لسمكة الأرنب المرعبة شديدة السمية، تاريخٌ حافلُ في المصائد المصرية، وهي هنا مركز لحبكة دائرية، تعتمد على قصة من قصص الطبخ، والتي تنتمي لماضي الإسكندرية الكوزموبوليتانى. تُدَسُ الطبخة المسمومة ضمن عشاء أعده "مسعود" فيموت القنصل ورفيقته، وتكون نهاية "مسعود" كطباخٍ أسطوريٍ، قبل أن تظهر "عايدة" وتستعيده.

مَأدُبةُ عَشاءٍ مُعادة

عاطف سليمان

 

أوقفت عايدة سيارتَها بعيداً، ونزلت حافيةً إلى خلوتها على رمال الشاطئ.

عبَّت وتنفّست، وما من أحدٍ سيلمحها تتهادى على الرمال لَكأنها غدت مسحورةً وهي تتلقّى النورَ القديم لنجمة الصباح. في عتمة الفجر كانت تتمطّى وتشرئب وقد نسيَت حتى اسمَها، وكان الهواءُ مرئياً لها، وهي مُنضويةً في بهجةِ النورِ الساجي الخفيّ.

في خلوتها قُدّام البحر أمالت عايدة رأسَها وأصغت إلى أصوات الموج حتى أحست أن هديرَه تَفشّى فيها فصارت تجيءُ مع مجيئِه وتروحُ مع رواحِهِ.

زَرَّت عينيْها وسكَنت؛ عَلَّها كانت، بفؤادِها، تستدرجُ الزبَدَ الجاري فوق الأمواج وتُهيئ له حضنَها كي تضُمَّه ضمّاً، ضمّا. عَلَّها.

ثابَت عايدةُ وتيقّظت، للحظتِها، إذْ سمعت همسةً أتتها من جِوارها، وسرعان ما اندثرت الهمسةُ بفعلِ صوتِ المطر، هذا الذي هَطَل.

  • إني، لأجلكِ أنتِ، طلعتُ من مائي!

لا أحدَ بالجوار، لا أحدَ بجوارها، لا من أحدٍ هَمَسَ لها، ويا للمطر!

يسَّاقطُ على الشاطئ، يهطلُ على مياهٍ وعلى رمالٍ ويتنزّلُ على صخورٍ ويسقي كائناتٍ دفينة لا يُعلَمُ بظمئِها، وتفكِّر عايدة أنه ربما يهطلُ أحياناً كسذاجةٍ، وأحياناً كترويحٍ أو كحكمةٍ تتكاثرُ كلّما نُظِرَ فيها. مطرٌ يسَّاقطُ! وإنه لَيسَّاقطُ على قُربٍ من الحصن العتيق.

في الأفق لاحَ أمامها الحصنُ العتيقُ خُرافياً زاهياً كأنه من زجاجٍ ملوَّنٍ يتضوّأ. تقول عايدة لنفسها إنه يشبه قباب بغداد المنصوص عليها في ألف ليلة وليلة. لكن لا حصونَ حقاً تُوجدُ في المكان بحسب مقولات الصيادين وأهالي الشاطئ وبحسب الكُتب، إنما هو حِصنٌ رأته ذات ليلة وهي تجولُ بسيارتها على الطريق السريع، وتأمَّلَته، وارتابت في حقيقة وجوده، غير أنه بانَ لها مراتٍ عديدة، حتى إنها التقطت له صوراً لا مُماراة فيها.

خَفَّ المطرُ وصار مثل وخزاتٍ، وعايدة تلتقط بعض قطراتِه بلسانها، وتدعس بأصابع قدميْها في الرمل الرطيب، هي التي تلتذُّ بدغدغة الرمل الرطيب. وتنقضي عليها ساعةُ الفجر وهي ساهمة تتطلّعُ إلى بقعةٍ في البحر، لا تزيغُ عنها، تستقرئُ فيها صفوَ قلبها وكدرَه، كما لو أن وجوداً ثانياً لها مُسْتَكِنٌّ في قعْرِ البقعة ويحيا هنالك ويراسلها. ناوَشَها رذاذُ الموج، كمثلِ رجلٍ يحاكِكها، فأرْخت له رموشَها، والهواء الساري يجفِّف رطوبة جفنيْها ويكاد يخدشهما بفرْطِ حِدته ويتخلَّل كِتّانَ بلوزتِها البيضاء الصغيرة المخرَّمة فيحُفُّ بثدييْها ويخفق فيهما ويُتعتِع منهما شذا عنبرٍ يتَّقد.

شمّرت بنطلونها الأسود الضيق فعلِقت ببشرة ساقيْها حباتُ رملٍ، وسرعان ما تصاعدت، من الرمال، إلى ثنية رُكبتِها حشرةٌ بلا وزنٍ فاقشعرَّ منها فخذُها واختلج.  

***

كان الحصنُ وَهْماً أو نصفَ وَهْم، ولعلكَ كنتَ أنتَ أيضاً وَهْماً، أو نصفَ وَهْم، على الشاكلة نفسها. كنتَ تنامَ الليلَ في موضعِكَ المختار، الذي تناقلَ السائقون خَبرَه، على أسفلت الطريق السريع، محصوراً في حَيز الأمتار الثلاثة المحدَّد بالخطوط البيضاء الفاصلة بين اتجاهيْ الطريق. تمرقُ من على جانبيك السياراتُ والشاحنات، وتكادُ تحفُّ بهلاهيلك الدراجاتُ النارية، وتضجُّ في أذنيك قعقعاتٌ متواصلة متلاحقة، وتسفحُ جفونَك وخياشيمَك سفوفُ الرمال المشبعة برائحة يُودِ البحر والمازوت وفضلات الكلاب وفئران الصحارى. وفي مواقيت النوَّات، مع اشتداد هطول المطر، كنتَ لا تطيقَ الأسفلتَ فتهرع إلى موج البحر وتُلقي بجسمك فيه، كأنك تبتغي منه إطفاءَ حريق.

ولمحتكَ عايدة، مرةً بعد مرةٍ، مُقيماً، مُمدَّداً، مشحوطاً، شبه عارٍ، وارتابت في ما تراه، وفي كوْنكَ إنساناً، واستضعفت عقلَك، ثم أخذها الفضولُ إلى إبطاء سرعة سيارتها كلما مرقت شرقاً عن يمينكَ باتجاه الإسكندرية أو غرباً عن يساركَ باتجاه مرسى مطروح بقصْد إمعان النظر فيكَ، إلى أنْ قررت بشأنكَ أمرا.

أكَلتَ، دوماً، مما يُلقي أو يُقذَف به إليكَ من نوافذ السيارات ومن أيادي المارة إنْ وُجِدوا، ولم تحتفظ ببقايا من أي طعامٍ لأجل جوعك التالي، ولم تُرَ أبداً وأنت تشرب. أكنتَ تشرب؟ وليس يُعلَمُ أين وكيف كنتَ تقضي نهاراتِكَ، وكنتَ تُدخِّن كلما أُعطِيتَ سيجارة ولقيتَ لها شُعلة، وكنتَ تُدخِّن لفائفَ تصطنعها أنت من قمامة الطريق.

وقت مطلع الفجر أوقفت سيارتَها على الجانب، بالقرب منك، ونزلت وعبرت الأسفلتَ حتى وقفت بجواركَ، وكاد صندلُها يلمس خاصرتكَ المتسخة. ومن قُربٍ؛ صار لها أنْ تعرف، من تقاطيعك، أنكَ جاوزتَ الخمسين على خِلاف ما تشي به، عن بُعْدٍ، هيْأتُكَ. تفكّرت وتداولت وهي تتمعّن في وجهكَ، ثم انحنت ونَقَرَت على كتفكَ فنظرتَ أنتَ إليها بعينٍ، وقد كنتَ نائماً تحلم، وحين رأت هي نظرتكَ العادية اطمأنت وابتسمت لكَ، وغادرتكَ على الفور قائلةً إنها ستأتيكَ ثانيةً في الغد.

أتتكَ في الموعد، بذلك الغد، ومعها حقيبة صغيرة، أخرجت منها قطعتين بيضاوين من ثياب داخلية للرجال، وأشارت إليكَ لتنهضَ فنهضتَ ووقفتَ كالخارج من القبر، فمدت إليكَ يدَها بالقطعتين البيضاوين ثم بالحقيبة، ورفعت وجهَها باتجاه البحر، فأدركتَ مقصِدَها ومضيتَ إلى الشاطئ، ونزلتَ وغطستَ مراراً وفركتَ جلدَك وكشطتَّ قذىً من جدائل شعركَ ورموش عينيكَ وفجوات أنفكَ وأذنيكَ، ثم على اليابسة وقفتَ وركلتَ هلاهيلكَ المشحَّمة المغبَّرة إلى البحر، لكنك سارعتَ ولحقتَ بها وسحبتها إلى الشاطئ ووضعت عليها حجراً، ثم امتثلتَ للهواء كي يجفّفك، ولبستَ الأبيضَ، وفتحتَ الحقيبة فلقيتَ بها الأوفرول الأزرق الثخين والحذاء الأسود المعبّق بِريحِ دباغتِه. 

عُدتَّ صاعداً إلى طريق الأسفلت وأنتَ تمكُرُ وتفكِّرُ في ما وراء هذه المرأة، وعيناكَ تمسحان الأرجاءَ تفتيشاً عنها. اقتربتَ من المكان الذي تركتَها عنده، لكنها لم تكن مُنتظرةً، وكانت طريقُ السيارات ساكنةً، وصراصير الليل تزعق، فذهبتَ إلى موضعكَ بين الخطوط البيضاء بمنتصف الطريق، وتمدَّدتَ لترقدَ، غير أنكَ فُزِعت من مرور أول سيارتين مرقتا بجواركَ، فقُمتَ وكانت هي تملأ خيالك. أتُراكَ فكرتَ حين لم تجدها بأنك قُنِصتَ!

آوتكَ في بيتها فحملتَ اسمَ مسعود. قُنِّنت لك ثلاثُ وجبات ومبلغ نقدي يومي لشراء بضع سجائر، وأُعطِيتَ المساحةَ بجوار الباب الخارجي للبيت لأجل مَبيتِك. وعلى سبيل التريُّث لم تُكلِّف بتأدية أية أعمال، لكنك من تلقاء نفسِكَ رَعيتَ وخَدمتَ شجرةَ الفلفل وشجرةَ الياسمين الواقفتيْن على يمين الباب ويساره، من قبل أن تعرف أنهما زُرِعتا على هذا النحو بعد أن جاءتاها في منامها فزرعتهما هي بيديْها، وأن شجرةَ الفلفل تنوبُ عن الليل وينوبُ الياسمينُ عن النهار في أعراف صاحبة الباب.

بعد أسابيع قلائل أوقدتَ ناراً وطبختَ، أو بالأحرى أعدت طبْخَ نصيبِكَ من الطعام الذي أُعطيتَ في ذلك اليوم، وقدَّمت الطبقَ إلى مُضيفتك التي استحسنت ترصيصَ الطعام فيه، ثم تشمَّمت رائحتَه الفوَّاحة وتذوَّقت وكتمت آهتَها المنشرحة الهاذية التي كادت تصرخها.

  • الله!

وفي الداخل التهمت الطعامَ في نهمٍ، واستعجبتْ.

  • ما هذا بأكْلِ بشر، فهذا لا وصف له، وإني أُطعِمتُ صحناً مسحورا.

وضعت الطبقَ في غسّالة الأطباق، ثم أخرجته منها فتشمَّمته، وأعادته إليها.

  • ما لي!

مسعود، الذي كان اسمُه، في الأصل، مسعود، أيضاً، لم يكن، على ما يبدو، قد نسيَ بعضَ أعمق أسرار الطهي مثلما تعلّمها، وهو في عشريناته، من اليوناني أليكساندروس، فقيه المأكولات والأشربة وكبير الطُهاة في فندق سِيسِل حيث كان مسعودُ قد توظَّف في خدمات الحراسة، قبل أنْ يغدو هو مرسول المتعهِّد الذي يورِّد إلى مطابخ الفندق مؤونتَها اليومية من الأسماك الطازجة وصيْد البحر. كان مسعود يدخل المطبخ ويتحرك فيه بوَجَلِ العابدين، وتنبَّهَ أليكساندروس إلى أن هذا الولدَ سيغدو طاهياً نجيباً لو أُحسِن إليه؛ فبدأ معه من أول كيفية قَصِّ الطبّاخِ لأظافر يديه بلا جوْرٍ، وضرورة أن يتحنَّن بفؤاده على المواد وهو يجهِّزها ولو كان يُجزُّها بالساطور، إلى أنْ لَقَّنه ضرورة أنْ يُنصت بقلبه إلى أصوات النار في الأواني، وأنْ يُوقِظ بديهتَه إلى تمييز لحظة نضوج الطعام، لحظة الوصول المضبوطة، التي هي بلا قبل وبلا بعد، والتي هي كاملةٌ ككل وصول.

أحسَّ مسعودُ، اليافعُ، وقد امتلأت قلوعُه بالرياح الرخيَّة، بأن محاباةَ المقادير له تجاوزت المعقولَ وباتت تُذهِله هو نفسه. ترك سِيسِل وافتتح مطعماً شاعت شهرتُه بالبلاد وبلغت الضفةَ الثانية من المتوسط، فأتاه أثرياءٌ من مارسليا وأميراتٌ من فلورنسا وحالماتٌ من موناكو وشبيهاتُ كليوباترا من نابولي وكالياري وأسيز وتُجّارٌ وفنّانون وكُتّابٌ وسَحرةٌ من كريت وأثينا وبرشلونة وفاس وأنطاكية ومرمرة، وحتى من ساو باولو حَطَّ ضيوفٌ على موائده؛ إلى أن صُرِع اثنان من الزبائن في مساء يوم خريفي بهيج، هما قُنصل وخليلته، بعدما دسَّت يدٌ متآمرة كبدَ وأحشاءَ سمكة أرنب، ذات السم المكين القادر على إزهاق خرتيت، في وجبتهما، التي لم تثبت التحقيقاتُ أنها طُهِيت بمعرفة مسعود بالذات، لكن عُوجِل المطعمُ بالإغلاق، وأُقِرّت القسوةُ المشدّدة في إنزال الكرب بمسعود حتى بدا أن العقاب سيطالُ حتى الرياحَ أيضاً التي تتجرّأ فتملأ أشرعةً غيرَ مأذونٍ لها، ذلك لو أنّ بمقدور الأيادي تدمير الرياح. وأُخِذ مسعود إلى التنكيل به فالسجن ثم التشريد، إلى أنْ طُوِّح به إلى تلك الرَّقدة على أسفلت الطريق السريع وهو لا يقوى، حتى، على تَرجِّي نَوال الموت.

جرى تضييقٌ على متابعة القضية، فتداوَلَ أصحابُ الفضول تقوُّلاتٍ عن تورُّط الحُسّادِ، وأخرى تظن أن المراد كان التخلُّص من الـمُتجسِّسٍ ذي الرتبة الدبلوماسية، وتلك التي حسبت أن الهدف كان تسخيم الحسناء سليلة العائلة الكبرى المتزمِّتة، وربما لم يلحظ أحدٌ أن ديمترا، ابنة أليكساندروس، ذات السبعة عشر عاماً، قد قاربت الانتحارَ في الأيام التي واكبت تلك الواقعة.   

ديمترا، التي تجيد السباحة، والتي تتحرّز، كالآخرين، من أنْ تغصّ بشَرْبَةِ ماء حتى، كانت قد عزمت على الانتحار بطريقة كاتبتِها الأثيرة، وطاشت محاولتُها إذْ انفتقت جيوبُ ردائها الحريري المعبأة بالأحجار، بخبطات الأمواج ودَفْعها وانحسارها، فأفلتت الأثقالَ، وتمزّع الثوبُ، وانجرحت سيقانُ الفتاة التي استماتت في إصرارها على تغطيسِ رأسِها والغرق بأي شكل، إلى أن قذفت بها الموجةُ الهائلة إلى الشاطئ، فارتمت مغشياً عليها، ثم أُبلِغ عنها أبوها فحضرَ واصطحَبها. ومنذ أنْ أفاقت فترَت زهوتُها وكأنها امرأةٌ رجعت من واقعة اغتصاب، وبات ينتابها الشعورُ بأنها لم تعد إلى الحياة بكُليتها، مثل ما كانت قبل ارتداء الثوب الحريريّ، بل داومت على القول بأن شطراً منها قد غرق وأن شطرَها المأخوذ ذاك كائنٌ بالفعل ومُتَمَلَّكٌ في أغوار البحر. أتُراها غريقة! عيونُها حين تسرحُ تتبدّى ممسوسةً بالأزرق البحري. عساها غريقة. 

استأجرت عايدة منزلاً بثلاثة طوابق يطلُّ على الشاطئ في منتجعٍ قريب من بيتها، واستخرجت له الترخيص ليكون مطعماً؛ رصدت له المالَ وأوكلت شؤونه وشراء مستلزماته إلى مسعود، ناصحةً إياه بالاحتراسَ فلا يحرز إلا رواجاً عادياً لا يثير امتقاعا. وعَكَفَ مسعودُ صادقاً، من باب الامتنان والولاء، على تهيئة المطعم بتفاصيله كافة، على أنه لو استُشير في الأمر منذ البداية لَأبدى فتورَه، معترفاً بأن شعورَه غيرَ المفصَح عنه يتلخّص في أن أي مطعمٍ لا يمكن أن يعنيه حقاً طالما أنه لا يترأسُ الطهْيَ فيه، هو الذي لم يعد يتشهَّى هذه المهنة على أية حال. وقد أخبرها، في وجلٍ، بأنه إنْ عادَ إلى الطهْي ثانيةً فسيكون ذلك كي يُوقفَ طَهيَه حصراً عليها هي وحدها، فيُحضِّر لها وجباتِها يومياً، إنْ سمحَت طبعاً، وبأنه سيتحاشى الطهيَ بنفسه في المطعم، لكنه بالطبع سوف يتخيّر له أشرف الطبّاخين وسيراقبهم. اقترحت هي اسمَ "مطعم الأرنب العوَّام" فأومأ هو بالاستحسان، وسرعان ما سَكَنَ في غُرفة علوية مَطليّة، فوق سطح المطعم، ورقدَ على سرير فسيح، وجالَت بخاطره خواطرٌ، أقفلها، ونَعَسَ. 

نامَ ساعةً؛ هبَّت عليه فيها نفثةٌ من روائح أسفلتٍ قديمة لَطالما علِقت بجلدِه، فأفاقَ وهو يزْحر، وذهبَ من غدِهِ إلى حيث كان قد ترك هلاهيلَه، فوجد أن الشمس والرمال والملوحة قد خرمتها، فالتقطها، وعاد بها. وبينما كان يضغط الهلاهيلَ ليحشُرها في كِيسِه إذا بشيءٍ منها كالشوكة يوخز يدَه؛ فخضخضَها، تَحسُّباً، فانتترَت منها قوقعةٌ مغزلية، تأمّلَ فيها فأعجبته وانتوى تعليقَها تميمةً في رواق المطعم، بعد أن يُطلَى بالأزرق والأصفر كتحايا للبحر والشمس، على ما رغبت عايدة وأوعزت.    

***

الحشرةُ التي لدغتها في ثنية رُكبتها أمرضتها، وفي الحُمى نعست عايدة وساحت بين رؤى ومنامات وهذيان. وفي المنامات تراءت لها، مرةً بعد مرة، بقعةٌ في البحر، فسيحةٌ ومكشوفةٌ، تتلامع فيها أنوارُ حِصنٍ غارقٍ يشبه حِصنَها الأرضي العتيق الطافر من ألف ليلة وليلة. وبهمهمةِ المناماتِ هتفت عايدة هتافَ الغبطة: وجدتُّه! وجدتُّه! وتبدّت لنفسِها ماضيةً نحو ذلك الحصن الغارق، فترمحُ فوق الماء وتخطو فوق الأمواج بخطوات عجلى واسعة وأطراف ثوبها تهفهف وتصطفق، على غرار ما ترويه القصصُ عن القديسات، ثم تجيء، على غير توقُّعٍ، الخطوةُ الحرجة التي بها تنزلق قدمُها فتغطسُ وتنقلب وتغوصُ في الهاوية نازلةً إلى قعر البحر. رأت نفسَها وهي تسبح بنعومة، وتبدِّل اتجاهاتها في طلاقة، وتمرق، وتنظر بعينين جانبيتين؛ مندهشةً من كونها لا تحسّ بالغُربة بل كانت كمَنْ تلاشت ثم أُعيدت إلى الوجود. وكان التيارُ يدفعها فيُدخِلها إلى الحصن من بابٍ كالبللور فتتجول في حجراته الكريستالية وهي تتغندر، وفي الهذيان كانت تتكلّمُ، وتَسمعُ الكريستالَ يردِّدُ صوتَها بنقاءٍ، ثم إنها سمعت صوتاً غيرَ صوتها يهمس:

  • سأروي لكِ فتتعرَّفينني.
  • أسمعكَ! أسمعكَ! قُل لي، وأَطِل. 

 وهي تعترف لنفسها بأنها، وقد أخذتها الأخْذةُ، خاطبت مَنْ لم تكن تراه، ذاك الذي كان على قُربٍ، ومَسَّ منها رموشَها وحَفَّ بزغبِ أذنيها وتهيّأ لكي يضع لها كتابةً في راحة يدها. تَرَقّبَته؛ فعساه يُوافي ويُكاتِب، عساه يهمسَ بالمزيد، وكان أنْ رصدت إصبعَه يراودُ وجنتَيْها ويخُطُّ عليهما ويُراسِل، وهي تتتبّع الإصبعَ فيراوغها المكتوبُ ولا يبين، ولئن تتسمَّع فلا تسمع إلا مواءَ قطة وزقزقة عصفورٍ فتتيقّظ، وتكون جدائلُها مَعلُوكةً تتأتى منها روائحُ البحار، وعُنقُها يشحرُ وهو مُلتوٍ على وسادتها المبتلة بالعرق. أبقاها الإجهادُ متكاسلة في سريرها، وكانت لا تني تتشمّم في خصلات شعرها ملوحةَ القاع ورائحة أسماكه، ففردت قامتَها وتحمّمت ودفعت الحُمّى عن بدنِها ودقّت بقدمها على الأرض وسرى فيها يقينُ أوْبتِها إلى اليابسة، وفحصت في المرآة وجنتَيها وتحسَّستهما؛ ذلك أنها إنّما ترومُ إحياءَ شعورها بملمس الإصبع ذاك الذي كَتَبَ، وإنها تَجِدُّ وراءه، تَجِدُّ ولا تصل؛ لأن مسارَه مُتبدِّد والكلماتُ التي كُتِبت طُوِيت وكأنها خَمدت أو استُرِدت. وتخطر لها القوقعةُ التي كانت قد أبصرتها أثناء طلوعها من البحر فأعجبتها فتصيَّدتها؛ أين هي! استُرِدت! فتّشت عنها على سريرها، سُدى. حاقَ بها الفقْدُ، وما لها غير أن تزيح ذلك كله وتحتسبه من التهيؤات، هي التي تعي أنها عندما تعود إلى استئناف جولاتها على الشاطئ واستقراء البحر سيستحيل عليها الرضاءُ بأن زيارتها إلى القاع الكريستالي كانت هذيان حُمّى ليس غير.

***

مَرَّ اليومُ المتممُ للسنة الثالثة والأربعين من عمر عايدة أثناء أسبوع الحُمّى. نَحُلتْ وقد أمضت أيامَ مرضها بلا شهية، فما أكلتْ إلا قضمةً من كعكة المحار والبطاطا التي أعدّها مسعود لعيد ميلادها، ثم عافتها. يومذاك جاء مسعود وقدّم إليها كعكتَه وانصرف. وإذْ تملّكها الجوعُ عادت إلى الكعكة فتذوقتها وتلمّظت، ثم أخذتها معها إلى السرير والتهمتها، غير مُصدِّقةٍ أن يحوز شيءٌ كلَّ هذه اللذّة. ترنّمت وهي تستحضر صورة مسعود المشعث المتروك في رَقْدتِه على الحافة. أمَا خشيتَ الموتَ؟! إنْ لم أُبعِدكَ كنتُ سأدهسكَ. تخيّلتُ أني حتماً سأدوسكَ، وكُلَّما مررتُ بكَ كان يستهويني أن أُزيلكَ. قد تظُنَّ أننا لم نرتطم! ارتطمنا. ألف مرةٍ ارتطمنا! وارتطامي بجسدكَ دَكَّ جسدي إلى الأبد. 

قامت من فورها، وقد واتتها الفكرة، فذهبت إلى المطعم، وجاءها مسعودُ فأخبرته بأنها ترغب في مقابلته على الشاطئ عند الفجر. 

إنْ بدت عايدة في الخامسة والعشرين، فذلك أنها موفورة الرقة، ولُطفها يرمِّم فيها التهديمَ الطبيعي للزمن، كما لو أنّها مُستثناة. وهي، مع ذلك، لم تكُف عن التلصص على مروريةِ الأيام وتخريبها، يوماً تلو يوم، وتتهيّب اقترابَ الموت ومآل الموتى، وليست تنسى اللحظات التي استرقت النظر فيها من بين صفوف المشيِّعين فضبطت الدّفّانَ وهو يُغلِق القبرَ على أمها بالأسمنت ويسوّيه ويعزّزه؛ حريصاً على صرامة الغلْق. ما هي بغافلة ولعلها تدرك، من طرْفٍ خفيٍّ، أن الحِصنَ التائه في الزمان وفي المكان ربما يكون قد تجلَّى لها تلبيةً لرجائها في العثور على مَهْرَبٍ يتولّى إيواءَها قطعيّاً فيُفلِتُها من حتميةِ قبرٍ مُصمَت.

وفي عتمة الصبح جِئتَ للُقياها، ونزلتَ إلى الرمال بحذائكَ، واهتاج فيك الحنينُ إلى مرأى البحرِ الفَرِحِ مثلما كنتَ تراه في الشتاء من شُرفات ونوافذ سِيسِل.

مشيتَ بطيئاً ولم تنطق كلمةً، إنما اتصلت عيناكَ من بعيدٍ بظهر الواقفةِ ترنو إلى البحر، تحت النور القديم الساجي. في تلك العتمة شدهكَ عنقُها بفرط رِقته ونحولتِه الأنثوية وبالتماعته الخفيفة؛ لَكأنما كانت تُضوِّئه خصلاتُ شعرِها المشدودة وجدائلُه المرفوعة في تصفيفةِ فتاةِ جِيشا. في أيِّ هزيعٍ تُراها عكفت فنمَّقت جدائلَها هكذا! بأيةِ عقيدةٍ تُراها أعْلت خصلاتها عن عُنقها وأذنيْها كلَّ هذا الإعلاء! إن عايدة تودُّ أن تستفسر منكَ، وأنت من أهل المكان، عن الحصن الذي يتراءى لها. ترددت، ثم سألتكَ فأخبرتَها بأنكَ لا تدري، وبأنكَ كُنتَ قد سمعت، يوماً، من اليونانيّ عن قلعةٍ على الشاطئ تظهر مثل طيْفٍ، للبعض، ثم تختفي. حين اقتربتَ وصرتَ بمحاذاتها أشارت إلى بقعةٍ بعيدة بعيدة بعيدة في ظلمات البحر، وأفضت إليكَ بصوتٍ مأخوذٍ إنّ بيتها كائنٌ في القعر هناك، مثلما كان الأسفلت هو بيتكَ، وقالت إنها ذهبت إلى بيتها ذاك، زارته، وجالت في أبهائه واستنامت عيناها إلى صفو كريستالاته وبلوراته، ثم رجعت. وبقيتَ أنت صامتاً، وهي تدرك أنها قد خذلت نفسَها باندفاعها في الإفصاح، على الرغم من انتوائها على التكتُّم، وبالطبع التقطَ سمعُها صوتَ ابتلاعكَ لريقكَ لأنكَ كنتَ تتصنّع تصديقَها بينما تتبرّأ في سريرتكَ من حديثها، فتضاحكت هي لك ريثما يتسنَّى لها قوْلُ إنها كانت تمزح، ولا شيء أكثر من أنها إنَّما أرادت فقط أن تخبركَ، في هذا المكان، وفي هذا الوقت، بأنها تشتهي أن تأكل وجبةً من لحم ومرق سمكة الأرنب، شبيهة بالوجبة التي طُبِخت في يوم الحادثة؛ تطبخها أنتَ، وبأنها تود أن يُسمَح لها بالحضور أثناء إعدادك للوجبة، من الألف إلى الياء، لأجل أن تتفرّج وتستمتع.   

***

في أول المساء حضرَ ضيفان تحيطهما هالتان، وتشعْشعَ مزاجٌ رائِق في أرجاء المكان. هَلّلَ لهما مسعودُ واحتضنهما وتعرَّق، ورحبت بهما عايدة وأحاطتهما بابتساماتها الصافية. التقت عايدة وديمترا لأول مرة فكانتا كأنهما امرأةٌ واحدة في طوريْن يميِّز بينهما شعرُ عايدة الأسود من شعر ديمترا الأشقر وتفصلهما السنواتُ الخمسُ الزائدات لدى عايدة. طالَعني وجهُكِ، ديمترا، على كريستالاتي. أشتاقكِ، عايدة، كأني عرفتُكِ من أول العُمر. إن أليكساندروس وديمترا ابنتَه جالسان، بين عايدة ومسعود، يأكلان بمرح وحبور على أفخم مائدة في مطعم الأرنب العوّام؛ فمَنْ يكون يا تُرى ذا الذي بحثَ عنهما وقدّم إليهما الدعوة؟ لقد شاخَ الرجلُ الذي يحتفظ بهيأة المصارِع وبرزَت كدشةُ شَعرٍ أبيض من فتحة قميصه، وفي قُبالته جلست ابنتُه، الممشوقة، التي تعيش في نهايات ثلاثيناتها، وقد عقدت ضفيرتيْها الشقراويْن فوق جبينها المشرق ببهائه، مثل ما اعتادت في سِنِي مراهقتها، بينما الغضون الجديدة على جانبيْ عينيْها تضفي طلاوة. تداخلت أبخرةُ الطعام، واحتست عايدة المرقَ فطاب لها وأكلت شرائحَ سمكة الأرنب المدخَّنة، فكادت تشهق. ما إنْ اقتربَ الوقتُ من مطلع الفجر حتى انسلّت عايدة من الجَمْع إلى الشرفة لتنظُرَ الليلَ وتتشمَّم الهواء. إلى أفق البحر نظرت فطالَعَها الحصنُ العتيق من العتمة زاهياً وأكثرَ جلاءً منه في مرّاته السابقة، وكادت عايدة أن تهرول لتخبر الثلاثةَ وتستخبر ما لدى أليكساندروس، لكنها تمهَّلت وعَبّت ملءَ صدرها، وآثرت التكتُّم؛ مُرجِّحةً أنها قد أُحِيطت بما لا يليق به أن يُفتَضَح. وحين همَّت بالرجوع إلى جمْعِها دخل عليها أليكساندروس الشرفةَ، فأعاد غليونَ التبغ إلى جيب قميصه، ووضعَ يديه خلف أذنيه وقلَّد لها ترجيعاتِ الكروان على صفحة السماء، يا ألله يا ألله، تقليدكَ مُتقَنٌ وكأنكَ كنتَ من قبل كرواناً! هذه كانت أول مرة أنتحلُ فيها تغريدة الكروانات! وقهقهَ هو وأشعل غليونَه، وضحكت عايدة بعيونٍ مغتبطة، وأشارت بإصبعها تجاه الحصن، شاعرةً بأنها قد سَهُلَ عليها في التو أن تسأله عمّا هو كائنٌ بالأفق الذي كانت تنظر إليه، غمز لها بابتسامةٍ بأنّ صياحَ الكروان هو مفتاحُ وُلُوجٍ إلى ما انقطعت سُّبُلُه فصار له أنْ يُلمَحَ ولا يُذهَب إليه، سألته عن حادثة مسعود، وأجابها عن حادثة مسعود، ولا عينَ رأت يدَه وهي تصل يدَها وتبتهل فيها وتمكث، ولا عينَ رأت يدَها هانِئةً وجزلى ومُستجيبة. إني، لأجلكِ أنتِ، طلعتُ من مائي. عن يمينكَ الفلفلُ، وعن شمالكَ الياسمين، وأعشاشي لكَ؛ ترقد فيها وتبيض؛ فتعالَ. تعالَيْ. وعندما خرجا من الشرفة لم يجدا الرُّدهةَ الموصِّلة إلى صالة المطعم، حيث مائدة الأربعة، بل سارا، بموجب ما لديهما من حَق، في رواقٍ تطفرُ منه عليهما عتماتُ أنْجمٍ في سُباتِها وتضيئهما بروقُ كواكبَ خابية.

مثل قنديلِ بحرٍ شفيف فاتَ أليكسيس ويده بِيَدِ امرأةٍ هلامية تكادُ لا تُلمَح، تشعُّ منها فتنةٌ كتلك التي لعايدة. حين مَرَّا لم يلحظهما مسعودُ ولم تلحظهما ديمترا على الرغم من أنها قد نَشَقَت، للحظةٍ، نسمةً من عطر أبيها الذي نَثَرَه على كتفيْه لعشرين سنة؛ فعساهما مشغولان مشغولان مشغولان حتى لو كَبَت الأرضُ وتزلزلت. حاولتُ الغرقَ فغرقَ بعضي ليس إلا. عرفتُكِ طفلةً. لم أكن طفلة، كنتُ في السادسة عشر أو السابعة عشر لكن جسمي كان صغيرا. كنتُ ألاحظكِ تأتين للمكوث أحياناً بالمطعم. روَّعني جمالُ المرأة التي كانت ترافق الوجيهَ الدبلوماسي. أكنتِ تغارين على القُنصل! لا بل عليكَ إذْ أهلكتني منها اختلاساتُها إليك. آه. آه. آه. آه.

تتسنَّدُ ابنةُ أليكساندروس، لِوقتِها، على مرفق مسعود ويغادران بخطواتٍ قصيرة مثل ثَمِليْن مرتاحيْن بعد اختتام السهرة؛ فمَنْ يا تُرى لَمَحَ ديمترا حين التقطت قوقعةً متأرجحةً على خيطِها بمدخل المطعم، فأسكنتها على راحةِ يدها، وهَدْهَدْتها، وبَشَّت لها ثم رفعتها ناحية شفتيْها ووَشْوَشت فيها. إنْ كانت ذراعُ الرجل قد بُنِيَت فإنما بمعرفةِ خصرِ المرأةِ بُنِيَت.

وكان مسعودُ هناك وقد عرفت ذراعُه خصرَ ديمترا، وأَنِسَت.

وديمترا كانت هناك تمِيسُ.

 

(4 نوفمبر 2020 - القاهرة ، عابدين)

نُشِرت بجريدة "الأخبار" اللبنانية

atif_sol@yahoo.com