يقدم محرر (الكلمة) هنا القسم الثالث والأخير من قراءته لأحد الروايات المهمة التي صدرت في مصر مؤخرا، وهي قراءة يسعى فيها إلى جانب تحليل هذا النص المثير للاهتمام والتفكير، إلى التنظير للرواية المصرية الجديدة واستكشاف منطلقات نقدية مغايرة لقراءتها. ومرفق معها الدراسة كاملة بصيغة pdf.

دلالات النهاية والكتابة المقاومة

قراءة تفكيكية في رواية «صخرة هليوبوليس»

صبري حافظ

 

(13) النهاية المفتوحة ودلالاتها:
تدعونا نهاية الرواية المفتوحة «وبقيت أنتظر» للتفكير في دلالاتها. ليس فقط لأنها نهاية من نوع خاص وتستلزم التحليل النقدي، ولكن أيضا لأن النهاية من الأمور التي قليلا ما يتريث عندها النقد التنظيري منه والتطبيقي. صحيح أننا نعرف منذ أول كتاب نظري في النقد الأدبي (فن الشعر) لأرسطو، أن المأساة تتطلب أولا عقد الحبكة complication ونسج خيوط الحدث وصولا إلى اللحظة الحرجة أو العقدة التي تتبدل فيها المقادير والمصائر، ثم حلها unravelling أو فك عقدتها، وهو ما أصطلح على تسميته بالعقدة والحل/ أي النهاية، وقد أصطلح على ترجمة هذا الحل – وخاصة في تناول النقد للقصة القصيرة – بلحظة التنوير Denouement . لكن هيليس ميلر – وهو من أبرز نقاد ما بعد مدرسة النقد الجديد الأمريكية ومن القلائل الذين نظّروا لإشكالية النهاية في النص السردي – يرى أن من الصعب في الدراما الفصل بين العمليتين: عقد الحبكة وحلها، للترابط الشديد والتفاعل المستمر بين عمليتي العقد والتفكيك، وأن هذه الصعوبة تزداد وتتفاقم في النص السردي.

«فليس هناك سرد يمكنه أن يُظهِر بدايته أو نهايته، لأنه دائما يبدأ وينتهي في وسط مسار ما in medias res مفترضا نفسه كمستقبل لماضٍ وقع خارجه، ولكنه يشكل جزءا منه وإن كان منفصلا عنه.»[1] بهذه الطريقة يعقّد هيليس ميلر موضوع البداية والنهاية معا، ويعصف بتبسيطات الشكليين الروس في الفصل بين الحكاية fabula والحبكة sjuzhet، لأن أحد أهم أدوات تحليل النص السردي عندهم هو تصور أن بالإمكان التوصل لمعرفة مسار الحكاية في تسلسلها التاريخي في الزمن من البداية إلى النهاية، وبالتالي التعامل مع تباين هذا الترتيب عن ترتيب الأحداث في الحبكة واستنباط دلالاته.

فالسرد عنده يبدأ دوما وسط مسار ما، تسبقه أحدات سلفت أصبح هو مستقبلها ووريثها، وستلحق به أحداث أخرى، حتى في أكثر النصوص لجوءً إلى النهاية المقفلة. لذلك فإن إشكالية النهاية aporia of ending تنبع من استحالة اليقين بأن سردا ما قد اكتمل، وأن النهاية مهما كانت صيغتها هي في واقع الأمر aporia أي تناقض داخلي لا حل له، أو طباق استدراكي يضمر بداياته الخاصة. «فكل حد أو حدث يمكن أن يكون بداية، ويمكن أيضا أن يكون نهاية» كما تقول جورج إليوت. وبالتالي يعتقد هليس ميلر بأنه «لا يمكن لنا أن نعلن بأي قدر من الثقة، والوضوح الجليّ الذي لا لبس فيه أن رواية ما قد انتهت، أو حتى أنها لم تنته. لأن محاولات توصيف روايات مرحلة ما بأنها تلتزم بالنهايات المغلقة، بينما نوصّف روايات مرحلة أخرى بأنها تتسم بالنهايات المفتوحة، هذه المحاولة منفية من البداية باستحالة البرهنة – بسبب طبيعة السرد نفسها – على أن سرد ما مغلق أو مفتوح. لأن التحليل النقدي للنهايات سيقود دوما – إذا ما تعمقنا فيه بالشكل الكافي – إلى العجز عن الوصول إلى أي منهما بشكل مقنع.».[2]

ويربط هيلس ميلر النهاية بكلمة أخرى من كلمات الأضداد في اللغة الانجليزية وهي ravel التي تعني نسج الخيوط ونسلها في آن، والتي تعانق فيها البداية الاستهلالية النهاية المضمرة فيها باستمرار، وتنغلق عليها. وتوشك النهاية بهذا المعنى أن تردنا إلى الرب Janus في الأساطير الرومانية، وهو رب البدايات والنهايات، رب الممرات والبوابات، رب التحولات من السلام للحرب ومن الحرب للسلام، ورب الزمن والحركة والتغير. وكان يانوس يُصوّر على هيئة رجل له وجهان في رأسه، واحد في مكان الوجه الطبيعي والآخر في مكان القفا، ينظر كل منهما في الاتجاه المعاكس للآخر. وبهذه الصورة فإن النهاية، كيانوس، تنظر نحو البداية، وتردنا إليها في كثير من الأحيان. وهذا ما يبدو أن (صخرة هليوبوليس) تفعله.

والواقع أن أهم من نظّر للعلاقة الجدلية الخصبة بين البداية والنهاية في الرواية هو إدوار سعيد في دراسته المهمة (البدايات). والبداية عنده محددة بشكل واضح، إن لم نقل صارم. حيث يؤكد «أطروحتي هي أن التجديدات والتقييدات – أو ما أدعوه على التوالي بالسلطة والتحرش[3] – حافظا في نهاية الأمر على الرواية، لأن الروائيين تعاملوا معهما كليهما باعتبارهما ظروف/ سياقات بدايات beginning conditions وليس باعتبارهما تراخيص لتجديدات سردية واسعة وبلا حدود. وعليه فإن الرواية تقدم لنا بداية من نوع بالغ التحديد، بالنسبة لما سيترتب على تلك البداية. ومن هنا فإن الرواية الكلاسيكية/ التقليدية كانت أكثر محافظة وانطواء على بداية مقيدة لما سيليها مما يُتوقع من جنس أدبي يلتزم بشكل علني بالتخييل»[4]

بهذا المفهوم المضيء للنهاية عند سعيد تدفعنا نهاية الرواية عند الشيطي إلى العودة لبدايتها. وأعني هنا البداية الحقيقية للكتاب الأول – بعد تجاوز العتبات واستهلال هذا الكتاب – والمعنونة «في الدهليز المؤدي إلى الحمام». وسوف تكشف لنا هذه العودة إشكالية مضمرة في تلك البداية. ففي نص من هذا النوع، يعتمد على كتابة الحذف والتكثيف، لا تقتصر الكلمات والأفعال على دلالاتها المباشرة. ومن هنا فإن الانتظار في النهاية لا يقتصر على ترقب وقوع الفأر في المصيدة، وإنما ينطوي كذلك على «إنكار» لليأس بطريقة هذه الرواية المراوغة في التعامل مع الواقع والكتابة معا! وهو في الوقت نفسه، «اليأس الذي لا يمكن التغلب عليه إلا بالكتابة، لأن اليأس – كما يقول كافكا – معاد للحياة وللكتابة في آن. فالكتابة هنا ليست إلا ذريعة ملائمة كما هي الحال بالنسبة لشخص يكتب وصيته قبل أن يشنق نفسه، ذريعة قد تستغرق عمرا بأكمله.»[5]

وبالتالي قد تكون هي الوسيلة الوحيدة والناجعة لدفع عوادي الموت – التي تتغلغل بالتردي والفساد في كل جنبات الحياة في مصر كما شاهدنا في أقسام النص المختلفة – أو إرجائه إلى ما لا نهاية، وكأنه يكتب وصيته. لأن الكتابة هنا هي علّة الوجود وتعِلَّته في آن. ولذلك تبقيها النهاية المفتوحة مشرعة على أفق مستمر الحضور. وتنفي عنها أي قدر من التنصل منها، أو التعلل بانتهائها كما تفعل النهايات المقفلة. والفراغ من الكتابة بالنهاية المقفلة تنصل من هذا الاشتباك الحتمي بمشاغل العالم وهمومه.

لذلك توشك «وبقيت أنتظر» أن تكون ذريعة أخرى لاستمرار الكتابة/ القراءة في النص، بأن ترتد بنا إلى البداية من جديد، والتي سنجد أنها أسواء من النهاية، فلم يعد بالشقة أي أثاث، مما يعني أن عملية التردي والتدهور مستمرة ومتواصلة. ولولا أن تلك البداية، وقد بدأت بشكل استفهامي موفق «هل أن الوقت أول المساء أم في عمق الليل؟» تفسد علينا الأمر بالجملة التالية «كان الساكن السابق قد نزع جميع المصابيح قبل أن يرحل.» (15) لكنا بحق بإزاء نص متواصل. تردنا فيه النهاية المفتوحة «وبقيت انتظر» إلى مسيرة السرد من جديد، بعد أن أفرغت مطلقته الشقة من محتوياتها، واضطر للنوم على قطع الكرتون، وبقي الصمغ الثقيل فيما يبدو في الحمام، فتعثر فيه ممثلو اتحاد الملاك في مشهد البداية التهكمي الساخر. ولأكدت لنا تلك البنية الدائرية السردية أن الوضع الرديء الذي انتهت إليه حياة الراوي/ البطل في نهاية النص ليس واقعا راهنا ومستمرا، لايزال يعيشه وتعاني منه مصر معه فحسب، ولكنه أيضا وضع يزداد سوءا. فلم يعد بشقة البداية مكتب يصعد إليه الفأر، ولا مواقع مختلفة يختار أن يضع في مفارقها بلاطة السيراميك. وبهذه الطريقة نكون بإزاء نهاية دائرية تردنا إلى البداية من جديد. خاصة وأن "عيد" البواب الصعيدي نفسه – والذي زوده بالبلاطة/ صخرة سيزيف – يظهر في تلك البداية، وهو الأمر الذي يستبعد به السرد أن نكون قد انتقلنا من شقة إلى أخرى.

والنهايات الدائرية تنطوي على تصور مضمر بأننا بإزاء عمل ذاتي المرجعية self-referential أي يحيل بالدرجة الأولى إلى نفسه، أكثر مما يحيل إلى مرجعيات خارجيةـ وهو الأمر الذي يعزز من دلالات النص ويكسبها مستويات متعددة من الرؤى والدلالات. لكن الإشارة إلى الساكن السابق الذي نزع المصابيح – فلو كانت زوجته/ مطلقته لكان الأمر أوقع – تربك هذا النوع من التلقي. وتعرقل البنية الدائرية الواضحة، التي تردنا فيها النهاية للبداية من جديد، وتستدعي تأمل تلك النهاية الدائرية، وكيف أنها تطرح علينا سردا مستمرا ومتواصلا، وليس عملا دراميا يقدم حلا لعقدة الأحداث وفق التصور الأرسطي القديم.

والواقع أننا في هذه الرواية بإزاء عمل متواصل، ولسنا في مواجهة عمل درامي له بداية وعقدة وحل. وطرح العمل المتواصل في مواجهة العمل الدرامي هو ابن النقلة السردية المهمة التي تحولت معها الرواية من السرد الواقعي إلى السرد الحداثي modernist على أيدي كتاب كبار من مارسيل بروست إلى جيمس جويس وفرجينيا وولف. وهي النقلة التي تضمر تصورا فلسفيا أعلن قطيعته الفكرية مع الرؤية الخطية أو التسلسل السببي للمسيرة الإنسانية، ومع المرجعية الواقعية الخارجية لما يدور في النص، وانشغل أكثر بأدق تفاصيل الحياة المعاشة والمادة التي تتشكل منها، أي نسيجها أو قماشتها texture وهو الأمر الذي تتسم به عملية التسريد التي تنهض عليها بنية (صخرة هليوبوليس).

صحيح أن الرواية – وبسبب انشغالها الحاذق بهذا النسيج – مثقلة بعبء ما دار في دمياط ومنطقتها من تحولات اقتصادية وتشوهات إنسانية قبيحة. إذ لا تستطيع الانفكاك من مرجعيتها الواقعية: دمياط والجربي ورأس البر، ثم القاهرة بطرفيها المتناقضين: دار السلام/ العيساوية وهليوبوليس. إلا أنها رواية مشغولة بالنسيج المعقد لتلك المرحلة، وبعملية النسج/ النسل المستمرة فيها بلا توقف. وكأنها رواية صراع الأضداد بين قوى الهدم التي تعيث في مصر فسادا، وقوى المقاومة التي ترد عنها عوادي التردي والانحدار، وتحتفظ لها بالحد الأدنى من القيم التي كانت مصر – منذ فجر الضمير – صانعة منظومته الأخلاقية والضميرية التي يفخر بها البشر ورادت مسيرة الإنسان صوب التطور والتحديث.

(14) طبيعة السرد الروائي ودلالاته:
لكن دعنا نعود مرة أخرى إلى النهاية/ أو بالأحرى إلى البداية. لأن إدوار سعيد قد نبهنا إلى العلاقة الجدلية بين البداية والنهاية، وإلى أن النهاية لابد أن تكون مضمرة حتميا في سياقات البداية. ذلك لأن كل تصور للنهاية في العمل السردي ينطوي على فهمه الخاص لطبيعة السرد وبنيته. لأن النهايات المغلقة تعبر عن نزعة الإنسان لأن تكون له مكانة مركزية، وتوقه لفرض النظام على العالم بغية فهمه والسيطرة عليه. حيث تضفي الاتساق والنظام على فوضى التجربة، وتعيد لحيرة الشخصية وتناقضاتها التماسك والاتساق، وتمنحها نوعا من الهوية المتميزة. وينسحب هذا بدوره على الزمن في النص السردي، وترتيب أحداثه والسيطرة على مسيرته. لذلك يرى فرانك كيرمود أن «انزعاج الروائيين من النزعة المركزية الضيقة solipsism التي تعتبر الذات الإنسانية هي محور الكون هو ما يدفعهم إلى فرض النظام على ما تتسم به التجربة البشرية من فوضى وتخبط. وهو الأمر الذي يفسر لنا تبدلات المصائر peripeteia في الرواية – والتي تنجم عن الاحباطات الدورية لنمط التوقعات التقليدية – وكيف قاد هذا الأمر على مدى مسيرتها التاريخية إلى تطور الرواية صوب درجات أكبر من التفتت والتشظي. لكن غواية اللعب الشكلي الروائي تلك، دائما ما تكبحها الرغبة الأعمق لفرض النظام، والتي تنتصر في نهاية الأمر بتجسدها في النهاية السردية. والواقع أن أهم ما يطرحه كيرمود هنا هو أن هذه الدينامية الفاعلة في النص السردي بين الشكل المحكم واللاشكل، بين التجربة الإنسانية المنظمة والفوضى هي أكثر من مجرد فكرة جمالية، لأنها النمط المهيمن على الفكر الإنساني.»[6]

يقول فرانك كيرموند «حتى نفهم معنى حياتنا من موقعنا الراهن – حيث نقع فيها عادة في الوسط ما بين البداية والنهاية، فإننا نحتاج قصصا عن البدايات وقصصا أخرى عن النهايات، وقصصا تربط البداية بالنهاية وتضفي على المسارات الممتدة/ الفاصلة بينهما المعنى.»[7] ذلك لأن «النهاية السردية تخلص الزمن الممتد بين البداية والنهاية من تسلسله التعاقبي البسيط chronicity بتحقيق نوع من الدمج الزمني الذي يحول الزمن البسيط الذي لا قيمة له إلى زمن ملحوظ kairos له قيمة وجدير بالتذكر وتضفي عليه المعنى. ... لأن السرد هو الذي يحول الزمن من زمن تعاقبي بسيط إلى زمن مشحون بالمعنى والدلالات from chronos into kairos»[8]

وإذا ما تأملنا (صخرة هليوبوليس) والتي تأخذنا من طفولة الراوي – الخالية من أي طفولة – وصباه المبكر إلى تحققه الظاهري بعدما أصبح يقيم في هليوبوليس ولديه سيارة خاصة، وإحباطاته الداخلية إزاء «تجليات التشوه التي تتحور حالما تقبض عليها، تصبح شيئا آخر غير مسمى.» (129) سنجد أنها لا تتبع الزمن التعاقبي الكرونومتري الذي تماثل فيه الدقيقة ما قبلها وما بعدها في تعاقب ممل، فذلك ليس بأي حال من الأحوال الزمن السردي، حتى في أكثر صورة تقليدية. وإنما تتعامل معه بحذق يسعى إلى تحقيق التوازن بين الترسبات الصانعة لتاريخ الراوي/ البطل في مسيرته الصعبة من بيت حارة نعيم إلى بيت أرض زعتر، إلى اليتم والمدرسة والعمل في ورش الأثاث معا، ثم إلى الجامعة والنقلة إلى القاهرة، وصولا إلى الزواج والتحقق الاجتماعي المقلوب إن شئنا الوصف الدقيق. وتلك المبلورة للسياق الاجتماعي، وتغلغل بنية القهر الأمني والاستبداد منذ الطفولة الباكرة، في نسيج الواقع، وتخلخل البنى الأسرية والقيمية، وتغير شروط العمل من القاع في ورش الأثاث المتناثرة في القرى، مثل عزبة اللحم والمنيا والعنانية، وحتى وكالات السيارات الأجنبية الفاخرة في قلب العاصمة، والتي لا تختلف شروط العمل في أجوائها المكيفة عن تلك التي يسميها الحرفيون في قرى دمياط «بيع/ سرقة».

فكيف استطاعت الرواية – والتي يبدو أنها تقتصر على كتابة حياة بطل/ سنتناول لاحقا كيف أنه نموذج لما يدعوه ديلوز بمجرد «حياة» نكرة في مواجهة الذات والهوية وإشكالياتها – أن تكتب تلك المسيرة التاريخية لفترة من أهم فترات مسيرة مصر مع التردي والهوان لفهم ما يدور فيها الآن؟ ستساعدنا العودة من جديد إلى رؤى إدوار سعيد في تدقيق النظر في حراك الكتابة السردية هنا. «وبدلا من السعي لفرض نظام يصنعه الوعي على فوضى التجربة الإنسانية – حسب رؤية كيرمود – يرى سعيد إن رغبة الروائي الأساسية هي الهرب/ التحلل من نظام التجربة، والبرهنة على تفرد الوعي. لأنه واقع دائما في أنشوطة نظام غير شخصي. ويجادل سعيد بأن سعي الروائي للحرية يصطدم فحسب بالشكل الخاص الذي اختاره والتناصات التي ينطوي عليها، حيث سيكتشف الروائي أن التجربة دائما ما تأتيه حتما عبر مرشح/ وسائط بنية الفكر الإنساني، وفي نهاية المطاف عبر بنية اللغة والنصوص التي هضمها. وبالتالي فلا وجود للفوضى في منظور سعيد، وليس لها أي سلطة على الأولوية الأنطولوجية الكيانية. ولذلك تمكن سعيد من تطبيق مفهومه عن "التحرش" على البنية الروائية بطريقة أكثر فاعلية من تطبيق كيرمود لمفهومه عن النهاية. لأن سعيد يشيّد مفهومه على النظرية اللغوية وعلى جذور بنيوية.»[9]

والواقع أن تأكيد إدوار سعيد على أن رغبة الروائي الأساسية هي الهرب/ التحلل من نظام التجربة، والبرهنة على تفرد الوعي يمكنه أن يكون مفتاحا مهما لقراءة ما تسعى الرواية إلى تحقيقه. فنحن هنا بإزاء بطل يسعى للتحرر من عبء تجربة مبهظة تلاحقه باستمرار، برغم كل ما يتذرع به من «إنكار». وهو إنكار يتصادى وبطريقة مغايرة تماما مع انكار صقر عبدالواحد الاحتجاجي في روايته الأولى (ورود سامة لصقر) ومع تحلل صديقه يحيى من الواقع كله والسفر للعمل بالخليج، وحتى مع رفض فتحي الذي فقد ساقه في الحرب، ويرفض العمل في مرحاض، بعد أن أصبح الواقع نفسه مرحاضا كبيرا تزكم روائحه الكريهة أنوف الجميع.

(15) خفوت الصوت الاحتجاجي وكتابة التاريخ:
فأهم ما يميز (صخرة هليوبوليس) عن رواية الكاتب السابقة (ورود سامة لصقر)[10] 1986، هو خفوت الصوت الاحتجاجي، لصالح تعزيز قدرة النص على المقاومة وتعميقها. لأن الرواية الأولى هي رواية الغضب و«الإحساس بالخيانة»، (38) رواية الاحتجاج على هذا الرجل العسكري، الحالم أو المجنون الذي حكم مصر، والذي «تركنا نتشعلق في حبال الهواء ومات». (26) «ذبحنا الرجل برحيله المتسرع»، (30) وترك مشروعه عرضه للهدم والدمار. وهي رواية اليأس من التغيير، حتى بعدما خرج «الفقراء إلى شوارع القاهرة، يتظاهرون ويكسّرون بعد الإعلان عن زيادة أسعار الخبز؟» (27) فإن خروجهم لم يغير من الأمر شيئا، وظلت الشوارع «تتحول إلى خرائب ومزابل ومحاشر».(31) إنها رواية خوف الجيل الذي أيقظه السعي لتحقيق العدل الاجتماعي – وهو سعي مسيرة الاستنارة المصرية منذ الطهطاوي وحتى طه حسين من قبل هذا العسكري الحالم – من أن يشوهه الفقر، ورفضه للحياة الجائرة. «ومات لأن الدنيا لم تعجبه».(24)

فالصوت الاحتجاجي هو ما يميز هذه الرواية التي تشعر جميع شخصياتها، لا بطلها "صقر عبدالواحد" وحده، بالغضب والظلم والإحساس بالخيانة. فصقر غاضب لأنه اكتشف أن الأفق أمامه مسدود، وأن حبه لناهد لا مستقبل له. فقد أخذ التباين الطبقي يطبق على أنفاس الفقراء ويبهظهم. ويرى كيف أن مسيرة الانفتاح تدمر القيم الأخلاقية والإنسانية قبل أي شيء آخر. ولذلك فإنه غاضب حتى على أمه حينما دخلت في لعبة التهريب من بورسعيد صارخا فيها «مش أمي ولا أعرفك»، (75) وأحرق كل ما جلبته. لأننا «نعيش عصرا كاملا من الخيانة، أو قل الوضاعة»(78) أما أخته تحية فإنها تغلف – مثلها في ذلك مثل أمها – احتجاجها بالحزن العميق والإحباط.

وصديقه الحميم يحيى خلف – برغم فهمه المنهجي لمسيرة التردي ومقاومته المستمرة لها ونضاله ضدها – غاضب هو الآخر وقد رأى «الذهول على وجوه الناس والخيانة الصريحة تقدم لهم كبطولة».(78) ولا يستطيع أن يعيش «الوقت الذي تبيع فيه مصر استقلالها الوطني لأجل أكوام السوتيانات والألبسة وعلب العصير وأفلام الجنس والفيديوهات والجوارب الحريمي إلى آخر القائمة، أقول في نفس الوقت تبحث عن المثقفين، فلا تجد أحدا. لا تجد غير الغرقى في هموم الذات، والطموحات الصغيرة وعبادة السلع والجنس ... ستجد الناس قد تحولوا إلى مرتشين وقوادين». (96) فلا يجد مفرا – بعد موت صديقه الحميم – غير الهرب إلى منافي النفط العربية.

حتى فتحي، شقيق يحيى، الذي كان بطلا في الحي، رجع مبتور الساق من حرب أكتوبر 1973، وكانت مكافأته الوحيدة هي عرضهم عليه أن يوظّفونه عاملا في مرحاض، (46) فرفض هذا العرض محتجا هو الآخر، بعد أن أصبح الواقع نفسه مرحاضا كبيرا تزكم روائحه الكريهة أنوف الجميع.[11] لذلك يقول غاضبا هو الآخر «إن العبور يحتاج إلى عبور آخر». (47) لكن هذا العبور الآخر حينما حدث، كان عبورا مقلوبا جلب بكامب دافيد سفارة دولة الاستيطان الصهيوني إلى قلب القاهرة. حتى ناهد بدر – حبيبة صقر وسبب أزمته – لها هي الأخرى صوتها الاحتجاجي المراوغ الذي يضمر احتجاجه على مادار عبر رداء التخبط وعدم الفهم، وإن أسفرت عنه بشكل صارخ حينما طلبت من أخيها العودة بالسيارة قبل وصولهم إلى دمياط، وقد اكتشفت من خلال منولوجها الداخلي أن صقر قد انتهى، (89) وأن قصتها معه لا تستحق أن تعكر من أجلها مزاجها، ناهيك عن مستقبلها.

وما يعزز هذا الصوت الاحتجاجي في الرواية الأولى هو أنها تلجأ إلى استراتيجية تعدد الأصوات النصية، فلكل شخصية من شخصيات الرواية صوتها الذي تحكي عبره تفاصيل ما جرى من منظورها. بالصورة التي تبلور معها شخصيتي صقر، ويحيى مركز كل أسباب الاحتجاج الموضوعية، وما جرته على مصر مسيرة التفريط في الاستقلال الوطني والانفتاح من خراب. ويعزز تلك النغمة الاحتجاجية في الرواية التناص المعلن مع عدد من النصوص الروائية الشهيرة من رواية جويس (صورة الفنان في شبابه» إلى (السائرون نياما) لسعد مكاوي (29) و(ذئب البوادي) لهيرمان هيسه (97) وغيرها بما تستدعيه كل منها من نغمات احتجاجية متباينة.

لكن (صخرة هليوبوليس) تتخلص من هذه النغمة الاحتجاجية، ومن السخط الاجتماعي والسياسي، وتنأى عن كل الإشارات التناصية المعلنة منها والمضمرة. بالرغم من أن المكان فيها يرجّع أصداء مكان ورود سامة لصقر – دار السلام، والمدينتين الساحليتين في دمياط ورأس البر، والمدينة الأم: القاهرة. كما أن العالم هو نفس عالم صقر الذي كان أبوه بائعها سريحا على شواطئ رأس البر، والذي يشتغل فيها الذكور منذ صباهم الباكر في صناعة الأثاث. فلم يعد الخلل فسادا أو استثناءا، وإنما أصبح هو الوجود المسيطر الراسخ الذي يطل عليه القسم والسجن، وقد أقيما مكان شفيعهم الشيخ القناديلي الذي كان يهدهد مظالم المظلومين، فارتفع صراخهم من نوافذ السجن كل مساء بلا رحمة ولا شفيع. في عالم يزداد فيه الظلم والظلام دون أي بصيص أمل من قنديل ضعيف.

وتنشغل الرواية بدلا من ذلك بكيفية ترجمة معرفتها بما جرى في مصر ولها خلال مسيرة حياة كاتبها إلى حكاية، إلى تلك الشفرة السردية العابرة للثقافات كما يدعوها رولان بارت. حكاية برغم خصوصيتها وتفردها، تكتسب بسحر السرد وقوته القدرة على أن تكون في الوقت نفسه، قصة ما جرى للعشرات أو الملايين من أمثاله. وبعد أن كان لكل شخصية من الشخصيات صوتها المتميز في (ورود سامة لصقر) ضاعت الأصوات في (صخرة هليوبوليس)؛ حتى الراوي المروي عنه – يوسف العلمي – لا يمتلك صوتا مستقلا به، قادرا على الغضب أو التحدي كما كان الحال مع صقر عبدالواحد. لأننا بإزاء عملية تسريد تنحو صوب الموضوعية، وكثيرا ما ترتبط موضوعية السرد بغياب الراوي. والواقع أن هذه الموضوعية هي التي مكنت النص من أن يكشف عبر هذه الكتابة كيف تغلغلت الباثولوجيا الاجتماعية – وفق مفهوم هابرماس – في بنية الواقع طوال تلك الفترة التي عاشها الراوي/ البطل وساهمت في تشكيل أدق تفاصيله الصغيرة، بشكل أفضى إلى فقدان المعنى وفقدان الحرية معا.

وحتى نفهم كيف فعل النص ذلك علينا العودة إلى ميشيل دي سيرتو، أهم من درس كيفية كتابة التاريخ في العمل الأدبي. يقول دي سيرتو «تتولد الكتابة من الاعتراف بأولوية الشك والانقسام الواضح/ الجلي وتتعامل معهما، وباختصار تنبثق من استحالة تيقن الإنسان من موقعه. إنها تعبر بوضوح عن الحقيقة البدئية المستمرة بأن الذات هي على الدوام بداية، وأن المكان لا يمنحها أي سلطة أو تحقق. حيث يستحيل على المكان أن يمنحها سكنا لكوجيتوcogito غير قابل للتغيير أو التبديل. وهكذا يبقى الإنسان غريبا بالنسبة لنفسه، محروما للأبد من الأرض الكيانية ontological ground التي يرسخ فيها وجوده، وبالتالي فإنه دائما ما يحس بالعجر أو بأنه فائض عن الحاجة ومتروك. دائما في موقع المدين بالنسبة لموت ما. مدين بالنسبة لاختفاء الأواصر الجنيولوجية للأسلاف أو لأرض المنشأ المحلية المرتبطة باسم لا يمكن امتلاكه حقا. وأنه مربوط باسم يفتقر لأي خاصية مميزة.»[12]

ويوشك القسم الأخير من هذا المقتطف أن يكون توصيفا للحالة التي يتركنا النص فيها مع "يوسف العلمي" في نهايته وهو ينتظر، عاجزا وفائضا عن الحاجة، وقد اختفت من تحت أقدامه أرض المنشأ المحلية، وأصبح محروما إلى الأبد من الأرض الكيانية التي يرسخ فيها وجوده، يحمل على كاهله، لا صخرة سيزيف، وإنما «صخرة هليوبوليس» وما جرته عليها مسيرة التدهور التي تطرحها علينا الرواية، بعد أن ردتنا النهاية فيها إلى بدايتها. وهي البداية التي نعرف من عتبتها الأولى أنه لم يستطع أن يكتب موت أخيه الأصغر فيها – فهو الوحيد الذي لم يشارك في تكتل إخوته ضده لطرده من البيت بعد موت أمه كي يبيعوه – فاكتفى بإهداء الرواية كلها له. تماما كما لم يستطع أن يكتب نهاية أمه فيها برغم أهميتها المحورية في حياته، واكتفى بأن أشار إلى مأساوية رحيلها دون تفصيل «بعد الرحيل المأساوي لأمي، بعت حقي في البيت لأخي.»(40) ولا نعرف أي الأخوين، وإن كان الأرجح أن يكون «سعيد» وهو أمر غير مهم. لكننا نعرف أنه لم يزر دمياط منذ عامين ونصف، منذ رحيل أخوه «راضي» ضحية لفيروس الكبد الوبائي C كمعظم المصريين. وأنه الوحيد في العائلة الذي يحمل شهادة جامعية، دفعته إلى الارتحال.

فالنص لا يكتب الموت، لأننا بإزاء كتابة الحذف والتكثيف كما أشرت. كتابة تتجنب بقدر الإمكان ما يجلب إلى النص أي نزوع يدفع للتماهي العاطفي ولا أقول النهنهات العاطفية/ السنتمنتالية. ولكنه مدين له. وبين الارتحال والدين تكتب الرواية باثولوجيا الواقع المصري. فكما يقول الماركيز دو صاد «إن المعرفة التي يمكن احتيازها في فن الرواية هي تلك المستمدة من البؤس والمحن أو من الترحال».[13] وهذا ما نجده في نص الشيطي وقد أفضى البؤس والمحن إلى الموت: موت الأب ثم موت الأم، ثم موت الأخين الأصغر والأكبر. موت العالم القديم وحلول عالم شائه مكانه، يشعر فيه الراوي/ البطل كلما ارتحل في المكان أو في الزمان بالغربة، والإزاحة التي لا تدُعّه عن المكان باستمرار، وتجبره على أن يغيره أكثر من مرة وعلى الارتحال منه وحسب، ولكنها تتجسد أيضا في الكتابة المزاحة نفسها displaced writing التي تتغير معها قواعد الإحالة باستمرار. لأن تجربة الكتابة، وفق التورية الهيجيلية، هنا هي الذاكرة الواعية Erinnerung والتوجه الباطني فينا Er-Innerung في آن. هي التجربة التي تصبح فيها اللغة آخر بالنسبة للذات، برغم من أنها لسان تلك الذات الأصلي والمراوغ في آن. وفي آخريتها تلك تصبح قادرة على القيام بدور تحليلي مضمر.

(16) «حياة» نكرة في مقابل «الذات» المُعرّفة:
بين الذاكرة الواعية، والتوجه الباطني تبلور الرواية رؤيتها لما جرى من خلال بطل لا نعرف اسمه إلا قرب نهايتها، لأنه يوشك، برغم تفرده وخصوصيته أو بسببهما، أن يجسد عملية المقاومة المستمرة لسطوة التنميط الاجتماعي التي تفرضها آليات مجتمع متسلط على أفراده، ليحول دون تفردهم. فمن مآسي المجتمع المصري معاداته المستمرة لعملية التفرد process of individuation تلك، وإخضاعم لتنميطات قديمة وبالية. وبرغم أن الرواية في مستوى من مستويات المعنى فيها توشك أن تكون رواية تكوين Bildungsroman أو بالأحرى رواية تكوين مقلوبة. لا تقدم لنا التكوين الاجتماعي والنفسي والفكري لبطلها كمسيرة مبلورة للهوية في مجتمع حر – كما هو الحال في (آلام فيرتر) لجوته، أو كمال عبدالجواد في ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة – وإن كانت تفعل ذلك إلى حد ما بالنسبة لهذا البطل الجديد وقدرته اللانهائية على مجالدة التردي والهوان ومقاومته، كي يحافظ على إنسانيته. ولكنها تقدم لنا ما يدعوه ديلوز بـ«حياة a life» نكرة، في مقابل هيمنة مفهوم «الذات» المُعرّفة الذي صاغه جون لوك (1632-1704) ثم رسخه إمانيويل كانت (1724-1804) في الفكر الغربي من بعده، وظل يتحكم في التفكير المنهجي في شتى مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية.

فعلى عكس «الذات» أو «الأنا» التي تطرح نفسها في مواجهة الآخر الفرد أو حتى «النحن» الجمعية، والتي تتسم بخصائص محددة: الوعي والذاكرة والهوية الشخصية، والتي طال الجدل في الفكر الإنساني حول علاقتها بالآخر، وحكم التناقض بينهما مسيرة التفكير طوال القرنين الماضيين؛ نجد أن «حياة» بهذا الفهم الديلوزي تتفتح كصيرورة بناء على منطق مغاير، هو منطق التفرد غير الشخصي impersonal individuation بدلا من الفردانية الشخصية personal individualization، منطق التفردات الوحدانية المفردة singularities بدلا من الخصوصيات التفصيلية particularities النمطية. فـ«حياة» لا يمكن توصيفها لأنها دائما تستعصي على التعريف والتخصيص، وتبقى مجرد «حياة» غير منمطة، ولكنها متفردة تتسم بتعاليها التجريبي transcendental empiricism.[14]

إن حياة بهذا المعنى تتطلب توليفا مغايرا لما هو معقول، مفارقا لتلك التوليفة السائدة من التجريدات والتعميمات الصانعة للذات الواعية أو الشخص/ الفرد. ذلك لأن أحد ترسبات الخطاب الفاعلة في كل منا هي تلك التي تشكل ما هو معقول أو اعتيادي شائع، أو ما اصطلح الجميع على تسميته بما هو بديهي، متفق عليه ومقبول دون مناقشة common sense، وهو ما أصبح يوسم بالبداهة وحتى بالحصافة والفطرة السليمة. أما طرح هذه الحياة النكرة، في مواجهة تلك البداهة، فهي السبيل لتعريتها من أي مقبولية أو اتساق مع الفطرة، ناهيك عن القيم والأخلاق. فما تواضعنا في مصر على وصفه بـ«طبيعي» أو «عادي» هو ما تتحداه هذه الحياة النكرة، وتشكك في طبيعيته وتنبهنا إلى ما في عاديته من خطر. حياة هي دائما احتمال، افتراض، استمرارية تحت التكوين، وغير خاضعة للتوقعات. ليست ضمنية أو متأصلة، وليست حتى مكتسبة، إنها دائما تتخلق/ مرجأة/ قيد التكوين مجرد «حياة». لذلك ففيها دوما قدر من الغموض وعدم التحدد، لكن عدم تحددها ذاك حقيقي وواقعي، لأن الواقعي نفسه – في هذا الواقع الذي يترسخ فيه الفساد ويتحول إلى القاعدة بدلا من أن يظل استثناءً ممجوجا – احتمالي وغير محدد ووراء قدرتنا على قياسه وتحديده.

وحياة يوسف العلمي – رغم اسمه الذي أخر النص البوح به إلى أقصى حد – هي من ذلك النوع من الحياة، لذلك نجده يبقيه منطق تلك الحياة المراوغ في نهاية الرواية «ينتطر» على العكس من نهاية صقر بالموت، في الرواية السابقة. وهو الانتظار الذي يؤكد أن الحكاية لم تكتمل بعد. وأننا لابد أن ننتظر معه، ليس اكتمالها فحسب ولكن ايضا ملء ما بها من فجوات. فهناك الكثير الذي يسقط من ثقوب الذاكرة: لماذا تركت الأم البيت مع يوسف وفريدة بعد شجارها مع الأب؟ ومتى عادت وأنجبت زين؟ وكيف مات راضي؟ أو كيف انتهت حكاية يوسف مع زوجته/ مطلقته؟ وغيرها كثير. والواقع أن كتابة الحذف والتكثيف هي التي تفسر كل ما في النص من فجوات أو فراغات محذوفة قصدا، من أجل تعزيز استراتيجية مغايرة في التلقي والتعامل مع النص. وهي المسؤولة عما فيه من شقوق. تماما كالأرض العطشى التي تتشقق من قلة الماء. لأن استحالة الكتابة عن هذه التجربة بطريقة خطية أو تقليدية هي التي تحتم اختلافها، أي أن تكون كتابة مختلفة، مليئة بالفجوات والثقوب والفقاعات الهوائية الفارغة أحيانا من دلالات اللغة المعهودة.

يقول ميشيل دي سيرتو «إن السطح المتشقق يحيل إلى حركية ما قيل. إلى قدر من الغموض الفاعل في النص، يهز هذه الشذرات التي تشقق السطح وتناظر كل منها الأخرى دون أن توازيها. فالتوقفات والانقطاعات والفجوات يتيح لبعضها أن تلعب الواحدة منها مع الأخرى. ومن هنا فإن احتمالات المعنى التي تتولد أو التي تتبدد، هي بنت صخب الكثافة التي تنطوي عليها الكلمات».[15] لأن العمل الأدبي «ليس له أرض موروثة يمد فيها جذوره، ومن هنا فهو مرتحل nomadic كبدوي. لان الكتابة لا تستطيع نسيان البؤس الذي انبثقت بالضرورة منه، وليس بإمكانها الاعتماد على أدلة قوية مضمرة أو بادية للعيان كـ"أمارة" على وثاقة علاقتها الأرضية بالحقل الذي نبتت فيه وحميمية علاقتها باللغة الأم/ اللسان الأصلي. فالكتابة تبدأ بالخروج exodos الطرد بالمعنى التوراتي الشامل في سفر الخروج، وتتخلق في لغة أجنبية، حتى ولو كانت تلك اللغة مكتوبة باللسان الأصلي. وسبيلها الوحيد هو تبيان كيف ارتحلت عبر الألسنة»[16]

(17) التبئير والتخريف والكتابة المقاومة:
ونلمس ملامح هذا الارتحال إذا ما تأملنا عملية التبئير في النص، وكيف يتحول الصوت السردي فيه بين أكثر من موقع. حيث يراوح بين صوت السارد العليم، والسارد الذي يريق الشك على ما يرويه، وصوت الأنا الاعترافي أو التذكّري، وأحيانا صوت الأنا المنقسمة على نفسها حينما ينزلق إلى ضمير المخاطب. لكن صوت السارد العليم – الذي يتجلى في استخدام النص لضمير الغائب كثيرا هو من نوع ضمير الغائب الذي يعتبره رولان بارت متنكرا في ضمير المتكلم في أغلب الأحيان. بالصورة التي تضفي على هذا السرد مصداقية الخبرة الشخصية. بينما يتسم سرد ضمير المتكلم – والذي يتحول إلى ضمير المخاطب في بعض الأحيان، بلورة لتخليها المستمر عن ذاتها – بقدر من التشكيك في الوقائع، وفي الاعتماد على الذاكرة، وهي بطبعها خؤون، للتنصل من أي مضاهاة مع الواقع. وهو الأمر الذي يعزز الشكوك التي يريقها السرد على بعض تفاصيله، أو يؤكد انفتاحه على احتمالات متعددة هي من خصائص السرد المستعاد من الذاكرة.

فمند بدايات النص يعلن علينا «إن ما يحدث قد يكون غير حقيقي، وأنه مجرد امتداد لأحلام وهواجس النوم» (ص17)، وهو تشكيك يتكرر في أكثر من موقع «وهل هذه ذكرى يمكن الركون إليها، تحيره السياقات المتقاطعة حيث يصبح ما حدث ضرب من التخمين.» (21) «كل هذا الذي يحدث وهو لا يعلم عنه أي شيء؟ وكيف ترك الأمر يتفاقم هكذا؟ لا شك أنني في حلم، حلم يشبه الواقع لكنه ليس بواقع وليس بحلم» (22) «أعرف الأن بعد مرور نصف قرن، أن هذا ربما لم يحدث، أو أنه حدث على نحو مغاير، فأنا لا أعرف أبي جيدا.»(27) «فيما كنت أظن دون أي تأكيد واضح، أن المطر في الخارج يهطل دون انقطاع» (ص94) ويتكرر قول «ربما لم يحدث هذا» في أكثر من موقع.

وهناك تنويع مغاير على تلك العملية، عند تتابع أداة الاستفهام هل في نهاية شذرة طويلة نسبيا: «هل سار معنا الراجحي إلى الباب مودعا؟ أم أن عليّا أوصلنا إلى أول الزقاق؟ هل عدت يومها إلى دمياط؟ أم بتّ عند خالي على سرير جدي؟ هل كان خالي محمد يحثني على السير بسرعة حتى يتمكن من النوم ولو ساعة كي يستيقظ وشوقي للتصحية؟ هل وقفنا على كوبري البلد ليوقف لي عربة أجرة ويصرّ أن يعطي الأجرة للسائق؟ تلحّ على الذكرى لوجه مستسلم بسلام للنوم بينما تغمره التلاوة بأزهار تتدلى من السقف» (ص86) ذلك لأن تصدر هل الاستفهامية لكل تلك الاحتمالات ليست للتشكيك فيما جرى، ولكنها طريقة النص المراوغة لبلورة ألق الذاكرة، وجمعها للكثير من الزيارات في زيارة واحدة، تكتب فيها زمن القص السرمدي وقد أحاطته بتلك الهالة التكرارية، أكثر من أن تكون تشكيكية.

فالنص الأدبي لا يطرح نفسه عبر تلك الاستراتيجيات النصية المختلفة باعتباره نصا له سطوة معرفية، تنطلق من موقع سلطة ما كما هي الحال في النصوص العلمية أو الفلسفية أو الأيديولوجية. أو حتى كنص تاريخي ينطوي على مادة نفيسة قيّمة ومتماسكة، أو نص واقعي يوهم القارئ بمصداقيته لتماهيه مع الواقع الذي يكتب عنه واعتباره امتدادا له؛ ولكن باعتباره علاقة بين الشك والتأويل. وموقعا للتناقضات والتفكك والتشظي والتشققات والفجوات والشروخ والهشاشة وفقدان التماسك الداخلي والثقة والاضطراب. يقول دي سيرتو «إن اتهام الذات هو ثمن المعنى، فمن الضروري أن تتهم الذات نفسها كي يصبح البؤس والمحن والبلايا مفهومه.»[17]

لاننا بإزاء نص يبحث عن منطق مغاير، ينهض على التعددية؛ لكنها تعددية غير تراكمة، وغير جدلية dialectical وغير متعالية transcendental وسابقة – ليس ببساطة لعالم الذات والموضوع – ولكن أيضا لمنطق الربط بين المبتدأ والخبر، ولكل افتراضات التتابع السببي والتماسك المنطقي. حيث يقع التسريد على الخط المشدود بين التعرف على الترسبات اللامتناهية التي تركتها التواريخ فيه والغواية المفتوحة على أمل في خلاص ما. وهو الأمل الذي يكشف لنا عنه مفهوم ديلوزي آخر هو مفهوم التخريف fabulation. ومن خلال التضافر والتشابك بين هذين الخيطين السرديين تكتب الرواية عملية التشوه والتحول المتواصلة التي عاشها البطل على مد فترة قصيرة نسبيا من تاريخ مصر.

والواقع أن مفهوم التخريف عند ديلوز يرتبط ارتباطا وثيقا بمفهوم التسريد الذي لجأنا إليه في تحليل هذه الرواية. يقول ديلوز: «الفن مقاومة: إنه يقاوم الموت والعبودية والخزي والعار. لكن الناس لا تنشغل بالفن، ولا بكيف يتخلق الناس فيه عبر المعاناة القاسية، وعبر إمكاناتها الخاصة، وإن بطريقة تتصل بالفن، وتربطه بما هو ناقص/ غائب أو مسكوت عنه. ليس باعتبار هذا الناقص هو نوع من اليوتوبيا المرتجاة، لأن مفهوم اليوتوبيا نفسه ليس المفهوم الصحيح، ولكن بشكل أدق عبر نوع من التخريف fabulation: خلق الخرافة التي يتشارك فيها الناس والفن معا»[18] والتخريف بالمفهوم الديلوزي هو تصور البدائل وصياغتهاimagining and imaging of alternatives بمنطق الأسطورة-العلم myth-science وإدراجه في الواقع أو إيلاجه فيه من أجل تضخيمه أو عرقلته. وهو أمر مغاير لليوتوبيا التي تقوم عادة بوظيفة إرجائية، حيث تصبح عادة مفارقة للواقع ومن مكونات الأفق البعيد.

إن التسريد الذي يتغيّا خلق أسطورته/ خرافته التي لا تقل صلابة ومنطقية عن العلم يسعى لتأسيس تتابع مغاير ونص بديل as a refraction تتبلور مكوناته في عملية التسريد/ التخريف وكأنه انحل إلى مختلف ألوان الطيف، يؤكد عبرهما – ومن خلال عملية تشبه تكسر الضوء عبر المنشور الزجاجي وتبدل ألوانه – الطبيعة التسريدية لما يسمونه الواقع. بالطريقة التي يتم بها طرح درجة نغمة أو طبقة الصوت pitch المختلفة التي يتخلق عبرها التخريف وإبرازه projecting أو طرحه في مواجهة الواقع المهيمن أو السائد بتخيل البدائل وتصويرها/ تجسيدها. بمنطق مغاير للأمد والتركيب يطرح علينا شذرات من المستقبل المحتمل، أو من الصورة الحقيقية للواقع التي جرى تمويه بشاعاتها علينا، حتى لم نعد قادرين على رؤية ما بها من قدرة تدميرية مجنونة تسلبنا أبسط مبادئ إنسانيتنا.

«إن قدرة الفن على انتاج ما لم يُرَ أو يسمع من قبل، من خلال صور في غير محلها untimely تفجأنا وكأنها جاءت من المجهول – لهو أمر بالغ الأهمية، ويكتسب قيمة نضالية في آن. إن عوالم الصور العجيبة والتسريدات المستغربة – تستهدف ولا تتقصد في الوقت نفسه – استدعاء نوع آخر من الذاتية، يمكن القول أنها ذاتية مقّنعة بالأنماط القياسية والمعيارية السائدة. لأن تلك الصور والتسريدات لا تبغي أن تتحدث إلينا، وإنما أن تتواصل مع شيء دفين في داخلنا، مع الحقيقية الجمعية collectivity التي هي هويتنا الإنسانية المغيبة.»[19]

ذلك أن التخريف، في تواشجه مع التسريد يصبح «بهذا المعنى نوعا من تحويل السرد إلى سلاح weaponization لأنه ينأى به عن أن يكون هروبا من الظروف الراهنة أو دواءا شافيا منها، وإنما شيء أكثر حدّة، وهو استقصاء الماضي للكشف عن الاحتمالات المتخيلة للحظتنا الراهنة. حيث لا شيء حقيقي، ولكن كل شيء مباح».[20] وحيث يحث العمل القارئ على إعادة التفكير فيما طرحته عليه الرواية عبر تسريداتها التي ترفض أي محاولة مضمرة من القارئ لتحقيق التماهي بينه وبين الواقع الخارجي، وإنما لمواجهته بطريقة شكية مستمرة، تزعزع الميل الدائم الكامن فينا إلى تصديق ما يدغدغ أحاسيسنا أو يشبع أهواءنا ويعزز أوهامنا، وتدفعنا لمزيد من التفكير والتأمل في احتمالات التغيير. لأن النص «حينما يقطّع أوصال الحاضر، ينزّ من أمشاجه المستقبل»[21]

(18) خاتمة:
وأخيرا، فقد سعيت في هذه الدراسة التي طالت كثيرا، إلى تقديم مجموعة من المقتربات النقدية لتحليل هذا النص الروائي الجديد، والتي وجدت أنها الأكثر قدرة على الكشف عن طبيعة بنيته السردية الخاصة، وعن الدلالات التي ينطوي عليها منهجه الفريد في التسريد. فمحتوى الشكل لا يقل أهمية عندي عن أي عنصر من عناصر البنية السردية. وربما كانت ضرورة توضيح الخلفية الفكرية لهذه المقتربات النظرية وراء طول الدراسة النسبي. ولكني أظن أن هذا كله كان ضروريا للكشف عما تنطوي عليه الرواية من تجريبية تعددية من حيث تعدد المصادر التي تنهل منها، والتوجهات أو الصبوات التي تريد تحقيقها معا. فقد رفض الشيطي منذ البداية الشكل التقليدي، والبنية الروائية ذات التسلسل السببي، ولجأ إلى حوار المشاهد، والعلاقة الجدلية بين الأصوات، والتقطيع المستمر للأحداث، وخلق الفجوات أو تعمد ترك فراغات، وهو يطور هذه البنية الروائية المختلفة، التي تبلور الكثير من الاستراتيجيات النصية لكتابة جيل التسعينيات الأدبي في مصر، وغيرها من البلدان العربية.

وهي استراتيجيات تروى لنا الأحداث من روابي ونجاد plateaus مختلفة – وفقا لعنوان كتابه ديلوز الشهير ألف رابية – لكل منها أبعادها ومستوياتها المتباينة. وتمد أشراسها في مختلف مناحي التجربة التي عاشها هذا الجيل، عل نسغ تلك الأشراس يضيء لنا بعض ما تموهه التنميطات والكليشيهات التي تتعمد التعمية والتمويه. حيث يعمد الكاتب إلى التركيز على مكان محدد وكيف تركت الأزمنة المتتالية بصماتها عليه، في نوع من المكازمنية الديلوزية التي أشرنا إليها سالفا. وبصورة تمكن البطل/ الراوي من كشف رأسه أثناء (الخروج بالنهار) في عتبة النص بالمعنى الفرعوني الأصيل. كتابة تبلور في الوقت نفسه عملية التسريد الخاصة التي نتعرف فيها على مقولة ديلوز حينما يخبرنا أن أبناء عملية التشريش تلك يتكلمون بأجسادهم، برغباتهم قبل عقولهم، وهم يكتبون لنا أوجاع الفقر ووحشة طريق القيم. وهي كتابة تنطلق من دور الرواية في بلورة عالم عقلاني مواز للعالم الواقعي وقادر على الحوار الخلاق معه، وعلى القيام بدور معرفي يساهم في تنوير القارئ وتمكينه من مناوشة وعي أعمق بالعالم الذي يعيش فيه.

لأن عملية الكتابة نفسها تنطوي على صيرورتها السياسية، بطبيعة إجراءات بنية الجملة وترتيب مفرداتها/ دلالاتها، إذ تضمر بوعي أو بدون وعي عملية إعادة تشكيل للواقع من منطلق رؤية – سياسية عادة – له. فاللغة هنا ليست بيت الوجود/ الكينونة – كما يقول هيديجر – ولكنها موقع التحولات التجوالية التي ترسم مسار الرحلة. لأن «الكتابة ترقش لنفسها مسارا في اللغة التي لا يمكن فصلها عن المحنة البدئية والأولية معا وعن الخداع الأبدي والمستمر.»[22]

حيث يسعى الروائي ليس إلى تمثيل العالم الخارجي، وإنما إلى تقديم طريقة فهمنا له وموضعه أنفسنا فيه، من خلال اكتشاف الحقيقة الفلسفية المضمرة في تقلبات التجربة الإنسانية، وفي علاقة الفرد بتلك التجربة في الواقع الاجتماعي الذي يعيش به، وبين خرائط القوى المختلفة الفاعلة فيه. وصراعه المستمر للحفاظ على إنسانيته في عالم يهددها باستمرار. وهي الحقيقة التي يمكنها أن تفسر له الموقع النسبي بين الحرية والضرورة. في الوقت الذي تمكن فيه الرواية من أن تصبح «جزءًا من مشروع معرفي epistemological مهما كان توجهه الفلسفي، فإن الرواية في النهاية تكتسب فعاليتها من خلال وضوحها وملاءمتها لوصف حالة دائمة ومتماسكة للتجربة الإنسانية تكون عادة مضمرة في بنية العمل ككل.»[23] مع أننا نعرف أن الذات تبقى في الأدب دوما غريبة إزاء نفسها، محرومة من أرضيتها الأنطولوجية. وأنها تفدم لنا في نهاية الأمر فعل الاحتفاء بذكرى من لا اسم لهم – حسب تعبير والتر بنيامين – بفعل الكتابة الإبداعية التاريخي.

 

ملف بي دي إف

 

[1] J. Hillis-Miller, “The Problematic of Ending in Narrative”, Nineteenth-Century Fiction, Vol.33, No. 1, Special Issue: Narrative Endings (June, 1978), p. 4.

[2] Ibid. p. 7.

[3] يكتسب هذان المصطلحان دلالاتهما الخاصة في صياغة إدوار سعيد كما يبين في (بدايات) حيث أن معنى السلطة عنده يمثل مجرة من المعاني المترابطة، فليس معنى السلطة هنا قاصرا على الدلالات المعجمية كقوة تجبر على الطاعة، أو كقوة مستقاة من بنية أعلى، أو كسلطة مفوضة بالتأثير على الفعل، أو توحي باليقين، وإنما أيضا بصلة هذا المصطلح بالمؤلف – وهو في اللغة الانجليزية مستقى من نفس الجذر author / authority – أي الشخص الذي يخلق أو يسبغ الوجود على شيء ما، منجب، بادئ، أب، أو سلف. أو بمعنى آخر الشخص الذي يطرح مقولات مكتوبة ويدشنها. وهناك أيضا مجموعة أخرى من المعاني ينطوي عليها هذا المصطلح عنده وهي أن المؤلف يرتبط أيضا بفعل التأسيس والإضافة والانتاج والاختراع والدافع، وبالتالي حق الاستحواذ. وأخيرا الاستمرار، أو تسبيب الاستمرار الدائم. وإذا ما أخذنا هذه المعاني كلها في الاعتبار فإن مفهوم السلطة ينطوي على: (1) سلطة الفرد أي قدرته على البدء والاستهلال والتكوين والتأسيس، أي أن يبدأ. (2) أن تؤدي هذه السلطة إلى منتج يشكل إضافة لما كان موجودا من قبل. (3) أن يستخدم الفرد هذه السلطة/ القدرة في التحكم في الموضوع وفي كل ما ينتج عنه. (4) أن تحافظ السلطة على استمرارية مسيرتها. فهذه العناصر الأربعة تساهم جميعها فيم وصف الطريقة التي يعزز بها السرد القصصي سلطته نفسيا وجماليا من خلال الجهود التقنية للمؤلف واستراتيجياته النصية. أما مصطلح التحرش molestation فإنه ينطوي على كل المسؤوليات والضغوط التي تمارسها كل تلك السلطة وجهودها المتوارثة. وما يعنيه إدوار سعيد به هو أنه ليس ثمة روائي لا يعي أن سلطته، مهما كانت كلية، أو أن سلطة الراوي ليست ألا خدعة زائفة. فالتحرش إذن هو الوعي بالازدواجية، وبالحصار في عالم مختلق، عالم مخطوط، سواء أكان شخصية روائية أو كاتبا لها. ويحدث التحرش حينما يذكر الروائيون والنقاد أنفسهم – كجزء من تقاليد المهنة – أن كيف أن الرواية كانت دائما موضع مقارنة مع الواقع، وكيف أنها دئما ما تتهم بالتوهيم. أو بمعنى آخر فإن التحرش محوري لتجربة الشخصية في التغلب على الوهم على مد مسيرة النص الروائي. ولذلك فإن الحديث عن أي سلطة في النص الروائي يعني بالضرورة الحديث عن التحرش الذي يصاحبها ويسكن حراكها. (راجع بدايات ص 83-84)

[4] Edward Said, Beginnings: Intention and Method (London, Granta Books,1985), p. 83.

[5] Franz Kafka, Letters to Friends, Family and Editors (New York, Schocken Books, 1977), p. 289.

[6] John Kucich, “Action in the Dickens Ending: Bleak House and Great Expectations”, Nineteenth-Century Fiction, Vol.33, No. 1, Special Issue: Narrative Endings (June, 1978), p. 89.

[7] Frank Kermode, The Sense of an Ending: Studies in the Theory of Fiction with a New Epilogue, (Oxford, Oxford University Press, 2000), p. 190.

[8] Ibid. p. 192.

[9] John Kucich, المرجع المشار له سابقا ص 89، وقد أعتمد الكاتب هنا على تلخيص رؤية سعيد من Beginnings: Intention and Method (New York: Basic Books, 1975), chapter 3, "The Novel as Beginning Intention," pp. 79-188. ولكني أعتقد أن الصواب قد جانبه في وصف سعيد بالبنيوية واعتماد رؤيته على التصور اللغوي الذي تنهض عليه البنيوية، لأن مرجعية سعيد في كتابة العلامة (البدايات) أكثر تعقيدا من اختزالها إلى البنيوية.

[10] أحمد زغلول الشيطي (ورود سامة لصقر)، القاهرة، دار ميريت، الطبعة الثالثة 2010، وسوف ترد بعد المقتطفات منها رقم الصفحة وهي من هذه الطبعة.

[11] وسوف نكتشف في الرواية التالية أن بطلها، يوسف العلمي، قد تمكن من استنقاذ نفسه من هذا المرحاض الكبير، لكنه لم يستطع أن يتخلص من نظرته للعالم من موقعه القديم الذي يثقل كاهله، فيبدو المرحاض الذي تلتصق بأرضه اللزجة أرجل مقتحمي حياته، أو جالبي الكوابيس القديمة إليه في قلب مصر الجديدة التي جروها إلى حضيض المرحاض القديم الذي استحالت دمياط كلها في الرواية الثانية إلى تجسيد له.

[12] Michel de Certeau, The Writing of History, trans. Tom Conley (New York, Columbia University Press, 1988. p. 320.

[13] Sade, "Idee sur les romans," p. 16.. هذا المقتطف مأخود عن كتاب دي سيرتو المشار إليه في المرجع السابق ص 316.

[14] راجع مقدمة جون راشمان لكتاب ديلوز الأخير: Gilles Deuze, Pure Immanence: Essays on A Life, with an Introduction by John Rajchman, trans. Anne Boyman (New York, Zone Books, 2001), pp. 7-9.

[15] Michel de Certeau, The Writing of History, trans. Tom Conley (New York, Columbia University Press, 1988, p. 312.

[16] Ibid., p. 319.

[17] Ibid. 314.

[18] Gilles Delueze: Negotiations: 1972-1990, ed. Martin Jaughin (Ney York, Columbia University Press, 1995, p . 174.

[19] Simon O’Sullivan, “Deleuze Against Control: Fictioning to Myth-Science”, p. 214.

[20] Simon O’Sullivan, “Deleuze Against Control: Fictioning to Myth-Science”, p. 214.

[21] Burroughs W (2001) Origin and theory of the tape cut-ups. In: Break Through in Grey Room. CD. Brussels: Sub Rosa. مقتطف من أوسوليفان أعلاه

[22] Michel de Certeau, op. cit., p. 316

[23] John Kucich المرجع المشار إليه سابقا، ص 91.