رحل الشهر الماضي الشاعر اللبناني المرموق صلاح ستيتة (1929 - 2020)، في منزله الباريسي، ويعد الشاعر الراحل أحد أبرز الشعراء العرب الذين كتبوا بالفرنسية، وُلد صاحب "الماء البارد المحروس" في بيروت، وكان والده محمود ستيتية مدرّساً وشاعراً ..في باريس، التقى جمعت ستيتة صداقات بالشاعر الفرنسي إيف بونفوا ورينيه شار وأندريه بوشيه وآخرين، من مجموعاته الشعرية: "الماء البارد المحروس" (غاليمار، 1972)، و"انعكاس الشجرة والصمت" (1980)، و"الكائن الدمية" (1983)، و"حمّى الأيقونة وشفاؤها" (1996). اختارنا أحد قصائده لنقدمها لقراء الكلمة، ترجمها عن الفرنسية عيسى مخلوف.

خيطُ الماء الأخير

صلاح ستيتية

ترجمها عن الفرنسية عيسى مخلوف

 

فارغٌ هو العالم

العالمُ فارغ

فارغة هي الأرض

الأرض فارغة

فارغة هي السماء

السماء فارغة

فارغة هي الريح

الريح فارغة

القلبُ أيضاً

الحبُّ أيضاً

الأملُ أيضاً

رأسكَ أيضاً:

طَبَق.

*

المدنُ والقارّات

تحتَ مِنْحَتِ الفراغ

تنفصلُ

الأسماءُ والمعاني

الأضواءُ التائهة

وشاحُ إيزيس قوس القُزَح

في أفقِ المادّة المتوهّج

*

حلمُ المومياء مع أغماد مجفّفة

مومياء طائرة

في الأبديّة غير الأبديّة

تركت أحرفها الهيروغليفية تُمطر دون مطر

في قلب المعنى للاّمعنى الذي هو معنى

تقتفي أثرها فراشة

نَغَفَةٌ ومومياء

عدَم.

إشرب النَّفَس ولا نفَس لك

*

دون نَفَس، خرجَ إله ضيَّعَ خطواته

أكلَ ثلاث حبات زيتون

وتبدّد

إله آخر ضيَّعَ خطواته

خرجَ وأكلَ الشّوكَ المعمِّر

وامّحى

الإله الثالث لم يأكل

لم يخرج

لم يكن

يقول للفراغ المقعَّر: "لا حفرَة"

في الجهة المقابلة للفراغ، لم يقل

تبدّدَ. امّحى. لم يكن.

الحفرةُ استولت على القيادة. الحفرة كانت.

*

لا تنطق الحفرة ولا تكون

تنشر السواد على ألواح المدرسة

في ما يُجَفَّف

تشرب الإسفنجةُ العضويّة

قحلَ الأراضي

*

الحشَرة مصلوبة بين المجرّات

سيطرت وتحجّرت

خلايا ميتة: صحراء مدوّخة، قفي

عينُ العين فقدت ليونتها، لا شيء يفتحها

حركة الآلة الصدئة المسحوقة

من داخل ذاته يرى الحجر

الذي لا يراه، لا يرى

عماكَ عَزلٌ لعَصَب ثور

باقة لغات وألسنة مجففة في كثبان الرمل

تجويف صدر الحشَرة المتضامنة

مع الانحلال

والروح غابت تحتَ ذاك...

*

الكونُ في الموت

الكون خارج الموت

الخارج داخل.

الخارج هو الداخل:

الداخل هو الخارج:

ظلُّ الدّهلية

على جدار كلسيّ

*

الليل سمكةٌ ونظرتها جليد

الليل لا يرى الجدار

يصطدم به

إنه طنين لانهائيّ

في جُلجُل المجرّات غير الموجودة

المجرّات

في الداخل والخارج

يعبرها الدّخان البعيد

*

الوقت كلُّه الوقتُ كلّه

لا وقت لا كلّ لا وقت

مع ذلك، ثمّة أطفال يصيحون في باحة المدرسة

يعيشون كلّهم فوق حبّة رمل،

هاربة

أجرام سماويّة غير موجودة

في الداخل والخارج

يجلس الوقت ويأكل طرائد أسماككم

*

تمثال صبيّة المتاحف أبيض اللوتُس

يتصفّى أمام الشمس اللازورديّة

جسدها ودوائره في ثنايا مفقودة

فتاة مُغلَقة، عِجلتُها بيضاء

تتقاسمُ العشبَ وحده

والوادي عند انفراجِ فخذَيها

خيطُ الماءِ الأخير

*

هذا، هذا وَهم

سنديان، انعكاسات. بَرقَشَة

متخيَّلة.

وَهم يُتَوَهَّم

من هو المتوهّم؟

ليس من أراد أن يكون هو.

هو لا أحد. هو، لا.

يشرب من ثديَي العدم الفاسق

ولا مغيبَ له إلاّ في الأفق البعيد

المحجّب بالرملِ الأسود

والعَدَمُ مادّتُه الماسيَّة

*

لا قُماشة واقية للمظلّة

هل هي مظلّة ماورائية؟

هل اشتعلت قُماشتها؟

بقيَ منه عودُ ثقاب فريد

وعلى رصيفِ محطّة بلا قطار

حقيبتُه وحياتُه.

*

كان ثمة فردوس

شعوب بَرزَويّة

كان ثمة شجرة حمقاء

رجل وامرأة، جراثيم جائعة

في حَلقها رصاص

بائدون وموتى دون أن ينوجدوا

وُجِدوا

وهم يحملون لافتاتهم:

انعدِم

أجراسُ البرونز وُجدت هي أيضاً واختفت

اختفى البرونز وعاد إلى الرمل

الله في فردوسه ينظر إلى أصابع قدميه

في ظلّ شجرته

*

مُفَكَّكَةٌ هي

الأسماءُ

والمعاني

*

يا عبّارة شائكة

اعطِ رأسَ أوزيريس وسادة

تتكاثرُ فيها الجِعلانُ الدائريّة

أبوابُ اللاشيء، يا باب الصين، عَتَبة المطلَق

افتَح مصراعَيك واغلقهما

على أوزيريس الجِعلان المُعمى عليه

*

للأبديّة المزيّفة

أوزيريس هو الأكثر ابتعاداً بين الأحياء الأموات

وعينُه بيضاء في الظلام الأبيض

فالشمس ما عادت تناديه "يا حبيب"

وما عاد له حَدَقة للشمس

كلّ شيء صبّار. هو، المغلوب، سيسكنُ صُلبانَه

غُرِزَ في الوسط الخنزير الثقيل

وشقائق النُّعمان

تُمطر فوق إيزيس

*

الراقصةُ المجرّدة بلونِ ريحِ الشمس

تضربُ بعَقبها أرضاً متأججة

وتَرقصُ سرّاً في اللامنظور

بوذا بوذا

يبتسمُ لا يَبتسم

والأرزّ يتعفّنُ في الماء

مضت الأذرعُ متعَبة على أذرعِ البشر

خُبزُ المسيح خَبزَتهُ الجرذان.

*

فوقَ الجبالِ

رجلٌ وامرأةٌ جالسان

والكلامُ، حولهما، صمتٌ

لن يفتحاه

في تلك الغرفةِ الأخيرةِ المضاءة أبداً

يريدُ هو أن يتنفّسَ، يأتونَه بالماء.

يريد أن يشرب، يقرّبون الغازَ من فمه.

لا يريد شيئاً. فقدَ أحشاءَه.

يجيئون إلى سريرهِ في موكبٍ بأكبرِ الشّواء

السماءُ فوقَ المسرح

تتبدّدُ تفصيلاً بعد آخر، وتَمّحي

تمتلئُ السماءُ بالبراغيث

للّيلةِ الجديدة

والاستعدادات على أشدّها.

 

  • قصائد مختارة من ديوان "الثعبان الذي يرى" (ترجمة عن الفرنسية: عيسى مخلوف)
  • (عن العربي الجديد اللندنية)