بخلاف الكثير من الدراسات التي تناولت أعمال نجيب محفوظ ينطلق سيد الوكيل في كتابه «مقامات في حضرة المحترم» من رغبة في فهم ذاته بوصفه كاتباً. متى وجد صوته الخاص، متى بدأ إحساسه بهم وجودي يخصه ويأخذه في طرقه الخاصة ويُخلِّصه من السير في طرق كبار أحبهم في بداياته، من هذه الرغبة الأساسية تأتي أهمية هذه القراءة الجديدة في إبداع عميد الرواية العربية.
يُقسِّم الكاتب دراسته الصادرة عن دار بتَّانة بالقاهرة إلى ثلاثة أبواب: مقام الأسرار، مقام الكمال، مقام الوصل. وفي تقديمه للكتاب يقدم الناقد مصطفى الضبع تفسيره لمقامات المؤلف، حسب لغة عنونتها الصوفية؛ بأنها مقامات المكاشفة وإدراك المريد لأسرار الشيخ، ثم مقام البحث عن الكمال؛ سعي الشخصيات إلى كمالها وسعي القارئ إلى كماله، ثم تحقيق الوصل بين المريد والقطب. وعند القراءة قد يبدو لنا هذا التبويب متحققاً بشكل ما، لكننا سنكتشف أن علاقة المريد بشيخه البادية في العنوان تستوفي التعبير عن إجلال شخصي دون التسليم الذي يطبع علاقة المريد بالشيخ؛ فالكتاب حفر لاكتشاف عوالم محفوظ، والأنفاق السرية التي تصل بين عمل وآخر، والتي تجعل من روايات وقصص نجيب محفوظ تمثيلات لعدد قليل من الأسئلة تؤرقه ككل كاتب كبير. لهذا يُصدِّر الوكيل كتابه بعبارة من كتاب شاكر النابلسي «مذهب للسيف ومذهب للحب» تؤكد ضرورة رؤية أي رواية لمحفوظ من خلال أعماله كلها.
الشكل والمعنى
في الباب الأول من الكتاب يبحث الوكيل في مسألة النوع الأدبي، مذكراً بمقولة نقدية كانت مستقرة تجعل من يوسف إدريس رأساً للقصة، بينما تضع محفوظ على رأس الرواية، وعلى القارئ والسالك لطريق الكتابة أن يختار طريقاً من الطريقين. هذه القسمة الصارمة حرمتنا من تأمل ثلث ما كتب نجيب محفوظ، حيث لم يُنظر إلى قصصه إلا بوصفها روايات ضلت طريقها!
لمساءلة تلك القسمة المستقرة يعود الوكيل إلى بدايات السرد الحديث، أوائل القرن العشرين لدى عيسى عبيد ومجايليه عندما كانوا يتعثرون في التسمية يضعون اسم هذا على ذاك، ويمدون اسم الرواية على المسرحية والفيلم، وبينما اكتملت هوية القصة تأخر نضج الرواية، وانتظرت محفوظ ليمنحها شكلها الحديث، لكن هذا لا يعني أن قصصه روايات مشوهة، بل على العكس، استطاع محفوظ أن يستفيد من المرونة غير المحدودة للقصة في تطويعها وتوسيع طاقتها السردية بمعالجات مختلفة للزمن والحدث.
كان نموذج «نظرة» ليوسف إدريس مريحاً في انتمائه المدرسي لقصة الفكرة، بينما أربكت قصة محفوظ النقد، لأنه يتخذ من الفكرة أفقاً لتوليد أفكار جانبية تتصل بالفكرة الأساسية، ولهذا تبدو قصصه بأثرها القرائي وفضائها الدلالي بقوة الرواية. ويبدو عطاء محفوظ في القصة كبيراً إذا أضفنا له رواياته المكتوبة بروح القصة مثل «أمام العرش» و«المرايا» وحتى «ملحمة الحرافيش»، حيث يرى الوكيل أنها مكتوبة بروح المتوالية القصصية رغم فضائها الملحمي، لافتاً إلى ملاحظة مهمة: أن أعمال محفوظ كلها لم تكن تحمل تصنيفاً على أغلفتها.
السكوت عن التصنيف يعكس المفهوم المحفوظي للسرد الممتد عبر تجربته الطويلة، حيث المرونة في الشكل الذي لا ينفصل أبداً عن المضمون والفكرة. وهذا يعني أن القصة لدى محفوظ ليست شكلاً مستقلاً لكنها طريقة للنظر إلى موضوع ما، ثم إذا به يختتم مسيرته بسرد يحير هواة التصنيف في «أصداء السيرة الذاتية» و«أحلام فترة النقاهة» دون أن ننسى «حديث الصباح والمساء»، التي تعصف بترتيبها الأبجدي قواعد القصة والرواية لتنزع نحو المعاجم.
العنف النقدي الذي مورس انطلاقاً من شكل واحد، بحسب الوكيل، هو ذاته الذي مارسه النقاد عندما حاولوا الوقوف على أفكار واضحة في إبداع محفوظ؛ فيسجل عبد المحسن طه بدر ثم علي شلش، أربعة عناوين هي: حتمية التطور – الإنسان المؤمن بطبيعته – التوسط بين الاشتراكية والرأسمالية – المستقبل المظلم. هذا الجهد المشكور يغض الطرف عن حقيقة بسيطة: النص الأدبي غير مخلص حتى لصاحبه. وواقعية محفوظ الإنسانية تتسع لأكثر من هذه العناوين الأربعة.
بحثاً عن الجدوى
في الجزء المعنون «مقام الكمال» يسعى سيد الوكيل إلى البحث عن الهموم الوجودية التي تحكم العالم المحفوظي، ليس من خلال الأعمال الكبرى كملحمة الحرافيش أو رواية أولاد حارتنا، بل من خلال قراءتين مطولتين لنوفيلا «قلب الليل» ورواية «الشحاذ» ويراهما معبرتين عن القلق الوجودي لدى الكاتب، بأكثر مما تعبر «أولاد حارتنا» ذات البنية المستعارة لرواية التاريخ الإنساني والمحتشدة بالتفاصيل. «قلب الليل»، حوارية بين موظف بالأوقاف وجعفر الراوي الذي ذهب للمطالبة بحقه في ميراث جده. تتبادل الشخصيتان عبء السرد في الحوار الذي يكشف عرضاً عن مأزق جعفر الراوي الوجودي. ننتهي من هذه الحوارية التي تقع في 149 صفحة وقد تعرفنا على مراحل حياة جعفر الراوي من طفولته، حيث الخيال والحلم وسيلته للإجابة عن أسئلة الوجود الغامضة، ثم بحثه عن نفسه في الدين، ثم في الفن، وأخيراً في الفلسفة، وكأن حياته معادل لرحلة الإنسان على الأرض في بحثه عن مسار يحقق العدل والحرية، وهذا من أهم أسئلة نجيب محفوظ التي تقود لسؤال أكثر تعقيداً حول مأزق الوجود الإنساني، ويعبر عنه جعفر الراوي من خلال وعيه بطبيعته: «إني أتمرغ في التراب، ولكنني في الأصل هابط من السماء». هذه المسافة هي التي تجعل الإنسان قادراً على فعل أي شيء. وجعفر الراوي هو ذلك الإنسان؛ فهو لم يعرف الحدود في حياته، عندما تديَّن وعندما انخرط في المتعة، وعندما انغمس في الفكر، حتى أنه لم يتمالك نفسه وقتل «سعد كبير» لمجرد أنه صارحه بأن ما يعتبره نظرية فلسفية جديدة مجرد هراء. بسبب الطبيعة المزدوجة لا يعرف الإنسان الاعتدال، وتظل الحياة لغزاً، لا يحلها التنقل بين يقين الإيمان ومتع الجسد وتأملات العقل.
في «الشحاذ» يسعى محفوظ وراء الأسئلة ذاتها من منظور آخر. يتعرض الوكيل للتشخيص النفسي الذي قدمه الدكتور يحيى الرخاوي لبطل الرواية عمر الحمزاوي باعتباره مريضاً بالاكتئاب، ويقبل به لأن الرخاوي يصفه بـ«الاكتئاب الوجودي» المتعلق بالسؤال الخالد: أكون أو لا أكون؟
نحن بصدد القلق الوجودي مجدداً، سواء بلغ حد المرض أو لم يبلغ. وعلى النقيض من جعفر الراوي يبدو عمر الحمزاوي شخصية متزنة، مطمئنة إلى النجاحات التي حققتها في الحياة، وفجأة يعصف به السؤال الوجودي عن معنى حياته التي عاشها. سؤال يرى محفوظ أنه «لا يلح علينا إلا بعد أن يفرغ قلبنا».
بعد السؤال لم يعد الحمزاوي كما كان، سار في طريق البحث الذي قطعه جعفر الراوي. يبحث عن المعنى في الملاهي، وفي كتابة الشعر، ثم ينتهي معتزلاً الحياة في كوخ ناءٍ، لا أمل لديه إلا أن يتسول جواباً عن الحقيقة التي ينشدها.
اللقاء في المنام
في الباب الثالث من الكتاب «مقام الوصل» يقف سيد الوكيل أمام ثيمة الأحلام في إبداع نجيب محفوظ، التي توجت بعمل خاص مكرس للحلم «أحلام فترة النقاهة» التي كتبها عقب ست سنوات من التوقف بسبب الاعتداء الإرهابي عليه، قضاها في العلاج الطبيعي لاستعادة لياقة يده، ثم كانت «أحلام فترة النقاهة» التي جاءت تتويجاً لحضور الحلم في أعمال محفوظ، والذي يعطي ملمح تيار الوعي المنسجم مع الواقعي في كتابة محفوظ. ربما كان دافع الأحلام الأخيرة رحلة داخلية كالتي مر بها عمر الحمزاوي تحت تأثير من سحابة اكتئابية خلال سنوات التوقف التي أعقبت الجريمة. وإذا كان الحلم مهمة اللاوعي الحر، فكتابته مهمة الوعي، حيث قام العقل الخبير بطرائق السرد بعمليات استبدال فني لتبدو على هذا النحو، ولتقود عدداً من الكُتاب إلى السير في هذا الطريق فلا تظل كتابة الأحلام عملاً بدأ وانتهى في تجربة كاتب واحد، بل تنفتح لتصبح نوعاً أدبياً تكمن الكتابة في إطاره.
ينوه الوكيل بعمل سبق أحلام فترة النقاهة بخمسة أعوام، وهو رواية مصطفى بيومي «أحلام سرية» قبل أن يتناول أربعة أعمال أعقبت الأحلام المحفوظية: «أحلام الفترة الانتقالية – محمود عبد الوهاب»، «ما وراء الجدار – مصطفى يونس» و«دفتر النائم – شريف صالح» وعمله هو نفسه «لمح البصر». ويقدم الوكيل قراءته لأعمال الكتاب الثلاثة بينما يختتم «مقامات في حضرة المحترم» بأحد أحلام كتابه، الذي تحقق فيه الوصل مع شيخ الكتابة في التكية، بعد رحلة حلمية متعددة المحطات.
الشرق الأوسط