يرى الناقد المصري أن النص بني على تقنيات سردية تجريبية لجماليات رواية الأصوات بأشكالها التقليدية؛ فقد فككت الروائية بنية الصوت السردي عبر عمليات التداخل في الهوية، والإحالة إلى الآخر، كما حرصت الساردة على إيصال إشارات للمروي عليه، تؤكد أصالة عمليات التداخل بين الشخصيات الفنية في نشوئها، ومصائرها الملتبسة.

التجريب في بنية رواية الأصوات

قراءة لرواية «بساتين البصرة» لمنصورة عز الدين

محمد سمير عبدالسلام

 

تواصل الروائية المصرية المبدعة منصورة عز الدين مشروعها الروائي التجريبي الذي يعزز من جماليات التداخل ما بعد الحداثي بين الأصوات، والأزمنة، والفضاءات، ويحيلنا إلى وفرة العلامات واستبدالاتها الممكنة في فعل الكتابة؛ وما ينطوي عليه من تفكيك لبنية المدلول المركزي طبقا لدريدا؛ فضلا عن الإحالة التجريبية إلى الصوت الآخر، أو الأثر الجمالي الطيفي لحضوره المغاير في بنية الصوت المتكلم في صيرورة السرد؛ كما تؤكد منصورة عز الدين تجاوز مركزية الإدراك، وتعدديته النسبية في العالم الداخلي للشخصية الفنية وحضورها التجريبي، وخطابها المعرفي الاحتمالي في النص؛ وقد بدت هذه الجماليات واضحة في عمليها السابقين أخيلة الظل، ومأوى الغياب؛ إذ اتصلت شخصياتها الفنية برؤى وأحلام، وشخصيات فنية، وحضارية متباينة في خطاب سردي احتمالي ما بعد حداثي يتجاوز بنية إدراك الراوي، ويؤكد وفرة التداخلات، والإحالات إلى التكوين الإبداعي المتجدد للعلامة، أو الأثر، وتداعياته في الخطاب السردي.

وتحيلنا رواية منصورة عز الدين الحديثة "بساتين البصرة" – الصادرة عن دار الشروق بالقاهرة 2020- إلى مزج تجريبي آخر بين الأصوات، والأزمنة، ولكن من خلال الاستعادة الإبداعية للأصداء الفكرية للقرن الثاني الهجري عبر إشارة الساردة لثلاث شخصيات شكلت صورة للمشهد الفلسفي الثقافي العربي، وإمكانية تجدده في وعي ولاوعي شخصية هشام خطاب، وأسلوبه الحداثي العقلاني في التفكير؛ وهذه الشخصيات التاريخية الواردة في خطاب الساردة هي الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وواصل بن عطاء؛ وسنلاحظ أنهم جميعا عاشوا في البصرة في القرن الثاني للهجرة وقت مناقشة إشكاليات فكرية مازالت أصداؤها فاعلة في الأدب الحديث، وفي تطور الذاكرة الجمعية، ونماذج اللاشعور الجمعي؛ مثل الجبر والاختيار، وموقع مرتكب الكبيرة، والصلة بين العلامات الحلمية اللاواعية، والمصائر الواقعية، والتاريخية للشخصيات، وكذلك تجدد سؤال الهوية عبر الشخصيات المضافة المتخيلة، والتي اكتسبت أيضا روح العصر وثقافته؛ مثل يزيد بن أبيه، ومالك النساج، ومجيبة؛ لأن إرادة التشكيل النسبي للوجود كانت جزءا رئيسيا من تطور بنى هذه الشخصيات في تفاعلها مع القوى القدرية المهيمنة، وتحولات الحدث.

وقد أشارت ساردة منصورة عز الدين إلى شخصية أبي حيان التوحيدي في سياق استرجاعي في وعي هشام حينما كان يفكر في أهمية الحصول على الكتب النادرة (1) التي تعزز من التفكير العقلاني / الحداثي، وصلته بأستاذه المفكر الذي يحاول أن يواصل مسيرة التنوير؛ ومن ثم أرى أن رواية منصورة عز الدين تحمل دلالات ثقافية عميقة تقع فيما وراء هذا المزج بين الشخصيات، والأزمنة؛ فإحالتها إلى الخطاب العقلاني في سياق نقاش واصل والحسن، وتأثيره في دائرة الشخصيات الفنية التي حملت روح العصر، وكذلك التوسع في دلالات المستوى اللاواعي لعلامة الياسمين يوحي بأن خطاب منصورة عز الدين السردي يعزز من إمكانية تجدد أصداء العقلانية والمستويات العميقة من حضور الذات عبر أزمنة وسياقات زمكانية مختلفة تجلت في الصوت السردي التجريبي المتداخل بين وعي هشام ويزيد، ويذكرني بتصور آلان تورين حول تأكيد المشروع الحداثي للذات والعقل في كتابه نقد الحداثة؛ فتكرارعلامة الياسمين في وعي، ولاوعي شخصيات مثل الحسن البصري، وكتاب ابن سيرين، وأحلام يزيد ومصيره في العالم الآخر، وفي صيرورة هشام السردية وتطور حكمته الخاصة، يوحي بتجدد المستوى اللاواعي من الوجود الذاتي، وكذلك الحياة الأخرى لنماذج اللاوعي الجمعي ضمن ثراء مدلول الذات، أو ثراء الهوية السردية والصوت السردي من جهة، وإمكانية تجدد الخطاب الحداثي العقلاني عبر نقاط زمنية مختلفة، وشخصيات تبحث عن الحكمة من داخل الاتصال الحضاري بين الرؤى التنويرية، ووهجها الفكري المتجدد في لحظة حضور ملتبسة وإشكالية وتجريبية معا من جهة أخرى؛ وهو ما يذكرنا أيضا بالإشكاليات الثقافية، والتاريخية، وتفاعلات القوى الكامنة فيما وراء بنية الخطاب في تصور ميشيل فوكو؛ ويمكننا ملاحظة أثر هذه القوى المتفاعلة عبر تطور وعي هشام، وخطابه العقلاني الحداثي الممزوج بتأثير واصل، وتسبيحته، وقوة لغته الخطابية الخاصة، وهوية يزيد الخيالية، وامتدادها الحلمي في علامة الياسمين التي تتمركز حولها الإشكاليات الفكرية القديمة المتجددة، ومصائر الشخصيات، وعمق المستوى الذاتي من الوجود من اللاوعي إلى احتمالات تشكل بنيتي الإدراك، والهوية الشخصية.

يمكننا إذا ملاحظة التفاعل بين القوى الثقافية ضمن الصوت السردي التجريبي لهشام والتباسه بصوت يزيد الذي يتدرج من الالتباس الزمني إلى الإيغال في علاقات القوى الثقافية المتعلقة بالماضي، وعودته كآخر محتمل في وعي ولاوعي هشام؛ ومن ثم سنلاحظ امتداد القوة الثقافية المتعلقة ببكارة علامات الحلم، وتفسيرها من خلال عمليات الإحالة المعقدة إلى استبدالات العلامة، واتصالها بالتاريخ، وبتجدد قوى اللاوعي في الخطاب الأدبي الحداثي الحديث؛ وسنلاحظ الحضور الخيالي الفني للأنثى الطائرة في لوحة مارك شاجال، واتصالها بالهوية السردية لميرفت وخطاب هشام حول حضورها الخاص، وأثرها الجمالي المتحول في الوعي، كما تتصل نقاشات الماضي حول الإرادة ومرتكب الكبيرة بالمصير السردي الخيالي لمالك النساج ومجيبة عقب مقتل يزيد؛ إذ تظل أفكار واصل في موضع نقاش سردي في حدوث الأوبئة وموقع مالك الملتبس وندمه، وفي عمق الإحساس بالتيه في مصير مجيبة، كما يتحول ذلك الوهج الفكري نفسه إلى عنصر ثقافي فاعل في اتصال عقلانية هشام بمصير التوحيدي، وأستاذه المفكر، ورسائله إلى ميرفت، وبحثه عن حكمة متجددة تصل بين التراث، وأثر القوى الثقافية الحداثية في تشكيل لحظة الحكي؛ ومن ثم أرى أيضا أن عتبة العنوان / بساتين البصرة تشير إلى تلك الدلالات الثقافية المتضمنة في الخطاب السردي؛ إذ تعكس مزج الوهج الفكري القديم في مدينة البصرة ببساتين الياسمين الممتدة في وعي ولاوعي الشخصيات عبر الأزمنة؛ مثل يزيد، وواصل، والحسن، وهشام، وصورة السيدة الغريبة في وعي ليلى والدة هشام، وفي فضاء قبر يزيد وخلوة مالك النساج؛ وكأن الساردة تشير ضمنيا إلى مبدأي التواتر، والتجدد في عمليات الإحالة الحلمية، والسيميولوجية، والوجودية إلى الآخر، أو إلى العلامات التفسيرية البديلة في مستويات الوجود العميقة اللاواعية واللامرئية.

*التجريب في بنية رواية الأصوات:
تقوم رواية بساتين البصرة لمنصورة عز الدين على تقديم منظور الشخصيات من داخل خطاب الشخصية وصوتها الخاص؛ ومن ثم فهي رواية أصوات تجريبية، وتؤكد البوليفونية أو التعددية في علاقة السارد بالشخصية طبقا لتصور باختين؛ وقد لاحظت أن ساردة منصورة عز الدين قدمت أصوات الرواية عبر الخطاب الداخلي المباشر بضمير المتكلم لكل شخصية على حدة فيما عدا الأجزاء الخاصة بوعي ليلى؛ والتي قدمتها الساردة عبر الخطاب الداخلي غير المباشر؛ أي أن الساردة هي من قدمت صوت ليلى الداخلي بضمير الغائب؛ وإن استبطنت أخيلة المياه، والآخر في تأملاتها الأنثوية، كما أشارت للحضور الظاهراتي للمرأة الغريبة، واقترانها بالياسمين في وعي، ولاوعي الشخصية؛ ومن ثم تؤكد الرواية تعددية الأصوات، وعمقها الداخلي، واتصالها الجزئي بروح الماضي في بعض الشخصيات؛ وبخاصة في تخييل صوت واصل.

ويميز جيرار جينيت منظور الشخصية - في رواية الأصوات – باصطلاح التبئير الداخلي المتعدد؛ حيث يمكن أن نرى الحدث الواحد بطرق متباينة من خلال وجهات نظر شخصيات عديدة في النص الروائي؛ ويمثل لذلك برواية الخاتم والكتاب لروبرت براونينك؛ حيث تروى القضية الجنائية عبر وجهات نظر عديدة للمجرم، والضحايا، والدفاع على التوالي (2). ولكن منصورة عز الدين قد توسعت في تقديم شكل تجريبي من رواية الأصوات؛ ورغم أنها قد قدمت كلا من حدث تفسير حلم الياسمين من أكثر من زاوية، وكذلك قدمت حدث اكتشاف يزيد لخيانة صديقه مالك مع زوجته مجيبة من أكثر من زاوية؛ فقد بني النص أيضا على تقنيات سردية تجريبية أخرى مضافة لجماليات رواية الأصوات بأشكالها التقليدية؛ فقد فككت بنية الصوت السردي عبر عمليات التداخل في الهوية، والإحالة إلى الآخر، كما حرصت الساردة على إيصال إشارات للمروي عليه، تؤكد أصالة عمليات التداخل بين الشخصيات الفنية في نشوئها، وفي مصائرها الملتبسة، كما استخدمت الساردة تقنيتي الإكمال، والإضافة في بنية الصوت السردي؛ فالاتصال الجمالي العابر للزمكانية بين الشخصيات منح الساردة القدرة على الإضافة لما قدمته الشخصية عن نفسها عبر أصوات أخرى؛ فنحن نعرف جزءا من عالم هشام من داخل وعي مرفت، ونعرف اتصال يزيد بعلامة الياسمين – في أخيلة العالم الآخر – عبر صوت مالك، ونعرف بعض الصور الحلمية المقطعة، وبعض الانطباعات المكملة لشخصيتي مالك ويزيد من داخل وعي ولاوعي واصل، ونعلم بعض اللمحات الحلمية، والأنثوية المجازية عن ليلي، وولادة هشام الملتبسة من خلال إشارات الساردة التي استبطنت عالمها الداخلي في علاقته المعقدة بأحلام المياه الانثوية، وبالمرأة الغريبة التي اقترنت بالفيضان، والتداخل الإبداعي بين المقابر، والمياه في اللاوعي.

ويمكننا قراءة التجريب في بنية رواية الأصوات عبر بعض التفاصيل في الخطاب الداخلي المباشر لكل من هشام، ويزيد، وواصل؛ فهشام يتحدث عن القوة النفسية الملحة لاسم يزيد في وعيه، واتصال اسمه بالحلم القديم عن الياسمين الذي تجمعه الملائكة من بساتين البصرة، وفسره الحسن بذهاب العلماء، ثم يحيلنا هشام إلى السديم المجازي المتخيل الذي حجب عنه الرؤية فيما عدا هذا (3).

يؤسس خطاب هشام – هنا – إلى التداخل في بنية الهوية، وفي بنية الصوت السردي؛ وتبدو علامة السديم كقوة حلمية مجازية تؤكد الاستبدال، والتداخل في بنية الصوت، وفي درجة اتصاله بروح الماضي عبر أخيلة شخصية يزيد، وحلمه الذي يؤكد تجدد الوهج الفكري للقرن الثاني الهجري في سياقات أخرى متخيلة و أدائية؛ فيزيد يعاين أفكار الإرادة الحرة في زمن الوباء، وهشام يحاول استعادة وهج التفكير العقلاني بصور تتداخل مع بحثه المعرفي العقلاني؛ ومن ثم يحيلنا الخطاب الداخلي المباشر إلى كل من الشخصية الفنية / هشام، والصوت الآخر المتخيل ليزيد، واستعادة روح العصر عبر الإحالة إلى حلم الياسمين ونبوءة وفاة واصل، وقوة الاستبدال المجازي في المراوحة بين التجسد، وطاقة السديم المتجاوزة لمركزية الصوت السردي في النص.

وتنتقل الساردة من تقديم خطاب هشام الذي يستحضر يزيد إلى الإعلاء من الحضور القديم لصوت يزيد في حيرته بين المتناقضات، وتأملاته في قضية اختيار الإنسان، وصراعها مع أهوال مرض الطاعون في عصره، ثم تجدد حلم الياسمين في لاوعيه؛ ورؤيته للملائكة تقطفه هذه المرة من البيت الذي دخله. (4)

إننا نعاين – في خطاب يزيد – الإعلاء من أخيلة الصوت القديم، وتجدد القضايا الفلسفية المتعلقة بالجبر والاختيار، واتساع صور الحلم التجريبية في آن؛ وكأن الصوت القديم يحمل بداخله بذور التجدد في وعي الآخر، وفي لحظات زمنية مغايرة تستلهم تلك التأملات ضمن تفاعل مغاير للقوى الثقافية المشكلة للخطاب؛ فيزيد يوحي بنبوءة موته، وفي الوقت نفسه يومئ إلى الفاعلية التفسيرية الإبداعية الكامنة في علامات الحلم، وطرائق صياغتها، وتحولاتها السيميائية النسبية، وإمكانية تشكيلها لبلاغة نصية تجريبية في المزج بين البهجة، والانقطاع ضمن بنيتها الرمزية التجريبية الخاصة؛ ويحيلنا صوت يزيد أيضا إلى تجدد سؤال حرية الاختيار، وتشكيل الهوية الذاتية، وازدواجية ذلك السؤال ببحث هشام عن صوته الذاتي، والعقلاني الخاص ضمن صراعات البنى الثقافية في زمن الحكي المعاصر.

وتتجلى إشكالية تشكيل الهوية في خطاب مالك النساج الذي يسعى للحصول على لحظة إبداعية عبر نسخ كتاب مؤثر، أو في علاقته بالرموز والعلامات وإحالاتها إلى رؤى تفسيرية نسبية، وتحمل قدرا من الشعرية، ثم نعاين علاقته السردية بموضوع مرتكب الكبيرة عند واصل في علاقته بمجيبة وقتله لصديقه يزيد، وندمه واستغفاره بجوار قبر يزيد وعلامة شجرة الياسمين. (5).

هكذا تتواتر – في نص منصورة عز الدين – القضايا الفلسفية في سرد يحتفي بالمزج بين الفكري، وصخب الصيرورة السردية التي تعيد طرح سؤال مرتكب الكبيرة عبر خطيئة مالك، وتعيد تشكيل فكرة الإرادة الحرة في رؤيته لمهنته، وتعزز من اتساع العلاقة بين المستوى اللاواعي من الوجود، والمصير المؤجل لكل من مالك ويزيد في علاقتهما السيميائية بشجرة الياسمين في الفضاء التجريبي والحلمي الآخر للخلوة.

أما واصل بن عطاء فيحكي أن قوة شدته للخلف أمام بيت بحديقة مغطاة بالياسمين، واستحال إلى زهرة ياسمين ضمن كومة من ياسمين ذابل، حملته العاصفة إلى البيت (6).

لقد تضاعف الحضور الحلمي لعلامة الياسمين في صوت واصل المتخيل، وعلت درجة الاستبدال في بنيته الرمزية؛ لتدل على حدة التباين، والاختلاف بين قوتي الإرادة الحرة، والقوة الحلمية للعاصفة، أو التحول الشعري إلى زهرة ياسمين تقع ضمن انتشار لانهائي للعلامة التي تؤكد كلا من بلاغة اللغة الرمزية الحداثية للحلم من جهة، والغياب في رمزية الحديقة التي تنطوي على التدمير من جهة أخرى.

ومثلما شكلت بعض شخصيات نص منصورة عز الدين حضورها الخاص من داخل تأملات الإرادة الحرة قديما، أوالتشكيل الوجودي للذات في السياق الحديث؛ فقد أسهم إغواء الصورة في إثراء الهوية الذاتية لكل لمجيبة، وليلى، وميرفت؛ ومن ثم يكشف النص عن اتصال وعي الأنثى بأخيلة الآخر، وحلم اليقظة، والأثر الجمالي المتحول للصورة.

تحولت شخصية مجيبة إلى الوحدة، والتيه، ومواجهة مصيرها الوجودي عقب مقتل يزيد؛ وأعادت قراءة تطورها الخاص من داخل إغواء أخيلة مجنونة الحي التي حملت اسمها؛ وقد شاع أن النظر إليها يورث الجنون؛ فضلا عن اشتياقها لمشهد بساتين البصرة، وحاراتها القديمة، وباعة السمك، وصور المجاذيب والأشرار(7).

يمكننا – إذا – أن نلمح ذلك التنازع السيميائي بين كل من علامات فضاء البصرة البهيج، وفضاء الوحدة الذي تسكنه أخيلة مجنونة الحي، وإمكانية تجسدها الخيالي في عالم مجيبة الداخلي.

وقد أشارت الساردة إلى اقتران الفيضان – في وعي ولاوعي ليلى – بأخيلة المقابر المفتوحة، وإيماءات الغضب، وصرخات المرأة الغريبة، ثم اتصلت صورة المرأة بحالة من الهدوء والصمت، وتنظيم زهور الياسمين في أشكال هندسية؛ وكأن كل زهرة تحمل صورة روح نبيلة (8).

تجلت – إذا – إيماءات البهجة، والتدمير، والتأملات الأنثوية في حلم اليقظة الذي يتصل بحضور المرأة الغريبة، وأخيلة النشوء والتجدد في الصورة القديمة للعاشق في وعي ليلى؛ وكأن هشام قد نشأ ضمن هذه الصور، والأخيلة المتداخلة، والمتناقضة التي تشير إلى ثراء مدلول الياسمين، واتصاله بالموت، والحياة، وأخيلة الولادة المجازية، والانبعاث معا.

أما شخصية ميرفت فتشير – في خطابها الداخلي – إلى تأويلها لحضورها الخاص من داخل إغواء صورة بيلا في لوحة مارك شاجال، وتحويرها لمظهرها؛ ليكتسب جماليات الأثر(9).

وإذا تأملنا صورة بيلا في لوحات مارك شاجال سنلاحظ اقترانها ببنى العشق، والطيران، والصخب، والتعالي الشعري في المشهد المتضمن في الواقع، وما يتجاوزه من فضاءات إبداعية مجازية تتجاوز البنية الأولى للفضاء المستقر عبر حدث الطيران؛ وقد امتزجت صورة بيلا بانطباعات هشام الأولى عن ميرفت عبر صورتها – في أحلام يقظته – كأنثى متخيلة طائرة تشبه نساء شاجال؛ وقد حاولت ميرفت أن تؤكد ذلك الانطباع الشعري بتحوير هويتها الأنثوية الجمالية؛ لتشبه اللوحة؛ وإن أشارت – في خطابها الشخصي (10) – إلى اختلافها عن امرأة شاجال؛ وكأن السرد الروائي يواصل لعبة التكرار الشعري، والاختلاف، ويؤكد رؤية الذات من خلال الآخر؛ وهي العملية السيميائية الرئيسية في تحولات الدال، والمدلول في الكتابة الأولى، والتي أكدها دريدا عبر الاستبدال، والإكمال، والتأجيل؛ وسنعاين هذه العملية بصورة أسبق حين نعود إلى تصور فرويد حول بنية الحلم التي تحيلنا إلى المدلول الآخر دائما الذي قد يصل إلى النقيض؛ وربما تعود هذه الاستبدالات إلى منطق الحلم الداخلي نفسه، وإلى تفسير ابن سيرين، ولكن بصورة تؤكد جذور الثقافة العربية والإسلامية في بنية التأويل؛ وسنجد أن صوت ميرفت أحالنا أكثر من مرة إلى اهتمام هشام بمطالعة كتاب ابن سيرين؛ وكأن المتوالية السردية الظاهرة المتعلقة بالتشابه بين امرأة شاجال، وميرفت تتضمن متوالية أخرى خفية تتضمن لعبة الإحالات الحلمية الواسعة إلى صورة الآخر، والمدلول الآخر، والفضاء الآخر الذي يشبه فضاء شاجال الذي استنزف بنية الجاذبية، واستقرار الأشياء في عالم شاجال الواقعي الأول.

هكذا تضيف الأصوات السردية – في رواية منصورة عز الدين – تنويعات جمالية سردية وتقسيرية جديدة لحدثي حلم الياسمين، وخطيئة مالك ومجيبة؛ فضلا عن الإحالة إلى تطور هشام والشخصيات المحيطة بحضوره الآني مثل ليلى / الأم، وميرفت، والكشف عن تعدد مستويات هويته، ووجوده الذي ينطوي على بلاغة صوت الآخر، أو حياته الجمالية الأخرى.

*رمزية الحلم واستبدالاته:
يؤكد فرويد الإحالة إلى المدلول الآخر في تفسير البنية السيميائية للحلم؛ وسنجد أنه أعاد إنتاج الدوال ضمن المدلول الآخر، أو النقيض أحيانا في كتابه تفسير الأحلام؛ فالحلم يقع ضمن شبكة واسعة من الإحالات، والاستبدالات التي تذكرنا بتعددية الرموز، والدوال في الكتابة؛ وتجاوزها للمدلول المركزي الظاهر أحيانا.

يؤول فرويد – في تفسير الأحلام - حلما لامرأة غاصت في مياه مظلمة ينعكس فيها قمر شاحب، بأن مثل هذه الأحلام توحي بحدث الميلاد على عكس الحدث المبلغ عنه من قبل الرائي في الحلم الظاهر؛ إذ يؤول حدث الغوص في المياه المقمرة بالخروج، أو بالولادة. (11)

يؤكد فرويد – إذا – التحولات السيميائية للعلامة في بنية الحلم من جهة، ولعبة الإحالات الخيالية الواسعة إلى الآخر سواء أكان شخصا، أو مدلولا، أو صورة فيما وراء البنية الأولى للحدث الظاهر من جهة أخرى؛ وهو ما تؤكد – ضمنيا – ساردة منصورة عز الدين في بساتين البصرة؛ فدائما المتوالية القصصية تومئ إلى الآخر في بنيتها الخاصة؛ وقد أشار صوت هشام – الملتبس بأخيلة يزيد – في بداية الرواية إلى ذلك القمر الذي رآه كمصدر للنبوءات حول تاريخه، وهويته؛ ليصل إلى هيمنة البنية الرمزية واللغوية / الشعرية لحلم الياسمين الذي تقطفه الملائكة من بساتين البصرة. (12)؛ وأرى أن القمر - في لعبة إحالات الدوال في صوت هشام، وخطابه السردي – يومئ أيضا إلى نوع من الولادة المجازية الأخرى للصوت، يشابه حدث الخروج الباطن طبقا لفرويد؛ فمتوالية حلم الياسمين – طبقا للجمل الأولى في خطاب هشام – كانت مقدمة لحياته السرية الأخرى في شخصية يزيد؛ ولا يمكننا فهم خاتمة النص التي عايش فيها هشام قبر يزيد المحاط برائحة الياسمين إلا بالعودة إلى المدلول المجازي البديل لتذكر حلم الياسمين؛ وهو الحدث الخفي المتضمن في الجمل الأولى من الخطاب التي تستلهم نبوءات القمر بولادة متجددة للصوت السردي؛ وأرى أن تلك الولادة الشعرية الخفية للصوت من أهم ما يميز التجريب في بنية رواية الأصوات في نص منصورة عز الدين، ويمنح السرد التحرر من التأويل الظاهر للإشارات، والوظائف، والمتواليات بصورة مركزية؛ ومن ثم تأكيد الصيرورة السردية والاتصال بين الأصوات حلميا، ومجازيا.

*التجانس، والاختلاف في بنية الخطاب:
الرواية – بوصفها حوارا بين السارد والمروي عليه – تنتج خطابا فيه مجموعة من العلامات، والصور التي تتكرر؛ لتوحي برسالة بعينها للمروي عليه، أو تنتج تأثيرا بلاغيا وسياقيا نسبيا لكلمة ما في الوعي، وطرائق الإدراك؛ وقد أكدت الدراسات التداولية المعاصرة هذه الطرائق في توصيف الخطاب، وطرائق تجانسه، وتناول بعض الكلمات ذات الأثر الجمالي في سياقها النسبي في بنية الإيصال المتضمنة في الخطاب؛ ويمكننا ملاحظة بعض الظواهر اللغوية والأدبية – في رواية منصورة عز الدين – انطلاقا من المقولات المنهجية التداولية؛ مثل بنية التجانس طبقا لجمل النص وعلاماته الأولى، وأفعال الكلام، وأثر الكلمة، ومدلولها السياقي.

أولا: التجانس في بنية الخطاب طبقا للعلامات والجمل الأولى:
يحيلنا صوت هشام – في الفصل الأخير من الرواية – إلى تضاعف علامة الياسمين في واقعه، وكينونته، وتجاوزها لنطاق الحلم، ثم ذبول ذلك الياسمين مع قوته الشبحية، ويختم خطابه بتصاعد رائحة الياسمين الطيفية من داخل أخيلة قبر يزيد (13) الممثل الاستعاري لصوت هشام الآخر؛ ولا يمكن تأويل هذه الجمل – في خطاب هشام السردي – إلا بالعودة إلى الجمل الأولى التي وردت فيها علامة الياسمين؛ لنكشف عن قيمتي التجانس، والاختلاف في بنية الخطاب؛ فهشام يعاين تحولات للياسمين لا يمكن إدراكها إلا بالتصور السياقي الحلمي لعلامة الياسمين الأولى ورؤية ابن سيرين لرمزيته، ودلالة موت العلماء؛ ومن ثم فتضاعف الياسمين الأخير في النص؛ يمثل تضاعفا آخر لمدلول الموت، أو الموت المجازي؛ حيث يضاعف الخطاب – في النهايات – من قوة الياسمين الشبحية، وحضور صورة قبر يزيد المتخيل في وعي هشام وكينونته؛ وكأنه يضاعف من التجانس المتصل بدلالة الموت، أو الحضور الشبحي التي ارتبطت بتأويل ابن سيرين في المقاطع الأولى من الخطاب.

ويستعيد صوت هشام أيضا تسبيحة واصل بن عطاء – في نهاية النص – ليكشف عن التجانس بين صوته الخاص في بحثه عن العقلانية، وصوت واصل الذي ارتبط بتأملات الاختيار، والتجارب السردية لكل من يزيد، ومالك، ومجيبة؛ فكل منهم اتصل – سرديا – بالخطيئة، والاختيار، وطرائق قراءة الكينونة الذاتية؛ ومن ثم صارت تسبيحة واصل هي الرابط اللغوي المؤكد للتجانس بين الأصوات، والأزمنة حين نعود إلى مدلولها الأول، وبكارة تأثيرها في مصائر الشخوص المتخيلة، وفي حكمة هشام الأخرى.

ثانيا: التأكيدات الاستعارية في أفعال الكلام:
يميز جون سيرل التأكيدات الاستعارية – في دراسته المعنونة بالتعبير والمعنى، دراسات في نظرية الأفعال الكلامية – بوجود علاقات المقارنة، والمشابهة، وبأنها لا تفترض تأكيد عملية التشابه حرفيا؛ وإنما تقوم على إنتاجية الاستعارة، وفهمها، والحديث عن المجال الدلالي المتمركز حول التعبيرات المجازية حول المسند إليه مثلا. (14)

هكذا يمكننا قراءة حلم واصل – في رواية منصورة عز الدين – من داخل مفهوم التأكيدات الاستعارية طبقا لجون سيرل؛ فالمتوالية السردية التي تشير إلى حلم واصل بتحوله لزهرة ياسمين أمام المنزل المملوء بالياسمين الذابل وقت هبوب عاصفة، تتضمن فعلا كلاميا يختص بالتأكيدات الاستعارية؛ فالبنية المتضمنة – فيما وراء المتوالية السردية – تشير إلى تأكيد نبوءة وفاة واصل ضمن زمن للوباء، وإلى انبعاث الجدل الفلسفي حول حرية الاختيار في أزمنة أخرى؛ ويؤكد ذلك التصور الحضور الشبحي لرائحة الياسمين في السياق السردي الاستعاري في النص. وسنلاحظ أيضا أن مزج الساردة بين الياسمين، ومشهد اختلاط الفيضان بالمقابر في وعي ليلي، يتضمن – فيما وراء ذلك الخطاب التأكيدي الاستعاري – المزج ما بعد الحداثي بين بهجة الياسمين المعلقة، وفراغات المقابر الداكنة؛ وهو مزج متوافق مع نشوء هشام الملتبس، وصيرورته الغامضة في النص.

ثالثا: الأثر الجمالي للكلمة:
تتواتر كلمة الياسمين في خطاب ساردة منصورة عز الدين، وفي أصوات الرواة بدرجات مختلفة؛ وهو ما يوحي أنها تحاول أن تؤثر في إدراك المروي عليه للمجال المرتبط بالكلمة في كل من الحلم، والواقع، والذاكرة الجمعية؛ كما تتواتر تسبيحة واصل؛ لتوحي بعبورها للزمكانية، وتجددها في البحث عن الحكمة بدلالاتها الثقافية، والوجودية، والفلسفية.

ويؤكد ديفيد كوفير وآخرون – في كتاب قوة الكلمات – أن تمثيلات العلامة اللغوية تتصل بسياقات الخطاب والنص، والدلالات الاجتماعية، وكذلك سياق التلقي (15)؛ وهو ما يؤكد عمليات التحول، والتغير في تأثير بنى الكلمات في الخطاب؛ ومن ثم ستظل علامة الياسمين تحمل رمزية موت العلماء في التراث، وتلك البهجة الخفية التي توحي بانبعاث قضايا التراث نفسه في السياق النسبي للمتلقي، وستظل الكلمات التي وصفت بها ميرفت نساء شاجال الطائرات مفتتحا لأخيلة متجددة حول الهوية، والهوية الأنثوية المجازية ضمن تمثيلات الكلمة، ومجالاتها الدلالية المتحولة.

هوامش الدراسة:
(1) راجع، منصورة عز الدين، بساتين البصرة، دار الشروق بالقاهرة، سنة 2020، ص-ص 23، 24.

(2) راجع، جيرار جينيت، خطاب الحكاية، بحث في المنهج، ت: محمد معتصم وعبد الجليل الأزدي وعمر حلي، المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، ط2، 1997، ص-ص 201، 202.

(3) راجع، منصورة عز الدين، السابق، ص-ص 36، 37.

(4) راجع، السابق، ص-ص 43، 44.

(5) راجع، السابق، ص 52، 57، 67.

(6) راجع، السابق، ص 56.

(7) راجع، السابق، ص-ص 72، 73.

(8) راجع، السابق، ص 86، 96.

(9) راجع، السابق، ص-ص 106، 107.

(10) راجع، السابق، الصفحتين نفسيهما.

(11) Read, Sigmund Freud, The Interpretation of Dreams, Edited and Translated by: James Strachey, Basic Books, New York, 2010, p. 410, 411.

(12) راجع، منصورة عز الدين، السابق، ص 10.

(13) راجع، السابق، ص 155، 163.

(14) Read, John R. Searle, Expression and Meaning, Studies in The Theory of Speech Acts, Cambridge University Press, 1999, p. 88, 89.

(15) Read, David S. Kaufer, Sugura Ishizaki, Brians S. Butler and Jeff Collins, The Power of Words, Unveiling The Speaker and Writer's Hidden Craft, Routledge, New York, 2013, p. 49.

msameerster@gmail.com