رغم أنَّ اسم عبد المجيد الشرفي (1942) حاضر تقريبًا في كلّ دراسة حول «القراءات الحداثية للقرآن»، إلا أنَّ علينا مبدئيًّا التنبّه لكون الاشتغال على القرآن لا يَستوعِبُ خطاب الشرفي، بل حتى لا يُمثِّل المدار الرئيس لهذا الخطاب ولا يشغل أوسع مساحاته، كما هو الحال مثلًا عند نصر أبو زيد أو يوسف الصديق أو محمد أركون أو فضل الرحمن مالك، فعلى خلاف هؤلاء؛ فإنَّ اشتغال الشرفي الرئيس هو تقديم قراءة حداثية لـ«الإسلام» لا لـ«القرآن»، من هنا لا تكون لقضية تقديم تأويليّة قرآنيّة -والتي تستوعب خطابات هؤلاء أو تُشَكِّل مدارها الرئيس- في خطاب الشرفي إلا وظائف مُحدَّدة للغاية داخل برنامج أعمّ وأشمل بكثير هو برنامج القراءة الحداثية/ العلمية للإسلام الذي -وككلّ دين- أصابه ما يسمّيه الشرفي بـ(تغيّر وضعية الدين في العالم الحديث)، بحيث (أصبح الدين مدروسًا ومفسَّرًا، لا مفسِّرًا لكلّ الظواهر الاجتماعية والطبيعية)[i].
إدراك هذا واستحضاره أثناء تناول الشرفي شديدُ الأهمية؛ لفهم الكثير من ملامح خطابه، فعن طريق إدراك ما تعنيه القراءة الحداثية/ العلمية للإسلام، والتي ينخرط في محاولة إنجازها خطاب الشرفي كرهان أساس لهذا الخطاب، وإدراك العدّة المفاهيمية والمنهجية التي يتوسَّلها الشرفي من أجل تحقيق هذه القراءة والأهداف المُراد تحقيقها عبرها؛ نستطيع بكلّ وضوح أن نَفْهَمَ الشكل الذي تأخذه دراسة القرآن في هذا الخطاب، والطبيعة التي يَظهرُ بها، والمساحات التي تتحدَّد في الاشتغال عليه، وبالتالي نستطيع تفسير السمات الخاصّة التي تظهر على هذا الخطاب -أو بمعنى أدق على تأويليته للقرآن- كنتيجة طبيعية لحدود الخطاب التصوّرية والمنهجية.
ورغم أنَّ خطاب الشرفي هو محاولة لتقديم قراءة حداثية للإسلام، إلا أن ثمَّة فائدة كبيرة نجنيها من قراءة خطاب الشرفي في سياق تناولنا هذا لـ«القراءات الحداثية للقرآن»، حيث يُوفِّر لنا هذا الخطاب ميزة مهمّة ربما لا تستطيع بقية الخطابات توفيرها، وهي إضاءة العلاقة بين «القراءة الحداثية للإسلام» و«القراءة الحداثية للقرآن»؛ مما يُساعدنا على تعميق التسييق المعرفي للقراءة الحداثية للقرآن في مسيرة أوسع هي «مسيرة التعامل مع الإسلام حداثيًّا» فنتبيّن بدقّة أكبر موقع تناول القرآن في هذه المسيرة.
وهذا ما سنُحاول القيام به في هذا المقال الذي يتناول تأويليّة القرآن عند الشرفي وعلاقتها بالقراءة الحداثية للإسلام، الذي ينخرطُ خطابه في محاولة إنجازها كرهان أساس.
نبذة تعريفيّة عن عبد المجيد الشرفي:
عبد المجيد الشرفي مفكر تونسي، وُلِد في 23 يناير (1942)، في صفاقس، لعائلة تونسية عريقة تعودُ أصولها للأندلس، وهي عائلة عريقة في الاشتغال بالفكر خرَّجت عددًا من الأئمة والقضاة والمفتين. تخرَّج في جامعة تونس عام (1963) مُتحصلًا على الإجازة في اللغة والآداب العربية. وحصل على الرتبة الأولى في مناظرة تبريز بباريس عام (1969)، ثم حصل على دكتوراه الدولة في الآداب عام (1983).
وهو عميد كلية الآداب بجامعة تونس منذ عام (1983) وإلى عام (1986)، وأستاذ الحضارة العربية والفكر الإسلامي بكلية الآداب بجامعة تونس بمنوبة منذ عام (1986) وإلى عام (2002)، وهو رئيس بيت الحكمة منذ 2015 خلفًا لهشام جعيط.
وله عدد من المؤلفات المهمّة التي تتناول علاقة الإسلام بالحداثة، مثل «الإسلام بين الرسالة والتاريخ»، و«الإسلام والحداثة» و«لبنات»[1].
* * *
القراءة الحداثيّة للإسلام:
في المقال الأول مقال المدخل، كنّا قد أشرنا لهذه الانعطافة الفكرية المهمّة في تاريخ الفكر العربي الحداثي المعاصر، أي ظهور «العلمانية الإسلامية» في إطار «التأسيس الثاني للنهضة»[2]، وقُلنا إنَّ المُحدِّد الرئيس لهذه الانعطافة هو كونها تنتقل في التعامل مع الحداثة وعلاقتها بالإسلام من التعامل بمنطق التحديث البرّاني والفوقي، المُفضِي إلى المجاورة بين الإسلام وبين المعارف والمناهج الحديثة (بكلّ أشكال هذه المجاورة من تلفيق وتوفيق وذرائعية وانتقائية)، إلى محاولة تطبيق المناهج الحديثة مباشرة على الإسلام، وعلى القرآن تحديدًا، وفي الحقيقة إنَّ هذه الانعطافة وطوال هذه العقود لم تشهد اشتغالًا يُذكرُ بالمنهجيّات الحديثة إلا على مساحات مُحدَّدة للغاية من الإسلام ومن القرآن، تتعلق بالأساس بقضايا التشريعات الاجتماعية، خصوصًا العقوبات وتشريعات المرأة والأسرة وقضايا نظام الحكم السياسي، نذكرُ في هذا السياق مثلًا كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق، وكتاب «نحو ثورة في الفكر الديني» لمحمد النويهي، ولم تخرج من هذه المساحة وتنتقل للاشتغال على الإسلام كدين له نظام عقدي وسردي/ قصصي وشعائري، إلا في مساحات محدودة للغاية، أبرزها ملاحظة طه حسين عن القصص القرآني في كتابه «الشعر الجاهلي»، وهي ملاحظةٌ عارضة حول قصة إبراهيم وإسماعيل في التوراة والقرآن، ثم كتاب خلف الله لاحقًا «الفن القصصي في القرآن»، والذي بلور باكتمال نظرية أدبيّة القصة القرآنية، وفصلَ بين كون القصة قرآنية وبين حتمية الأحقّية التاريخية لها، واعتبر أنَّ ليس كلّ القصص القرآني ذا أصل تاريخي، بل منه ما هو تمثيلي، ومنه ما هو أسطوري[ii]، ولم تشهد اشتغالًا يُذكر على الشعائر إلا من خلال أيضًا علاقتها بالتشريعات الاجتماعية، وأبرزها في هذا السياق كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ» الذي تناول شعيرة الزكاة لكن من حيث علاقتها بالتنظيم الاجتماعي.
وربما الاقتصار على هذه المساحات في الاشتغال لم يكُن يُكرِّس داخل الخطاب العلماني سوى التجاور المرفوض بين المناهج الحديثة، ومساحات خاصة وأساسيّة في الدين تُوضَع بمنأى عن الدّرس العلمي الحديث، مما يَزيدُ مساحة (المنفي في حقل الوجدان) لو استحضرنا تعبيرات نصر أبو زيد عن زكي نجيب محمود التي ذكرنا في مقال المدخل؛ لذا كان لا بد لهذا الخطاب -من أجل إنجاز رهاناته التحديثيّة- أن يُوسِّع اشتغاله فيتمُّ تطبيق المنهجيات العلمية الحديثة على مفاصل الإسلام كدين (أو على مكوناته الأساسية حسب تعبيرات علماء الأديان)، وليس فقط على التشريعات الاجتماعية «مكوناته الثانوية»[3]، فبهذه الطريقة وحدها يُمكنُ تجاوز التجاور الذي تمَّ تكريسه في معظم محطات خطاب التنوير العربي، والذي لا يُفضِي من وجهة نظر هذا الخطاب إلا لعودة الموروث وتكريس سماته الفكرية وآلياته المعرفية.
بالإضافة لكون هذه التوسعة في الاشتغال وتطبيق المناهج الحديثة على كلّ مفاصل الإسلام، هو وحده ما يُمكِّن من إعادة تركيب للإسلام، بحيث يستوي كدين مناسب للتصوّرات الحديثة في كلّ مفاصله المركزية، فيتمُّ تخليص شعائره وقصصه من كلّ ما يتعارض مع (التصورات الحديثة عن الكون، التي أتت بها الكشوفات العلمية والانعطافات الفلسفية الحديثة)، والتي أضحتْ جزءًا من ضمير الفرد الحديث، بما في ذلك الفرد المسلم الذي يُولي الشرفي إسلامه أهمية كبيرة كمستوى من مستويات الدلالة لـ«الإسلام»[4]، فدون هذا التركيب الجديد للإسلام كدين مُلائِم للتصورات الحديثة سيظل ّكلّ تحديث سياسي أو اجتماعي تحديثًا برانيًّا وخارجيًّا وسطحيًّا وغير قادر على تبيئة نفسه في الواقع العربي الإسلامي، فدراسة الإسلام حداثيًّا هي النقطة الأهمُّ من أجل (تقليب التربة الفكرية العربية وتهيئتها لنمو الحداثة) كما يُعبِّر علي مبروك.
بهذا تكون هذه الخطوة أي خطوة تطبيق المناهج الحديثة على «البنية الأساس للإسلام» ورغم تأخرها إلا أنَّها لازمة من أجل إنجاز تحديث حقيقي وغير تلفيقي أو ذرائعي للإسلام، ومن أجل تأمين طريق الحداثة من أي عودات للموروث، ونحن نستطيعُ أن نَضَعَ خطاب الشرفي (1942) كأحد أهمّ هذه الخطابات الطَّامحة للسير هذه الخطوة، بتطبيق المناهج الحداثية على الإسلام بهدف -هذا الهدف وكما إنه يُشكِّل رهانًا للخطاب فهو مُحايث في الحقيقة للمناهج المستخدمة نفسها كما سنوضّح- إنتاج إسلام مُتوائِم مع التصوّرات والمنجزات الحداثيّة؛ بحيث تقلُّ فيه الحمولة القصصية الأسطورية التي تُعارضُ الأحقية التاريخية من جهة، وتعارض العقلانية الحديثة من جهة أخرى (طقوس الرجم في الحج مثلًا، والتي يربطُها الشرفي بالتصوّرات الميثية لمجتمع الحجاز الضاربة في القدم)[5][iii]،والحمولة الشعائرية والآمرية في عبادات الإسلام، التي تعارض كذلك -وفقًا له- الحرية الإنسانية كقيمة أساسية من قيم الحداثة، (مثلًا فرض الصيام في شهر مُحدَّد من السنة بدلًا من إعطاء الحريّة بالصوم في أي وقت وبأي كيفية، ضرورة الصلاة في نفس التوقيتات وبنفس الكيفية)[iv]، أي تلك السمات في الإسلام التي تنتمي وفقًا للشرفي لـ«العالم القديم» بتعبير يستعيره بتصرف من محمد إقبال[v].
هذا التطبيق من الشرفي يتأسَّس على تفريق مفهومي شديد الأهمية في خطابه بين «إسلام الرسالة» و«إسلام التاريخ»، والمبني عليه حديثه عن إمكانية نقد «إسلام التاريخ» والذي لا يحمل أي قداسة في ذاته في مقابل «إسلام الرسالة» «ذو الطبيعة المرجعية»، وأهمية هذا التفريق المفهومي في خطاب الشرفي -رغم أنه يبدو وكأنَّه تفريقًا شائعًا- هو تَميُّزه الدلالي عن الاستخدام الأكثر تداولًا لهذا التفريق، فبينما يشيرُ هذا الزوج المفهومي «إسلام الرسالة»/ «إسلام التاريخ»، غالبًا لمقابلة الإسلام في نصوصه الأصليّة وتجربته الأولى في عصر النبوة بالتجربة التاريخية الإسلامية التي بدأت بعد ختم الوحي، وعيش المسلمين ما يسمّيه الشرفي بـ«الوضعية التأويليّة» -على خلاف في تعيين مساحة وبداية هذه التجربة التاريخية- فإنَّ مفهوم «إسلام التاريخ» عند الشرفي يتَّسع ليشمل الإسلام في مرحلة الوحي نفسها، حيث ثمّة فارق في هذه المرحلة نفسها بين الوحي في سماويّته وبين دخول هذا الوحي في التاريخ، وحيث عميلة «المأسسة الاجتماعية» كما سنوضحُ تتّسع لتشمل عددًا مما يُعتَبر غالبًا خارجًا عن التاريخ، وحتى خارجًا عن التنظيم الاجتماعي «التشريعات»، وأكثر تعلقًا بالبناء الأساس للدين؛ مثل العبادات، ومثل تنظيم النصّ المركزي «القرآن»، فوفقًا للشرفي فإنَّ التقابل بين «العالم القديم» و«العالم الجديد» قائمٌ في تجربة الوحي ذاتها وفي «بنية الدين الأساس».
على أساس هذا الزوج المفهومي إسلام رسالة/ إسلام تاريخ، وانطلاقًا من دلالته الخاصة هذه والتي تربطه بالزوج الآخر («العالم القديم» الذي تلبَّس بالإسلام أثناء دخوله التاريخ، وشكَّل حتى بعض مفاصله المركزية/ «العالم الجديد»، الذي يُمثِّل روح وانطلاقة الإسلام ومقاصده السماوية الخالدة)، ثمّ وباستخدام عدة منهجية تقوم على أساس تاريخ الأديان المقارن -تاريخ الأديان الكتابية الثلاثة تحديدًا؛ حيث يُقارن الإسلام في مسيرته بالمسيحية واليهودية- يُقيمُ الشرفي دراسته الحداثية/ العلمية للإسلام.
* * *
الإسلام بين الرسالة والتاريخ:
«الإسلام بين الرسالة والتاريخ» والذي هو عنوان أهمّ كتابات الشرفي (2001) يصلحُ في الحقيقة كعنوان لخطاب «رئيس مؤسسة بيت الحكمة» بأكمله، فدراسة الشرفي في كلّ ما كتب وربما حتى في كلّ ما أشرف عليه من مشاريع بحثيّة هي دراسة في دخول الإسلام في التاريخ، أي في انتقال الإسلام من الرسالة السماوية إلى الاعتراك التاريخي، فاشتغال الشرفي هو اشتغال في عملية مأسّسة الإسلام سياسيًّا واجتماعيًّا، والتي لا تختلف وفقًا للشرفي عن قوانين المأسسة التي حكمت تاريخ الأديان الكتابية الأُخرى، والتي يُوجِزها في ثلاث سيرورات أساسية؛ أولًا: التميز عن الآخرين في الطقوس والزي وآداب الطعام والسلوك، وثانيًا: تحويل أشكال العبادة إلى طقوس مُوحَّدة تتعالى على الاجتهاد الشخصي وعن كلّ مخالفة لأركانها الثابتة، وثالثًا: تحويل الدّين لمؤسَّسة عبر مجموعة من العقائد الملزمة التي مآلها التحجر والجمود[vi].
هذا المنظور الذي ينطلقُ منه الشرفي لدراسة الإسلام «دراسة الانتقال نحو المأسسة» هو الذي يُحدِّد المساحات التي سيعمل عليها خطابه، بحيث إن هذا المنظور؛ من جهة يُوسِّع الاشتغال ليشمل الشعائر ونظام الحكم والتشريعات، ولا يقتصرُ على مقاربة القرآن أو المدونات الإسلامية المعرفية التاريخية فحسب «أصول الفقه، علم الكلام، التفسير، التصوف»، ومن جهة أخرى يُحدِّد ويُضيِّق طبيعة هذا الاشتغال كاشتغال على الجانب التاريخي والاجتماعي من هذه المساحات فحسب، أي هذه الأبعاد المُتعلِّقة بفعل المأسسة؛ لذا ففي كلّ هذه المساحات من الاهتمام -مهما اتسعت- يظلّ المنظور الأساس الذي يَحكُم نظرة الشرفي تجاهها هو رصد كيفية الانتقال نحو المأسسة أو الدخول في التاريخ، فما يَشْغَل الشرفي في الصوم مثلًا ليس هو معنى الصوم ولا دلالاته ولا وظائفه الرمزية والشعائرية -كما تَفتَرِض علوم الأديان التي يُخايِل الشرفي بحضورها في عدته المنهجية في مقدمة كتابه دون أن نَجِدَ لها أثرًا بعد هذا في أي جانب من الكتاب[6]- بل البعد الاجتماعي للصوم المُتعلِّق بعمليتي الضبط والمأسسة، هذا الذي يُسيطر على التفسير حتى يتحوَّل الصوم من حيث فرضه وتوقيته وكيفيته لمجرد نتاج للمأسسة الاجتماعية والحاجة للضبط السياسي والفقهي بخلق سلوك مُنمَّط ومُؤطَّر[vii]!
ولا شك فإنَّ العدة المنهجية التي يستخدمها الشرفي والتي تتحرك ما بين القراءة الاجتماعية والتاريخية المقارنة تتماشى تمامًا مع هذا المنظور الذي ينطلق من خلاله، أي إعطاء أولوية كبيرة للاجتماع والتاريخ في تشكيل الإسلام حتى في مرحلة الوحي وحتى في بنية الدين الأساس، حيث انطلاقًا من هذا المنظور تُستخدَم منهجيات اجتماعية وتاريخية شديدة الاختزالية تهدر البعد الكلي للظواهر المدروسة، هذا الإهدار الذي يتجلّى بالذات في تفويت الاهتمام بالأبعاد الرمزية للشعائر الإسلامية التي يدرسها الشرفي، مثل الصوم ومثل رمي الجمار في الحج[7].
بالإضافة بالطبع إلى تماشي هذه المنهجيات التي يتوسَّلها الشرفي مع رهان هذه المقاربة؛ حيث إن رهانها هو تخليص الإسلام من هذه السمات «الميثولوجية» التي لا تناسب العقلانية الحديثة، والتي تنتمي لـ«العالم القديم»، وبالتالي التي (لا تجد لها صدى في نفوس المعاصرين) كما يُعبِّر الشرفي مرارًا، وهذا الرهان هو ما يُفسِّر الانتقائية المنهجية عند الشرفي، فلهذا لا يستخدم الشرفي منجزات علم الأديان العام والمنجزات المعاصرة في دراسة الشعائر والأبنية السردية اللاهوتية -كما تبلورت عند أوتو (1869- 1937)، ثم روجيه كايو (1913- 1978)، ثم إلياد (1907- 1986) وغيرهم، والتي يتحدث عنها في مقدمة كتابه- في مقاربته للإسلام، والتي تؤدِّي لنتائج مُغايِرة تمامًا عن نتائج الشرفي[8]، بل يقتصر على المنهجيّات الحداثية التي راجت في أوروبا مع بداية عملية التحديث، والتي دومًا ما تَعتبِرُ (الدين مُتغيِّرة قد يتمُّ تفسيرها على ضوء مُتغيِّرات أخرى -المجتمع، علم النفس، علم الاقتصاد- كما لو أنَّ الأديان لا تتمتع بكيان رمزي خاص بها)[viii]، والاقتصار على هذه المقاربات بكلّ أخطائها المنهجية التي طالما أفاض الكثير من علماء الأديان في ذكرها، وعلى رأسها انطلاق هذه المقاربات من دراسة مجتمعات خاصة جدًّا يتطابق فيها «المجتمع» و«المقدس» بشكل يصعب تعميمه على كل الأديان[ix]، راجع لتغيي نفس الهدف الذي كان يُؤطِّرها أثناء رواجها غربًا، فهذه المناهج -كما يخبرنا جان بول وليم- لم يكن هدفها فهم الدين في كُليّته وتعدد وتشابك أبعاده بقدر ما كانت تساؤلًا عن مصير الدين/ الوهم/ الطفولة البشرية يُبطِن جوابًا بعدم الحاجة له مع إمكان تنظيم المجتمع بطرق حديثة عقلانية، فنشأة المقاربة الاجتماعية للدين مُرتبِطة بمحاولة تنظيم علماني للمجتمع يُهمِّش الدين كخطأ قديم للبشرية أو (عامل لتحقيق اللحمة بين المجتمع في الماضي، له أثره على التضييق على حرية المؤمنين) شكَّل لها تحدّيًا (بروز أشكال جديدة للتضامن لا تحتاج للمبررات الدينية)[x] كما يقول الشرفي، واستمرار هذه المقاربات للدين وللاجتماع في الخطاب العربي المعاصر بعد أن تجاوزها الجميع يُثْبِتُ عوارًا منهجيًّا من جانب ورغبة مسبقة في تقليص الدين واختزاله، وإعادة تركيبه ليناسب الأزمنة الحديثة من جانب آخر؛ مما يجعل الطنطنة المستمرة من روّاد هذا الخطاب بهم «الفهم العلمي» للدين كرهان لخطاباتهم لا معنى لها، ويقطع الطريق على ما يؤمله خزعل الماجدي مثلًا من تَحوُّل هذا النوع من الدراسات «التحليلية» لبداية لنشأة علم أديان عربي مُنضَبِط[9].
ودون التفصيل أكثر في قضية التعامل مع مساحات الإسلام خصوصًا الشعائر، وطبيعة الرهان الذي يَحْكُم هذا التعامل وعلاقته بالمنهجيات المستخدمة في مقاربتها وآفاق مثل هذه الدراسات؛ ولأن حديثنا هنا يظلّ بالأساس عن القرآن والقراءة الحداثية له تحديدًا، فإنَّنا نقول أننا نستطيع أن نرى وبكلّ وضوح هذه الغلبة للجوانب الاجتماعية والضبطية والتاريخيّة المقارنة تنعكس بطبيعة الحال على دراسة القرآن أيضًا؛ لذا فحتى القرآن يصبح المنظور الأساس لمقاربته هو موقعه في عملية المأسسة والسيرورة «الحتمية» لتاريخ الأديان الكتابية، أي ما يتعلق بقضايا جمع القرآن والمصحف الإمام وانتقال المجتمع الإسلامي من الشفاهة للكتابة والتدوين، مقروءة من خلال مقارنتها بمسار التدوين في الأديان الكتابية الأُخرى. ورغم أنَّ تعامل الشرفي هنا يتميّز بالفعل عن غيره، حيث لا نجدُ عنده على الأقل نفس التكرار المملّ الذي نجده عند الكثيرين عن «خطيئة جمع القرآن»[10]، بل هو يرى لهذا الجمع (مزايا لا تُنكَر، فلولاه لربما تأخَّر اجتماع المسلمين على كتاب واحد، مع ما في ذلك من احتمالات الانشقاق والافتراق الأعمق)[xi]، وهذا لأنَّ الشرفي انطلاقًا من مركزية المأسسة التي يراها -وبفعل المقارنة- جزءًا أساسيًّا في تطوّر الديانات الثلاثة الكتابية «اليهودية-المسيحية-الإسلام» ينظر لتجربة الجمع كتجربة طبيعية في هذا المسار التاريخي شبه الحتمي التي تُحتِّمه الظروف المشابهة لنشأة «مجتمعات الكتاب» لو استخدمنا هذا التعبير الذي يستعيره الشرفي من أركون، إلا أنَّ إيلاء هذه المساحة تحديدًا التركيز الأكبر يستعيد نفس الإشكالات المنهجية التي طالما عهدناها في كثير من الكتابات الاستشراقية عن القرآن، والتي تتمحور حول التعامل معه كـ«وثيقة أرشيفية» لا «قول دين» كـ«ذِكر» و«هدى»، تعامل «شمبوليوني» بتعبير لنا أن نستعيره بتعديل من فدوى دوغلاس، حيث يُعامل النصّ كـ«أحفورة» يبحث تاريخها وملابسات تدوينها وتوثيقها ونقطها وحرفها، دون النظر للانزياحات الكبرى التي خلقها النصّ القرآني من أول لحظة -مُنزَّلًا ومقروءًا ومكتوبًا ومُرتَّلًا ومُأوَّلًا ومُعاشًا[11]- في مسيرة تصور البشريّة للقداسة وللإنسان وللكون وللتاريخ، وهي القضايا الأساسية التي تحكمُ تأويل النصوص الكبرى، كما نجدُ عند كبار روّادها المعاصرين مثل تيليش (1886-1965) وريكور (1913-2005) وغيرهما[12].
أمَّا عن الانتقال في خطاب الشرفي عن القرآن من هذا المنظور، منظور المأسسة الاجتماعية وما يحدِّده من مساحة للتعامل مع القرآن، نحو مساحات أخرى تتعلّق بتقديم «تأويليّة للقرآن»؛ فإنَّ هذا يعود لنقطتين رئيستين، الأولى: تتعلق بضرورة الاشتباك مع آيات مُحدَّدة تُعارِض -على الأقل في تأويلاتها المُشتهِرة كما يُمكِن أن يَستدرِك علينا الشرفي- ما تُفضِي إليه آراء الشرفي حول الإسلام، والثانية: وهي الأهمُّ تتعلّق بكون خطاب الشرفي ومن أجل إنجاز قراءة حداثية للإسلام؛ فلابد أن يتعرَّض للقرآن، حيث القرآن هو العائق الأساس أمام قراءة حداثية للإسلام، فمهما اتسعت مساحات الاشتغال في المكونات الثانوية أو الأساسية للإسلام، يظلّ الهاجس الأساس هو القرآن، الذي من وجهة نظر حداثية يُشكِّل بقداسته[13] وعلوّه عن الدرس وشذوذه عن «الوضعية الجديدة للدين» ودعوى أزليته وأسبقيته على التاريخ[14]عائقًا أمام تأسيس التصوّرات الحداثية، فكما تحدثنا مسبقًا في مقالنا الأول عن نصر أبوزيد «القراءة الحداثية للقرآن عند نصر أبو زيد، أولًا: الأبعاد الاجتماعية والسياسية للخطاب»؛ فإنَّ القرآن يُشكِّل «مركز التأسيس المعرفي» للعقل العربي وآليات اشتغاله، مما يَجعَلُ التحديث المعرفي-الجواني حتمًا يمرُّ به؛ لذا فرغم أن اشتغال الشرفي يتحرّك في مساحات أوسع من القرآن، ويتحرك في تعامله مع القرآن من منظور المأسسة الضّيق، إلا أنَّ عليه حتمًا أن يمرَّ من بوابة درس القرآن وتقديم تأويلية جديدة له تناسب مجمل التصورات الحديثة عن «العقلانية وكونية القيم وأولوية الفرد»[xii]، لا عبر تأويل لبعض الآيات، بل عبر إعادة نظر في (مجمل المفاهيم المُؤطِّرة للنصّ ولطبيعته وحركته ووظيفته»، وبلورة نظرة لهذه الطبيعة تُؤسِّس لتعددية تأويليّة تفتح المجال لتأويلات حداثية تقطع الطريق على نوعي التفسير المرفوضين عند الشرفي؛ التفسير التقليدي والذي يقوم بـ(طمس الصراعات التأويلية بإرجاعها إلى نظام الخطأ والصواب المُستنِد بدوره إلى تصنيف ثنائي، الأرثوذكسية والهرطقات أو الفرق الناجية والفرق الضالة)[xiii] من جهة، والتفسيرات النفعية والانتقائية التي شاعت في فترة خطاب الإصلاح من جهة أخرى، (فالمستقبل سيكونُ بلا ريب لتأويليّة «هرمنيوطيقا» جديدة تُفسِحُ المجال لقراءة النصّ القرآني قراءات مُتعدِّدة تستجيب لحاجات المؤمنين إلى معان مُتناغِمة مع ظروفهم المُستجدّة، المادية والثقافية)[xiv].
* * *
الشرفي والتأويليّة القرآنية:
تعتمدُ «تأويلية الشرفي» للقرآن على تقنيتين مُتداخلتين، الأولى: «القراءة المقاصدية»، والثانية: «القراءة التاريخية»، التي تعملُ على ربط الآيات بسياقاتها التاريخية والاجتماعية، وهاتان التقنيتان متداخلتان، بحيث إنَّ التسييق التاريخي يقوم بوظيفة تنسيب الأحكام القرآنية كوسائل أو أدوات (والمُرتبِطة بالتاريخ وبقيم العالم القديم) تقوم بتحقيق غايات ومقاصد أشمل وأكثر عمومية، تُمثِّل مُتّجَهَ القرآن وانطلاقته في تأسيس «عالم جديد» وهو العالم الذي يتمّ كشف قيمه عبر التأويل.
وهذه التأويليّة تنطلق من محاولة إعادة الاعتبار المفقود في رأيها لـ«كلية النصّ القرآني» المُتمحوِرة حول قيم مركزية وأهداف ومقاصد عليا، وتُؤسَّس على التفاريق المفهومية التي صاغها الشرفي في اشتغاله على الإسلام «إسلام رسالة/ إسلام تاريخ-عالم جديد/ عالم قديم»، مع استخدام عدد من الأفكار التراثية التي تتحدث عن أثر التاريخ في تشكيل القرآن مثل القول بالصياغة النبويّة اللفظية للنصّ القرآني المُنزَّل معنى، والتي تتماشى مع رؤية الشرفي حول شمول فعل التاريخ لمرحلة الوحي ذاتها.
وكمثال على هذه التأويليّة يتناول الشرفي مسألة عدة المرأة المُطلَّقة وعدة المرأة المُتوفَّى عنها زوجها، ويرى أنَّ المقصد من وراء فرض العدة على المرأة هو التأكد من استبراء الرحم، فمسألة العدة هي الوسيلة النسبية المرتبطة بالتاريخ والاجتماع القرشي وأدواته؛ لأجل تحقيق المقصد القرآني من حفظ النسب، ومع تقدم العلم ووجود وسائل حديثة للتأكد من استبراء الرحم، فلا حاجة لمسألة العدة[xv].
وصراحة نحن لا نريد الدخول في نقاش تفصيلي مع هذا المثال، الذي يتجاهل ما يعرفه الجميع من اختلاف عدة المرأة المُتوفَّى عنها زوجها عن عدة المرأة المُطلَّقة؛ مما يعني أنَّ اعتبار استبراء الرحم وحفظ النسب هو المقصد الوحيد وراء الأمرين القرآنيين والمُفسِّر للأمر بهما هو استنتاج لا معنى له ربما!
لكن ربما ما يهمُّنا أكثر هو ارتباط هذا الاستنتاج بما يذكره الشرفي بعده مباشرة من (إمكان إعادة التفكير في مسألة الجنسانية عمومًا بشكل جديد يأخذُ بالاعتبار تحوّلات العلاقة بين المرأة والرجل وتَقلُّص البعد الميثي المرتبط بها، وكيف يدفعُنا هذا للتفريق بين الأوامر الإلهيّة وبين ما اقتضته ظروف الاجتماع والأخلاق، وهي أمور نسبيّة متغيرة وغير مُستقِرَّة تتأثر بعوامل عديدة منها الثقافي ومنها الاقتصادي والسياسي)[xvi].
فهذا الربط كاشف عن أنَّ التفريق بين ما هو نسبي مرتبط بالتاريخ وما هو مطلق يُمثِّل قيمة قرآنية كمحور أساس لـ«تأويلية الشرفي» ليس قائمًا على أساس النظر في النصّ القرآني ومقاصده أصلًا بقدر ما هو قائم على أساس إقامة الرؤى الغربية المعاصرة، وتحولاتها كمعايير حاكمة في كلّ مناحي الحياة بداية من السياسة والاقتصاد وإلى الجنسانية.
وفي الحقيقة فنحن حين نطالع «تأويلية الشرفي»، سواء في أمثلتها التفصيلية أو في «بنائها النظري»؛ نَجدُ أنَّنا نتحدَّث عن «تأويلية غير حسنة التأسيس»، بل إنَّه ربما يصعب حتى الحديث عن «تأويليّة»، بل نحن أمام ركام من تصوّرات «أهمها الصياغة النبوية للقرآن»، ومفاهيم «روح الرسالة، ختم الوحي من الداخل، العالم القديم والعالم الجديد»، وتقنيات، دون أن يوجد أي بناء معرفي مُتماسك يستطيع أن يُؤطِّر هذه العناصر ويُحدِّد علاقات واضحة ما بينها، ودون حضور أي مبرّرات واضحة لانتقاء التصوّر الأهمّ «الصياغة النبوية للوحي» -بله تأسيس بعض الآراء عليها- إلا اتساقه مع المعقوليّة الحديثة كما يقول الشرفي[xvii]! في نفعية وانتقائية واضحة، وتعطيل للعقل النقدي في التعامل مع الآراء التراثية المُنتقاة والمُحوَّلة أحد أسس الانطلاق، ولا كذلك استخدام مُتقَن ومُطّرِد للتقنية المنهجية المستخدمة «التقصيد» قائم على وضع آليات واضحة لاستخراج المقاصد من النصّ وتحديدها!
وبالنسبة تحديدًا لهذه النقطة الأخيرة، أي «مقاصدية الشرفي» باعتبارها التقنية المنهجية لهذه التأويليّة، فإنَّنا يُمكننا القول بأنَّ مقاصدية الشرفي، وما يرتبط بها من تاريخية لا يمكن أن يُطلَق عليها من الأساس وصف التقنية التأويلية، وهذا لافتقادها لكلّ ما تحتاجه كي تكون كذلك، أي لتحديد مُنطلقات فكرية واضحة ومؤسَّسة بعناية لتبريرها، وتحديد إطار منهجي متكامل يُحدِّد إشكالاتها الرئيسة؛ مثل تعيين التاريخ المُسيَّق فيه القرآن، وتحديد العلاقات بين هذا التاريخ والنصّ، وتحديد آليات الوصول للنصوص الكلية المُفترَض مُعبِّرة عن المركز الدلالي لكلية النصّ وعن قيمه المركزية ومقاصده[15] التي في ضوئها ستُقرأُ النصوص الجزئية، وتحديد أدوات نستطيع بها التفريق بدقّة بين ما ينتمي لنصّ الرسالة «روح الرسالة»، وما ينتمي لـ«أثر التاريخ»[16] -كمفاهيم شديدة الغيومة في خطاب الشرفي-.
إنَّ الشرفي يَعتَبِرُ أنَّ على المسلم المعاصر أن يكون (توّاقًا لإدراك الحكمة من معاني القرآن)، ويكون (باحثًا عن توجيهاته الأخلاقية وهدايته لخير الإنسانية، مُتدبِّرًا إيّاه كأحسن ما يكون التَدَبُّر، رافضًا أن يكون عليه رقيبًا سوى ضميره)، لكنَّه لا يُقدِّم لهذا المسلم أي وسيلة لإدراك هذه الحكمة ولا الوصول لهذه الأخلاق، ولا يقترحُ حتى بلورة مثل هذه الوسيلة، بل يَنصحُ المسلم المعاصر بالاجتهاد وإخلاص النية و(أمَّا التوفيق فهبة إلهيّة لا يجوز ادعاؤها لأحدٍ من البشر)[xviii]!
لذا فإنَّ تأويليّة الشرفي بركيزتيها «التاريخية والتقصيد» ليست في ظنّنا سوى إجراء نفعي مُتسرِّع، الغرض منه التفريق المُستَنِد لآراء مسبقة بين «رسالة» تتمّ مماهاتها «مقاصديًّا» بكلّ تعسّف مع القيم المركزية للفكر الحديث، وبين تصوّرات مرفوضة من هذا الفكر حيث (لم يعد لها في نفس معاصرينا الأصداء ذاتها ولا لها في فكرهم الدلالات عينها)[xix] -ولا تُناسِب ضمائرهم- فيتمُّ نسبتها إلى «التاريخ» «تاريخ العالم القديم» بميثولوجياته وعجائبياته!
وربما ورغم سوء الاستخدام الحداثي عمومًا لقضية «المقاصد» بحيث ينطوي هذا الاستخدام دومًا على انتقائية وعدم وضوح في تحديد مفاهيم يتمّ إيرادها في هذا السياق مثل «روح الشريعة» و«كليات الإسلام»، كما ينطوي على رعونة مُخجِلة في التعامل مع «التقصيد» وابتعاد تام عن تحديد آليات واضحة لكشف المقاصد وتحديدها وترتيبها وكيفية استخراجها من النصوص، وكيفية تطبيقها على النصوص الجزئية، بل أحيانًا حتى دون طرح سؤال كيفيّة الوصول للمركز الدلالي المُوحِّد للنصّ، وكيفية تحديد مسائل القرآن ومحاوره الكبرى؛ ممّا جعل هذا الاستخدام العلماني للمقاصد، وكما ترى رقية العلواني بحقّ أحد التحدّيات المعاصرة أمام الفقه المقاصدي وسببًا في وَجَل الكثيرين من باب البحث في المقاصد؛ لما قد يُفضِي إليه من لا علمية[xx]، إلا أنَّ استخدام الشرفي قد يكون الأسوأ في كلّ هذه الاستخدامات على الإطلاق، كما سيتضح لنا حين نتناول في المقالات القادمة التقصيد عند بعض المفكرين الآخرين مثل فضل الرحمن مالك، وربما السبب المركزي لهذا السوء هو عدم امتلاك الشرفي لمنهجيات تتعلّق بالنصوص وقراءتها واقتصاره هنا -في خفّة منهجية واضحة- على سحب الحمولة المنهجية التي طبّقها طوال خطابه على تأويلية القرآن، دون مراعاة كون النصوص -حتى لو كانت مُصاغة بشريًّا عبر تصورات العالم القديم، كما يرى- تظلُّ محكومة بآليات مختلفة تحتاج مقاربات منهجية ملائمة، خصوصًا إذا كان الحديث عن تحديد مرتكزات وكليات لهذه النصوص.
* * *
الشرفي والقراءات الحداثية و«التأويليّة المرجأة»:
وإذا كان من سمة رئيسة نستطيع الخروج بها من قراءة خطاب الشرفي وتحديدًا من تأويليته للقرآن تفيدنا في تحليل الكثير من الكتابات الحداثية، فهي ما يُمكن أن نعتبره سمة «إرجاء التأويليّة»، فسيطرة الهمّ التقليصي والاختزالي على كثير من الكتابات الحداثية، يعمل على تعطيل بلورة وتطبيق «المناهج التأويلية» التي تُنادي بها هذه الكتابات، حتى إنّ «التأويلية الجديدة» تتحوّل لمجرد شعار يتمّ التلويح به دون وجود أي تطبيق فعلي له، بل ودون بناء نظري مفاهيمي واضح، ولا تحديد مُتماسك لآليات اشتغاله -التي هي هنا بالنسبة للشرفي القراءة التاريخية والتقصيد-؛ لذا تظلّ التأويلية مُرجأة ومُؤجلة لأجل غير مسمّى طالما أن الهدف المُسبَق هو الاختزال والتقليص، فهذه أهداف لا يُناسبها إلا «الأرخنة-كغاية»[17]، أو مقاصدية متعسّفة مُوجهة في اتجاه قيم بعينها[18]!
هذه الرهانات التي تحكم هذه القراءات وما ينتج عنها من «إرجاء التأويلية» ربما يكون هو السبب الأساس حول هذا الفقر الكبير الذي نجده في نتاجات ادعاء القراءات الحداثية العربية لو قارناها بالتأويليات المسيحية واليهودية لأمثال بارت وتيليش وجبريل مارسيل وبول ريكور وإيميل لفينياس وإيريك فروم وغيرهم، والتي قدَّمت تأويلات رفيعة للنصوص وللشعائر وللقصص اليهودية والمسيحية.
إنَّ خطاب الشرفي ورغم أنَّه وكما قُلنا في أول مقالنا هو خطاب مُتمحوِر بالأساس حول تقديم قراءة حداثية للإسلام؛ إلا أنَّ اهتمامنا به هنا في معرض تناولنا للقراءات الحداثية للقرآن يحكمه هدفان، الأول: هو محاولة وضع اليدّ على هذه العلاقة بين «القراءة الحداثية للقرآن» و«تحديث الإسلام»، وهذا من أجل تعميق التسييق المعرفي للقراءات الحداثية للقرآن والتحديد الأعمق لرهاناتها، والتي وإن كانت تتعلق بالإسلام ككلّ إلا أنَّها تمرُّ حتمًا بالقرآن كما أوضحنا، والثاني: هو ما تكشف عنه تأويلية الشرفي على عدم تماسكها وضآلة حجمها في برنامجه من ملامح مهمّة نستطيع أن نعتبرها تكثيفًا لملامح سائدة في كلّ القراءات الحداثية تعيننا على تحديد أدقّ لملامح هذه القراءات، ومنها وبالأساس ما ختمنا به حديثنا، أي كون هذه التأويلية هي تأويليّة مزعومة، أو على الأقل «مُرجَأة» لأجل غير مسمَّى، بحكم الرهانات المسبقة والمُحدِّدة لطبيعة المنهجيات المستخدمة في قراءة القرآن أو في فهم الإسلام، والتي لا تميلُ للفهم أو اكتشاف «مخبوء المعنى» أو فتح المساحات لفهوم جديدة؛ بل لإعادة التشكيل من أجل إنتاج نسخ مُلائِمَة لتصوّرات جاهزة عن «العالم الجديد» بقيمه (غريبة المنشأ كونية التأثير)[xxi] كما يُعبِّر الشرفي.
الهوامش
[1] ثبت بمؤلفات عبد المجيد الشرفي:
- مقامع الصلبان، أحمد بن عبد الصمد الخزرجي، تحقيق ونقد وتقديم: عبد المجيد الشرفي، مركز الدراسات والبحوث الاجتماعية، تونس، 1975.
- الرسالة العسجديّة في المعاني المؤيدية، عباس بن علي بن أبي عمر الصنعاني، تحقيق ونقد وتقديم: عبد المجيد الشرفي، الدار العربية للكتاب، تونس- طرابلس، 1975.
- الفكر الإسلامي في الردّ على النصارى إلى نهاية القرن الرابع عشر، تونس-الجزائر، 1986، دار المدار الإسلامي، بيروت، ط2، 2006.
- الإسلام والحداثة، الدار التونسية، تونس، 1990، وهذا الكتاب تُرجم للفارسية عام 2004 بطهران، وللإنجليزية عام 2011 بتونس.
- لَبِنات، دار الجنوب، تونس، 1994، وهو مجموعة من الدراسات المهمّة التي أنجزها الشرفي في مناسبات مختلفة، أهمها دراسته حول آيات الصوم في سورة البقرة، ودراسته «العلمنة في المجتمعات العربية والإسلامية الحديثة».
- الإسلام بين الرسالة والتاريخ، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2001، ط2، 2008، وهو كتابه المركز الذي تناول فيه المفاهيم الرئيسة لخطابه «إسلام التاريخ» و«إسلام الرسالة» و«ختم النبوة من الداخل» و«ختم النبوة من الخارج»، وحدّد فيها خصائص الرسالة المحمدية كما يراها، والطريق نحو المعاصرة والإخلاص للقيم الحديثة مع الوفاء لمقاصد هذه الرسالة التي توافق بعض هذه القيم بالفعل وفقًا له.
- مستقبل الإسلام في الغرب والشرق، بالاشتراك مع مراد هوفمان، دار الفكر، دمشق، 2008.
- الثورة والحداثة والإسلام، دار الجنوب، تونس، ط1، 2011، والهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة، ط2، 2012، وقد تُرجِم للفرنسية في دار الجنوب بتونس عام 2012.
- مرجعيات الإسلام السياسي، التنوير، بيروت، 2014.
- أشرف على سلسة «الإسلام واحدًا ومتعددًا» الصادرة عن دار الطليعة، ومن أهم كتب هذه السلسة: «إسلام المتكلمين» لمحمد بوهلال، و«إسلام المجددين» لمحمد حمزة، «الإسلام السني» لبسام الجمل، و«إسلام الفقهاء» لنادر حمامي، و«الإسلام الخارجي» لناجية الوريمي بوعجيلة.
- أشرف على مشروع المصحف وقراءاته، مؤسسة بيت الحكمة، 2016.
[2] لتدقيق هذين المصطلحين ولبيان أكثر تفصيلًا لكون هذه المرحلة التي يشير إليها المصطلحان هي انعطافة مهمّة في تاريخ الفكر الحداثي العربي لها دور رئيس في تأسيس الدرس الحداثي للإسلام وللقرآن، انظر مقالنا الأول في هذه السلسة، «القراءات الحداثية للقرآن، مدخل: المحددات الرئيسة للقراءات الحداثية للقرآن»، على هذا الرابط:
[3] يفرّق عدد من علماء ومؤرخي الأديان مثل فراس السواح -ومن منظور ظاهراتي- بين المكونات الأساسية والمكونات الثانوية للدين، ويعتبر السواح أنَّ العقائد والقصص والشعائر هي ما تمثل المكونات الأساسية، بينما الأخلاق والتشريعات الاجتماعية تمثّل المكونات الثانوية، وهذا التفريق -كما يؤكّد السواح- لا علاقة له بمدى الأهمية المُعطاة لكلّ مكون من هذه المكونات، بل هو تفريق قائم على مقارنة الأديان من نظرة تاريخية وظاهراتية، حيث ترى هذه النظرة أن ارتباط الأخلاق والتشريعات الاجتماعية والسياسية بالدين هو ارتباط خاصّ بأديان معينة، وظهر على وجه التاريخ في فترة معينة، وبالتالي لا يمكن تعميمه على كلّ الأديان، عكس المكونات الأساسية التي تشكل بنية حدّ أدنى للدين تُعتَبر كالماهية له، هذه الأديان المُعيَّنة التي تشهد كون الأخلاق والتشريعات الاجتماعية مُكوِّنًا من مُكوِّنات الدين هي بالذات الأديان التوحيدية، فوفقًا لإسمان وعبر تفريقه بين الأديان التوحيدية وأديان مصر القديمة، فهذه الأديان التوحيدية هي التي ربطت العدالة بالسماء وجعلتها إلهية. انظر: دين الإنسان بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، فراس السواح، منشورات دار علاء الدين، سورية، دمشق، ط4، 2002، ص47، ص71، وانظر: يان إسمان، التمييز الموسوي أو ثمن التوحيدية، ترجمة: حسام الحيدري، منشورات الجمل، كولونيا (ألمانيا)، بغداد، ط1، 2006، ص68.
[4] يعتبر الشرفي أنَّ الإسلام له ثلاثة مستويات أساسية، المستوى الأول: المستوى القرآني، ويقصد به مجموعة القيم والمبادئ الدينية والأخلاقية، وهو مستوى ذو طبيعة مرجعية للمستوى الثاني، المستوى الثاني: مستوى الممارسة التاريخية، أي ما أنتجه المسلمون طوال تاريخهم بعد ختم الوحي وعيش «الوضعية التأويلية»، المستوى الثالث: البعد الفردي للإيمان، حيث عملية استبطان القيم الإسلامية تتأثر بالشخصية الأساسية والشخصية الفردية؛ مما يؤدي لتعدد الإسلاميات وفقًا للسياق الثقافي والمعرفي والفردي، فثمّة اختلافات بين إيمان المتصوفة وإيمان الفقهاء، وبين إيمان فقيه وفقيه آخر. انظر: الإسلام والحداثة، عبد المجيد الشرفي، الدار التونسية للنشر، تونس، ط2، 1991، ص15-20.
[5] يفضل الشرفي تعبير الميث على تعبير أسطورة، وهذا انطلاقًا من كون كلمة ميث كلمة غربية محتفظة بنفس لفظها فإنَّها تحتفظ بدلالاتها هي الحافَّة، وتبتعد عن كلمة أسطورة التي تُكتَب أحيانًا كتعريب للميث، والتي أثناء التعريب تُضفِي على المفهوم دلالات حافَّة بكلمة أسطورة عربيًّا والتي منها الاختلاق والكذب، وفي الحقيقة فرغم أن هذا التفريق جيد ومهم بالفعل، إلا أنَّ الشرفي لا يسير معه أي خطوات أبعد، فلا يحاول الشرفي فهم ما يصفه بالميثيات فهمًا يتماشى مع الفتوحات المعرفية في دراسة المخيال والرمز، والتي تبتعد تمامًا عن ثنائيات الحق/ الكذب والحقيقة/ الوهم، التي تستتبعها دلالة مفهوم أسطورة الذي يرفضه! ولا دراسة الطقوس دراسة تكشف عن العوالم التي تُؤسِّسها بتعبير إلياد وجملة وظائفها الطقسية، بل يظلّ الشرفي رهين التصوّرات الحداثية للقصّ الديني وللشعائر كتعبير عن «عالم قديم» وفق تعبيراته، عالم الطفولة البشرية إن حاولنا الترجمة، والذي لم يَعُدْ لعجائبيته صدى في نفوسنا على حسب ما يُعبِّر!
[6] قراءة مقدمة الشرفي لكتابه «الإسلام بين التاريخ والرسالة» ثم قراءة مضمون الكتاب تكشف عن «تجاور» منهجي شديد الطرافة، ليس بين منهجيات تراثية وأخرى حديثة هذه المرة، بل بين منهجيات تُستدعى بغرض التزيين أو التعالم ربما، ودراسة تتوسَّل منهجيات أخرى شديدة المحدودية التفسيرية وأقل كفاءة حتى في دراسة أديان أقلّ تعقيدًا من الأديان التوحيدية الإبراهيمية.
[7] الطريف أنَّ مسألة رصد التشابه بين شعيرة في دين ما وشعائر سابقة عليها تاريخيًّا أو في تصورات شائعة في محيطها التاريخي -كما يفعل الشرفي في التعامل مع شعائر الحج- لا يُغني الباحث المُتناوِل لهذه الشعيرة عن البحث في دلالتها في الدين الجديد، باعتبار البحث عن المعنى هو البحث الأهمّ في فهم الظواهر الدينية التي هي ظواهر معنى بالأساس، فكما يقول إلياد أنَّ مؤرخ الأديان حتى لو بدأ مؤرخًا فعليه أن ينتهي ظواهريًّا، أي باحثًا عن المعنى. بل إنَّ المحدودية الشديدة لهذا الرصد التاريخي في التفسير تجعل رجاء بن سلامة تعتبرُ أنَّ القول بتشابه شعيرة في دين ما مع شعيرة سابقة يعدّ قولًا لا معنى له ولا يشكّل كبير إفادة، حيث إنه يُهمِل بحث (الظاهرة في عناصرها المتفردة ويُهمِل اعتبار التفاعل البنيوي بين المُتأثِّر والمُتأثَّر به)؛ مما يجعل آراء الشرفي -من منظور منهجيات دراسة الشعائر المعاصرة التي يتغنى بضرورة استخدامها- آراء محدودة القيمة تمامًا. انظر: الموت وطقوسه من خلال صحيحي البخاري ومسلم، رجاء بن سلامة، دار رؤية، القاهرة، ط2، 2009، ص28، 39.
[8] ثمّة عدد كبير من المداخل والمنهجيات والتركيبات المنهجية التي بلورها علماء الأديان والأنثروبولوجي لمقاربة الشعائر، من أكثر من جهة؛ من جهة علاقتها بالجانب السردي من الدين «إلياد»، ومن جهة علاقتها بتأمين انتقال الإنسان في مراحل حياته «فان جنب» ومن جهة تنظيم العلاقة بين العالم المقدس/ المدنس والعادي «كايو»، ومن جهة تجسيدها لتجربة الوعي بالقدسي-الآخر تمامًا «أوتو»، وكلّ مدخل من هذه حين يُطبَّق على الشعائر الإسلامية يُؤدِّي لنتائج مختلفة تمامًا عن نتائج الشرفي، حيث يكشِف علاقة الشعائر بالنظام الإسلامي العقدي والسردي، ويكشِف وظائفها الشعائرية؛ مثل تحيين العوالم القدسية وإعادة تأسيس العالم بخلق العالم الديني، وغيرها من وظائف تُهمِلها مقاربة الشرفي لضيق منظوره ومحدودية مناهجه.
[9] يرى خزعل الماجدي أنَّ الدراسات العربية عن الإسلام هي دراسات فكرية عقلية أكثر منها أبستمولوجية معرفية، وأنَّها لا ترقى حدّ أن تكون علومًا إنسانية مُنضبطة، وقسَّمها لدراسات (أيديولوجية وتحليلية وتاريخية مقارنة)، ويعتبر أنَّ الدراسات التحليلية وهي وفقًا له (دراسات جادة قام بها مفكرون متنورون أغنوا بها الدرس الإسلامي والتحليل العلمي للظواهر الإسلامية، لكنها تنتمي للفكر الإسلامي الحديث، وليس إلى علم الأديان، فهي معنية بنقد الرؤى القديمة، وتأسيس رؤى جديدة، لكن لا تقترب كثيرًا من مشكلات علم الأديان، ولا تستخدم وسائله وطرق البحث فيه، لكنها -لا شك- الأقرب إليه من الناحية العلمية، ويمكن أن تكون أبوابًا للدخول إلى علم الأديان)، وهذا الذي يعتبره الماجدي لا شك فيه، نشكّ فيه أكبر الشكّ، فصعوبة تحول هذه الدراسات التي يصفها لدراسات منضبطة في علم الأديان هي صعوبة جذرية؛ حيث هي مرتبطة برهانات الخطاب وبتصوراته عن الدين وعن التاريخ وعن مآلات الدين، وهي نفسها تصورات تُعطِي عنها علوم الأديان بمناهجها المختلفة صورة مغايرة كثيرًا. انظر: علم الأديان، خزعل الماجدي، مؤمنون بلا حدود، ط1، 2016، ص374، 375.
[10] مثل المفكر التونسي الفرنكفوني يوسف الصديق، والذي سنتناول خطابه تفصيلًا في المقال القادم.
[11] في دراسة بعنوان «المنهج المُقارَن في قراءة الإنتاج الديني»، درس الشرفي أنماط القراءة للنصّ الديني في اليهودية والمسيحية والإسلام، وقسّمها إلى ثلاثة أقسام: القراءة «غير الفنية»، وقراءة تفسيرية، وقراءة تأويلية، والملاحظة التي نريد تسجيلها على الشرفي هنا، هي عدم الالتفات لأبعاد القراءة «التعبدية» -وهي جزء من القراءة غير الفنية وفقًا لتقسيمه، فهي لا تخضع لقواعد ومناهج؛ بل قد تتمّ حتى بصورة تقريبية- فهو يعتبرها مجرد قراءة تكرارية غالبًا، قراءة سلبية لو قورنت بالنمطين الآخرين، وفي هذا عدم إدراك للوظائف التي تقوم بها هذه القراءة، أي الإبقاء على أحد السمات الأساسية للقول الديني، «شفاهيته»، من حيث أن القول المقدس ليس معلومات، بل بلاغ ونداء، إنه حدث يُسمع، ويستمد الكثير من قوته من جهرية كلمته هذه، هذا يجعل القراءة التعبدية بجهريتها ونصف جهريتها تحيينا للقول الإلهي بما هو ذِكر ونداء، وتجديد الاستجابة لسماع هذا النداء الإلهي المُوجَّه لكلّ ذات، وهي تجربة تُحوِّل الذات وتُغيّرها، وليست أبدًا تجربة سلبية كما يصف الشرفي، وهذه التجربة هي شيء مما قصدنا بالانزياحات التي خلقها النصّ القرآني في التاريخ البشري منذ أول لحظة «مقروءًا ومُرَتَّلًا»، انظر: لَبِنات، عبد المجيد الشرفي، دار الجنوب، تونس، 1994، ص104، وانظر: فهم الفهم، مدخل إلى الهرمنيوطيقا، نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادمر، عادل مصطفى، دار رؤية، القاهرة، ط1، 2007، ص42.
[12] والتعامل مع القرآن كهدى وكذكر لا يتعلق بالمنطلق الإيماني، بل هو أساس في فهم القرآن أيًّا كان المنطلق، ففي الأخير القرآن يُحدِّد ويُعرِّف نفسه بهذه السمات؛ مما يجعل تفويتها في دراسته دراسة لنص آخر، و«أحفرة» النص القرآني، أي التعامل معه كأحفورة يتمّ البحث في تاريخ تشكلها التدويني باعتباره أمرًا مركزيًّا يضيع عن الباحث أيًّا كان منطلقه رؤية السمات الأساسية لهذا النصّ، وما يتأسس على هذه السمات من حاجة لمقاربات خاصة تنطلق من «تفهم منهجي» لهذه السمات ومن كشف لآفاقها، ولعلّ مطالعة للتأويلية التي صاغها ريكور في «من النص إلى الفعل» والتي تكشف عن جدلية التأثر بين الهرمنيوطيقا الفلسفية والهرمنيوطيقا التوارتية، وتحاول كشف (العالم الذي يخلقه النصّ أمامه)، أو تلك التي صاغها فروم في كتابه «أن تصيروا آلهة» والتي تضع وراء ظهرها إشكالات التاريخ والفيلولوجي، وتحاول اكتشاف مسيرة التوحيد كمسيرة تحرر -وكلا المقاربتين تتناولان نص التوراة الذي في تاريخ كتابته ما فيه من إشكالات- تكشف لنا عن مدى محدودية هذه النظرة الأحفورية لو طُبِّقت على نصّ مثل القرآن!
انظر: «المستشرق ونصه»، فدوى دوغلاس، دراسة منشورة مع دراسات أخرى في كتاب «من التراث إلى ما بعد الحداثة»، ترجمة جابر عصفور، المركز القومي للترجمة، مصر، ط2، 2009، ص27، وانظر كذلك: من النص إلى الفعل، بول ريكور، ترجمة: محمد برادة وحسان بورقيبة، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ط1، 2001، ص91، وانظر: أن تصيروا آلهة، إيريك فروم، ترجمة: سليم إسكندر حنا، دار الكلمة، ط1، 2013، ص14.
[13] تحدثنا في المقال الثاني عن نصر أبو زيد «القراءة الحداثية عند نصر أبوزيد، ثانيًا: تأسيس مقولة التاريخية»، عن كوننا نرى أنَّ القراءات الحداثية لا تهدف باستراتيجيات «الأرخنة» و«الأنسنة» و«العقلنة» لنزع عوائق «الحكمية» و«القدسية» و«الغيبية» عن القرآن كما يرى طه عبد الرحمن، بل اعتبرنا أن فعل الأرخنة بما هو إثبات لصلة الآيات بسياقاتها التاريخية يمثل الأساس للقراءة الحداثية ويمثل الخطوة الرئيسة لفعل «الزحزحة» للقرآن من نظرية التفسير الكلاسيكية بمفاهيمها المُؤطِّرة لطبيعة النصّ وطرائقها في اكتشاف المعنى إلى الحقول العلمية الحديثة ذات الأساس المعرفي المغاير، وأنَّ هذه الأرخنة بهذا التحديد تستتبع بصورة طبيعية إلغاء القداسة ورفع عوائق الحكمية والغيبية.
وربما بهذا نستطيع فهم قول الشرفي في كتاب «الإسلام والحداثة والثورة» بأن «قدسية القرآن لا تعارض تأويله حداثيًّا»، أو قول نصر -والذي انتقده بشدة علي حرب باعتباره تلفيقًا منهجيًّا- بأن الإيمان بالمصدر الإلهي للنصّ لا ينفي ضرورة درسه علميًّا، فهذه الأقوال والتي تبدو لوهلة وكأنها جمعًا بين نقائض -قد يفسره البعض كتلفيق أو كتقية- ليست مُتناقِضة كما قد يبدو، لكن لفهمها لا بد من التفريق بين جهتين لتعامل هذه القراءات مع القرآن، فإذا كانت النظرة الإسلامية التقليدية تُقدِّس القرآن انطلاقًا من كونه كلام الله الأزلي، حيث تُوحِّد بين القرآن وكلام الله باعتبار القرآن أكمل تجلٍّ له؛ فإنَّ القراءات الحداثية تفرِّق بين الكلام الإلهي وبين القرآن، وتحتفظ بالقداسة للكلام الأزلي وللقرآن من حيث دلالته عليه فحسب، في حين لا تسحب هذه القداسة على القرآن الذي بين أيدينا، الذي هو -وفقًا لما تحاول إثباته عبر فعل الأرخنة- تحقُّق نسبي وتاريخي لكلام الله.
من هنا فلا تناقض بين القول بقداسة القرآن وبين نفي القداسة كنتيجة لـ«الأرخنة»، فالقول بالقداسة يتعلق بجهة هي جهة دلالته على الكلام الأزلي وتعلقه بالله كمصدر له، والأرخنة وما يستتبعها من نفي للقداسة تتعلق بجهة أخرى هي جهة دلالته على القرآن الذي بين أيدينا. انظر: «الإسلام والحداثة والثورة»، عبد المجيد الشرفي، دار الجنوب، تونس، 2011، والهيئة العامة للكتاب، مصر، 2012، ص179، 180.
[14] يرى دايوش شايغان أنَّ الفكر الحديث بدأ بمكافحة الذاكرة، مع هجوم بيكون على «الأصنام الذهنية»، فهذه الأصنام الذهنية التي يكافحها بيكون -أو لوك في مقولة الصفحة البيضاء أو ديكارت في مقولة العقل الفطري- من أجل تأسيس العقلانية الحديثة تشمل «الذاكرة الأزلية» أو «الأمانة» التي كانت جزءًا من الوعي الإنساني قبل الحداثة، فالإنسان قبل عصر الحداثة كان يعيش تفكيرًا شهوديًّا لا يتوقف عند هذا العالم أو عند هذه اللحظة بل يتخطاها نحو «أركتيبات» أو «نماذج بدائية أزلية» تُمثِّل ذاكرة تجمع كافة الكينونات والموجودات، وكلّ استذكار لهذه الـ«الميثات» الـ«أركتيبات» هو استذكار ليوم «ألست بربكم»، وكان الإنسان باستجابته للرسالة يصل لهذا المعين الأسطوري الفياض الذي يمثل جذور الإنسان ومصدره في الوقت نفسه.
الحداثة هي نسيان هذه الأركتيبات والميثات والصور النوعية الأزلية؛ مما يجعلها تكافحها، والقرآن بأزليته يُشكِّل أركتيبًا يصل الإنسان بشهود رسالة «ألست»؛ لذا فالحداثة العربية تكافح فيما تكافح هذه الأزلية، فالحداثة «نسيان النبوات». انظر: الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية، دار الهادي، ط1، 2007، ص25، ص98.
[15] التركيز الدائم على كلية النصوص عند الشرفي وغيره دون محاولة تحديد لمعنى هذه الكلية ولا لكيفية اكتشاف مرتكزاتها يجعل القول بالكلية وكأنه مجرد تكئة للتخلّص من دلالات معينة لآيات معينة لا أكثر.
[16] في هذا الإطار فلكاتب هذه السطور مقال منشور على موقع الملتقى الفكري بعنوان «تاريخيات القرآن»، يدور حول عدم تحديد الكتاب الحداثيين القائلين بالتاريخية لمفهوم التاريخ بدقة، لا من حيث ماهيته (هل التاريخ موضع التغير والصيرورة؟ أم أنه يحمل قدرًا من الثبات؟) ولا من حيث تعيينه (أي تاريخ يتم تسييق القرآن فيه)، خصوصًا مع تعدد دلالة هذا المفهوم من هاتين الجهتين المتداخلتين، فعلى حسب التاريخ الذي يسيق فيه القرآن (التاريخ اليومي أو القصير أو الطويل أو الحكائي والرمزي) ستختلف النظرة لمدى موقع هذا التاريخ من الصيرورة أو الثبات. ونحن لم نذكر الشرفي هناك حيث هو الأبعد تمامًا عن تحديد هذه المفاهيم -لو قارناه بنصر وأركون كما وضحنا في مقالات نصر- أو عن إيجاد أجوبة حتى لو كانت غير مرضية لهذه الأسئلة شديدة الأهمية!
[17] كما ذكرنا في حديثنا عن نصر أبو زيد في مقال «القراءة الحداثية عند نصر أبوزيد، ثانيًا: تأسيس مقولة التاريخية»، فإنَّ «الأرخنة» قد تكون مجرد وسيلة غرضها إثبات صلة الآيات بالتاريخ لتتأسس عليها رؤية مختلفة لطبيعة النصّ القرآني تستتبع اعتماد التسييق التاريخي تقنية أساس في عملية إنتاج المعنى، وهو ما اعتبرناه الأساس للقراءة الحداثية للقرآن، ولكن من جهة أخرى فقد تكون «الأرخنة» غاية، والأرخنة حين تكون غاية فإنها لا تستتبِع أيّة طرائق تأويلية، بل تهدف للتخلص مباشرة من هذه العناصر التي ترى أن التطور التاريخي والاجتماعي قد أسقطها، وهذا مثيل ما يقوله الشرفي عن عدم مناسبة كثير من العناصر في الرسالة الإسلامية للتصوّرات والقيم الحديثة ولا قدرتها على إثارة أي أصداء في نفوس المعاصرين، مما يعني انتهاء صلاحية هذه العناصر.
[18] إذا كان الشرفي -كما يؤكد- ينطلق من استثمار لمقاصدية الطالبي، وهي التي تُعرَف بالمقاصدية السهمية، أي التي تحاول الوصول لاتجاه القيم القرآنية بدلًا من الوقوف عند تحققها التاريخي؛ فإنَّنا نستطيع القول أن الشرفي له سهمية خاصة مُوجهَة تمامًا تجاه القيم الحديثة التي يُصرّ على كونها أفقًا لا بد من الانخراط فيه، بحيث يُقرأ القرآن باعتباره تحققًا تاريخيًّا نسبيًّا لهذه القيم المُطلَقة التي تُماهِي روحًا مُفترَضة للنص!
المراجع
[i] في الشأن الديني، عبد المجيد الشرفي، ص6، منقول عن محمد حمزة، إسلام المجددين، دار الطليعة، ط1، 2007، ص69.
[ii] الفن القصصي في القرآن، محمد أحمد خلف، دار سينا-الانتشار، ط4، 1999، ص152.
[iii] الإسلام بين الرسالة والتاريخ، عبد المجيد الشرفي، دار الطبيعة، بيروت، ط2، 2008، ص65.
[iv] نفسه، ص64.
[v] نفسه، ص86.
[vi] نفسه، ص118-122.
[vii] كتب الشرفي عن الصوم دراستين، الأولى منشورة في كتاب «لبنات»، ص165، مؤرخة بعام 1989، والثانية في كتاب «الإسلام بين الرسالة والتاريخ» صدر عام 2001، والذي تحدّث فيه الشرفي طويلًا عن منهجيات علوم الأديان المعاصرة واستقلال علم الأديان العام عن غيره من العلوم في الباب الأول، (ص12، 13)، ومع هذا فإنَّ الشرفي في هذا الكتاب يستعيد نفس نتائج دراسته السالفة عن الصوم في الباب المسمى «الرسالة في التاريخ» في الفصل الثاني «مأسسة الدين»، حين يفصل بين مرونة الطقس في عصر الرسالة وضبطيته في تاريخ ما بعد الرسالة، ولا يقدم لنا أي رؤية عن معنى الطقس أو دلالته كما تقضي علوم الأديان التي أسهب في الحديث عنها في الباب الأول!
[viii] الأديان في علم الاجتماع، جان بول وليم، ترجمة: بسمة علي بدران، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 2001، ص11.
[ix] نفسه، ص27.
[x] الإسلام بين الرسالة والتاريخ، عبد المجيد الشرفي، ص196.
[xi] نفسه، ص50.
[xii] زمن الحداثة، عبد المجيد الشرفي، دراسة منشورة ضمن كتاب لبنات، دار الجنوب للنشر، تونس، 1994، ص23-25.
[xiii] لبنات، عبد المجيد الشرفي، دار الجنوب للنشر، تونس، 1994، ص107.
[xiv] مستقبل الإسلام في الغرب والشرق، عبد المجيد الشرفي ومراد هوفمان، دار الفكر، دمشق، ط1، 2008، ص33.
[xv] الإسلام بين الرسالة والتاريخ، عبد المجيد الشرفي، ص84، 85.
[xvi] نفسه، ص85.
[xvii] نفسه، ص37.
[xviii] الإسلام في الغرب والشرق، عبد المجيد الشرفي ومراد هوفمان، ص33، 34.
[xix] نفسه، ص45.
[xx] قراءة في التحدّيات المعاصرة التي تواجه الفكر المقاصدي، رقية العلواني، ضمن أعمال ندوة عالمية عن مقاصد الشريعة وسبل تحقيقات في المجتمعات المعاصرة،169، من على موقعها الرسمي:
[xxi] الإسلام بين الرسالة والتاريخ، عبد المجيد الشرفي، ص199.