجع، ريجيس دوبري، حياة الصورة وموتها، ترجمة: فريد الزاهي، دار أفريقيا الشرق بالمغرب سنة 2003، ص 31.

(3) عاطف عبد العزيز، السابق، ص-ص 13، 14.

(4) راجع، جيل دولوز، الاختلاف، والتكرار، ترجمة: د. وفاء شعبان، مراجعة: د. جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة ببيروت، ط1، سنة 2009، ص 86.

(5) عاطف عبد العزيز، السابق، ص-ص 19، 20.

(6) السابق، ص-ص 39، 40.

(7) السابق، ص-ص 59، 60.

(8) السابق، 57.

msameerster@gmail.com