عبر دائرة جهنمية محكمة، تُغَيَّبُ أفضل العناصر وأكثرها نبلًا، تختفي ابنة صنعاء «سماء ناشر النعم» المتيمة بتاريخ اليمن القديم بمرحلته الوثنية، جميلة كملكة سبئية، تطاردها العيون، تصيبها بالدوار، تجبر على ارتداء النقاب، يقتل "على نشوان" ظلمًا حفاظًا على شرف القبيلة. لخروجها من التاريخ، تاريخها هي بلاد بلا سماء.

بلاد بلا سماء (رواية العدد)

وجـدي الأهـدل

 

(إليك يا من لم تخطئ: سأشرح لك هذا أيضاً، إنها المعرفة الأكثر سرية وخبرة، كي تتمكن من التحرر من الشر).

 

الباجافادجيتا

(1)

الملكة

عندما أدخل الحمام في الصباح الباكر يراودني شك وتحير، فأروح أنظر في المرآة، وأجس بأصابعي قدميّ وبطني وصدري ورأسي، وأنا أرتعش رغماً عني، وبعد تأكدي من أنني لم أفقد شيئاً من جسدي، أحمدُ الله، وأرسل آهة ارتياح، ويعود إليّ عقلي، فأدرك أنه مجرد حلم جميل ممتع لا ضرر منه.. واحدٌ من تلك الأحلام اللذيذة التي ترى فيها البنت نفسها عروساً ليلة الدخلة. أجفف وجهي بمنشفتي الوردية، وأتجه إلى الستارة فأرفعها، وأمتع نفسي بالتحديق من النافذة، متأملة ألوان السماء المُبهجة قبيل شروق الشمس.

اسمي (سماء ناشر النعم) طالبة في السنة الأولى بكلية العلوم، وهواياتي المطالعة وكتابة يومياتي. غرفتي في الطبقة الثانية، وتطل على شارع خلفي هادئ. في مواجهتي، في الأسفل، تقبع بقالة الحاج سلطان. وهذا الحاج عندما يراني أطلُ من النافذة، يقف مبتسماً ببلاهة، ويقوم بحركة بذيئة.. يقوم بإدخال مفتاح قفل بقالته الضخم في أذنه، ويحركه دخولاً خروجاً وعيناه تبرقان بوحشية.. وحينها لا أتمالك نفسي، فأجري إلى الحمام، وأرجع بفردة شبشب، وألوّح بظاهرها في وجهه. هو في سن والدي، عمره خمسون عاماً، قصير بدين، لحيته مبرقشة بشعيرات بيضاء، وفي جبينه زبيبة الصلاة. وبدلاً من أن يغضب ويهيج، أراه يغمز لي بعينه، ويهز رأسه بحبور، وكأنه واثق من أنه سينالني يوماً ما! أرتدي البالطو الأسود فوق ملابسي، وأضع النقاب على وجهي ثم أخرج.

يترصدني (علي) ابن الجيران المراهق من العين السحرية، شقته تقع أمام بيتنا، وما إن يراني أهبط السلالم حتى يلحق بي كظلي، متأبطاً كتبه الملفوفة في سجادة الصلاة. ثانويته تقع على الخط نفسه إلى كليتي، ولكنها أبعد، تحتاج منه إلى عشرين دقيقة من المشي السريع ليصل إليها قبل رنين الجرس، وإغلاق البوابة.

علي في السادسة عشرة، يصغرني بأربع سنوات، وسيم، طويل القامة، بشرته ناعمة ملساء ولونها فاتح، وبدنه رجراج باللحم والشحم، وردفاه بارزان متكوران، يضفيان عليه ملمحاً أنثوياً يُضايقني، وهذا ما يجعله هو الآخر هدفاً لمغازلات وقحة. طوال العشر دقائق التي يقطرني فيها، لا ينطق بحرف واحد، ولا حتى دندنة أغنية، فأكتفي بسماع وقع خطواته الحثيثة خلفي. لكنني أحس بنظراته النارية مسلطة على عجيزتي، أشعر وكأن هناك أشعة حارة تضربها من الخلف، وتكاد تذيبها. هذا الولد الصموت يزعجني بنظراته. أحياناً يركز عليّ بشدة، حتى أحس بسخونة وارتعاش، فأرتبك وأعرق، وتصبح خطواتي متعرجة، فأخبط ساقي بالأخرى لشدة ما أكابده من غم.

يُعاني المشاهير من نظرات الناس الفضولية، ولذلك يتجنبون الظهور في الأماكن العامة. وأما في اليمن، فإن جميع النساء الشابات يعتبرن من المشاهير! عندما تخرج فتاة من بيتها إلى الشارع، فسوف تلاحظ أن الجميع يحدق فيها. ربما هناك فتيات يشعرن بالرضا عن أنفسهن عندما يحدق فيهن الرجال بشهوانية، ولكن بالنسبة لي أنا، فإن هذا التحديق المتواصل من عشرات المارة يخرجني عن طوري، يضغط على أعصابي، يوترني إلى درجة لا تطاق. إنني أعتبر هذا التحديق المكثف القادم من كافة الاتجاهات، نوعاً من العنف الذكوري المؤذي. صحيح أنه غير محسوس، لا يلمس باليد، لكن له ثقلاً نفسياً، وزن إضافي يجثم على الصدر، ويكتم الأنفاس. هذا التحديق من ذكور مكبوتين يقتحم جلدي، ويُشوش دمي، ويُرهق ذهني. مرة جربت أن أحدق في عيني قط، فإذا به يفر مذعوراً وذيله ملتف بمؤخرته! كلما أردت التنفيس عن غيظي من تحديق الرجال فيّ، أروح أحدق في عيون القطط التي سرعان ما تفقد صوابها، وتهرب مني. كل القطط ترتاب من الإنسان الذي يحدق في عينيها، وتظنه يريد بها شراً. ذكر لي جدي أنه في صدر شبابه، خرج من قريته الجبلية ليلاً، ومر بقرب دغل كثيف الأشجار، وصادف نمراً يسد عليه الممر الصخري الضيق، فسلط ضوء كشافه، وثبّت بصره على عيني النمر المتوقدتين كالجمر، ووقف متخشباً يرنو إليه، فهل تعرفون ماذا حصل؟ يقول جدي إن النمر انزعج وارتبك وأحس بالخطر، فدار على براثنه نصنف دورة، ثم اختفى عائداً إلى مسكنه بين الأدغال. كان جدي رحمه الله يحكي لي هذه الحادثة مراراً، لكي أعرف كيف أتصرف حين أواجه النمر.

ولكن حكايته ما عادت تفيدني في شيء، فالنمور انقرضت من اليمن، بالإضافة إلى أنني أعيش في مدينة لا يعقل أن تظهر في شوارعها النمور. ما استفدته من حكاية جدي، أنه حتى النمر، ذلك الحيوان المفترس المقدام، يفقد شجاعته ويولي الأدبار، حين يحدق في عينيه شخص بثبات. النمر يفقد صوابه من تحديق شخص واحد، فكيف بحالي أنا عندما يحدق فيّ عشرات الرجال في ذات الوقت وفي كل وقت؟!

معظم الرجال في الشارع يصوبون نظراتهم الشبقة إليّ وكلهم يرغب في مضاجعتي، ولولا أن كل واحد منهم يراقب الآخر، لكنت اغتصبت على الرصيف عشرين مرة على الأقل في اليوم الواحد. هل لأنني عزباء وليست لي أية مغامرات جنسية أبدو مغالية في التمسك بالفضيلة؟ أحياناً أفكر بأنني لو جربت الخلوة مع واحد من الجنس الخشن، لكنت اتخذت موقفاً مختلفاً من مسألة تحديق الرجال فيّ. أنا لست نفوراً من الجنس، بل إني أترقب بفارغ الصبر قدوم عريسي.. ولكن هذا التحرش البصري الذكوري المفرط الشدة يغيظني، ويكاد يصيبني في بعض الأحيان بالجنون، فأبذل جهداً هائلاً للامتناع عن الصراخ والسباب. من يعلم.. قد أتبدل بعد الزواج، وأصبح مثل زميلتي في الكلية (نسمة) التي تبتهج من تحديق الرجال فيها!

الذكور في بلادي علمانيون على طريقتهم الخاصة، فهم يَفصِلون المسجد عن واقع حياتهم! فرجالنا في المساجد يُصلون بخشوع وتقوى، ويتمثلون الأخلاق الحميدة كأنهم ملائكة الرحمن. ولكنهم ما إن يخرجوا إلى الشارع حتى تنقلب أحوالهم إلى الضد، فينسون الله، ويتكشفون عن شياطين شريرة، تمارس الختل والكذب والغش، والجري وراء المتع المحرمة. رأيت شيبة في السبعين لم يكد يخرج من الجامع وحذاؤه ما زال بيده، وهو يبصبص عليّ متلمظاً بشفتيه، وكأنه يتمنى لو يعضني بأسنانه النخرة.

لا أنصح أية بنت من بنات بلادي بحمل حقيبة بيضاء.. لأن لونها يلفت انتباه الرجال بصورة غريبة.. وبعضهم يصاب بهستيريا من نوع خاص -هستيريا الحقيبة البيضاء- فيفقد شعوره والقدرة على التحكم بنفسه. وقد عاينت حالة من هذا النوع بنفسي، في المرة الوحيدة التي حملت فيها حقيبة بيضاء، وكان ذاك أتعس يوم في حياتي. والذي حدث، أني مررت ببناية في طور التشييد، والعمال يحملون أكياس الأسمنت على ظهورهم إلى داخلها، ورنا إليّ عامل منهم مفتول العضلات، فألقى بكيس الأسمنت بعيداً، وراح يصيح في وجهي: " ارحمني يا صاحب الشنطة البيضاء .. ارحمني ". فتجمدت من الرعب، وكدت أتبول على نفسي من هول نظرته الجائعة! ووقف زملاؤه العمال وحتى السابلة في أماكنهم كالأصنام، يرقبون الموقف.

رأيته يهرش ما بين فخذيه مواصلاً صراخه الحيواني الفاحش، والزبد يسيل من جانبي فمه: "يا صاحب الشنطة البيضاء .. البيضاء". ابتعدت إلى الرصيف الآخر، ورحت أحث الخطى، وأنا أحس أن كرامتي قد أهينت، وأن أنوثتي قد خدشت، وأن عفافي قد تنجس.

في مدينتي لا يعتبر التبول في الشارع العام أمراً شائناً، بل يمكن اعتباره نوعاً من التباهي بالرجولة! ولذلك أصادف رجالاً كثيرين يتبولون واقفين، وألاحظ أن الخبثاء منهم، يتعمدون عندما تمر بقربهم بنت حلوة، إظهار خراطيمهم تحت أنظارها بحجة التبول. أحياناً أسترق النظر، يدفعني الفضول لمشاهدة نافوراتهم، ولكن رائحته الحامضة تبعث قشعريرة اشمئزاز ترج بدني كله.

أتعرض للتحرش عدة مرات في النهار الواحد، فسائق الباص عندما أناوله الأجرة، يتعمد أن يمد أظلافه إلى مغابن أصابعي، ثم يسحبها متلذذاً بملامستي. لست بنتاً متدينة، ولذلك كنت أتغاضى عن هذه الملامسات الخاطفة، وأنظر إليها بوصفها ضريبة، لابد لكل فتاة خرجت إلى شوارعنا المكبوتة أن تدفعها. ولكن سائق باص شاب، قبيح الوجه، أحمر الجلد، جعلني أغيّر رأيي، وأرفض التسامح في دفع هذه الضريبة الجنسية الرخيصة، فصرت أرمي القطعة المعدنية على الرف الأمامي، غير مبالية بما قد يقال عني بأني متكبرة، أو أدفع الحساب بطريقة مُهينة. ذاك الشاب المنفر التقاطيع، الذي ينسدل شعره على كتفيه، وتطفح الصحة والعافية من عروقه، لن أنساه ما حييت.. لأنني عندما نزلت من الباص، وكنت الراكبة الأخيرة، مددت له يدي لأناوله الحساب، فإذا به ينشب مخالبه في لحمي حتى الرسغ، محتوياً يدي في كفه الضخمة، وشعرت به يرتعش، وكأن تياراً كهربائياً صعقه، ثم تأوه وتأود ملتذاً ومطلقاً حشرجة ألم رهيبة.. انتزعت يدي بذعر، ومشيت على غير هدى، ناسية الطريق إلى البيت، ودوار يعصف برأسي، وقدماي ترتعشان.. وإلى اليوم لا أعرف سبباً لخوفي من ذلك السائق.. إنه خوف غير مفهوم، أشعر به ولا أستطيع تفسيره.

رغم كوني حذرة جداً، وأحرص على مجالي الشخصي، وأتفادى الاقتراب من الرجال، فإنهم لا يكفون عن لمس جسدي.. ولولا كراهيتي لما مررت به من تجارب لذكرتها بالتفصيل.

من المواقف التي علقت بذاكرتي، وما تزال تثير استغرابي الشديد، موقف جارتنا (أم علي) حين خرجنا معاً إلى السوق، وانحنت تقلب في قمصان نوم معروضة للبيع على الرصيف لبائع افترش الأرض، فمر من ورائها رجل يغطي شاربه نصف وجهه وإبهامه مرفوعة.. راقبت ما حدث بذهول.. هو مضى متابعاً طريقه، لم يطرف له جفن، وملامحه باردة، وهي استقام ظهرها بغنج مهرة فتية والتفتت إليه ضاحكة!

هل إذا صرت في مثل عمرها ستنتابني المشاعر نفسها؟ وأضحك لمن يغازلني بتلك الطريقة الفجة؟

عندما كنت في السابعة من عمري، فكرت في الانتحار بطعن بطني بسكين المطبخ، لأموت وأنا طفلة بريئة، ليس عليّ حساب، فأدخل إلى الجنة مباشرة. كان عالم الكبار يؤرقني، وبالأخص الجو الجنسي المحموم الذي يعيشون فيه. وفي سنواتي المبكرة تلك، كنت أشعر بقرف هائل من تهافت الكبار على الجنس. عرفت من الكتب والأقارب، أن الإنسان عندما يكبر لابد أن يمارس الجنس، كما يمارس الصغار الأكل والشرب، فقررت أن أنجو من هذا القدر الجنسي المحتوم وأنتحر.. وكنت أدخل إلى المطبخ، وألصق السكين ببطني وأبكي بحرقة ومرارة. وبمضي السنين، انحسر هاجس الانتحار هذا.. في سنوات الطفولة تلك، كنت أنظر إلى الجنس بوصفه قذارة، وأنه ينبغي تحريمه حتى على الأزواج. لذلك كنت أكره أبي وأمي لمعرفتي بأن العلاقة بينهما ليست طاهرة.. إنهما يفعلان في الخفاء أموراً غير محتشمة. كنت أتبنى أراءً أخلاقية متزمتة جداً، لا تسامح فيها مع الغرائز، لأن العالم المثالي من وجهة نظري، هو الذي يخلو من أي ميل جنسي بصورة مطلقة. الآن وقد كبرت وفهمت الحياة، أصبحت أتسامح مع الجنس بين زوجين، بل وأرى أنه ضرورة لأجل استمرار النسل.

في طفولتي قطعت عهداً على نفسي ألا أنغمس في عالم اللذات، ولكن الأشواق التي أحس بها الآن، تجعلني أسخر من سذاجة الطفلة التي كنتها، ومن طريقة تفكيرها في تلك المسائل. ما أغرب التحولات التي تمر بها المبادئ الأخلاقية في دواخلنا! في البيت أعاني من تلصص شقيقي الأكبر على دفتر يومياتي، لديه شك بأن الحب قد عرف طريقه إلى قلبي. ومنذ التحاقي بالجامعة - حيث التعليم مختلط - وهو يبحث بين أوراقي عن عشيقي الافتراضي. ليس في يومياتي ما أخجل منه، فأنا دون ادعاء، من أنصار الفضيلة. أحسه يقول في نفسه وهو يقحم نظره في عيني متفحصاً  "الأنثى الناضجة تطلب الفحل"! منذ شببت وتكور نهداي وهو يتحامل عليّ، يتوجس مني، يخشى أن ألطخ شرفه، أن أجلب له العار، وألوث سمعته. إنه لا يكف عن التحديق في نافذتي كلما دخل أو خرج من البناية، يتشكك في سلوكي، يظن أني أقف خلف الزجاج لأغازل الشبان. لقد شرحت له مرات كثيرة، أنه في النهار لا يمكن لأي عابر أن يرى ما وراء الزجاج بوضوح، ولكنه لا يصدقني أبداً، فهو يؤمن في قرارة نفسه بأن كيد النساء عظيم!

والدي صار خصماً لي، يناصبني العداء، لأنني لم أتزوج بعد، وما زلت أعيش في بيته، وكأنني لغم سينفجر تحت قدميه في أية لحظة يغفل فيها عن مراقبتي! حتى أمي، أحب مخلوق في الوجود إلى قلبي، كلما عدت من الجامعة تحدق في وجهي بتركيز، بحثاً عن أثرٍ للحب.أُدرك أنها تعانقني عند عودتي لتتشمم ملابسي، وتتيقن أني لا أحمل رائحة تيس غريب. كل يوم تفتح معي الموضوع نفسه "ماذا فعلتِ اليوم"؟ وتحقق معي عن علاقاتي مع الدكاترة وزملائي في الكلية. يضايقني قلقها الزائد هذا، ولكنني رغم كل شيء، أغفر لها وأحبها.

حياتي معاناة لا نهاية لها، بسبب الأنظار المسلطة عليّ طوال الوقت، سواءً داخل البيت أو خارجه. أنا تحت المراقبة ليلاً ونهاراً، لا أحد يفكر بي، بمشاعري، بأحلامي وطموحاتي، بأن لي الحق في أن أحيا على راحتي، دون أن يقلقني أحد بنظراته الفضولية ورغباته المكبوتة، وأن لي الحق في حياة سعيدة، لا يُسممها أب بشكوكه وأوهامه، ولا تنغصها أم بحشر أنفها في خصوصياتي. أشعر أني محاصرة، المجتمع يحاصرني من كافة الجهات، وكأنني ارتكبت بحقهم جريمة خفية قبل آلاف السنين.. جريمة لم ينتبه أحد لتدوينها، وظل صداها يتردد في لاوعيهم حتى اليوم. عندما تكون البنت في سنوات الشباب، فإنها تعد دون شك العدو رقم واحد للمجتمع! أنا لست مُحملة بالكراهية ضد أحد، ولا ضد مجتمعي، ولكن كل من حولي يشعرني بأنني لست بشراً لي عقل وروح، وإنما أنا مجرد أداة للمتعة، اختزلوا وجودي الإنساني في مثلث صغير نجس وأهملوا الباقي.. صراع مهول على قطعة لحم عفنة! أفٍ لكم.. خذوا قطعة اللحم هذه ودعوني أعيش حياتي في سلام.

***

(2)

المُستسلم للمتعة والسلطة

تلقيت في الواحدة بعد منتصف الليل بلاغاً عن اختفاء فتاة، تبلغ من العمر عشرين ربيعا.
اسمي (عبدربه عبيد العديني)، ضابط برتبة نقيب في البحث الجنائي.
حصلت على أوصافها، وعلى صورة فوتوغرافية ملونة التقطت لها قبل ستة أشهر، انتزعناها من ملفها المحفوظ في أرشيف الجامعة. لم نجد لدى أسرتها صوراً حديثة لها في ألبوم صور العائلة، احتفظوا بصورها وهي طفلة فقط.. شيء غريب أليس كذلك؟ والدها (ناشر النعم) لم أستفد منه أية معلومة، كان في حالة سعار وغليان، والشرر يتطاير من عينيه كأسد كاسر، ويشتم كل من يخطر بباله: شتم ابنته المفقودة، وشتم الشبان وسمّاهم (عيال النيدو ال..) وشتم الدولة والشرطة، وشتم أولاده وزوجته، وأما أنا فقد تكرم عليّ بدستة من الأوصاف المُقذعة. لم أبصر في حياتي كلها وجهاً يتغير لونه من دقيقة لأخرى كوجه الحاج (ناشر النعم). فحين يتكلم يحمرّ وجهه وينتفخ الجلد، فأفكر في نفسي أنني لو خدشت وجنته بأظافري، فإن الدم سيطرطش عليّ وعلى الجدران من شدة انحباسه وفورانه. وحين كان يصغي إليّ وإلى زملائي الضباط، فإن وجهه ينخسف لونه ويصير كامداً مسوداً، وكأنه قاتل مُسلسل إلى قفصه في قاعة المحكمة بانتظار أن يصدر القضاة حكمهم عليه.
وحين نصمت، ويغرق هو في عالمه الخاص، ويرى بعين خياله ابنته يُنتهك عرضها، فإن وجهه يشحب شحوباً رهيباً ويهرب منه الدم، ويصير لون بشرته رمادياً يثير الشفقة، فأخشى عليه في تلك اللحظات أن يصاب بذبحة صدرية.
أم سماء أستطيع أن أسميها (المرأة وادي الدموع) فعيناها محمرتان كالجمر، وجفناها التهبا من البكاء، وطوال الوقت تلطم خديها، وتندب ابنتها وتلوم نفسها.
وعلى الأرجح إذا لم تعد إليها سماؤها بسرعة، فلسوف تفقد عقلها. وهي بدلاً من أن تساعدني بإعطائي معلومات مفيدة، أجدها تجثو عند قدمي وتقبل ركبتيّ متوسلة أن أعيد إليها ابنتها. ابتعد عنها وأنا أزفر متضايقاً، لأن هؤلاء الناس يريدونني أن آتيهم بابنتهم، وهم لا يساعدونني على الإطلاق.
ما لدي من معلومات، أن سماء خرجت من البيت في الساعة السابعة والنصف صباحاً إلى الجامعة ولم تعد. قمنا بتحقيق موسع في كلية العلوم، وأكد زملاء وزميلات سماء أنها حضرت صباح ذلك اليوم المشئوم، محاضرة للدكتور عقلان التي تمتد من 8-10 صباحاً، وأنها خرجت من القاعة ولم يرها أحد بعد ذلك.
قادني حدسي إلى مكتب الدكتور عقلان - يشاع أن اسمه الحقيقي عجلان ولكن حصوله على شهادة الدكتوراه جعله يغير اسمه - وجهت له عدداً من الأسئلة.
قلت له: ما رأيك في طالبتك سماء؟
رد باحتراس: من أية ناحية؟
ضحكت وأجبته متهكماً: من الناحية التي تفضلها!
رفع حاجباً واحداً: مستواها الدراسي دون المتوسط.. في الترم الأول حصلت على درجات متدنية في مادتي.
أراد طالب أن يدخل إلى المكتب، فأشار له د. عقلان بالانصراف. درست ملامحه، تقاسيم وجهه الحليق، وشعره المصبوغ بالأسود، وأذنيه الكبيرتين، فأدركت أنه زير نساء، مغازل لا يكل.
سألته بصوت خفيض: ما رأيك في أخلاقها؟
لم يفاجأ، كان يتوقع سؤالي، فأجابني وفمه مائل: بنت داعرة.. تدعي الفضيلة والفضيلة منها براء.. تظهر التقوى والصلاح وهي عكس ذلك. صدمتني أقواله، اتهاماته المسنونة كشفرات السكاكين.
اعتدلت في جلستي وسألته بجفاف: كيف عرفت أنها.. يعني.. ليست على خلق رفيع؟
ابتسم بمكر وتدلى فكه كخطم ذئب: أنا رجل لمّاح.. عندي مكاشفات روحانية.. أفهم سريرة البني آدم من مجرد حركة واحدة بسيطة و..
قاطعته بخشونة: عفواً سؤالي هو كيف عرفت أنها بنت منحرفة؟
تجهم وجهه واعتكر، وانزاح قناعه المخادع، وفح بصوت واطئ: قبل أسبوعين دخلت إلى المختبر لمتابعة درس تطبيقي مع مجموعة من طلابي وطالباتي، ولأجل كسر الحاجز النفسي بيني وبينهم، بادرتهم بالسلام وصافحتهم، وعندما مددت يدي باتجاهها، اعتذرت بأنها لا تصافح الرجال، وتركت يدي معلقة في الهواء.. وضعتني في موقف سخيف، وبعض الطلاب سمعتهم يضحكون عليّ.. وهكذا عرفت أنها من النساء المتظاهرات بالحشمة، اللواتي يرفضن المصافحة في العلن، ويفتحن فروجهن في السر.. هذا النوع المنافق من النساء منتشر جدا.. تجدها تفعل دائماً عكس ما تريد، وتقول عكس ما تؤمن به في قرارة نفسها.. نوع مُعفن، تربّى تربية فاسدة، ويعيش حياة متناقضة.. بصريح العبارة هذه الطالبة بشخصيتين وبوجهين و..
أوقفت هذره الغبي، وسألته ناظراً في عينيه: دكتور عقلان دعنا نتكلم بصراحة.. هناك احتمال أن سماء أحبت واحداً من زملائها وهربت معه.. أو ربما ذهبت للعيش معه ببساطة.. ما رأيك؟
هز رأسه، وتحسس صوان أذنه.
رد بعد تفكير: هذا احتمال بعيد.. نحن مجتمع محافظ.
للحظة رمشت عيناه، وأحسست أنه غير مقتنع بما يقول.
ضغطت عليه أكثر: هل لفت انتباهك طالب من طلابك كان يحوم حولها؟
ضيّق عينيه وتأملني بدقة، وراح يقلب في ذهنه عدة احتمالات، ولما طال صمته، استعجلته: ما اسمه؟
رد ببطء: لا أدري.
صمتنا برهة، وبدا عليه أنه يستعرض أمام عينيه ذكريات معينة، حتى أنه نسي وجودي. سيطرت عليّ فكرة خبيثة أخذت تلح على أعصابي، فسألته منساقاً وراء هواجسي: هل زوجتك في البيت؟
جاوبني كعائدٍ من أعماق المحيطات: لا.. إنها في القرية.
أخرجت علبة سجائري وأشعلت واحدة، وحين نفثت الدخان في وجهه، انتبه وانعقد حاجباه.
سألني بجفاء: لماذا تسأل عن زوجتي؟ ما علاقتها بالموضوع؟
نظرت إلى السقف الذي تشقق طلاؤه: لا أعرف.. لقد خطر ببالي أن أسألك هذا السؤال.
قال وصوته يعلو فاضحاً غضبه: أنت تكذب.. أنت تشك فيّ.
شعرت باضطراب قدميه، قلت له: كلامك السابق يكشف أنك كنت تحوم حولها.
تراجع بظهره للخلف مذهولا، حدجني بنظرة كراهية سامة، ثم نظر في ساعته، فتح فمه محاولاً الكلام، ولكنه عجز عن النطق بحرف واحد، التقط شنطته السوداء وخرج. سجلت في مفكرتي عدة ملاحظات عنه، وقررت أن أكثف تحرياتي حوله، وأستقصي تحركاته يوم أمس، وأن أضع شقته تحت المراقبة. حتى الآن أنا لا أرتاب فيه، ولكنني بحس رجل الشرطة المتمرس في الاستجواب، أعرف أنه يتحفظ عن البوح بما عنده من معلومات. طريقة كلامه عنها تؤكد أن بينهما أشياء خفية.. السؤال عن زوجته كان مجرد لعبة للضغط على أعصابه، وجعله يفتح فمه على آخره.
في الواحدة ظهراً تلقيت تقريراً عن سماء من قسم التحريات: لا معلومات عنها في المستشفيات وأقسام الشرطة، إنها مفقودة.
تناولت غدائي في مطعم سلتة، وشربت شاياً في بوفية خاوية، وأنا أحاول أن أبني في عقلي خطة بارعة للتحقيق في ملابسات اختفاء سماء. لدي شك قوي بأنها استدرجت إلى مكان ما وقيدت حريتها.. الوقت ثمين جداً في مثل هذه الحالات.. إذا لم تكن قد قتلت، فإن حياتها الآن في خطر شديد. ذهبت إلى منزل عائلتها، ووجدت عند باب العمارة حشداً من أقاربها - بعضهم مُسلح ببنادق الكلاشينكوف- يتناقشون بأصوات زاعقة، وهم في حالة توتر فظيعة. اختلطت بهم، وراحوا يسألونني بجلافة عن قريبتهم الضائعة.. وجوههم تثير الرعب في النفس، غاضبة ينضح منها الشر، والعيون تبرق بوحشية كأنها أحداق أسود مفترسة. تنتسب سماء إلى قبيلة شرسة، كل رجالها من المقاتلين الأشاوس، وشرف البنت عندهم هو خط أحمر، إذا تجاوزه كائناً من كان فإن مصيره المحتوم هو الموت. كنت أسمعهم يهددون والدها بأنهم إذا عثروا على سماء ولم يجدوها بكراً، فإن ألف رصاصة ستمزق جسدها.
لقد أصابوني ببلبلة كاملة، فلم أعد أعرف رأسي من رجلي، ونسيت الخطة التي كنت قد جهزتها.
حضر شيخ القبيلة في سيارة صالون آخر موديل تعج بالمسلحين، نزل بكبرياء وعظمة، وأحاط به حراسه من كل جانب، وتجمع حوله رجال القبيلة. لم أتمكن من الاقتراب بسبب التزاحم والتدافع، فوقفت بعيداً على مصطبة مرتفعة لأرقب ما يجري. رأيت والد سماء يقف بين يدي الشيخ متصاغراً يكاد الذل يقتله، ورأسه منكس للأرض. فوقنا بالضبط كانت حدأة تصرصر محلقة على ارتفاع منخفض. شعرت بانقباض في روحي، وتشوش غريب في حواسي. أدركت أن خوفاً مجهول المصدر قد تسرب إلى نفسي.. حتى أن البرودة قد سرت في عظامي. أعطى الشيخ المهيب توجيهاته بهدوء ووقار، ثم صعد إلى سيارته الفارهة، وتقافز حراسه إلى المقاعد الخلفية، وغادر الحارة بالسرعة نفسها التي ظهر بها. لم أعد أسيطر على الموقف، إنني في حالة ارتباك يرثى لها. أخرجت علبة سجائري، فوجدتها فارغة، طوحت بها تحت إحدى السيارات المتوقفة، وأنا ألعن اليوم الذي صرت فيه ضابط شرطة. مشيت باتجاه بقالة قريبة، واشتريت علبة سجائر. كان الجو كالحاً تنتشر فيه ذرات غبار تخفض مدى الرؤية، وتقلل من وهج الشمس، فيشعر المرء أنه يختنق داخل زجاجة وسخة. رددت مكبرات الصوت أذان صلاة العصر، كان صوت المؤذن مشروخاً، فضاعف من مساحة الحزن في نفسي. ورائي كان صاحب البقالة الكهل، يردد خلف المؤذن بخشوع. انتبهت إلى وجوده، وخزة خاطفة ضربت أضلاعي من رنة صوته، فجلست على سطح دولاب خشبي قذر وأشعلت سيجارة.
نظرت إلى أعلى، إلى الشقة التي تسكن فيها عائلة سماء.
الفضول دفع صاحب البقالة إلى الاقتراب مني وسؤالي: هل عرفتم أين هي؟
هززت رأسي نافيا.
أشار بحاجبيه إلى نافذة تقع في مواجهته مباشرة: هل تعرف أن هذه غرفتها؟
التفت إليه وابتسامة فرح تكاد تفلت مني.
قلت له بنغمة خالية من الانفعال: هل أنت متأكد؟
رد بثقة: نعم.
سألته بألطف لهجة ممكنة: هل كانت تظهر كثيراً من النافذة؟
مسح على لحيته وتلكأ في الإجابة: استغفر الله العظيم.. ماذا أقول لك يا ولدي.. هذه مسائل لا يجوز الخوض فيها. تأكدت شكوكي في أن لديه ما يقوله لي، وأنه محرج من التصريح بما يعتمل في نفسه.
قلت له محاولاً التخفيف من تحفظه: لا بأس عليك يا حاج.. عفواً الاسم الكريم؟
قال مبتلعاً ريقه: سلطان عتيق.
تابعتُ: يا حاج سلطان أنا ضابط شرطة أقوم بعملي، ولذلك ليس عليك حرج لو زودتني ببعض المعلومات.. هذا واجب شرعي عليك!
تنحنح وراح يلعب بحبات مسبحته ذات الخرزات السود: الصدق بنت الحاج ناشر النعم أخلاقها نص نص.. طائشة.. تحب تلعب على شوارب الرجال.
هززت رأسي أحثه على مواصلة حديثه.
واصل كلامه وقد ضيّق إحدى عينيه: حتى أنا الشيبة الذي يرجو من الله حسن الختام لم تكن تستحي مني.. كانت تحاول أن تغويني.. تلعب بي وبشيبتي على آخر أيامي.
دنوت منه وسألته: ماذا كانت تفعل بالضبط؟
بدأ يتوتر ويتلعثم: يع.. يعني كنت أراها تفتح النافذة وتعمل حركات غير مقبولة.
قلت له وأنا أحكم عليه الحصار: مثل؟
قال وهو يهرب بنظره بعيداً باتجاه نافذة سماء: يع.. يعني تقضم خيارة وهي تنظر إليّ وتغمز بعينها.. تلعق آيسكريم وتمد لي لسانها.. تمضغ لباناً وتنفخه حتى يفرقع وكأنها ترسل إليّ قبلاتها.. ومرات كثيرة تتعمد ترجيل شعرها عند النافذة وكأنها تعرضه عليّ.. وأشياء من هذا القبيل من شقاوة البنات.
عندما أنهى حديثه سحب تنهيدة من جوفه حتى كادت أضلاعه تتطاير كسفا.
تساءلت في نفسي هل يعقل أن هذا الشيبة الخرف مُدله في حبها؟!
تنهده عليها، والجهد الذي بذلته معه - بحسب اعترافه - لابد سيؤدي إلى تعلقه بها، شاء أم أبى. قدرت أنه عاشق حتى العظم لسماء، وأن نيران الغيرة المتأججة في حشاه، هي التي دفعته إلى فتح موضوعها معي. يبدو أنه متيقن من فرارها مع شاب أُغرمت به.
كان عليّ استغلال الفرصة السانحة فسألته: يا حاج سلطان أريدك أن تجاوبني بصراحة.. هل لاحظت أن شاباً من شبان الحارة يتردد على بقالتك ويتعمد الجلوس قبالة نافذتها لمغازلتها؟
تهرّب من نظراتي الصارمة، بلل سبابته ومررها على رقبته، ورفع رأسه للأعلى هامسا: سامحني يارب.
نظر إلى نافذتها والتمعت في عينيه ومضة غيرة خاطفة: نعم.. هناك واحد.
أطفأت سيجارتي وسألته بلا مبالاة: ما اسمه؟
دس المسبحة في جيب معطفه، وتشاغل بموازنة عمامة رأسه: اسمه علي نشوان.
أخرجت المفكرة من جيبي وسجلت الاسم، سألته: هل يمكنك أن تدلني على مسكنه؟
قال: هو من سكان العمارة.. الدور الثاني.. شقته أمام شقتها تماما.
قلت: كم عمره؟
قال: حوالي ثمانية عشر عاما.
قلت: متى آخر مرة رأيت سماء؟
قال: أمس السابعة والنصف صباحاً، رأيتها تخرج من العمارة.
قلت: هل لاحظت عليها أمراً غير معتاد.. مثلاً هل لاحظت أنها تحمل شنطة ملابس أو كيس علاقي كبير؟
قال: لا.. كانت تتأبط شنطة سوداء حريمي ودفتر أزرق خشن ولا شيء آخر.. ولكنني لاحظت أن الولد الذي ذكرت لك اسمه قبل قليل خرج بعدها مباشرة، وظل يتبعها كالتيس.
دق قلبي لهذه المعلومة الثمينة، قلت: هل أنت متأكد أنه علي؟
رد بسرعة: نعم هو.. كل يوم يخرج خلفها.. يلاحقها كظلها.
سجلت في مفكرتي ملحوظات سريعة.
قال وهو يرمقني بنظرة متواطئة: اسمح لي أن أغلق الحانوت، أريد أن أدرك صلاة العصر جماعة.
انتظرته حتى أغلق درف باب بقالته، تبادلنا تحية وداع برفع أذرعنا، ومشى حثيثاً صوب جامع قريب، وأما أنا فقد توكلت على الله، وقصدت شقة علي، وقرعت الباب.
سمعت صوت امرأة يقول من الداخل: من؟
قلت: علي موجود؟
قالت: من يريده؟
قلت: أنا صاحبه عبد ربه.
بعد دقيقة فتح الباب رجل أسمر، متين البنيان، خده منتفخ بالقات، قدرت أنه والد علي، عمره يتراوح بين السابعة والأربعين والخمسين عاما.
نظر إليّ مُضيقاً عينيه: مرحبا.. أي خدمة؟
قلت له وأنا أعرض عليه بطاقتي: أنا النقيب عبد ربه العديني.. أريد أن أتكلم مع علي.. خمس دقائق.. ليس أكثر.
فتح عينيه على اتساعهما، وتأخر مفسحاً لي الطريق لأدخل: أنا أبوه.. تفضل.. الله جابك.
لم أعرف هل أتفاءل بكلمته الأخيرة أم أتشاءم. سمعت أقداماً تهرول مبتعدة، ولغطاً خافتاً، فعرفت أن الأسرة الكبيرة العدد قد حُشرت في غرفة، في آخر الشقة. دخلت إلى ديوان صغير المساحة، دافئ، وقعدت. كانت عيدان القات مرمية على الأرض، ومنفضة السجائر مثقلة بأعقاب مهشمة، ثلثها مُبقع بأحمر الشفاه. جلس في صدر الديوان واتكأ، وأراد أن ينفحني ربطة من أغصان القات فاعتذرت.
غطى قدميه ببطانية صوفية لكي يعرق وتسري الحرارة في بدنه فتأتيه نشوة الكيف.
قلت وأنا أشعر بأني مراقب من ثقب مفتاح الباب المغلق، والعشرات من الآذان تتنصت على كلامي: أين علي؟
قال: علي منذ أن عرف بخبر بنت الجيران التي خرجت ولم تعد وهو يبحث عنها في الشوارع كالمجنون.. بالأمس لم يرجع إلا في الخامسة فجراً، وما كاد يغفو ثلاث ساعات حتى خرج يبحث عنها.. لم يذق لقمة منذ الأمس.. ومدرسته لم يذهب إليها.. وكما ترى الساعة الآن الرابعة عصراً وهو بسلامته لم يرجع.. أمه تبكي بالليل والنهار.. وأنا قلبي يكاد يتوقف من شدة قلقي عليه.
قلت ساخرا: هه أهلها لم يبحثوا عنها بهذا الإخلاص.. يبدو أن ولدكم متيمٌ بها.
قال: الشاهد يا فندم أن ابني عثر على شنطة سماء ودفترها.
صُعقت، ولم أقدر أن أحرك لساني من وقع المفاجأة.
تابع قائلاً : أرجوك بحياة أحب الناس إلى نفسك أن تكتم هذا الخبر وتبقيه سراً بيننا.. فلو عرف أهل البنت فإن مصيبة ستحصل.. سيأكلون ولدي حياً بأسنانهم.. ستمزقه خناجرهم قبل أن يتمكن من الدفاع عن نفسه بكلمة.
قلت وأنا أفكر في القضية من زاوية جديدة: أعدك بكتمان الأمر.. أين متعلقاتها؟
قال: محفوظة عند زوجتي.. انتظرني لحظة من فضلك.
قام وتنحنح بقوة، ليشعر عائلته بالابتعاد عن الباب. خرج وأغلق الباب خلفه، سمعت نقاشاً مكتوما، تبعه بكاء ونهنهة، خمنت أن أم علي تحاول منع زوجها من التعاون معي، فلا ريب أن خوفها على حياة ابنها قد جعلها لا تثق بأحد. مرت خمس دقائق ثقيلة، تسليت فيها بمراقبة الساعة الجدارية، وارتعشت عندما ظل عقرب الثواني يراوح في مكانه عاجزاً عن مواصلة تقدمه إلى الأمام.. إنها لحظة نادرة جداً، أن تشاهد ساعة شغالة تتوقف عن الحياة تحت ناظريك! أخيراً ، دخل والد علي وهو يحمل "كيس علاقي"، ناولنيه وجثا أمامي، كانت محتوياته ملفوفة بداخل ثلاثة أكياس أخرى زيادة في الحرص. وجدت شنطة نسائية سوداء، ودفتر محاضرات له غلاف بلاستيكي أزرق. فتحت الشنطة فوجدت بطاقة سماء الجامعية، وأقلاماً سائلة، وقلم رصاص، وعملات معدنية، وورقة من فئة الألف ريال، وورقتين من فئة الخمسين. ووجدت أيضاً دفتر تلفونات بحجم الكف، ومناديل ورقية، وقالب شوكولاتة، ولبان بنكهة الفراولة، ودبابيس شعر، وعطر الفل، وزهور ذابلة، وقصاصات تحوي أسماء مراجع، وجدول المحاضرات. تصفحت دفتر المحاضرات أبو ثلاثمائة ورقة بسرعة، ولاحظت أن صاحبته تسجل دروسها بنظام وخط أنيق.
أعدت متعلقاتها إلى داخل الأكياس الثلاثة، وسألت والد علي المتصبب جبينه عرقا: أين وجد ابنك هذه المتعلقات؟
رد وهو يحاول التغلب على نوبة سعال تعصف به: يقول إنه وجدها في حديقة كلية العلوم بين الأشجار.
زممت شفتيّ وقلت مكلماً نفسي أكثر مما أنا أكلمه: لابد لي من أخذه إلى هناك ليشير إلى الموضع الذي وجد فيه الأشياء بالضبط.
قال متنهداً والدموع تترقرق في مقلتيه: لو ذهبت الآن إلى كلية العلوم فلعلك تجده هناك يحوم وينقب بحثاً عن المزيد من بقاياها.
قلت وأنا أنهض: لا تقلق عليه.. ابنك علي في عيوننا.
صافحته عند باب الشقة، وشكرته على المساعدة القيمة التي أسداها للشرطة.
برزت خلفه رؤوس كثيرة، ربما يصل عددها إلى العشرة.
غادرتهم ونزلت الدرج، ورأسي يموج بالشكوك.. هل فعلاً وجد علي هذه المتعلقات أم أن أسرته تتكتم على الحقيقة وتريد الخلاص من الأدلة ضد ابنهم؟
عبرت الشارع الخلفي إلى الشارع العام، حيث كان المساعد (مطيع) ينتظرني في سيارة تاكسي. انطلقنا باتجاه كلية العلوم التي وصلنا إليها في أقل من سبع دقائق.
وقفنا قرب بوابة الكلية، وطلبت من المساعد مطيع البقاء في السيارة، ومتابعة كل شخص يتراوح عمره بين 17- 19 سنة. ترجلت من السيارة ودخلت الكلية، واتجهت صوب مكتب أمن الجامعة. أدى الضابط المناوب التحية، وناولني تقريراً من نصف صفحة. قرأته فلم أجد فيه أية معلومة مفيدة. الحرس لم يلاحظوا أي شيء مريب، ومبنى الكلية تم تفتيشه أربع مرات ولم يعثروا على أية أدلة. ضحكت في سري من بلادة هؤلاء الجنود العُمي الذين فشلوا في العثور على شنطة سماء ودفتر محاضراتها، وعثر عليهما صبي كان لديه الحماس والتفاني للبحث. طبّقت التقرير ووضعته في جيبي، وقلت للضابط المناوب: لقد عثرنا على أشياء مهمة في حديقة الكلية تخص البنت المفقودة.
فتح الضابط المناوب فمه وجحظت عيناه.
تابعت مهدداً: لذلك ستحاسبون على هذا التقصير.
خرجت وأنا أسمع صوت خبطة قدم الضابط المناوب ترج الأرض. الحماسة المبالغ فيها لتحيتي عند انصرافي كانت أكثر الطرق بلاهة للاعتذار عن التقصير في أداء الواجب. قصدت حديقة الكلية، كانت الممرات شبه خالية، ومعظم الطلاب قد غادروا. غمرني الصخب الشديد لزقزقة العصافير وشدو البلابل وهديل القَمَارِيّ، وتعلق بصري بها وهي تلهو بالطيران من شجرة لأخرى. شعرت بوخزة بين أضلاعي.. التفت إلى شجرة رمان على بعد ثلاثة أمتار مني، فأبصرت ظلاً أبيض يتحرك ويختفي داخل جذع الشجرة.. اقشعر بدني من هذه الرؤية، وظللت واقفاً في مكاني أحدق في الجذع بين مُكذب ومُصدق.. هل أشك في عينيّ؟ أم أني مرهق بسبب هذه القضية الفظيعة؟! مسحت وجهي براحتيّ، فشعرت بانفراج نفسي، وتحلل ذلك الخاطر الشيطاني. اقتربت من النافورة المعطلة، وجلست ألتقط أنفاسي. الحديقة صغيرة المساحة، تغلب عليها أشجار الكافور والحور السامقة، وتتناثر في أرجائها مقاعد متقابلة مسقوفة، تتسع لجلوس ستة أشخاص. لم يكن هناك أي أحد، الهدوء يلف المكان، باستثناء كلام الحب الذي تتبادله الطيور، والموسيقى الشجية التي تعزفها الرياح على أغصان الأشجار. غمست أصابعي في ماء النافورة الراكد المغطى بالأوراق الصفراء، وتأملت صورتي المنعكسة على المياه.. كان وجهي يتموج ويستطيل كلما ارتطمت ورقة ساقطة بسطح الماء.. استغربت كيف يمكن لورقة صفراء خفيفة الوزن أن تغير في ملامحي إلى هذا الحد؟! يقولون عن الإنسان الذي حان أجله أن ورقته قد هلت.. ورقة صفراء صغيرة تستسلم لضغط الريح وتهوي إلى الأسفل. هكذا نحن أيضاً، في لحظة يأس نستسلم للموت ونسلم الروح.
شعرت بحضور روح في الحديقة.. أخذت أتلفت، فرأيت شاباً جالساً على أحد تلك المقاعد المسقوفة، مُطرق الرأس، مُتخشباً كأنه صنم بارد. لا أنكر، لقد ارتعبت منه بعض الشيء، بدا لي وكأنه انبثق من العدم، أظهر نفسه للعيان بعد أن كان خفيا.
تمالكت نفسي، ومشيت نحوه، ولاشعورياً وجدتني أتحسس مسدسي وأتأكد من أنه مُثبت إلى خصري. لقد سمع وقع خطواتي، ولكنه لم يرفع رأسه، كان يحدق في نقطة لامرئية، خارج الوجود ذاته. حدقتا عيناه كانتا تحدقان في فراغ.. في تجويف لا ينتمي إلى عالمنا هذا، في شيء لا مسمى له في لغتنا، ولم يسبق أن خطر ببالنا من قبل. تنحنحت وسلمت عليه، فظل على حاله ساكناً شارد اللب.
جلست أمامه وخاطبته بلطف: كيف حالك يا علي؟
رفع رأسه إليّ، وراح يتفرس في وجهي، يدقق في ملامحي. شعرت بالنفور من نظراته الشبيهة بأشعة ضارة تغور تحت الجلد.
قلت له محاولاً فرض هيبتي عليه: أنا ضابط في البحث الجنائي، جئت إلى هنا لأحقق معك.
غامت نظرة عينيه، فأحسست بشعاع روحه ينحسر ويتراجع.
تابعت بلهجة المحقق الخشنة: قل لي أين عثرت على شنطة سماء ودفتر محاضراتها؟
مرت دقيقة صمت رهيبة لا تطاق. كانت أنفاسه تتسارع وصدره يعلو ويهبط وكأنه يعاني من نقص حاد في الهواء. قام فجأة ومشى، فتبعته وانتبهت للمرة الأولى أنه طويل القامة، ممتلئ الجسم، وهو ما يهبه مظهراً أكبر من سنه، رغم أنه ما يزال فتياً طري العود، ربما في الخامسة عشرة. وقف بقرب شجرة الرمان، وأشار إلى تجويف في جذعها. على الفور صدقته.
قلت في نفسي "إذاً لم تأت تلك الرؤية عبثا.. هناك نظام كوني يتحكم في مثل هذه الأشياء.. نظام لا يزال مجهولاً بالنسبة لنا".
جثا (علي) على ركبتيه، وراح يشهق باكياً، وانتابتني أنا رهبة لم أعرف لها مثيلاً من قبل. شعرت بأنني في حضرة قدسية. انتفضت خوفاً حين سمعت هدير الماء، فجأة سرت الحياة في النافورة وأخذت تعمل، وسفح الماء من جوانبها على الأرض.
أحسست بظهري يعرق، وأضلاعي ترتجف، وأسناني تصطك، شعرت بالخزي من ضعفي وتهاوي إرادتي. لأول مرة في حياتي أحس بحضور "روحي" خارق للعادة، وأن حواسي مُعطلة، وأطرافي مشلولة. أنا أمرّ بحالة غريبة غير مفهومة، أنا في داخل جسدي وخارجه في آن واحد.. أراه ويراني، أنظر إليه من كافة الجهات، وكأني مشاهد خارجي محايد. عقلي في غاية الصفاء، ومتحرر من المشاعر والأحاسيس. العالم من حولي يلتوي في دوائر حلزونية، والأبعاد المكانية المعروفة تلاشت، وكأنني أجرب شكلاً مختلفاً من الوجود. غربت الشمس وحل الظلام تدريجيا.
المساعد مطيع الذي ملّ من الانتظار في سيارة التاكسي، جاء يبحث عني -عرفت ذلك لأنني صرت موجوداً في كل مكان- رآني واقفاً أمام شجرة الرمان، غارقاً في حالة تأمل جليلة. ناداني من بعيد، ولم يجرؤ على الاقتراب "أخبرني فيما بعد أنه شعر برهبة شديدة". سمعته بالكاد، فعادت إليّ مشاغلي الدنيوية. انسحبت من الحديقة شبه المظلمة بخطوات زاحفة حزينة، مخلفاً ورائي ذلك الفتى في خلوة مع شجرة الرمان، لا يكدرها وجود عذول مثلي.

***

(3)

المَعْمِي بالوهم السحري لهذا العالم المرتبك

اسمي (ناصر سالم العتمي) أمتلك بوفية داخل كلية العلوم، ملاصقة للسور، وتطل على حديقة.

أكسب لقمة عيشي في هذا المكان منذ عشرين عاماً. وأعرف كل ما يدور في الإدارة والقاعات، كما يعرف الرجل الحصيف بيته. وعندي من أخبار الدكاترة والطلبة ما ليس معروفاً حتى لعائلاتهم. أنا الأرشيف الحقيقي لكلية العلوم! لطول خبرتي بأنماط البشر التي تقرقع بأقدامها على هذه الرقعة من الأرض، فإنني بت أعرف مسبقاً ما هو قدرهم المحتوم.

إنها خبرة تكتسب بمرور آلاف الأيام، وهي معرفة لا يمكن شرحها في كتب أو تعليمها لأحد. الذي يريد أن يصير مثلي، عليه أن يزاول عملي هذا مدة عشرين سنة. لم يُخلق بعد ذلك الذي يتبجح بأنه يستطيع التحكم في قدره.. وتغييره. قدرنا مرسوم في ملابسنا وسلوكنا وحركة أجسادنا، وهو أوضح ما يكون في نظرات عيوننا. من ملاحظتي لأشياء بسيطة كهذه، أستطيع أن أتنبأ بالغيب، أن أدرك الاتجاه، أن أفهم كيف يعمل الإنسان على اكتشاف مصيره. كل طلبة العلوم الذين كانوا يفضلون ارتداء القمصان الصفراء الفاقعة انتهى بهم المطاف إلى الجنون.

من بيع السندوتشات والعصائر والشبس تزوجت، واشتريت بيتاً في القرية أسكنت فيه عائلتي، وفي رأس كل شهر هجري أبعث لهم بالمصاريف. رزقت بعشرة، أربعة أولاد، وست بنات، درَّستهم جميعاً حتى نالوا الشهادة الإعدادية.

لم أشجعهم البتة على إكمال تعليمهم، نزعت من رؤوسهم نهائياً فكرة الالتحاق بالجامعة. الذي عايشته في الجامعة لا يمت إلى العلم بصلة، فخلف الواجهة الأكاديمية المبهرجة، لا يحصد الطلاب سوى الغائط. هل تعرفون ما هو أكبر إنجاز تحققه جامعاتنا؟ إنه تحويل الطالب الذي ينتمي إليها من بني آدم إلى حمار!

هذه الشغلة ليست سهلة، حتى عتاولة الشعوذة في أريافنا لا يقدرون أن يحولوا هذا العدد الضخم من البشر إلى حمير. في قريتي يقام سوق "الثلوث" الأسبوعي، وفيه يتم بيع وشراء الحمير التي يتراوح عددها في الغالب ما بين خمسة إلى عشرة. وأما هنا فيوجد أكبر سوق للحمير. والظريف أن كل حمار يحمل بطاقة، لكيلا يخلطوا بينه وبين الحمير الأخرى! أما في سوق قريتي فلا يحدث ذلك، لأن كل حمار معروف بما فيه الكفاية لتمييزه عن غيره من الحمير. إن الدكتور في جامعاتنا يخدع الطلاب، ويقدم لهم محاضرات مفذلكة، أشبه بألعاب الحواة، فيما الطلاب يخدعونه مستخدمين أساليبه نفسها، ويكتب لهم النجاح. ما من عالم أو مخترع طلع من هنا.. ولو حاول أحدهم أن يفعل، فإن الأغلبية الغبية ستدفعها آفة الحسد إلى شطبه من المجتمع، وتصفيته معنوياً وجسدياً؛ الذي يُظهر نبوغاً هنا هو كالساعي إلى حتفه.. مواهبه سوف تحول كل من حوله إلى مسدسات مُذخرة موجهة صوب صدره. أبنائي أذكياء جداً، ولذلك حرمتهم من التعليم العالي، خوفاً عليهم من غضبة الخاملين وانتقامهم. أنا لا أمزح، ولا أبالغ. لقد رأيت بعينيّ هاتين على مدى عشرين عاماً، العشرات من العباقرة الفطريين الذين دمرتهم آلة الحقد الجهنمية وأحالتهم إلى حطام.

الفساد الأخلاقي متوطن هنا، يكاد المرء يشمه في الهواء! شبكات الدعارة تجوس بين الطالبات، وتحصل على غلة وفيرة. وسماسرة الزواج السياحي يقدمون خدماتهم في وضح النهار. وأما الشيء المروع، فهو نظرة الطالب إلى زميلته.. إنها نظرة غير لائقة، وتفتقر إلى الاحترام، إنه لا يتعامل معها بوصفها طالبة علم، وإنما بوصفها طالبة نكاح! غالبية الدكاترة مهذبون وعلى خلق، ولكن حتى في هيئة التدريس توجد رقعة من العفن. العام الماضي كان الدكتور عقلان بطل فضيحة أخلاقية، انتهت فصولها بكارثة محزنة. كان عندنا طالب اسمه (وضاح) ذكي بشكل استثنائي، وهو الوحيد بين أقرانه الذي كان يحرز الدرجات النهائية في أغلب المواد. لكنه ومع ذكائه الخارق لم يتمكن من إحراز المركز الأول، لأنه رسب في إحدى المواد، وتحديداً المادة التي يُدرسها الدكتور عقلان. هل تعرفون سبب رسوبه؟ وسامته المفرطة! الفتيات كن يتحلقن حوله ويتشاجرن عليه. جماله الفتان حوله إلى أسطورة في عيونهن، فلم يعد لهن من حديث إلا عنه. بوفيتي يوجد بها قسم للبنات، محجوب عن العيون بستائر، لكي تتمكن الطالبات المنقبات من خلع النقاب، وتناول طعامهن براحة. أنا الوحيد الذي يحق له الدخول والخروج إلى عشهن، ورؤية وجوههن، وسماع ثرثرتهن. هن أيضاً يتعاملن معي دون حرج، ويرفعن الكلفة، ربما لأنني أبدو في عمر آبائهن. هذا الوضع الخاص، أتاح لي معرفة ما يدور في عالم البنات المغلق، وأن ألمس مقدار تعلقهن العشقي بوضاح، بل إني سمعت إحداهن تقول بلا حياء، أن وضاح هو الرجل الوحيد في الكلية الذي يحرك الشهوة فيها، وأنها عندما تراه تشعر برعشة..

كلنا كنا نقول في أنفسنا – نحن الذكور – كم هو محظوظ. ولكن الحظ توقف عن مساندته، عندما لاحظته عينا الدكتور عقلان، فتحولت وسامته وبالاً عليه. حاول المسكين بشتى الوسائل مراجعة ورقة امتحانه، ولكن الدكتور عقلان لم يكن له إلا مطلب واحد.. وهدده بأنه سيرسبه في جميع المواد التي يدرسها له إذا لم يستجب لمطلبه. تعيش عائلة الدكتور عقلان في الريف، وأما هو فيسكن وحيداً في الشقة المعطاة له من الجامعة. وفي هذه الشقة الفارغة يستدرج الدكتور عقلان ضحاياه من الذكور والإناث، ويستغلهم جنسيا. إلى تلك الشقة النجسة انسل وضاح ورضخ للضغوط. بعدها بأيام علق الدكتور عقلان ورقة في لوحة إعلانات القسم، يعلن فيها تصحيح درجة وضاح، ومنحه 100% في مادته! كان هذا الإعلان بمثابة فضيحة مدمرة لسمعة وضاح. وصمة عار في جبين وضاح. دليل إدانة لا يقبل الشك على سلوك وضاح. جميع الطلاب والطالبات عرفوا بأن وضاح قد تنازل عن كبريائه، ونام في فراش ذلك اللوطي. صار الأمر حديث الكلية، حتى عمال وعاملات النظافة كانوا ينمّون عليه، ويستهزئون به، ويرددون أغنيات كلماتها محوّرة.

زملاؤه الذين يكنون له البغض بسبب تهافت الفتيات عليه، كانوا يُعيرونه ويزدرونه، ويلمحون إلى علاقته الشاذة. انقلبت حياته إلى جحيم، وفقد ثقته العالية بنفسه، ولم يعد يقدر أن يرفع بصره في عين أحد.. كان يتكسر ويتحطم أمام عيوننا، ونحن نراقبه ببرود وتشف، وكأنه صرصار محاصر بين كتيبة من الجزمات الجاهزة لهرسه.

لم يصمد ...........

غاب أسبوعاً عن الكلية، ثم سمعنا أنه انتحر.

وفي هذه السنة كرر الدكتور عقلان فعلته، ولكن الضحية في هذه المرة كانت أنثى، طالبة حسناء اسمها (سماء ناشر النعم). لقد رسبها في مادته، مع العلم أن درجاتها في بقية المواد تتراوح بين جيد جداً وممتاز. وعندما ذهبت إليه لمراجعته، عرض عليها تسوية الأمر بطريقته المعهودة. سَمعتها تستفسر من زميلاتها، وهي تفطر بسندوتش كبد عن معنى كلمة (بردقوش)؟ لم تفهم أية واحدة منهن معنى الكلمة، وأما أنا فقد أرهفت سمع، وأعطيتهن ظهري.

قالت لهن موضحة: الدكتور عقلان وعدني أن يُنجِّحني في مادته إذا سمحت له أن يَدُق البردقوش.

توقفن عن بلع الطعام، وخفضن رؤوسهن.. لقد فهمن، ولم يعلقن بكلمة.

قبل خمس سنوات نقل الدكتور عقلان مكتبه إلى الطبقة الثالثة، واختار تحديداً الحجرة التي تطل نافذتها عليّ وعلى الحديقة. ولأن هذه النافذة تقع في الجانب الأقرب للسور، فهي تعتبر أفضل مرصد على الإطلاق للتلصص على الطالبات اللواتي يترددن على جناح البنات في بوفيتي.

من تلك النافذة المنحوسة، تمكن الدكتور عقلان من رؤية وجه سماء، وتأمل محاسنها بروية، وكأنه يحتسي قدح عسل فائق اللذاذة والحلاوة.

سماء سمراء البشرة، قامتها نحيلة كعود قصب السكر، أنوثتها تفتك بالقلوب حتى وهي منقبة، عيناها واسعتان، وحدقتاها سوداوان تشعان رقة وعذوبة، ورموشها كثيفة طويلة لها تأثير أشبه بالسحر، إذا رمت بطرفها إلى واحد من الرجال أصابه سقم لا براء منه، وسوف يجري عشقها في عروقه مختلطاً بدمه إلى يوم القيامة، فإما يحظى منها بالقرب والوصال، وإما يتردى في مهاوي الجنون والموت.

أقسم بالله أن عينيّ لم تريا بنتاً في مثل جمالها منذ أتيت إلى هذه الكلية قبل عشرين عاماً. ولن تظهر بنت تضاهيها في الجمال ولا حتى بعد عشرين عاماً أخرى.

أظن أن الله يجود علينا ببلقيس واحدة كل ألف عام. يرسل إلينا مع بداية كل ألفية جديدة هدية فاخرة: ملكة سبئية ذات جمال خرافي لا نظير لمثيله على وجه الأرض.. هدية ثمينة لا تتكرر إلا مرة واحدة كل ألف عام.. هكذا هي عطايا ملك الملوك! يُحلق بوم فوق هامات كل الذين يروحون ويجيئون إلى الكلية متخذاً صيغة هذا السؤال: هل تستسلم سماء وتمنح عذريتها للدكتور عقلان أم تقاوم؟

لا حديث للطلبة والطالبات والموظفين إلا عن هذا الموضوع.

الغالبية ترجح سقوطها، زميلاتها المقربات اللائي يعرفنها معرفة وثيقة، يؤكدن أنها لن تساوم في شرفها، وإذا اقتضى الأمر، فإنها ستتخلى عن الدراسة الجامعية، وتمكث في البيت.

أنا أيضاً أرجح رأي زميلات سماء، فمن خلال تأملي لقسمات وجهها، استشففت أنها بنت قوية الشخصية، إرادتها صلبة، تحمل في داخلها روحاً متحدية، شامخة، تفيض كبرياءً واعتداداً بالنفس. ولذلك أرى أن الدكتور عقلان قد ارتكب خطأ جسيماً، لأنه مهما أوتي من السلطان والسلطة، لن يتمكن أبداً من إخضاعها، لأن سماء لن تسلمه جسدها، ولو أدى ذلك إلى مصرعها.

طار خبر مشئوم في سماء الكلية، إشاعة قذرة أن سماء التي يبحث أهلها عنها، تقيم منذ أسبوع في شقة الدكتور عقلان. لعنهم الله، يتهمونها بالفجور، بينما المظلومة لا يعلم أحد أهي حية أم ميتة. الشرطة تحوم حول الدكتور عقلان وشقته، إنهم يشكون فيه.. هناك مبررات قوية تدعم شكوكهم. يظنون أن سماء قد ذهبت إليه في شقته، لتعالج مشكلتها معه، وأنها صدت محاولاته في التودد إليها، فلجأ إلى اغتصابها بالقوة، ولتخوفه من ثأر رجال قبيلتها، أقدم على قتلها، وإخفاء جثتها.

زارني أمس ضابط شرطة لا أتذكر اسمه، أسمر طويل القامة، حليق الذقن وله شارب، شعره جعد كشعر الزنوج، أنفه حاد كخنجر، وأسنانه صفراء من التدخين.

حضر إلى هنا قبيل الغروب بنصف ساعة، وكنت قد أنهيت أعمال التنظيف والترتيب، وعلى وشك المغادرة.

قال لي: نحن نبحث عن طالبة اسمها سماء، مختفية منذ أسبوع، هل تعرفها؟

جازفت وصدرت مني همهمة موافقة. نقر أسفل علبة السجائر بسبابته، فقفزت سيجارة إلى الأعلى كأنها سمكة، فالتقطها وأشعلها بقداحة حمراء رخيصة.

استغربت من مهارته ودقته في انتزاع سيجارة واحدة فقط وبنقرة خفيفة!

قال نافثاً الدخان إلى السقف: متى رأيتها آخر مرة؟

قلت له: يوم عيد الحب.. في ذلك اليوم دخلت إلى جناح البنات، ونادت عليّ، وأهدت لي غصن ريحان، فشكرتها وعلقت الغصن بأذني، مبادرتها جعلتني أحمرّ خجلاً وأرتبك، رغم أني صراحة لا أستحي من النساء البتة، ولكن سماء حالة خاصة، تحرك مشاعر الحجر.. طلبت سندوتش كبد ساخن، وعصير رمان مثلج.. جلست في تلك الزاوية المواجهة لأشعة الشمس، وتحلقت حولها صديقاتها، ورحن يسألنها ما إذا كانت قد حصلت على هدية من حبيب أو حتى معجب، فأخبرتهن أنها لم تلتق بعد بحبيب العمر، وفتحت شنطتها السوداء وأرتهن محتوياتها.. ربما أرادت أن تخرس ألسنة السوء، وتؤكد أمام أكبر عدد من الشهود، أنها لم تقبل هدية عيد الحب من الدكتور عقلان. سمعتُ الطلاب يثرثرون أن الدكتور عقلان بعد انتهاء محاضرته، طلب من سماء البقاء في الفصل.. لا أحد يعرف ما هو الحوار الذي دار بينهما.. لقد مكثا وحدهما مدة ربع ساعة.. الطلاب يعتقدون أنه قد قدم لها هدية غالية الثمن بمناسبة عيد الحب.. الخبثاء منهم كانوا يضحكون بسخرية، ويقولون أن الدكتور عقلان قد هداه الله، وأقلع عن الشذوذ، وأصبح يبحث عن الجنس الطبيعي. في ذلك اليوم لم تكمل سماء سندوتش الكبد، قضمت منه شيئاً يسيراً، وتجرعت شراب الرمان ببطء وكأنه دواء مر. ذهبت صديقاتها إلى المحاضرة التالية، وأما هي فقد تخلفت، بقيت وحدها تدير الكأس بين كفيها، وترشف منه جرعات صغيرة، تمجها في فمها زمناً قبل أن تبلعها، كانت غارقة في تفكير عميق، وحزن لا يوصف يظلل وجهها. كان قلبي يتقطع من الألم عليها، ولكن ماذا يمكن لواحد مثلي أن يفعل؟ كنت أشرد في أحلام يقظة، وأتخيل نفسي أحمل بندقية آلية، أهدد بها الدكتور عقلان، وأجبره على منح سماء الدرجات التي تستحقها، ولكنها بطولة جوفاء، تنتهي بتنهيدة طويلة. قرابة الساعة الحادية عشرة، نهضت سماء بتثاقل ودفعت حسابها، ثم رأيتها تتجه ناحية الحديقة، واختارت الجلوس على ذلك المقعد المجاور لشجرة الرمان. لا أدري لماذا انتابني في تلك اللحظة، شعور قوي بأنها كانت تبكي. هبت عاصفة رملية، أعمت عيوننا بغبارها، وبعض المظلات سقطت على الأرض، فخرجت من مطبخي لأعيد نصبها. استغرقت خمس دقائق في هذا العمل، وحين رجعت، ورنوت ببصري إلى سماء، فوجئت بوجود رجل يجلس أمامها، وظهره إلى جهتي. كنت أختلس النظر إليها قدر استطاعتي، رغم مشاغلي الكثيرة جداً، وأصارحك بأن قلبي لم يرتح لذلك الرجل، وشعرت بغم وضيق في صدري، وكنت أخطئ في طلبات الزبائن، بسبب توتري وتشتت ذهني، ووقعت مشادة مع طالب بذئ، كادت تؤدي إلى عراك بالأيدي، لولا تدخل أهل الخير، وفي هذه الدقيقة التي غفلت فيها عن المراقبة، رحلت سماء، ومن ساعتها لم أرها بعد ذلك أبدا.. وأما الرجل الذي كان معها، فقد أشرت له بيدي بما معناه "أين ذهبت؟". ففتح كتاباً أبيض وأشار إلى صفحاته.. أهملته، ولم أعره اهتماماً، وانشغلت بتلبية الطلبات، فلم أدر متى غادر الحديقة.

قام الضابط بتدوين خربشات سريعة في مفكرته.

سألني مجدداً: اعطني أوصاف ذلك الرجل.

هرشت رأسي وقلت له: لم أتمكن من رؤية وجهه.. رأيت قفاه.. إنه كهل، قوي البنية، عريض المنكبين، شعره أبيض ناعم، يتلألأ تحت أشعة الشمس كالألماس.. الآن حين أستحضر هذه الذكرى، أنتبه إلى فرادة لون شعره ، لقد كان لونه الأبيض يلمع بقوة تبهر الأبصار!

قال لي وهو ينظر إليّ متشككاً في سلامة أوصافي: ماذا كان يلبس؟

قلت : لا أتذكر.

قطب حاجبيه وقال: حاول أن تتذكر.

أطرقت برهة محاولاً التذكر، شيء غريب أنني لم ألاحظ ملابسه، لا شكلها ولا لونها.. الذي ثبت في عقلي هو لون شعره وبريقه كحجر كريم.

باضت الشمس بعد غروبها ظلاماً موحشاً، أشعلتُ قنديلاً أصفر، وتشاغلتُ بإعداد الشاي.

سألني وهو يحسب عليّ أنفاسي: هل تعتقد أن هناك علاقة تربط ذلك الرجل باختفاء سماء؟

قلت: لا أعرف.

قال: هل تعرف من هو؟

قلت: لا.

قال: هل يشبه س أو ص من الناس؟

استدرت إليه وناولته كوب شاي يتصاعد منه البخار: إنه لا يشبه أحداً ممن أعرف.. قلت لك يا فندم هناك علامة مميزة تستطيعون الاستدلال بها على شخصيته.. شعره الأبيض.

امتعض فمه، وبدا كأن حموضة تصعد من معدته إلى حلقه.

سألني بجفاف: هل أنت متزوج؟

رددت عليه: نعم وعندي عشرة أولاد.

قال : أين تسكنون؟

تأتأت في جوابي: أس.. أسكن قريباً من هنا في غرفة بلا حمام.. وأما عائلتي فتعيش في القرية.. في بيت مِلك.

قرّب وجهه من وجهي: لماذا لا يعيشون معك؟

قلت وأنا أرفع كتفي: إمكانياتي المادية لا تسمح لي باستئجار شقة لعائلتي في المدينة.

نظر في عيني مطولاً حتى أن رعدة هلع ضربت معدتي.

استدار وخرج دون أن يودعني بكلمة.

شعرت بالخوف من نظرته الحادة، الاتهامية.

أغلقت البوفية وأنا أرتجف، رحت أتخيل نفسي في قبو تحت الأرض، والجلادين يتناوشونني بالصفع والركل واللكمات، وأنني تحت ضغط التعذيب أعترف بأن دم سماء في رقبتي. لم أذهب إلى أي مكان، توجهت مباشرة إلى حجرتي، وحين مددت يدي في الظلام، لاحظت أن مكان مفصلة القفل قد تغير.. هناك من نزعها مع القفل، وأعاد تثبيتها في مكان أخفض قليلاً.. فتحت القفل، وأشعلت القنديل، وعلى الفور استنتجت أن الشرطة قد قامت بالتفتيش في غيابي. سارعت باستخراج علبة الحليب المجفف من تحت السرير وفتحها، كان مالي على حاله لم يمس، فبرد فؤادي. إنها غلطتي، لقد تكلمت مع كثيرين عن الرجل المجهول الذي صحب سماء في الساعة الأخيرة قبيل غيابها النهائي.. والظاهر أن من بينهم مخبرين، هم الذين وشوا بي للشرطة، ونقلوا إليها أقوالي، ما أدى إلى أن يركزوا أنظارهم عليّ.. لا أعرف ماذا يظنون بي؟ أعتقد أنه من المستحيل أن يتسرب الشك إلى نفوسهم بشأني.. آه ليتني قطعت لساني قبل أن أتفوه بأية كلمة.. سيجرجرونني غصبا، في متاهة هذه القضية، ومتى عنّ لهم سينقضون عليّ ويستجوبونني، وهات يا سين وجيم حتى تنتهي القضية، هذا إذا كانت ستنتهي أصلاً.. كم أكره هذه الجامعة الموبوءة التي تعج بالمخبرين المتخفين كالسحالي في الشقوق والحفر.. عشرون عاماً وأنا حذر في تعاملي معهم، وهاأنذا أقع كصبي غر في بالوعة تقاريرهم.. إذا نجوت من هذه القضية، وخرجت سالماً من الضرب والحبس والإهانة، فإنني أنذر لله أن أذبح كبشاً، أوزع لحمه صدقة على الفقراء والمساكين.

***

(4)

القربان

اسمي (علي نشوان) وعمري عشرون عاماً إلا أربع سنوات ونصف.

انتقلنا إلى البناية التي تسكن فيها سماء منذ أربع سنوات، وكان من حسن طالعي أن الباب في الباب. في السنة الأولى كان مسموحاً لها أن تلعب معي. لعبنا لعبة المدرسة، هي المعلمة وأنا التلميذ، وعلمتني أشياء مدهشة عن الحضارات اليمنية القديمة (معين وسبأ وحمير) وما زال أحد دروسها عالقاً في ذهني بحذافيره، وهو عن الهندسة الإنشائية في بناء سد مأرب أيام السبئيين.. كلما تذكرت هذا الدرس، أستغرب كيف تمكنت من استيعاب أمور صعبة كهذه.. كيف توصلت إلى فهم مسائل معقدة، وهي في تلك السن - ستة عشر عاماً- لقد هالني اطلاعها الغزير، ومعرفتها الموسوعية، فصارت في عقلي توازي المخترعين والعباقرة أمثال جراهام بل وماركوني.

لعبنا لعبة العيادة، هي الطبيبة وأنا المريض، وأتذكر أنها زرعت في بطني أربعين كلية وسبعة قلوب! لعبنا لعبة القصر، هي الأميرة وأنا الجني، وتقاتلنا بسيوف خشبية، ودروع كرتونية، وكان الانتصار يُكتب لها دائما، وحين كنت أحتج على هذه النتيجة التي لا تتغير، كانت تشرح لي فلسفتها في الحياة: "لابد للخير أن ينتصر على الشر".

كنت أعود من مدرستي وعقلي عندها. أتغدى وأذاكر دروسي طيلة فترة القيلولة، وعندما يخرج والدها لصلاة العصر، أحمل كتاب الرياضيات وأطرق بابها، وغالباً كانت هي التي تفتح لي الباب، وعلى ثغرها ابتسامة أحلى من طعم القشدة.

وقبل أن أدخل كنت أسألها ما إذا كانت تريد شيئاً من البقالة، كانت تغمز لي بعينها مداعبة، وتخرج من صدرها العملات المعدنية المخبأة في حمالة نهديها، وترسلني إلى البقالة لشراء بسكويتها المفضل. كنت أقبض على القطع المعدنية في كفي مستشعراً دفئها، ومتمنياً لو أنني كنت إحدى تلك القطع المحظوظة! كنت أنزل الدرج بينما تغلق هي الباب، وفي بسطة السلم، أفتح قبضتي، وأستمتع بتقبيل القطع المعدنية، وشم الأريج الذي التصق بها من ملامسة جسدها النبيل. أصِلُ لاهثاً إلى دكان الحاج سلطان، وأشير إلى بسكويت مثلث الشكل، منقوع في الكاكاو، فيأخذ مني النقود، ويناولني طلبي وهو يفتلُ شاربه. على فكرة، سماء ذواقة من الدرجة الأولى، وعندما ينزل إلى السوق نوع جديد من البسكويت، فإنها من أوائل من يشتريه، وهي تحكم على جودته من قضمة واحدة، فإن أطلقت صيحة فرح وتلذذ، فهذا يعني أن البسكويت قد نال استحسانها، وسوف تخبر كل من تلقاه عن هذا البسكويت الجديد، وتنصحه بشرائه، وأما إن زوت حاجبيها وزمت شفتيها، فهذا يعني أنه لم يرق لها، وسترمي بقيته في الزبالة.

أعود وأنا أقفز ثلاث درجات في كل خطوة، وقبل أن أضغط الجرس، أجد سماء قد فتحت لي الباب، وهي مختفية خلفه، أتظاهر بأنني لا أراها، ولا أعرف ما تنتوي القيام به.. تمد ساقها أمامي، فأهوي على الأرض المفروشة بموكيت أزرق، وأبعثر قطع البسكويت في كل اتجاه، فنتسابق على التقاطها، وبهذه الطريقة العابثة نتقاسم البسكويت، وكل واحد يحصل بشطارته وسرعته على حصة منه. نجلس في الصالة، وتراجع معي دروس الرياضيات الصعبة. تبذل معي مجهوداً خارقاً لأفهم، ولكنني ذاهل لا أعقل شيئا. طيلة انشغالها بالشرح وتبسيط المعادلات، أهتم أنا بالتحديق النهم في وجهها، ألتهم ملامحها ولا أشبع.. كلما أطلت النظر إليها، ازددت جوعاً ولهفة. أي سر محير في وجهها، يجعلني مسحوراً لا أقدر أن أحول بصري عنها، ولا حتى ثانية واحدة. الغريب في أمري أنني لا أنجح البتة في الاحتفاظ بصورتها في ذهني، أعجز تماماً عن رسم ملامحها في خيالي. أتأملها في اليوم الواحد ساعات وساعات، وحين أخلو إلى نفسي، أفشل في تذكر وجهها، وكأنها كائن مستحيل الوجود. حين أجبر خيالي على استحضار صورتها، أرى انبعاثات لا أدري من أين تظهر، تلطخ صورتها، وتمسخ رأسها. الشكل الأليف المحبوب يتحول إلى مخلوق مرعب، وحش تخرج منه الديدان والحشرات السامة.

كلما حاولت التركيز لأبني هيكلها المعشوق في عقلي، أحس بألوان مزعجة تسيح على عينيها وفمها. كل جهد إرادي أبذله ينتهي بخيبة أمل مريرة. الأشد غرابة أنني عندما أغلق عيني، وأطلب استحضار صورة أي مخلوق آخر غيرها، فإنني أتذكره دون صعوبة تذكر.. فعندما أفكر مثلاً في الحاج سلطان صاحب البقالة، فإن صورته تتشكل في ذهني بسهولة، ولا أعاني مطلقاً في الاحتفاظ بصورته كثيراً أو قليلاً من الوقت. هناك في داخلي إرادة أخرى لا أسيطر عليها، تحاول طرد سماء من مخيلتي. يعذبني هذا الظل الذي يكره سماء ويشوهها.. أنا أتصارع مع قوة مجهولة في داخلي، أنا أبني محبة سماء حجراً حجراً، وهي تهدم وتقلع الأساسات.. أنا أرتفع بالحبيبة إلى مصاف الملائكة، والإرادة الأخرى التي تحتلني تهبط بها إلى تشبيهات وضيعة: مرة فأرة، ومرة عنكبوت! بعد انتهاء الدرس، كنت أستبقيها معي أطول فترة ممكنة بسؤالها عن موضوعات أكبر من سني. كنت أرغب بشدة في الاستحواذ على اهتمامها، وأيضاً الظهور أمامها بمظهر الصبي الألمعي. كنت أوجه لها الأسئلة حول أي شيء يخطر ببالي. أسئلتي تنوعت ما بين السياسة والاقتصاد ومنجزات العلم، وعن الله والخوارق والجن وجواز الغش في الامتحانات.

لقد كانت سماء بمثابة معلم حكيم بالنسبة لي. بسببها، أقلعت عن الغش وكتابة البراشيم، وصرت أتعامل مع الناس بروح أخلاقية عالية، كما توسعت اهتماماتي على نحو غير مسبوق، فأصبحت شغوفاً بقراءة مجلات الأطفال والقصص العالمية، وأهوى جمع الطوابع والعملات، وأهتم بتغذيتي وتنظيف أسناني، وممارسة التمارين الرياضية، وفوق هذا كله تجرأت واشتريت دفاً بصنوج نحاسية، كنت أضرب عليه في غياب والدي. كان يوجد في بيتها ألعاب إليكترونية، لكنها لم تكن تحب اللعب بها، تقول أنها تضر العيون، وأن مدمنيها حملوا النظارات مبكرا. علمتني سماء لعبة الشطرنج، ولكنني لم أحب هذه اللعبة المعقدة التي تفضح غبائي المريع، فكنت أتحاشى المكوث عندها، حينما تخرج من دولابها الصندوق الخشبي الثقيل الوزن، وأدّعي أن بطني بها مغص، فأغادر ضاغطاً على أمعائي، وهي تنظر إليّ نظرات مستريبة. وقد لاحظت سموها أنني أصاب بالإسهال حين تبرز لي ذلك الصندوق الكريه، فكفت عن إخراجه رحمة بي وبأمعائي! سألتني مرة عن طموحي في المستقبل، فقلت لها إنني أطمح أن أكون وزيراً، فضحكت وقالت لي: "هل تريد أن تكون وزيراً لأجل أن تمشي في الشارع وأمامك حراس وخلفك حراس؟". أجبتها وقد جرحتني ضحكتها: "لا.. أنا لا أخاف، سأمشي وفي حزامي مسدس، إنما أريد أن أصير وزيراً لكي أمتلك قصراً بحديقة وسيارة صالون أبو دبة و.." وقفت الكلمة في طرف لساني ولم أكمل.

قالت لي: "وماذا؟". تلعثمت واحمرّ وجهي خجلاً وقلت بصوت خافت: "وأتزوجك!". اتسعت عيناها وقهقهت حتى أوجعها قلبها، ثم سحبتني من يدي وذهبت بي إلى أمها، وأخبرتها أنني أنوي الزواج بها! في تلك اللحظة شعرت بدوار رهيب، وزغللة في بصري، وجفاف فمي، وارتعاش ركبتي، وتمنيت لو أن الأرض تنشق وتبلعني.

ولدهشتي، فإن أم سماء لم تغضب، ولم تفكر في ضربي، بل انفجرت تضحك ضحكاً مجلجلاً، وأخذت أصابعها تخرب تسريحة شعري.

في مناسبة أخرى سألتها عن طموحها في المستقبل، فردت بأنها تسعى إلى أن تكون عالمة آثار، وأن التنقيب عن آثار الحضارات اليمنية ودراستها هو حلم حياتها.

حدثتني عن اليمنيين القدماء الذين اتخذوا القمر (إلمقه) إلهاً، وشيدوا المعابد الضخمة لعبادته، وقدموا القرابين لإرضائه، وخاضوا الحروب باسمه، وكانوا يعتقدون أن سر ثرائهم العظيم مرتبط بطاعة كلمته. لقد كانت معجبة بالقمر إعجاباً شديداً، وتترقب بزوغه كل ليلة، ما جعلني أشك في أنها تعبده سرا! طبعاً هذا خاطر سخيف، فديانة إلمقه الوثنية انقرضت منذ أقدم الدهور، ولم يعد أحد على وجه الأرض يعتنقها. فيما بعد، عندما وثِقت في نفسها أكثر، كانت تزور باستمرار المتحف الوطني، حيث ترقد الآثار اليمنية القديمة. أنا كنت أجاريها في الاهتمام بالآثار، هياماً بها لا بالحضارات القديمة، وأما الحقيقة، فأنا لا أرى فائدة تذكر منها، وأستغرب لماذا ينفقون الأموال الطائلة للمحافظة عليها. كانت لديها موسوعات علمية في مجلدات ملونة، وكتب كثيرة عن الآثار، تطالعها وتعيد وتزيد، ولا تمل منها.

أحياناً كانت تغير عاداتها في القراءة، وتمسك رواية بوليسية لأجاثا كريستي، أو ديواناً لنزار قباني. كنت أتأخر في بيتهم حتى يحين موعد العشاء، فيلح عليّ الجميع أن أبقى وآكل معهم، فأفعل وأنا أشعر بشيء من الحرج. ولكن دفء نظراتهم، وطيبة قلوبهم، كانت تزيل ذلك الحاجز النفسي، فأشعر بأني فرد من العائلة. الطعام الذي تعده أم سماء لا يبارى في جودته، وطيب نكهته، ومن يتذوقه مرة لن ينساه مدى الحياة. هكذا وجدت نفسي أسير تلك الأطباق التي تعدها أم سماء، وطعمها المدوخ، فصرت أختلق الأعذار للبقاء عندهم، حتى يأزف موعد العشاء. ودام هذا الحال عاماً بطوله. لكن وشاية سافلة من الحاج سلطان صاحب البقالة، قلبت الدنيا على رأس سماء، وأنهت أجمل فصل من حياتي. ترقب الحاج سلطان عودة والد سماء ليلاً، وأخبره أن ابنته لعبت كرة القدم في الشارع، مع بنات أخريات، وانكشفت ساقاها، وأن شبان الحارة "السراسرة" قد تحلقوا حولهن، وأمطروهن بكلمات غزل فاحشة. وحين دخل والد سماء إلى بيته، قامت الأم بوضع أطباق العشاء كالعادة، وجلست سماء وأمها على جانب، وأنا على جانب تاركين الصدر لرب العائلة الذي كنا بانتظاره "أشقاء سماء الثلاثة الكبار جميعهم يخدمون في القوات المسلحة". وخرج (ناشر النعم) من الحمام صافقاً الباب بكل قوته، فانقبض قلبي، وشعرت أن مصيبة قادمة لا محالة. جلس في مكانه الشاغر، ووجهه يمور بالغضب.. بهر عينيه وسأل سماء: "صحيح أنكِ لعبتِ الكرة في الشارع؟". تهربت سماء من النظر في عينيه وردت بصوت واهن: "نعم". صرخ فيها: "ألم أمنعك من اللعب في الشارع؟؟". امتقع لون سماء، وطافت دمعة بعينيها. تابع هجومه وصوته يهدر كالجمل الهائج: "لماذا خالفت أمري يا طرطورة؟". وأخذ الأطباق من السفرة، وراح يدلقها على رأس سماء التي أجهشت بالبكاء، ولم تتزحزح من مكانها. نهض (ناشر النعم) وقد أعماه الغضب، وانقض عليها ركلاً وصفعاً كوحش كاسر. كانت سماء تتأوه وتبكي، ولكنها لا تقاومه. وأمها تولول وتصرخ، وقد شلها الخوف عن التدخل. وأما أنا فقد ارتعبت من هول الموقف، وكدت أتبول في ثيابي، فانسللت دون أن يشعر بي أحد، وفررت إلى بيتي. كلما تذكرت موقفي المتخاذل الجبان ذاك، أشعر بالخزي والعار، وألوم نفسي لأنني لم أحاول الدفاع عن سماء وحمايتها من بطش والدها، أو على الأقل أبعده عنها، وأحول بينه وبينها بجسدي ولو تعرضت للضرب. لقد واتتني فرصة العمر لأظهر شهامتي معها، ولكنني تصرفت بصورة سلبية، أفقدتني الاحترام عندها، لقد سقطت من عينها!

في اللحظة الحرجة تخليت عنها، نجوت بجلدي وتركتها، وكأنني لا أعرفها.. أعترف بأن هذا الموقف الشنيع هو أحد أسوأ ذكرياتي، هو النقطة السوداء في تاريخي، هو اللعنة التي حلت عليّ. إني على استعداد لدفع نصف عمري في مقابل محو هذه الحادثة المشئومة من قدري. ألا ليتها لم تقع، ألا ليتها وقعت على غيري.

كانت هذه الحادثة فارقة في حياة سماء، لأنها انتقلت بين ليلة وضحاها من عالم الطفولة إلى عالم الحريم، فأصبحت تضع النقاب على وجهها عندما تخرج من البيت، وحجبوها عن الاختلاط بالذكور، وحتى أنا منعوني من زيارتها. فجأة أصبحت سماء بعيدة المنال، والقرب منها مستحيل. لقد سبب لي هذا التفريق بيني وبينها ضربة ماحقة، وكأنني فقدت أبوي دفعة واحدة، وكأن العالم الجميل قد لفظني.

ناصبت الحاج سلطان العداء لفترة، لأنه بدا لي بمنزلة إبليس ماكر، تآمر عليّ وأخرجني من جنتي.

أصابني اكتئاب لفرط حزني، فصرت قليل الكلام، قليل الحركة، ولا أميل إلى اللعب، وأظل بالساعات أحدق في الفراغ. وأخذ صدري ينفث تنهدات حارة متقطعة، فارتاعت أمي من هذه التنهدات، وقالت لي إن هذه الزفرات لا تخرج إلا من صدر امرئ أثقلته الديون، أو من مذنب يخشى زجه إلى ظلمات السجون.

كنت أرد عليها بأنني مهموم بدراستي، وأنني أخشى الرسوب في هذا العام. كانت حدقتاها تدوران في مقلتيها من شدة قلقها عليّ، ومن حبها لي راكمت في داخلها حزناً يساوي ما عندي، وعايشت الحالة التي أنا فيها - رغم انشغالها بهموم إخوتي الأصغر مني- وتعذبت معي وكأنها جزء من جسدي. حتى الأكل عافته نفسي، ففقدت نصنف وزني، وبرزت عظامي، وأصبحت ملابسي واسعة عليّ. نحولي على هذا النحو المفاجئ، جعل والدي يشك في أني أصبت بداء خطير، فطاف بي على المستشفيات، وأجريت لي فحوصات كثيرة، وبصعوبة اقتنع والدي أنني سليم من الأمراض، ولا أشكو من شيء، وإن ظل يردد أحياناً بأن أطباء هذا الزمان لا يفقهون في الطب شيئا.

بعد ستة أشهر هبطت عليّ فكرة بدت لي معقولة، وهي أن تناولي للطعام بكثرة، سيجعلني أنمو بسرعة، وبالتالي أتمكن من التقدم لعائلة سماء طالباً الارتباط بها في أقرب فرصة. وهذه الآمال التي أورقت في نفسي، فتحت شهيتي لازدراد كميات وفيرة من الطعام، فزاد وزني، وطالت قامتي. لقد بذلت جهداً إرادياً جباراً لإخضاع جسدي للفكرة التي تسيطر عليّ، وكان أن نلت مرادي، فهاأنذا اليوم أمتلك جسداً قوياً، ولي مظهر الرجل الطويل العريض.

انقطعت الصلات بيننا تماماً، لا سلام ولا كلام، وكأن ذكرياتنا الماضية جريمة بغيضة، جرى التكفير عنها بالتوبة. بدا وكأن ارتداء سماء للنقاب، وتغطية وجهها بقطعة قماش سوداء، هو إشارة حازمة لي بالابتعاد عنها، وأن أنسى ذكراها.

النقاب راية سوداء ترفعها الفتاة في الحارة لإعلان مقاطعة أترابها من الذكور. إعلان أنها إذا كانت قد عرفتهم في الماضي، فإنها الآن لا تعرفهم. لقد أعلنت الحرب على الألفة السابقة. سماء الصاحبة والصديقة التي لا أكاد أفترق عنها يوماً واحداً، صارت بسبب النقاب امرأة أجنبية، مخلوقاً ينتمي إلى عالم آخر. في مناماتي في تلك الفترة، كنت أرى نفسي أرتطم بأسلاك شائكة، تكاثرت ونمت كأشجار الغابات، وأرى أني أحاول عبور أسوار سوداء لا نهائية. رغم تنكر سماء للماضي وإنكارها معرفتي، فإنني على النقيض منها، ازددت تعلقاً وهياماً بها. صارت حضورها يحتويني وكأنني جنين في رحمها، وكل نفس يخرج من رئتي يهسهس باسمها، وكل تحركاتي محسوبة وكأنني أعيش تحت أنظارها. أرتب دولابي وأقتسم سريري، وكأنها تشاركني العيش في الغرفة نفسها. أكلم نفسي بأن هذا يناسب ذوقها، وذاك الغرض قد لا ترتاح له، وأضيع وقتاً طويلاً في حوارات مع نفسي، حول ما يرضيها وما لا يرضيها.

لقد عقدت النية على تزوجها ، والإتيان بها إلى ملعبي المتواضع هذا، ولذا كنت أبذل جهداً يومياً فائقاً في النظافة والترتيب، وتجميل الغرفة وتزيينها. كنت أتخيلها تمشط شعرها أمام مرآتي، تفتح درجاً لتخرج أحمر الشفاه، تغفو على سريري وتسحب غطاءنا المشترك ناحيتها أكثر، وهي تحلم أحلاماً سعيدة. أدى انفصالي القسري المفاجئ عن سماء إلى استعار براكيني الجنسية الخامدة. أمست الخيالات الشهوانية تسيطر عليّ تماما، وعضوي الطفولي الخامل بدأ يؤذيني، ينتصب عندما أمشي في الشارع وأرى بنات في مثل سني، كنت أشعر بحرج شديد معتقداً أن جميع السابلة يلاحظون هذه العضلة المنتفخة، وكان هذا يسبب لي عذاباً نفسياً لا يطاق، فأحاول أن أحث دماغي على إصدار الأوامر الصارمة إلى ذاك العضو المتمرد بالكف عن الاستعراض، ولكنه لم يكن يأبه بأوامر الدماغ، ويصر بعناد على التمدد والاستطالة! في حصة الفقه، كان المدرس يشرح دروساً عن الجنابة والحيض، والفرق بين المني والمذي، وأيهما يُوجب الاغتسال أو الوضوء، وغير ذلك من الموضوعات المنصبة على مناطق اللذة في الرجل والمرأة، فكنت أحس أن دمي يغلي بالشهوة، ودماغي يسخن ويلتهب، وصاحبي الصغير يمتد ويشتد. كنت أتعذب وأرغب في الفرار من الحصة، خوفاً من أن أتهيج وأصل إلى البلوغ، فتتدفق تلك المادة البيضاء التي صدّع الأستاذ رؤوسنا بالحديث عنها، فأملأ بلاط الفصل بسائلي ويُفتضح أمري، وأصير هُزأة للطلاب والمدرسين، ولعلهم يفصلونني بسبب فعلتي الشائنة. كنت أتخوف من هذه الانتصابات التي لا أتحكم فيها، وأتوجس شراً من بلاء البلوغ في لحظة غير مناسبة - في الفصل مثلاً - فأتعرض للزجر والضرب على قلة أدبي، وأقول في نفسي هل سأظل طيلة حياتي أعاني من انتصاب صاحبي الصغير؟! أحزن وأقول في نفسي أنني ربما كنت مختلفاً عن الأولاد الآخرين.

أفكر في حلمي وينتابني ندم عظيم، لأنني صحوت قبل إتمام فعل الحب مع سماء، وألقي باللوم على نفسي، وأقرر أنني في الحلم القادم لن أفتح عيني، وسأتابع حلمي بقوة الإرادة حتى النهاية.

عندما ناهزت الثالثة عشرة بلغت، ومن وقتها أدمنت ممارسة العادة السرية، كل يوم مرة واحدة ، وفي بعض المناسبات مرتين أو ثلاث في اليوم الواحد. عاداتي اليومية لم تتغير، فعند عودتي من المدرسة أتغدى، ثم أنكب على دروسي، وعندما أفرغ من المذاكرة، أتخلص من توتري بدلق كمية من مائي، وحينها يكون وقت العصر قد تسلل إلى غرفتي من القمرية، فأنزل إلى الشارع، وأشتري من الحاج سلطان زجاجة كولا، وثلاث قطع من البسكويت المثلث المنقوع في الكاكاو، وأقعد على مصطبة الدكان، آكل وأشرب ببطء حتى تغرب الشمس، وعيناي ترقبان نافذة سماء بحذر ولباقة.

تطل سماء من نافذتها مرات قليلة، وقد تمر أيام عجاف لا تظهر إطلاقا.

كان الحاج سلطان يتبرم من جلوسي بالساعات على مصطبة دكانه، ويُسمعني كلمات نابية لأرحل عنه، ولكنني احتملت رذالته وسلاطة لسانه لأجل خاطر سماء.

في اليوم الذي أكحل عيني بنور وجهها أشعر بالحبور والرضا، فأنصرف شاكراً تفضلها، والغبطة مستقرة في أعماقي. وأما اليوم الذي أحرم فيه من حضورها ورؤيتها، فإن الكدر يلازمني بقية اليوم، ولا تعرف الراحة طريقها إلى نفسي، فتنتابني الهواجس والظنون، وأقول ربما حدث لها شيء ما، أو لعلها مرضت فلم تقو على الوقوف ومنح شارعنا نظرة سلام عابرة، أو أن والدها الجلف، علم أني أمكث كل عصرية لأمتع عيني بلمح جمالها الفتاك فحرّم عليها الاقتراب من النافذة.

إذا لم تطل برأسها الحبيب، فإن الليل يهبط عليّ وأنا مرابط في موضعي، أمني النفس بشروقها الذي سيبدد الظلمة، ولكنها ولا مرة ظهرت من نافذتها في الليل.

أعود في الأيام النحسة إلى منزلي وأنا أكاد أجأر بالبكاء، وعندي من القهر ما لا تسعه المحيطات، ويكون مزاجي عكراً سريع التقلب، وحين أجلس للعشاء مع عائلتي، تخرجني أقل كلمة عن طوري، وأمسي عصبياً نزقاً ميالاً للمشاكسة والتفريج عن غضبي بالزعيق وركل قطع الأثاث.

وحين أهجع للنوم، تراودني رغبة مجنونة في التسلل إلى شقة سماء، وتسلق أنابيب التصريف الصحي، والدخول من نافذة حمام أو مطبخ نسيت مفتوحة، ثم اقتحام غرفة نومها لأركع عند سريرها وهي نائمة، فأرتوي من النظر إلى وجهها الفتان.

وأفكر بأنني سأظل أحدق في وجهها متغلغلاً في مسام بشرتها، لا يقلقني شيء عنها، ولا يشغلني مخلوق غيرها، فأعب ملامحها على مهل ساعة تلو ساعة، حتى يصيح الديك معلناً عن رقصة الفجر في الأفق البعيد.

أفرح عندما تحدث مشكلة في شارعنا: مناقرة بين جارتين، أو مصارعة بين ولدين. فعندما يعلو الصياح، ويتجمهر الناس، فإن الفضول سيدفع حبيبتي إلى إخراج رأسها من النافذة لمتابعة ما يجري.. ولذا أدعو الله في سري أن يُكثر من المشاجرات في شارعنا، ويجعله عامراً بالاضطرابات!

عندما انتقلت سماء إلى الجامعة، وأصبح طريقنا واحداً، فإنني كنت ألبد خلف باب بيتنا أترقب خروجها من العين السحرية، وحين تفتح باب بيتهم، ترنو إلى العدسة الزجاجية، وبسرعة تهبط الدرج. وحين لا أعود أسمع وقع خطواتها، أفتح بابي وألحق بها. عندما أمشي خلفها، أنسى العالم من حولي، ولا أعود أفكر إلا فيها، فأرتشف مفاتنها كما يشرب ذواقة البن كأسه قطرة قطرة. مسافة الأمتار القليلة التي تفصلني عنها، يتكفل عقلي بإلغائها، فاتخيلني ملتصقاً بها، أضغط جسدي على لحمها الشهي الحار. أختزن في ذاكرتي صوراً لانحناءات وتكويرات جسدها المشتهى، لأستعيدها في خلوتي، وأبتكر في خيالي جلسة حب متهتكة، يمنح فيها كل واحد منا جسده للآخر بسخاء وأريحية. كنت أحدق بكل حواسي وروحي في ردفيها المتراقصين ككفي طبال يضربان على طبل الملذات، فأكاد أحترق من شدة الرغبة. ومن كثرة تحديقي في ردفيها، صرت أمشي مثلها بخطوات أنثوية مائعة، وردفي ينزلقان صعوداً وهبوطاً، فسبب لي هذا بعض المتاعب. وأصبح لي في الصباحات متعة ألوهية أبدأ بها يومي، ومطاردة شبقية تمنحني شعوراً بالنشوة والنشاط الجامح.

في يوم 14 فبراير صحوت من نومي متكدراً، نهضت وفي روحي بقايا حلم رديء عجزت عن تذكره. دخلت الحمام وقضيت حاجتي، ثم أخذت موس حلاقة والدي، وأخذت أنظف الجلد الأزغب فوق فمي.. يقولون أن استخدام هذه الطريقة تجعل الشنب ينبت بصورة أسرع، وتكون شعيراته وافرة طويلة، كشوارب الترك. رجفة غبية داهمت يدي فجرحت بشرتي، وسال الدم. غسلت وجهي بالماء والصابون، وخرجت من الحمام وإصبعي على الجرح لتمنع انصباب المزيد. ارتديت الزي المدرسي البشع، لونه صحراوي أغبر، وقلبت ياقة القميص إلى أعلى، وبخخت عطراً على صدري، وسرحت شعري أمام المرآة وأنا أدقق في هندامي. كانت أمي تناديني من المطبخ، حملت كتبي الملفوفة في سجادة ونظرت إلى الساعة، كانت تشير إلى السابعة والنصف إلا خمس دقائق. فكرت بأن سماء ستغادر شقتها بعد قليل، فهرولت إلى المطبخ، وأكلت واقفاً لقيمات كبيرة من الفاصوليا الحمراء الناشفة التي تبرع أمي في طهوها، وشربت كوباً من الحليب الساخن أحرق لساني. تمضمضت في مغسلة المطبخ، رغم احتجاج أمي، ولوحت بذراعي لها ولإخوتي الصغار، وجريت باتجاه باب الشقة. أخذت فردة جزمتي والفرشاة، ورحت ألمعها واقفاً، وعيني تنظر من العين السحرية. خرجت أمي فجأة من المطبخ، قرفصت وتشاغلت بفردة الجزمة، رمقتني بنظرة مهمومة ودخلت إلى الحمام، فردت قامتي مجددا، ورحت أراقب باب شقة سماء من العين السحرية. إخوتي الصغار الملاعين خرجوا هم أيضاً من المطبخ، وراحوا يتقافزون ويتلاكزون من حولي فلم أعرهم انتباهي. سمعت صوت أكرة باب الشقة المقابلة يطق، رغم الضجة التي تحاصرني، ثم سمعت صرير مفصلات الباب، ورأيت سماء تخرج من شقتها، وتمشي مختالة وجبينها مرفوع كأنها ملكة. أتممت بسرعة فائقة تنظيف الفردة الأخرى، ولبست الجزمة دون جوارب، لقد نسيت ارتداءها وما عاد هناك وقت لأخذها من تحت السرير، خرجت أمي من الحمام ونادت عليّ، يبدو أنها كانت تريدني أن أقضي لها حاجة من الدكان،  فصممتُ أذني وخرجت صافقاً الباب خلفي بعنف غصباً عني، لأن أعصابي كانت متوترة جداً في تلك الساعة.

تبعتها وأنا ألهث من الانفعال، وقد غاص رأسي بين كتفي وياقة قميصي المرفوعة، متوقعاً أن تناديني أمي من نافذة الديوان، ولكنها لم تفعل بحمد الله. ركزت أنظاري على سماء، وأخذت أبتكر مجامعة مبهجة في خيالي، حتى أن جبيني تعرّق - رغم برودة الجو- بفعل اشتعال دمي بالشهوة.

ذلك الصباح لم يكن عاديا.. ما كدت أمشي قليلاً خلف سماء حتى لاحقني أولاد مشاغبون وراحوا يرجمونني بالأحجار، وبعد مسافة قصيرة انسكب على رأسي ماء وسخ من ميزاب بناية مهجورة، وفي أحد المنعطفات كادت سيارة مسرعة أن تدهسني، وعندما حاولت عبور أحد الشوارع المزدحمة صدمتني دراجة نارية من الاتجاه المعاكس، وطوحت بي على الأرض وتناثرت كتبي.. أصبت بخدوش بسيطة في الكفين، لأنني سحجتهما على الإسفلت. ورغم نذر السوء هذه، فإنني صممت على ملاحقة سماء حتى وصلنا إلى المفرق.. هي انعطفت يساراً باتجاه كلية العلوم، وأنا انعطفت يميناً باتجاه ثانويتي.

داهمني إحساس غريب بالوحشة، وشعرت للمرة الأولى في حياتي بوخزات مؤلمة في قلبي، فوقفت والتفت إلى الخلف، وتابعتها ببصري حتى عبرت البوابة واختفت.. وكانت تلك آخر مرة يقع بصري عليها.

قضيت يوماً عكراً في الفصل. كنت هدفاً لامتحان المدرسين وتوبيخهم. حتى زملائي كانوا يسخرون مني على غير العادة. كنت وكأنني داخل فقاعة تجذب أذية الآخرين. كان يوم 14 فبراير أطول يوم دراسي في حياتي، كل حصة تساوي عاماً دراسياً وزيادة. بدا وكأنني أحمل ثقلاً غير مرئي، صخور مكعبة تزن الواحدة منها طناً مرصوفة على كتفيّ. حين دق جرس الخروج، تنفست بارتياح، وركضت فرحاً بانقضاء أشق أيامي في المدرسة، ومن رآني كان يُدهش، ويظن أني هارب من غول يريد نهشي. عندما اقتربت من بنايتنا، رنوت ببصري إلى حجرة سماء، فلاحظت أن الستائر الزرقاء مسدلة، والنافذة مغلقة، فعرفت أنها لم ترجع بعد من الجامعة.

أكلت كمية بسيطة من الرز والسمك، لم تكن شهيتي مفتوحة كالعادة، حتى أن أمي لاحظت ذلك، فراحت تتوسل إليّ أن آكل المزيد، صددتها بخشونة ومضيت إلى غرفتي. لم أتمكن من الانكباب على دروسي، كانت السطور تسيح على بعضها، ووحوش بأشكال راعبة تخرج من بطون الكتب، وخلف الصفحات تعربد الجنيات الفاجرات. في مخي ريح تدوّم وتصفر، وفي لساني طعم مر، استلقيت على سريري وتدثرت، فركت صاحبي الصغير فلم يطاوعني، لعنته في سري، وسحبت يدي ووضعتها وسادة تحت رأسي وغفوت. انتبهت على آذان صلاة العصر، ذهبت إلى  الحمام واغتسلت، وتحت الدش تذكرت أنني لست جنباً، فركته مرة أخرى بكل قواي، وأجبرته على الاستجابة لأهوائي. أعرف أنه من المضر بالصحة إخراج الماء وقت الاغتسال، ولكنني كنت أرغب في الانتقام منه، في أن أقوم بفعل عدواني ضد نفسي لكي أرتاح! جففت جسدي دون أن ألمس عضوي - هكذا علمنا مدرس الفقه لنحافظ على وضوئنا- وصليت صلاة العصر باستعجال وعدم تركيز، فلم أعرف كم ركعة قمت بها، حتى أنني لا أتذكر إن كنت سلمت أم لا.. ما أتذكره أنني شردت عدة دقائق، ثم وقفت وطويت السجادة.

أخذت من أمي مائة ريال، ونزلت إلى دكان الحاج سلطان. كان خلقه هذا اللئيم يزداد شراسة يوماً بعد يوم.. رفض في البداية أن يعطيني طلبي، تجاهلني ببرود وكأنني غير موجود، مجرد ذبابة تطن على حافة كأس القشر الذي يُمززه بين أسنانه المسوسة. هددته بأنني سأفضحه في الحارة، وأكشف للرجال الكبار أنه قليل حياء، يلتصق بالبنات والعيال من الخلف، عندما ينحنون على الثلاجة لشراء الآيسكريم. احمرّت عيناه، وزمجر من الغيظ، وربما راودته نفسه أن يلتقط هراوته ويشدخ رأسي، ولكنه كان يعمل ألف حساب لوالدي.. ناولني طلبي صاغراً، وهو يفح كالأفعى. جثمت في مكاني المعتاد على المصطبة، ونظرت إلى أعلى.. صُدمت حين اكتشفت أن نافذتها مغلقة وستائرها مسدلة.. هذا يعني أنها غير موجودة في غرفتها. حين تكون موجودة فإنها تزيح الستائر، وتفتح الشباك المزود بشبك حديدي. وحين ترهق روحها من الجدران، تفتح الشباك الآخر، وتخرج رأسها الجميل وتتلفت يمنة ويسرة. فكرت بأنني قد تأخرت في المجيء، وأنها على الأرجح قد غادرت غرفتها لزيارة عائلية أو حضور عرس. مكثت حتى أذن المغرب. صعدت إلى البيت، تبولت وتوضأت، وصليت صلاة المغرب، وأكلت حبة بطاطس مسلوقة، ثم عدت حيث كنت. رمقت نافذة سماء وشعرت بخيبة الأمل، كانت حجرتها مظلمة. اعتصرني الجوع ولسعني البرد، ورغم ذلك قررت الصمود في مكاني حتى أحصل على علامة تشير إلى عودة سماء بالسلامة إلى عرشها. كنت أحس وجعاً في قلبي، وصدري مكروب.

في الساعة الثامنة ليلا، أرسلت أمي أحد إخوتي الصغار يدعوني لتناول العشاء، فقلت له أن يبلغ أمي أنني قد تعشيت. وظل أخي المغلوب على أمره ينزل ويصعد، وأنا أكرر الإجابة نفسها، حتى يئست أمي من قدومي. بعدها بدقائق، ظهر صالح شقيق سماء الأكبر، مرتدياً بزته العسكرية، وصعد إلى شقته عائلته. سماء هي الشقيقة الصغرى لثلاثة أشقاء ذكور، الأكبر هو صالح الذي سبق ذكره، والأوسط جميل، والثالث اسمه همدان. وكلهم التحقوا بالسلك العسكري، فتخرج صالح من الكلية الحربية، وهو الآن ضابط برتبة ملازم أول، وتخرج جميل من الكلية الجوية، وهو الآن مرابط في مطار عسكري بالربع الخالي. وأما همدان فلا يزال طالباً في الكلية الحربية. وهؤلاء الأشقاء الثلاثة، كان والدهم يُلحقهم بالخدمة العسكرية فور بلوغهم (13 – 14 سنة) ليتعودوا على حياة الخشونة ويألفونها، وفيما بعد تابعوا تعليمهم في المعسكرات التي وزعوا إليها. وربما لو كان باب التجنيد مفتوحاً أمام النساء، لكان الحاج ناشر النعم قد زج بابنته هي الأخرى في السلك العسكري.

تناهى إلى سمعي صوت نحيب آت من درج بنايتنا.. ارتجفت أضلاعي، وأحسست بأعصابي خائرة من الفجيعة. رأيت أم سماء تخرج إلى الشارع مرتدية ستارة صنعانية، وهي تنشج وتعول، ولحق بها زوجها وابنها صالح، أمسكاها بالقوة، ومنعاها من السير. كانت تبكي بحرارة، وتداعت جاثية على الأرض، فشعرت بقلبي يتمزق ويرسل نبضات متحشرجة.

تبادل الأب والابن السباب والشتائم، وفهمت من صياحهما، أن صالحاً يُحمل والده مسئولية تأخر سماء عن العودة إلى البيت، واستهتارها بسمعة العائلة. حملا أم سماء من إبطيها وأرجعاها إلى الشقة. ظلت كلماتها تطن في أذني:" بنتي سماء ضائعة.. بنتي سماء يعلم الله هل هي حية أم ميتة.. بنتي حرام عليكم.. اتركوني أبحث عنها.. اتركوني.. اتركوني".

أطرافي نزت عرقاً بارداً، وتجمدت في مكاني مصعوقاً غير مصدق.

وصل شقيق سماء الطالب في الكلية الحربية (همدان) وصعد الدرج قفزاً إلى الطبقة الثانية. بعدها بوقت قصير جاءت سيارتان، الأولى تحمل لوحة جيش، والثانية تحمل لوحة مدنية، ومكث السائقان في مكانيهما. وما هي إلا برهة حتى هبط الثلاثة، وتركوا أم سماء في الشقة وحدها. انطلق صالح في سيارة الجيش واتجه شرقا، وصعد همدان وأبوه السيارة الأخرى وانطلقا جهة الغرب. فكرت أن أصعد إلى الطبقة الثانية، لأستفسر مباشرة من الأم عن خبر سماء، ولكنني جبنت عن القيام بهذه الخطوة. أخذت أروح وأجيء أمام باب البناية لا أدري ماذا أفعل.

قرابة الساعة التاسعة عاد والدي من عمله المسائي، واستهجن بقائي في الشارع حتى هذا الوقت المتأخر، وجرني من كُم معطفي إلى فوق. سايرته على مضض، ودلفنا إلى بيتنا وأحشائي تأكلها النار من شدة القلق، وراح يُحاضرني مدة عشر دقائق ـ مرت عليّ كأنها عشر سنوات، ولحسن الحظ رن هاتفه السيار فتركني، وانزوى في الديوان يثرثر ويكركر، استغللت الفرصة، وكتبت قصاصة ورق، قلت فيها لوالديّ أنني سأذهب للبحث عن بنت الجيران الضائعة، وأنني لن أعود إلا بها، ورجوتهما ألا يشغلا بالهما عليّ. انسللت كالقط، فلم يشعر بخروجي أحد، وفي الدرج اتخذت قراراً بأن أبدأ البحث من آخر مكان رأيت سماء تذهب إليه.. كلية العلوم.

هبطت إلى الشارع، وأرسل نحوي الحاج سلطان نظراته الشزراء في أعقابي، فوددت في تلك اللحظة أن أرميه بحجر أفقأ به عينه. سرت بخطوات عجلى، وكان بصري يفتش كل امرأة أمر بها، وأقول في نفسي لعل هذه سماء، لعلها تلك.

وصلت إلى كلية العلوم وكانت البوابة مواربة، دفعتها قليلاً ودخلت. كشك الحراسة ليس فيه أحد، إنهم في الحجرة يشاهدون التلفزيون. فتشت كل شبر في الكلية، حتى الحمامات، ونظرت إلى داخل السيارات المتوقفة في المرآب، وتسلقت أنابيب التصريف الصحي لأنظر من نوافذ الطبقة الثانية إلى الفصول والمكاتب الإدارية والمكتبة. طفت بالمباني، ودرت حول السور عشر مرات، ولكنني لم أصل إلى نتيجة. لم ينتبه أحد لوجودي، باستثناء طائر فضولي  -أشك أنه هدهد- ظل يتتبعني من مكان لآخر. اتجهت إلى الحديقة، وجلست على مقعد في موقع متوسط، يسمح لي بالنظر إلى كافة الاتجاهات. لم أكن أشعر بالتعب، قدماي فقط كانتا تتألمان من السير عليهما ست ساعات متصلة دون راحة. خلعت فردتي الجزمة والجوربين، وتمددت على المقعد. رنوت إلى القبة السماوية، كانت النجوم تومض أكثر من المعتاد.. تتخذ أشكالاً هندسية ذات مغزى.. أتراني كنت أتوهم؟؟ استقر الهدهد على العشب الأصفر ونشر عرفه الملكي، وراح يلتهم طعامه من الدود واليرقات، متجاهلاً وجودي الدخيل على مملكته.

حفيف الأشجار اللطيف في هدأة الليل وسكونه جذب انتباهي إليه.. كم هو حلو ورقيق هذا الصوت، فيه موسيقى تريح الأعصاب. كانت الحديقة عامرة بالحياة الصاخبة، فالحشرات والزواحف تخرج في الليل – عندما يغيب الإنسان- لتبحث عن رزقها، وتمارس حياتها الطبيعية. جيش من النمل والصراصير والخنافس والجنادب والسحالي والجرذان والفراشات والبعوض وحشرات أخرى طائرة لا أعرف لها اسماً كانت تسكن الحديقة، وتحيى عالمها الليلي فيها. من يصدق أنه عندما ينبلج نور الصباح، ويؤم الإنسان هذا المكان، فإن كل هذه المخلوقات تختبئ خوفاً منه وتلوذ بأوكارها! سمعت وقع خطوات على التراب، فارتعدت وقفزت واقفاً أتلفت.

على بعد عشرين خطوة، رأيت منظراً جمدني من الخوف، حتى أن لساني ثقل وصار من حديد. رأيت رجلاً متوسط القامة، وجهه مدور، حليق اللحية والشارب، يرتدي بذلة أنيقة، بيج بلون الزبدة، وينتعل جزمة بيضاء، ويحمل بيده اليمنى كتاباً سميكاً غلافه أبيض.

كان ينظر إليّ بثبات دون أن يتحرك من مكانه، في نظرته سلام ومحبة.

تبدد خوفي منه بالتدريج، وشعرت بطمأنينة، وأني في أمان.

قلت في نفسي: "يبدو أنه دكتور من دكاترة كلية العلوم.. لكن غريبة.. ما الذي أتى به في هذه الساعة المتأخرة إلى هذا المكان؟".

كان ينظر في عينيّ بصمت، وأنا أصعّد بصري فيه وأنزله، لأحفظ شكله وهيئته، رغم أن ضوء الحديقة الشحيح لم يكن يساعدني كثيرا.

فكرت أن لهذا الشخص الواقف أمامي علاقة ما باختفاء سماء.. أخذت الشكوك تساورني بشأنه، وذهبت بي الظنون إلى أنه رجل به لوثة عقلية، تسوقه إلى ارتكاب جرائم سادية ضد النساء، وتخيلت أنه استدرج سماء إلى مكان منعزل وقتلها خنقا، ثم استمتع بها وهي ميتة، ورمى بجثتها في صندوق سيارته.

ابتسم الرجل، بدا وكأنه يقرأ أفكاري! سار بضع خطوات صوب شجرة الرمان، دار حول جذعها.. انتظرت دقيقة كاملة أترقب ظهوره من الجانب الآخر للجذع، ولكنه لم يظهر. شككت أنه توارى خلف جذع الشجرة، غيرت موقعي فلم أره، ناديته: "يا عم .. ياعم"، لم يجاوبني لأنه كان قد اختفى. اقتربت من الشجرة ببطء شديد، كنت أشعر بالرعب من فكرة أنني قد رأيت جنيا.. أنا مؤمن، والقرآن يؤكد وجود الجن.. قرأت في سري آية الكرسي عشرات المرات أثناء اقترابي السلحفي. ثم قرأتها ثلاث مرات بصوت خفيض. تشجعت أخيراً ولمست الجذع، وحمدت الله أنه حقيقي وليس خيالا! طفت حول الشجرة عدة مرات، نظرت بإمعان إلى الأغصان، لم يكن من المعقول أن يتسلقها دون أن أنتبه إليه. توصلت إلى تسوية مقنعة، وهي أن قراءتي لآية الكرسي قد أحرقته. تحسست الجذع بصبر، وقلبي يحدثني بأن هناك ما ينتظرني، اكتشفت وجود فجوة في الجذع، على مستوى الأرض تقريبا. تسارع نبض قلبي، فالفجوة مظلمة، وأنا بطبعي أخاف من الزواحف والحشرات.. الشخص الخوّاف القابع في أعماقي، راح يحذرني بأن الفجوة يسكنها ثعبان سام. رفعت رأسي ونظرت إلى صفحة السماء أستنجد بها وأطلب منها العون.

لاح لحسن حظي شهاب أخضر، قسم قبة السماء إلى نصفين.. شعرت بتحسن فوري، وكأن الشهاب قد أحرق الشخص الخوّاف في داخلي.. بسملت ومددت يدي داخل الفجوة.. اصطدمت أناملي بشيء، ذعرت في البداية فسحبت يدي، ثم أعدت الكرة وتلمست ذلك الشيء بحذر.. أمسكته وسحبته.. كانت شنطة نسائية سوداء، دققت النظر فيها، فعرفت أنها تخص سماء.. شهقت من الفرح، وضممت الشنطة إلى صدري، لثمتها وقربتها من أنفي لأشمها، كانت ما تزال محتفظة بأريج العطر الذي تفضله سماء ولا ترضى عنه بديلا. مددت يدي مرة أخرى، وفتشت الفجوة، فوجدت جسماً آخر، سحبته فإذا هو دفتر محاضراتها الأزرق الغلاف. لا أدري لماذا تسرب إليّ شعور غريب بأن الشنطة والدفتر، هما هديتان من الرجل أو الجني الذي تجسد أمامي.. أهداهما مكافأة لي على إخلاصي ومثابرتي في البحث عن أميرة القلوب. خطر ببالي فجأة، أن روح الشجرة قد تمثلت لي في هيئة بشرية. قبلت شجرة الرمان متشكراً هبتها. حملت غنيمتي وقصدت مخرج الكلية. كان الحرس راقدين، والبوابة مغلقة. تسلقت القضبان الحديدية بسهولة، ورحلت عائداً إلى بيتي.

لم يرني أحد، كانت الشوارع مقفرة، والكلاب وحدها تنبح في أماكن بعيدة عن المسار الذي أسلكه. في منتصف المسافة، انفجرت مكبرات الصوت دفعة واحدة تؤذن لصلاة الفجر. خمنت أنها الرابعة والنصف صباحا.

حثثت خطاي، لكي أتجنب مصادفة الذين يبكرون في الذهاب إلى الجوامع لأداء الصلاة. طوال الطريق، كنت أرى باباً خشبياً عتيقا، له مدقة حديدية محفور عليها وجه سماء، معلقاً في الفراغ.. كنت أسأل نفسي هل هذا الباب يُفتح؟ وإلى أين يؤدي؟ ومن أين ظهر؟ وما علاقتي به؟

وصلت وأنا أكاد أقع أرضاً من شدة التعب، وكان باب العمارة موصدا. ضغطت على زر الهاتف الداخلي، جاوبتني أمي، طلبت منها أن تنزل لتفتح لي.. سمعت لغطاً غير مفهوم ثم أغلق الخط. فتح والدي الباب بوجه متجهم، جرجرني من ياقة معطفي المرفوعة، وشالني رغم ثقل وزني، فكنت أصعد درجتين، والثالثة أعبر من فوقها طائراً في الهواء.

استقبلتني أمي باكية، واحتضنتني لتحميني من العقاب المرتقب.. أحضر والدي سلكاً كهربائياً معقوداً وتهيأ ليضربني به، أخرجت من جوف معطفي شنطة سماء ودفترها وطرحتهما على الأرض.

سألني أبي وجفناه مسودان من السهر والغيظ: "ما هذا يا كلب؟".

أجبته وأنا أرفع ذراعي لأتفادى أية حركة تبدر منه: "هذه شنطة سماء وهذا دفتر محاضراتها".

شهقت أمي من الهلع، وأما والدي فقد فغر فاه ولم ينطق بحرف وشحب لونه، وأخذت حدقتاه تدوران في مقلتيه بصورة جعلتني أشفق عليه.

أخذت أشياء سماء وذهبت إلى حجرتي، استلقيت على فراشي بملابسي وجزمتي، ووضعت الشنطة والدفتر تحت وسادتي.

لحقا بي، وجلسا على طرف السرير، حاول والدي أن يعرف كيف حصلت على هذين الغرضين وأين وجدتهما، ولماذا أخذتهما معي إلى البيت.. كانت أسئلته سريعة متلاحقة.. لفني ضباب كثيف.. وفي ثوان محدودة فقدت السمع، ثم فقدت الإدراك وانطبق جفناي، وركبت سفينة النوم مُبحراً في أحلام كثيرة بعدد النجوم.

***

( 5)

المُتشكك يفنى كغيمة متناثرة

في ظهيرة 19 فبراير اعتقلنا المدعو (علي نشوان) وهو عائد من مدرسته. كنت أنا والنقيب عبد ربه في سيارة مدنية. اعترضناه في حي القاع، وطلبنا منه الصعود، فلبى طلبنا دون مجادلة. أخذناه إلى مقر البحث الجنائي، وقمنا بالتحقيق معه.

اسمي (مطيع ردمان) شرطي برتبة مساعد، أعمل مع النقيب عبد ربه، أعاونه في الميدان، وأكتب له محاضر التحقيقات.

(علي) ولد في سن المراهقة، ذكاؤه متوسط، ساذج، عيناه لوزيتان صريحتان، وفمه صغير ملموم، وشفتاه ورديتان مكتنزتان. حاجباه كثيفان فاحما السواد، وعلى خده الأيسر ندبة عرضية تمتد من عظم أنفه إلى أسفل صوان أذنه، إلا أن هذا الأثر الباقي من عراك قديم لم يقلل من وسامته.

عندما سألناه كيف حصل على حقيبة سماء ودفتر محاضراتها، حكى لنا قصة طويلة لا يقبلها العقل.. يقول أن جنياً يرتدي بذلة مودرن آخر شياكة هو الذي أهداه الدفتر والحقيبة. كلامه مفكك مختلط، يُتأتئ ويُدغم الحروف في بعضها، وأحياناً يُصاب بالعجمة، فنضطر إلى الطبطبة عليه، والمسح على رأسه، وسقيه كوباً من الماء ليسلك حنجرته. إنه ولد مدلل، يخاف من ظله، وفوق هذا وذاك يتعرق بكثرة، وتفوح منه رائحة منفرة. توقعت أن يأمرني الفندم عبد ربه بأخذه إلى غرفة الكهرباء وكهربته، ليحل عقدة لسانه ويعترف بالحقيقة.. بالتأكيد أقواله كاذبة، لا تنطلي على طفل، ومن الواضح أنه متورط في شيء خطير.. تصرفاته تبرهن أنه يعرف الكثير الذي يريد البوح به. المفاجأة أن الفندم عبد ربه أمر بإطلاق سراحه! ربما أشفق عليه لأنه قاصر.. عندما فتحت معه الموضوع، ونحن في المقيل نخزن القات، جاوبني بأن حبس (علي) لا يفيدنا بشيء، وأن الأفضل مراقبة تحركاته واتصالاته، فهو الخيط الذي سيوصلنا إلى (سماء) المفقودة.

قمنا بعمل استدعاء رسمي للدكتور عقلان، ولكنه لم يحضر. اتصلت به هاتفياً وأخبرته بأننا ننتظر مثوله لدينا في موعد كذا، فكرر رفضه بصلف، وأغلق هاتفه في وجهي. لم نكن نقدر أن نرد له الصاع صاعين، لأن له نفوذاً في الدولة.. إن حاولنا أن نكشر له عن أنيابنا، فهو سيهوي علينا بمخالبه ويرسلنا خلف الشمس.

ذهبنا إليه في مكتبه بكلية العلوم، وحرصنا أن يكون التوقيت مناسبا، لكيلا يفلت متحججاً بمحاضرة من محاضراته. ناولناه ابتسامات عرضها كيلومترات، فصافحنا ببرود الأموات. فتحت هاتفي الجوال لتسجيل أقواله دون أن يشعر، كان تركيزه منصباً على الفندم عبد ربه. خرجنا بمعلومات هامة جدا.. لقد رأى الرجل نفسه الذي كلمنا عنه علي.. ذهلت لتقارب الأوصاف.. إذاً ذلك الولد لم يكن يختلق من خياله أشياءً وهمية. ذكر الدكتور عقلان أنه رأى من وراء زجاج نافذته، سماء جالسة مع رجل كهل جميل المحيا، وجهه حليق، وبشرته قمّرتها الشمس، فهي تميل إلى لون دم الغزال. يرتدي بذلة غالية بلون خشبي فاتح وقميص أبيض، وربطة عنق ذهبية بخطوط حمراء. وأدلى بملحوظة غريبة.. قال إن راعي البوفيه العتمي، تبادل إشارة غامضة مع الكهل الذي أراه كتاباً مُغلفاً بورق أبيض لماع.

توقعت أن الفندم عبد ربه سيسأله عن صحة الشائعات التي تقول أنه رسّب سماء في مادته، ليجبرها على المجيء إلى مسكنه.. هو ذاته كان يتوقع هذا السؤال، ولذا ظل متوترا، ويرد علينا ردوداً مقتضبة، وبلهجة عدوانية متغطرسة. لم يجرؤ الفندم عبد ربه على سؤاله.. الرجل مسنود من فوق، وأية غلطة قد نحاسب عليها حساباً عسيرا، فما نحن في نهاية الأمر إلا مجرد شرطيين صغيرين لا حول لهما ولا قوة.

ودعناه شاكرين تفضله بالإجابة على أسئلتنا، وخرجنا من عنده نحمد الله على السلامة، وكأنه هو الذي كان يحقق معنا وليس العكس.

من يكون هذا الكهل الذي رآه ثلاثة أشخاص حتى الآن؟ استعنا برسام من المعمل الجنائي، ليرسم صورة تقريبية لذاك الكهل الغامض، من خلال الأوصاف التي أدلى بها كل من الدكتور عقلان، وعلي نشوان، والعتمي راعي البوفيه. عرضنا الصورة التقريبية على المذكورين الثلاثة، وعدلناها قدر الإمكان، لتتطابق الصورة مع الأصل المنطبع في ذاكرتهم. وزعنا صورة الكهل على كافة أقسام الشرطة والدوريات، وأصدرنا تعميماً باعتقاله، ومنعه من السفر إلى كافة المنافذ الحدودية والموانئ الجوية والبحرية. نقبنا في كافة المحافظات اليمنية عن سماء فلم نصل إلى شيء، بدا وكأن ساحرة قد حولتها إلى دابة! وصلتنا جثث لنساء مجهولات الهوية، ولكن أوصافها لم تطابق أية واحدة منهن. قمنا بترتيب مخبرين لمراقبة حديقة كلية العلوم على مدار الأربع والعشرين ساعة، وزودناهم بهواتف جوالة ذات كاميرات تصوير، على حساب الإدارة.

كانت قبيلة سماء تضغط علينا وتربك عملنا، ويتوافد العشرات من المسلحين إلى المقر لمعرفة آخر الأخبار. لا أدري كيف تسربت صورة الكهل المجهول الهوية إليهم، فراحوا يبحثون عنه ويتوعدونه بقتلة شنيعة.

في أواخر فبراير بدأت هذه القضية تتخذ أبعاداً مأساوية.. سارت الأحداث في اتجاه دموي عنيف، بينما نحن ملتهون بهز الأكتاف وترقيص الأرداف. أفادت عيوننا المبثوثة في كلية العلوم، أن علي نشوان لم يكن يفارق الحديقة، لا في الليل ولا في النهار.. يحاصره الحرس الجامعي ويخرجونه بالقوة وقت المغرب، ويحكمون إغلاق البوابات، فإذا به يتسلق السور خفية، ويقضي الليل بطوله عند شجرة الرمان، وفي الصباح يجدونه ملتفاً على جذعها نائماً يشخر كبقرة سعيدة. راقبناه في الليل، فوجدنا أنه يقضي الوقت كله في العبادة، كان يصلي مستقبلاً شجرة الرمان.. هل فقد صوابه؟ هل هو في طريقه إلى الجنون؟؟ لم نكن نعرف ما الذي يعتمل في عقله الصبياني الضعيف. التحريات التي قمنا بها عنه، تشير إلى أن علي نشوان يميل إلى التدين، ويحرص على أداء الصلوات الخمس في أوقاتها، والشلة التي يُصاحبها هم من الشبان الملتزمين دينيا. لقد صورناه - دون علمه - وهو يركع ويسجد للشجرة، ويعانق جذعها ويقبله بتقديس وإجلال.. كان يطوف حولها خاشعاً متبتلاً بكلمات غامضة غير مفهومة.. كلمات عجز مترجمونا عن معرفة اللغة التي تنتمي إليها.. كنت أضرب كفاً بكف، لقد تحول علي نشوان الولد المُصلّي الصالح إلى وثني!

في ليلة 27 فبراير حدث شيء غامض.. أمر لا نعرف له تفسيراً منطقيا.. المشكلة أنه حصل تهاون في مراقبة علي نشوان، العنصر المُكلف بالمتابعة استسلم لرقاد هنيء.. وعندما جاء البديل في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وجد الحديقة خاوية، وعلي نشوان لا أثر له.. لقد خرج وتجاوز بوابة الكلية ولم ينتبه له أحد.

الوحيد الذي أعطانا عنه معلومة مفيدة، هو حارس ليلي مرابط في زاوية تكشف الداخل والخارج من العمارة السكنية التي تقطنها عائلتا سماء وعلي، وقد ذكر هذا العنصر أنه رأى علي نشوان قرابة الساعة الواحدة بعد منتصف الليل يفتح باب العمارة ويدخل، ولاحظ أنه يخبئ تحت معطفه شيئاً ما. لم نتمكن من استثمار هذه المعلومة الثمينة، لأننا نتحرك ببطء ونصل بعد فوات الأوان.. ففي اليوم التالي صار علي نشوان هو الآخر مفقودا.. عائلته راحت تبحث عنه، ونحن من جانبنا كنا نطلبه لحل الألغاز التي أوقعنا فيها.. ولكن لا نحن ولا عائلته تمكنا من الوصول إليه. وفي العاشر من مارس تلقينا بلاغاً بوجود جثة صبي في إحدى ضواحي صنعاء.. أرسلني الفندم عبد ربه إلى الضاحية، وبرفقتي طبيب شرعي ومصور. كانت ثلاث سيارات شرطة قد سبقتنا إلى الموقع، وفرض الجنود طوقاً لمنع الفضوليين من الاقتراب. عندما أزاح أحد الجنود البطانية العسكرية السوداء، عرفت على الفور أنها جثة علي نشوان.. اتصلت وأبلغت الفندم عبد ربه بالتطورات.

بعد فحص أولي سريع، أكد الطبيب الشرعي أن سبب الوفاة هو التعرض للتعذيب الشديد حتى الموت.. كان وجه علي نشوان متورماً ومليئاً بالجراح.. في رأسه كدمات، عظامه مكسرة ومدقوقة، وأضلاعه محطمة تماما.. عضوه التناسلي مقطوع، وعانته مُخزقة بعشرات الطعنات، وفي دبره باقة ذابلة من عيدان القات.

لحق بنا الفندم عبد ربه، كان وجهه مكفهراً وعيناه دامعتان. ربما شعر بتأنيب الضمير، لأنه أطلق سراح علي نشوان.. أنا أيضاً لمته في نفسي. أمضينا ست ساعات في فحص المكان والبحث عن أدلة، وفي نهاية المطاف لم نعثر على شيء ذي قيمة. الضاحية عبارة عن تلال صخرية شنيعة المنظر، فيها بيوت قليلة متباعدة، والموضع برمته مقفر موحش، والوصول إليه يتم عبر درب ترابي ملتوٍ هابط صاعد، كأن المرء يسافر في بلاد الجن. بعد انتهاء إجراءاتنا، قمنا بتسليم الجثة لآل علي، الذين أقاموا له عزاءً مختصراً مدته يوم واحد، ثم دفنوه. وبعدها بأيام قليلة توفيت أم علي حزناً وكمداً على فقدان ابنها البكر.

كانت القضية تزداد تعقيداً يوماً إثر يوم، فهاهي سماء مفقودة منذ شهر، ولم نستطع معرفة مكانها، وعلى الطريق بتنا نحمل دم قتيل في ميعة الصبا، وأما الكهل المجهول الهوية الذي يرتدي بذلة عريس غندور، فقد دخنا ونحن نحاول الاهتداء إلى مكانه.. هلكنا من التعب ونحن نحاول معرفة اسمه ومن يكون.. لا أحد في اليمن بطولها وعرضها تنطبق عليه الصورة المرسومة! في النهاية وصلت إلى يقين شخصي أنه ليس بشراً .. واحد من بني الجن أحب أن يتلاعب بأعصابنا. الآن أنا أحاول أن أمحو صورته من خيالي، وكلما فكرت فيه أحس أن روحي ترفرف، تنسحب من أطرافي.. أهو عزرائيل ملك الموت ظهر متنكرا؟! أنا رأيت المئات من الجثث المشوهة والمتفسخة والمُقطعة والمفرومة، ولم تهتز في بدني شعرة، ولكن صورة هذا الكهل المجهول الهوية تفقدني صوابي.. أراه بين عينيّ طوال الوقت، وحتى في منامي! لا أعرف سبباً لهذا الإلحاح، لهذا الحضور الزائد عن الحد.. أحياناً أرى شبحه على الجدران، وأحياناً أرى وأنا أمشي تحت قدمي بقعة ماء فضية تتموج وترسل لمعاناً يُعمي الأبصار. هناك وميض نور يلاحقني في كل مكان، وكأنما هناك شيء ما يريد أن يتجسد أمامي.. أن يخرج من عالمه الضوئي إلى عالمي المرئي.. أنا لا أحب هذه الظواهر الخارقة للعادة.. أكرهها بشدة.. أخشى أن أفقد اتزاني، أن أجد نفسي أهرول في الشوارع مكشوف العورة وأنا أخطب في الهواء!

ذهبت إلى شيخ يعالج بالقرآن، فقرأ في ماءٍ سورة ياسين، وناولنيه، وقال لي أن أشرب منه دُبر كل صلاة، حتى أوفي من الأيام ثلاثين. وحذرني من أكل البصل والثوم، والتمدد على بطني عند النوم.

وهاأنذا أتماثل للشفاء من الخيالات المريضة.

***

(6)

الناسكة

عندما هجم الجراد على صنعاء، خرج الصغار والكبار لجمعه حياً في علب المياه المعدنية الفارغة.

أعطيت ابنتي سماء علبة مياه نظيفة، فنزلت مبسوطة إلى الشارع، وراحت مع صويحباتها يلتقطن الجراد ويتقافزن وراءه. أنا طلبت منها أن تفعل، لأنني اشتهيت أكله، فنحن نقليه على النار مع قليل من الملح، فيصير وجبة غذائية لذيذة، وقلة من الناس يأكلونه حياً بلا ملح.

أحضرت (سلمى) بنت السباك كرة بلاستيكية خفيفة، فطرحت البنات العلب جانبا، ورحن يلعبن كرة القدم. ربما لعبن مدة ثلث ساعة ثم تعبن، وعدن إلى منازلهن. لكن زوجي الله يسامحه، أقام القيامة ونفخ في البوق، وعملها مشكلة كبيرة. ومن بعد هذه الواقعة، فَرض على سماء ارتداء النقاب، ومنعها من اللعب في الشارع، وحجبها عن كافة الذكور، باستثناء المحارم.

اسمي (وهيبة) أنجبت ثلاثة ذكور وبنتاً واحدة، وأسقطت سبعة أجنة.

بدأت سماء تكتب يومياتها بعد أن تحجبت وقُيّدت حركتها، فصار ذلك الدفتر سلوتها في عزلتها الكئيبة. كانت سماء حريصة على ألا يطلع أحد على دفتر يومياتها، تدسه في درج مغلق، مفتاحه معها باستمرار. ومن جانبي كنت أحترم خصوصيتها، ولا أرى غضاضة في أن تتكتم على أسرارها. لقد كنت أثق في سلوك ابنتي، ولا أشك مطلقاً في طهارتها، فأنا ربيتها، وربيت إخوتها الذكور، وأعرف أنها أفضل منهم أدباً وأخلاقاً. لم يخطر ببالي البتة أن أسترق النظر إلى دفتر يومياتها، رغم أني أحتفظ بنسخة من مفتاح الدرج، لا تعلم هي بوجودها في حوزتي. أنا امرأة تربيت تربية ريفية كريمة، لذلك أرى أنه من العيب الاطلاع على أشياء حجبها صاحبها عن العيون المتلصصة.

بعد مرور عام على اختفاء سماء، ويأسي التام من ظهورها، دفعني الحنين إلى فتح درجها، وإخراج دفتر يومياتها الفاخر المُجلد بالجلد. دفعني الشعور بالفقدان إلى محاولة التأسي بقراءة ما خطه قلمها، ولم يخب أملي.. لقد دونت على الورق البني المصقول أحاسيسها، ورأيها فيمن حولها.

قالت عني إنني امرأة مهووسة بالنظافة، وعدوة للعناكب وبيوتها، وأن أقل غبار يؤذي تنفسي ويُلهب جفني. وأعترف بأن هذا الكلام صحيح. قالت عني إنني أوسوس من أقاويل الناس، وأخشى الحسد، وأؤمن بالعين وخطورتها، ولذلك أُبخر البيت كل يوم، وأعلق آيات قرآنية في كل الغرف والممرات. ذكرت أنني أحابي إخوتها الذكور عليها.. وهذا للأمانة غير صحيح. وصفتني بأنني أم حنونة رقيقة في حالة الرضا، وصارمة قاسية في حالة السخط. قالت إنها تحبني أكثر من نفسها، عبرت عن حبها لي في أكثر من مائة موضع.. وفي كل مرة كانت دموعي تتساقط على خديّ.

قالت عن والدها إنه فظ وشرير في الظاهر، ولكنه في أعماقه طيب وخيّر. قالت إنه مضطر لاتخاذ مظهر القنفذ المحتمي بأشواكه الحادة، لأن المجتمع يهاب العدواني الشرس الأخلاق، ويستهزئ بالمسالم العفيف اللسان. قالت إنه أب متسلط جاهل، ولكنها رغم عيوبه العديدة، تكن له محبة عظيمة.

ذكرت كثيرين وكثيرات من أقاربنا، وسجلت ذكرياتها معهم. كشفت لي يومياتها بعض الأمور التي كنت أجهلها.. من مثل أن الحاج سلطان المُدكّن كان يغازلها!

ما دونته سماء عنه، يؤكد الشائعة التي تدور على ألسنة نساء الحارة، ومفادها أن (عافية) الأرملة الجميلة الفقيرة التي تعول ستة أطفال أيتام، تأخذ منه مواد غذائية لتطعم عيالها، ثم في غفلة من العيون، تمرق إلى المخزن الخلفي للدكان، لتسدد ما عليها من حساب!

ورد ذكر ولد الجيران (علي) في يومياتها أكثر من سبعين مرة. إنني أعتبر (علي) مثل ابني، وكنا في الزمان الأول قد ألفناه، وعملنا له اسم الدلع الخاص بنا "عليوه الحليوه". أتذكر هذا الصبي المليح وأتنهد، لأننا جنينا عليه ظلما، قتلناه وهو بريء. أحتفظ بصورة فوتوغرافية له - الآن لا أتذكر كيف وصلت إليّ - كلما أراها تسكب عيوني عبرات الندم والحسرة.

في الأوقات التي أخلو فيها إلى نفسي، عند جذع شجرة الرمان، أستعيد ذكرى رنين الجرس المتوالي في الواحدة ليلا، وذلك بعد عشرة أيام من غياب سماء، وحين فتحنا الباب، دخل علينا (علي) متقطع الأنفاس، يتهلل وجهه بالبشر والسرور، وناولنا كل الثياب التي كانت بنتي المفقودة ترتديها، بما في ذلك ملابسها الداخلية. استفسرنا منه بغلاظة من أين أتى بهذه الملابس، فروى لنا حكاية غريبة.. قال أنه راح يبحث عن سماء في كلية العلوم، فرأى في الحديقة قرب شجرة الرمان، كهلاً مربوع الجسم، ملابسه بيضاء مطلية بالسمن، وبيده كتاب أبيض بياضه يبهر الأبصار كالبرق.. أمعن فيه النظر ثم اختفى.. فلما اقترب من الشجرة وجد فجوة في جذعها، فأدخل يده، فاستخرج حقيبة سماء ودفتر محاضراتها. وحين سأله ولدي جميل - الواصل لتوه من حضرموت - لماذا لم يسلمنا تلك الأغراض؟ قال (علي) إن والده سلمها في اليوم التالي للضابط عبد ربه، وأنها الآن بحوزة البحث الجنائي. حثثناه أن يتابع، فأكمل قائلاً إنه بعد نجاحه في استرداد شنطة سماء ودفترها، راح يحوم حول شجرة الرمان، وأن لسانه أخذ يُرتل بلغة عجمية هو نفسه لا يفهم منها كلمة واحدة فكان يُحس بحضور أرواح من حوله، وأنواراً تسطع أنّا توجّه ببصره، فظل على هذا الحال حتى ظهر له الرجل المربوع القامة مرة أخرى، ففتح له الكتاب الأبيض مُقلباً صفحاته، وكأنه يدعوه أن يقرأ، فنظر، فإذا هي كتابة بأبجدية لا يعرفها، فأشار الرجل إلى الفجوة في الجذع ثم غاب كأن لم يكن.. فأدخل يده، فاستخرج كومة من القماش، فتفحصها فإذا هي ملابس بنتنا المفقودة، فصرّها تحت معطفه، وسعى مسرعاً إلينا. لا أنا ولا زوجي ولا أبنائي الثلاثة صدقنا حرفاً واحداً مما قال ، لقد ظننا به ظن السوء.. رفع ولدي (همدان) الجنبية عليه وهدده قائلا:" أنت أتيتنا بملابس أختنا حتى حمالة نهديها فتكلم أين هي وإلا ذبحتك بيدي كما يُذبح الخروف". انهار علي باكياً، وراح يُقسم أيماناً مُغلظة أنه صادق فيما قال. لطمه ولدي صالح، وجره من شعره، وطلب منه أن يقول الحقيقة.. كنا كلنا نصيح في وجهه كالمجانين، فارتفعت أصواتنا في ذلك الوقت المتأخر من الليل، فتدخل زوجي قبل أن يتجمع الجيران على صراخنا، وطرده من البيت. وعلى الفور ذهب زوجي وأولادي الثلاثة إلى مسكن شيخ قبيلتنا، وأخبروه بالواقعة، فرتب بالاتفاق معهم مؤامرة خسيسة.. وعندما خرج علي في الصباح متجهاً إلى مدرسته ، اعترضه مسلحون من قبيلتنا في أحد الشوارع ، وأجبروه تحت تهديد السلاح على الصعود إلى سيارتهم . أخذوه إلى سجن الشيخ الخاص، وعذبوه وضربوه، ليقول الحقيقة، ويرشدهم إلى البقعة التي هربت إليها سماء. لكنه لم يغير ولا حرفاً واحداً من أقواله، حتى فارق الحياة رحمه الله.

كان الشيخ كلما لقيني، يقدح في عرض ابنتي ويقول: "بنتك قحبة هربت مع واحد أعجبها".

كنت أجهش بالبكاء، وأدافع عن شرف ابنتي في نفسي، كلما كرر على مسامعي عبارته الجارحة تلك.

تفاخر رجال قبيلتنا بأفعالهم الإجرامية التي ارتكبوها بحق علي، وانتشرت تفاصيل رض عظامه بأعقاب البنادق، وتقطيع ذكره، ودق رأسه بالجدران، وطعنه في أسفل بطنه، في كل بيت من بيوت الحارة، حتى وصل النبأ إلى سمع جارتي (أم علي) فتورم قلبها، وماتت قهراً بعد مصرع ابنها بأيام معدودة.

تخوفت أن يتعرض أولادي وزوجي للاعتقال والمحاكمة، ولكن نفوذ الشيخ حماهم من أية مساءلة.

كان الفندم عبد ربه، وكل إدارة البحث الجنائي مُلمة بتفاصيل الجريمة، لأنها كانت كاللبانة في أفواه الناس، ولكنهم جبنوا عن الإمساك بالقتلة، وآثروا السلامة. إن توجيه الاتهام لأي واحد من المجرمين الذين سفكوا دم علي، يعني توجيه الاتهام للقبيلة كلها. لم يكن الفندم عبد ربه، ولا أي واحد غيره على استعداد للدخول في مواجهة مع قبيلتنا. لم يجرؤ أحد على المطالبة بدم علي، لا الدولة ولا حتى أهله، فكأنما دمه المستباح دم كلب.

بعد أن هدأ غليان الرؤوس، وشعرت قبيلتنا أنها استردت شرفها وهيبتها بقتلها ذلك الولد الصغير، تفتق ذهن الشيخ عن فكرة القيام بزيارة لمشعوذ مشهور في قاع جهران، وسؤاله عن البقعة التي توجد فيها سماء. سمع المشعوذ منهم حكاية سماء من أولها لآخرها، وطلب إمهاله إلى الغد. وع زوجي في حجر المشعوذ مبلغ مائة ألف ريال، ورجاه أن يستعجل أعوانه من الجن، لمعرفة مكان سماء قبل حلول الليل. أخذ المشعوذ فلوسنا، وغاب ساعة في غرفة مظلمة، ورأيت بعينيّ هاتين حجارة البناء الذي اجتمع فيه مع الجن تهتز وتصدر جلبة تخلع القلوب. خرج علينا مبلولاً بالعرق، وعيناه تلمعان بطريقة غريبة.. قال لنا إن سماء اختطفها عفريت من الجن شديد البأس، تصوّر لها في هيئة عريس وسيم، وأنه رآها في بلاد الجن عبدة في قصر العفريت، تطبخ وتغسل وتكنس، وأنها واحمة، لأن الفسل اغتصبها، وحبّلها.

اسودّ وجه زوجي من هذه الأنباء المزعجة، وأغمي عليه.. لقد ضاع شرفه إلى الأبد.. بنته حبلى.. وبماذا.. حبلى بجني! هاج أولادي الثلاثة ، وترجّوا المشعوذ أن يرشدهم إلى وسيلة يستردون بها أختهم ويحررونها من الأسر، والشيخ أخذته النعرة القبلية فأقسم برأس أجداده أنه سيدق عظام العفريت دقاً ويُخصيه! قال لهم المشعوذ أن يذهبوا إلى شجرة الرمان التي اختطفت (سماء) عندها، ففيها موطن العفريت، وطلب منهم أن يأمروه بإعادة الإنسية التي أخذها بغير وجه حق إلى أهلها، سالمة الحواس، كاملة الأعضاء، لا زيادة فيها ولا نقص، وإلا أحرقوه بالنار. وأمرهم أن يخاطبوه ثلاثة أيام متوالية، فإن استجاب وأعاد البنت تركوه في حاله، وإن لم يرضخ فلا جناح عليهم أن يحرقوا شجرة الرمان. اقتنع رجال قبيلتنا بكلامه، وصدقوا أكذوبة المشعوذ الضاحك من غبائهم في كمه، ورابطوا عند شجرة الرمان ثلاثة أيام بلياليها، مسلحين بالبنادق والرشاشات، مُثيرين ذعر الطلاب والطالبات، ومُدخلين الرهبة في قلوبهم. وفي اليوم الرابع قطعوا شجرة الرمان، وتقاسموا خشبها فيما بينهم، واستخدموه حطباً في تنانيرهم. طبعاً لا ابنتي عادت إلى حضني، ولا المارد المزعوم احترق. وكل ما هنالك أن رجال قبيلتنا انتهوا من قضية اختفاء ابنتي بتلك التخريجة السخيفة، وتخلصوا من عارها بموتها محترقة مع خاطفها. لقد دفعنا كل ما نملك من مال لذلك المشعوذ الدجال، لكي يوجد لنا ستارة نغطي بها على الفضيحة، لكي يُرقع لنا حكاية - ولو أنها مُخيطة بهراوة - نبرر بها فقدان ابنتنا، ونحفظ بها ماء وجهنا أمام الناس.

لكن لغز اختفائها ظل قائما.. أين ذهبت سماء؟ وماذا تفعل الآن يا ترى؟ وهل هي حية أم ميتة؟ ظلت هذه الأسئلة تؤرقني، وتحرق جوفي وتنهش لحمي. كنت على استعداد لأن أدفع حياتي ثمناً لمن يقول لي كلمة واحدة عنها.

فيما بعد، عندما قرأت دفتر يوميات سماء، تفتح أمامي احتمال لم يكن قد خطر ببالي مطلقا.. وردت في يومياتها إشارات موحية، علامات تشير إلى الدرب الذي ينبغي عليّ أن أسلكه لأصل إليها.

اغتسلت وتطهرت وتبخرت، ولبست ثياباً نظيفة، وحملت معي قارورة عطر، وقصدت كلية العلوم. بحثت في حديقتها عن أثرٍ لشجرة الرمان فلم أوفق. هرعت إلى شيبة يعمل في بوفيه قريبة، وطلبت مساعدته، فرافقني وهو يحزرني بنظراته، ثم أشار إلى جذع في أسفله فجوة، وقال لي: "هذا ما تبقى من شجرة الرمان".

شكرته، فتولى عائداً إلى عمله، وقمت أنا بسكب العطر على الجذع، ومسحته عليه بالكامل، ثم جلست أتأمله ساكنة بلا حراك. ومن يومها أصبحت عادة يومية، أن أزور الجذع وأدهنه بالعطر كل صباح، لأنه صار بالنسبة لي بمثابة ضريح لابنتي المختفية. صار الجذع مأوى ذكرياتي، ومثوى عبراتي، ومؤنسي في وحدتي، ومخفف أحزاني. لم يعد الجذع جذمة خشب ميت، بل هو حبل السرة الذي يربطني بسماء.. لأنني صرت الآن جنينها، وأنا التي تبحث عن ولادة جديدة من رحمها.

الكهل الذي رآه طيب الذكر (علي) مرتين في بذلة عريس، كانت ابنتي سماء قد لاقته في أحلامها.. كان يأتيها في المنام كل ليلة تقريبا. وجدت في يومياتها تدويناً مُفصلاً لتلك الرؤى، وهي بمجملها أحلام فيها علاقات سعيدة! سجلتْ أنها كانت تستيقظ منتشية.. رغم أنها كانت تتحسس كل جزء من جسدها لتتأكد إن كان لا يزال موجوداً أم لا. آخر شيء دونته في يومياتها، كان هذا الحلم البالغ الغرابة الذي لا يشبه الأحلام في شيء.. إنه أشبه بنبوءة لما جرى لها صباح الرابع عشر من فبراير، اليوم الذي اختفت فيه من هذا العالم:

"حلمتُ أنني في كلية العلوم، أسمع محاضرة للدكتور عجلان، ثم خرجت وحدي، وقصدت الكافتيريا، أهديت عمي ناصر العتمي عذق ريحان، ودخلت إلى جناح البنات، أكلت وشربت، وضحكت مع صديقاتي، ثم تركتهن ومشيت إلى الحديقة، واسترخيت على المقعد المجاور لشجرة الرمان، ورحت أضحك دون سبب، خلعت ملابسي وتعريت تماما، ثم استلقيت على المقعد، وأخذت أغني بصوت عال، والقماري يرددن كالجوقة بعدي. قطع عليّ غنائي ظهور الرجل الذي يزعم أنه عريسي، جلست وغطيت عورتي بكفيّ، وقعد هو أمامي. لم يتفوه بكلمة، وظل ينظر في عينيّ كأنه ملك الموت عندما يطارد ضحاياه. كسرتُ حاجز الصمت والرهبة:

  • لقد رأيتك في المنام.

قلت له ذلك وأنا أتلفت خزياً من أن يسمع أحد الطلاب أو الطالبات اعترافي الغريب بشأنه. ابتسم لي بغموض زادني اضطراباً وخشية منه.

قلت وأنا أنظر في عينيه مبتلعة ريقي بصعوبة:

  • أعتقد أنني أحوز ملكة معرفة ما يدور في نفوس الآخرين من خلال قراءة عيونهم.
  • كلام جميل، وماذا تقول لكِ عيناي الآن؟

قال ذلك وأنا أحس بنظرة عينيه تخترقني وتنفذ إلى صميم روحي.

  • إنهما تقولان إنك لست بشراً مثلنا.

قلتُ ذلك وعيناي تطرفان بشدة، وبؤبؤاي يتألمان من النظر إليه، وكأنني أحدق في عين الشمس. أدار عينيه في الآفاق ولم يُجب.

سألته بتهيب وتحفز:

  • من أنت؟

قال بعد برهة من التفكير:

  • أنا هدف المعرفة المُقيم في قلوب الجميع.

صدمني جوابه فخرست.

راح يقرأ في كتاب بلا عنوان، مجلد بورق أبيض براق، بينما انشغلت أنا بـتأمله وتذكر أحلامي عنه. فجأة وجدت نفسي أنتزع الكتاب الأبيض من يده - هكذا دون تفكير مسبق-  وحاولت قراءته.. أصابني ذهول عارم وقلت:

  • ما هذا.. الكتاب ليست به كتابة.. ماذا كنت تقرأ!؟

ضحك بوقار واستعاد كتابه مني وقال:

  • أيتها الأقحوانة الذهبية، كل الكتب السابقة لزمانها بلا كتابة.. ألم تلاحظي ذلك؟

وقفت متضايقة من ألغازه، وأشرت إليه بسبابة مرتعشة، وخاطبته بلسان ثقيل:

  • أنت ساحر!

أشار عليّ بالجلوس والهدوء، لكيلا أثير انتباه الآخرين، وقال لي بلهجة ودودة:

  • يا ملكة القلوب المتوجة، هاهو الكتاب.. أنظري.. إنه فعلاً كتاب بلا كتابة، فأين وجه السحر في هذا.. أين وجه الغرابة؟؟

قعدت وأنا أشعر بتوتر شديد، وجسدي كله يرتجف من الانفعال.

لاحظ العم ناصر العتمي صاحب الكافتيريا ما أنا فيه من ارتباك وتشوش، فأشار إليّ بيده مشجعا.. شكرته من أعماقي على حركته تلك، لأنها أشعرتني بأنني ما أزال أنتمي إلى هذا الوجود الأرضي.

عاد الرجل الذي يزعم أنه عريسي لتصفح الكتاب الأبيض، متعمداً ألا يُعيرني أدنى اهتمام.

راقبته برهة وهو يقرأ ويتمتم بكلمات غير مفهومة.

  • ماذا تريد مني؟

قلتُ متوسلة والدموع تسيح من عينيّ.

  • أريد أن أحقق أعز أحلامك.

قالها بلامبالاة مقرراً مصيري.

شردت بفكري بعيدا.. ورحت أتذكر الحلم الذي أراه كل ليلة.. أرى هذا الذي يزعم أنه عريسي، يفتح باب غرفتي الموصدة بالقفل، ثم يدخل ويغلق الباب كما سوستة البنطلون، فيراني نائمة فوق سريري عارية كما ولدتني أمي، وليس في الغرفة سوى نور خافت لأضواء الشارع يتسرب من الشباك. يقترب مني ويحتويني ببصره، ثم يأخذ بالطواف حولي وبيده كتاب أبيض براق، وهو يتمتم بخفوت، وبعد حين أحس بموجات من المتعة تغزوني........

وأستيقظ من النوم متوهجة متوردة.

انتبهت من شرودي، ولاحظت أن الرجل الذي يزعم أنه عريسي، قد قام من مكانه، وراح يطوف حولي وكتابه الأبيض مفتوح بين يديه يقرأ منه، مدمدماً بأصوات لم يسبق لي سماعها.

أخذ جسدي يتصبب عرقا، وشحب لوني، وهرب الدم من عروقي، وشعرت بجفاف شديد في حلقي. لم أعد أستطيع تحريك أعضائي.. عيناي فقط تدوران مخبولتين في محجريهما. أحسست بلذة عميقة وأنا أذوب وجداً وحباً في كينونة لا تسمى، حضورها البهي فوق المعقول. أصبحت أخف وزناً، المساحة التي أشغلها في هذا العالم تتلاشى. أين أنا؟ لا أدري. لكنني مبتهجة إلى أقصى حدود البهجة.

كنت ما أزال أملك القدرة على الرؤية..

قعد الذي يزعم أنه عريسي على المقعد، ووجهه يعكس سعادة داخلية لا توصف.

العم ناصر العتمي صاحب الكافتيريا، انتبه إلى اختفائي المريب، ولحظ أن الرجل الذي يرتدي بذلة عريس يجلس وحده، فأشار إليه بيده مع غمزة من عينه بما معناه: "أين ذهبت الفتاة "؟

قام الذي يزعم أنه عريسي وأشار إلى الكتاب الأبيض مُقلباً صفحاته.

حك العم ناصر العتمي رأسه مستغرباً لماذا يعرض عليه كتاباً ككل الكتب يمتلئ بالكتابة.

***

*كاتب من اليمن