كَثيرًا ما كانت الترجمة، رغم كونها ظاهرة ثقافية ذات أهمية كبيرة، عُرضةً للتقليل من بصمتها العميقة والمستمرة، أو لنقل عرضة لتبخيس دورها التكويني في مجالات المعرفة المختلفة بسبب ارتباطها الوثيقِ بالأصلِ، أو بسبب كونِها تأتي في مرحلة تالية بعده، ما يَجعلُ منها مجرد نسخة تظلّ دائمًا في حاجة إلى الأصل. لكنّ ما لا يتنبّهُ له أصحاب هذا الرأي هو أن الترجمة تكونُ مستحيلة عندما يكونُ الهدفُ الجوهري الذي يُحركُها هو التطابقُ مع الأصل، وكأن الأصل في حدّ ذاته مُتعيّن، وليس عُرضة لإعادة التشكل، وإعادة التملّك والتنازع(1)
تأخذُ الترجمةُ قيمتها الأساسية مما يدعى "ما بعد تاريخ" [النّص]، أو حياته اللاحقة التي قد تكونُ خالدة عبر الأجيال. وتُشيرُ الحياةُ اللاحقةُ بحسب فالتر بنيامين "إلى سيرورة الانحلال والتدمير الصّبورة التي يبزغُ فيها الشيء من سياقات سابقة، مجرّدًا من بعض مزاياه ومكتسبًا في الوقت نفسه إضافات جديدة. إنها تلك المرحلة التي تَتأكلُ فيها سُطوحُ الشيءِ النقية الأولى، ولكن المضللة، لتتكشّف المعاني المخبوءة، وتظهر الحقيقة بوضوح في نهاية المطاف"(2). ففي هذه الحياة اللاحقة التي ينبغي أن تُؤخذ "على محمل الجدّ كشيء موضوعي بعيد عن أي رمزية"(3) لا يتغيرُ الأصلُ عند دخوله في سياقات لاحقة وحسب، بل يُحققُ أيضًا ازدهاره المتجدّد وحضوره في اللانهائي. إن إحدى السمات الدالة على الكثافة والثراء المتجددين اللذين تحوزهما الترجمة في الحياة اللاحقة، تتمثلُ في ترسيخ التقارب بين اللغات والثقافات. وكما يقولُ فالتر بنيامين "اللغات ليست غريبة عن بعضها، بل هي مسبقًا وبغضّ النظر عن علاقتها التاريخية، مترابطة في تعبيرها"، وعليه يُضيفُ مُؤلفُ "ممرات باريس المسقوفة": "وحدها الترجمة من بين كلّ الأشكال الأدبية من تشهد على نضج لغة الأصلِ وصرخات ولادة لغتها الخاصة في الوقت نفسه، لذلك فهي أبعد ما تكون عن معادلة عقيمة بين لغتين ميتتين"(4).
لنقل إن هذا التأويل الذي يَقفُ ضدّ ضُروب سوء التملك لعمل الترجمة، أو تقييم دورها تقييمًا سلبيًا، يجدُ ما يُعزّزهُ في ترجمة الأعمال الكبرى في الأدب العالمي، وانتقالها من حيز إلى آخر مع ما تستثيره من اهتمام، كـ"الإلياذة"، و"الأوديسة"، لهوميروس، والنصوص المقدّسة، وكتب "فنّ الشعر"، أو "البويطيقا" لأرسطو، و"ألف ليلة وليلة"، و"كليلة ودمنة" لابن المقفع، ومقامات الهمداني والحريري، كما يجده أيضًا في ترجمة أعمال مُعاصرة في حقول المعرفة المختلفة، مثل حقل النقد الأدبي الذي فيه يُمكنُ للمرء أن يفكّر بالأثر الذي أحدثته ترجمة أعمال كلّ من جورج لوكاش، وغولدمان، وبارت، وفوكو، ودريدا، وإدوارد سعيد، وآخرين، في نهضة النقد العربي، علاوة على الكتاب الشهير "نظرية الأدب: نصوص الشكلانيين الروس"(5) (1965) للناقد البلغاري تزفيتان تودوروف، وهو أول عمل له في نظرية الأدب. وكما يكتب الناقد المصري صبري حافظ "فللنصوص الأولى عادة حظها من التميز، ومن التوقع البكر الذي لم تصنع نصوص أخرى شروطه، ولم تحدد له مساراته"(6). ومن المعروف أن هذا الكتاب صدر عن مؤسسة الأبحاث العربية في بيروت سنة 1982 في ترجمة لإبراهيم الخطيب إلى العربية. ويمكن للمرء أن يتبيّن من انتقاله واستقباله أن الترجمة لا تتعين بوصفها نافذة على الثقافات المحيطة وحسب، بل أيضًا أداة رئيسة للرجوع إلى الذات، والتأسيس لحوار أعمق مع الحضارات والثقافات المختلفة.
عمل الشكلانيين الروس
المتتبعُ لشؤون النقد المغربي يَستطيعُ أن يُلاحظَ أن عمل الشكلانيين الروس يَتعيّنُ من بين الأعمال الأساسية التي اكتشفها هذا النقدُ مطلع الثمانينيات، وهي لحظة تدلنا ليس على الوضعية التي كانت عليها الثقافة المغربية وهي تستقبل هذا النصّ وحسب، بل أيضًا على الخصوصية التي يكتسيها كتاب تودوروف، والأفكار الجديدة التي يحملُها عن مهمة النقد ومفهوم الأدب، مما يَجعلُ منه عملًا مُهمًّا للثقافة العربية بصورة عامّة. لقد ظهر هذا الكتابُ في فترة بدا فيها جليًا أن "المعرفة المختصة تتحرك ضمن إطار من التغذية والتغذية الراجعة هي مدار حيويتها وتجددها في الأطر التي تهاجر إليها"(7). وهذا ما ألمح إليه الناقد أحمد بوحسن عندما كتب: "لم يكن لينتبه الناقد المغربي إلى إنجازات الشكلانيين الروس إلا بعد أن وصلت أعمالهم إلى النقد الفرنسي، حيث لم تسعفه سيرورة النقد العربي على الاطلاع على ذلك، لأنّ النقد العربي في المشرق لم ينتبه إلى أعمالهم لسبب أو لآخر"(8).
ويمكن أن نحدّد ثلاث علامات ميزت النقد المغربي انطلاقًا من هذه الفترة، منها أولًا اعتماد مرجعيات جديدة وطرائق مختلفة في قراءة العمل الأدبي، وهنا يُمكنُ القول إن قوة التأملات التي أرستها اللسانيات، والطرق التي اجترحها الشكلانيون الروس للارتقاء بالدراسة الأدبية إلى أفق مُختلفٍ ستشكّل رافدًا مُهمًّا من روافد الدرس النقدي المغربي والعربي. وثانيًا توظيف لغة نقدية جديدة مغايرة للغة التي كانت سائدة من قبل، ومن أبرز مظاهر الاختلاف الذي ميز اللغة الجديدة توظيف مصطلحات ذات خلفية لسانية، واعتماد الأشكال والتخطيطات والجداول ضمن التحليل. أما الثالثة فتتمثل في الحرص على تبنّي المقاربة المنهجية، والصدور عن خلفية محددة في دراسة الظاهرة الأدبية بهدف الكشف عن الأنساق والبنيات.
إن الانطلاق من هذه السّمات التي ميزت النقد المغربي في هذه الفترة، يُبرزُ لنا الأهمية التي تكتسيها محاولات تجديد النقد الأدبي بالبحث عن لغة جديدة تَختلفُ عن تلك المعتمدة في القراءة السياقية، رغم التحدّيات التي ما فتئت تواجه هذا البحث في المرحلة الراهنة، كما يكتب لوك فريس في مقالته: "هل نظرية للتاريخ الأدبي ممكنة؟"، ذلك "أن الأعمال الأدبية، إذا تمت دراستها خارج أي سياق وفقًا لمعيار تقني بحت ـ دعنا نقلْ بنية لغوية، أو مفهوم سردي ـ تُرى أمام القارئ بشكل أو بآخر معزولة بشدة عن الحياة من ناحية، ومجردة من معناها من ناحية أخرى. يحلّ نوع من العمل المخبري محل الإثراء الشخصي"(9). هكذا مع الجهود التي نهض بها كوكبة من النقاد المغاربة، من طراز محمد برادة، وأحمد اليبوري، وإبراهيم الخطيب، وعبد الفتاح كيليطو، وحسن المنيعي، ومحمد مفتاح، وإدريس الناقوري، ومحمد العمري، ومحمد الولي، وحميد لحمداني، ومحمد الدغمومي، وسعيد يقطين، وسعيد بنكراد، وحسن بحراوي، وعبد الرحمان طنكول، ورشيد بنحدو، وعمر حلي، ومحمد معتصم، وعبد الجليل الأزدي، على سبيل المثال لا الحصر، سواء على مستوى قراءة الأعمال الأدبية وتحليلها، أو على مستوى الترجمة، سوف يُعلنُ النقد المغربي الجديد عن نفسه معارضًا النقد السائد، ومعتمدًا قراءات أعمق، وتقويمات أشدّ رهافة، لمجموعة من النصوص النقدية الغربية التي سيكون لها أثرها الملموس على حداثته وقوته التفسيرية.
في مطلع الثمانينيات، سيقدّم إبراهيم الخطيب للعربية عملين مؤسّسين مختلفين ومعارضين لما هو قائم في المجال الأكاديمي، هما "نصوص الشكلانيين الروس" لتودوروف (1982)، و"مورفولوجيا الحكاية الخرافية" لفلاديمير بروب (1986)، ويُمكنُ تقديرُ قيمتهما من منظور تاريخ النقد الأدبي، بكون أثرهما يَقعُ في الفكر الأدبي المعاصر موقعَ الأساس الذي شيدت عليه الدراسةُ الأدبيةُ صرحها خلال الستينيات في فرنسا مع المدرسة البنيوية، وفي مناطق مختلفة من العالم، لاحقًا، بعدما عرفت النظرية الأدبية انتقالًا واسعًا بين الثقافات واللغات المختلفة. وعليه، يعدّ كتاب "نصوص الشكلانيين الرّوس" لتودوروف من بين الأعمال النقدية المعاصرة التي يُمكنُ أن نتلمّس من خلال الدينامية التي ميزت استقباله في ثقافات مختلفة كثيرًا من العلامات التي لا تضيء فقط على جوانب من تلك المسكونية الخفية التي كتب عنها المفكّر كاظم جهاد عندما تساءل عما إذا كان المُترجمُ يُترجمُ حقًا إذا لم يشعر بهذا الذي يَعكفُ هو على ترجمته وهو يستوقفُ منه كامل كيانه؟(10)، بل تضيء أيضًا على مستوى الثراء والتجدّد اللذين ما فتئ هذا العمل يَعرفُهما في حياته اللاحقة برغم المصير المتقلّب الذي لاقته الشكلانية في لغتها الأصلية.
لا شكّ أن المتتبع للمساهمة التي اضطلع بها الناقد إبراهيم الخطيب في إعادة النّظر بفاعلية النقد الأدبي، وفتح المجال أمام محاولات تطوير نظامه المفهومي بالبحث عن صيغ جديدة من التذوق الجمالي تقطعُ مع التصورات والمعتقدات التي وضعتها المقاربات السياقية، عندما يَقتصر على التوقف عند النقطة المتمثلة في ترجمة كتابي "نظرية الأدب"، و"مورفولوجيا الحكاية"، سوف لن يكون في مَأمنٍ من السّقوط في الاختزال، ذلك أن الخطيب قدّم للعربية أيضًا في مُنتصفَ الثمانينيات عملًا أساسيًا لرولان بارت، هو كتاب "النقد والحقيقة"، الذي ظهر في فرنسا عام 1966 في سياق خاص طبعه ظُهورُ تيار "النقد الجديد"، ولهذا رأى النقاد أن هذا الكتاب بمثابة البيان(11) الخاص بالنقد الجديد الذي نبّه إلى نواقص النقد الأدبي السائد، ويمثله رايمون بيكار، من خلال القول إن هذا النقد لم يكن في إمكانه أن يلبّي الحاجة إلى قراءة جديدة للأدب تتلمّسُ الكتابة والأسلوب.
عندما يُضافُ إلى الاهتمام برولان بارت، وهذا ما نجده أيضًا عند محمد برادة الذي ترجم لبارت "درجة الصفر في الكتابة" عام 1981، المقالات التي تناول فيها الخطيب الرواية المغربية، خاصّة مقالته "الرواية المغربية المكتوبة بالعربية: الرغبة والتاريخ" المنشورة في مجلة "أقلام" عام 1977، وأيضًا مقالته "بعض مشاكل تدريس الأدب في المغرب: تحليل لسياق الدّرس الأدبي" المنشورة في مجلة "آفاق" عام 1982، يَظهرُ للمتتبع لشؤون النقد المدى الذي يبدو فيه الناقد منتبهًا إلى مشكلات عديدة كانت تَعترضُ الوعي النقدي في المغرب، مثل النظر إلى الرواية وقيمتها من خلال مفهوم الشهادة على العصر. وتبعًا لهذا الفهم، لا تستمدّ الرواية قيمتها من الشكل الفني، وإنما من خلال الانعكاس والتعبير المباشر عن الواقع. يقول إبراهيم الخطيب: "إن النقد الأدبي، والروائي بصفة خاصة، كان وقع في الفهم السوقي للسوسيولوجيا: فالرواية، إما أن تكون شهادة على عصرها... باعتبارها الشهادة المثال الأسمى لارتباط الأدب بالحياة أو لا تكون"(12). بالإضافة إلى ما كان يتهدّد درس الأدب من فقدان للجاذبية، وعجز عن إكساب التلاميذ "مفاتيح القراءة" بسبب تجاهل التقليد المدرسي لدور القارئ وتركيزه في المقابل على دور الكاتب. فبخلاف هذا الفهم الذي كان مهيمنًا على النقد الأدبي، حرص إبراهيم الخطيب على إبراز ما تكتسيه الكتابة من أهمية في تنمية الذوق الجمالي، وفي تقدير قيمة الأعمال الأدبية، فاسحًا المجال بهذا الفهم أمام القراءة البنيوية التي سَيكونُ رهانها استكشاف العمل الأدبي من الداخل.
من هنا، يَتبينُ أن الاتصال المباشر للنقد بمستجدات النظرية الأدبية في فرنسا منذ الثمانينيات سَيتيحُ للناقد المغربي فرصة ملائمة ليس فقط لاستكشاف مناهج ومقاربات جديدة تنطلق من تصورات مختلفة للظاهرة الأدبية، ولكيفيات قراءتها، بل أيضًا لتمثل هذه المؤثرات واستيعابها وتأصيل بعضها وتحويله إلى مكون عضوي من مكونات النسيج الثقافي الجديد(13)، ومن بين هذه المناهج البنيوية التكوينية والسرديات والسيميائيات ونظرية التلقي.
النظرية الأدبية
لتلمّس الأثر الذي ينطوي عليه الاتصال بكتاب "نظرية الأدب" من خلال الترجمة التي قام بها إبراهيم الخطيب، والقراءة التي خضع لها هذا العمل من قبل النقاد المغاربة والعرب، يفيدنا ما أشار إليه بيير ماشري في كتابه "من أجل نظرية في الإنتاج الأدبي" من أن "العمل لا يتحقق بشكل عشوائي وفقًا لقانون الحرية اللامبالية، بل يتم تحديده بدقة في كل لحظة، وفي كل مستوى من مستوياته. هذا هو السبب في أن المصادفة ليست ذريعة أبدًا لظهور اللبس، ولكنها بمثابة مؤشر دال على حقيقة غير مسبوقة من خلالها يكون العمل على ما هو عليه وليس غيره"(14). ومن هذه الزاوية، ينبغي أن نستحضر كون الستينيات في الفضاء الأوروبي تميّزت بظهور مجموعة من الأعمال النظرية مترجمة إلى الفرنسية تحت اسم نظريات أدبية (théories littéraires)، أو نظرية الأدب (théories de la littérature)، وهو أمر يجد تفسيره ليس فقط في كون هذه الأعمال تهدف إلى إعطاء الدراسة الأدبية بعدًا علميًا من شأنه أن يقطع مع مرحلة طبعتها ممارسات جرى وصفها بـ "التجريبية الساذجة"، أو"المقاربات الخارجية"، وهذا ما يؤكده إبراهيم الخطيب في مقدمة الترجمة العربية لكتاب "نظرية الأدب" لتودوروف: "ومع أن أعمال الشكلانيين الروس بقيت طي النسيان أكثر من 20 سنة (قبل أن يقوم ناشرون غربيون بترجمتها وطبعها)، إلا أن ظهورها من جديد برهن، بما لا يدع مجالًا للشك، على قيمتها. ونشاهد حاليًا بزوغ هذا التراث في الاتحاد السوفييتي، حيث تظهر مدرسة جديدة للبنيوية الأدبية في جامعة تارتو(15)، وإنما أيضًا في كون مبحث النظرية الذي تنضوي ضمنه هذه الأعمال يرمي أساسًا إلى بناء ما أطلق عليه جيرار جونيت اسم "نظرية عامة للأشكال الأدبية"(16). وإذا كانت الجهود التي تندرج ضمن نظرية الأدب، أو نظريات أدبية، لا تشكّل كلية منسجمة، فإنّ ما يجعلها تبدو كما لو أنها متماسكة، وذات وحدة ظاهرة، يتمثل، بحسب الباحثة لوسيل ديمون (Lucile Dumont)، في ثلاثة عناصر، أولها الدعوة إلى تبني المناهج والمقاربات العلمية في الدراسة الأدبية، وثانيها أن اسم النظرية الأدبية أضحى علامة سياسية ما يجعل من النظرية الأداة الأساسية لنقد الأيديولوجيات في الأدب، أما ثالث هذه العناصر فهو أن فكرة النظرية تحيل على إرادة بناء "نظرية عامة للأشكال الأدبية" تتعيّن في الحدود الممكنة بوصفها نظرية عابرة للتاريخ وعابرة للأوطان(17).
منذ الستينيات، سطع نجم النظرية الأدبية بوصفها واحدة من أهم الاختصاصات في حقل الأدب نظرًا لما تحقق لها من مقومات تتمثل أساسًا في الجهاز المفاهيمي والأداة المنهجية الطيعة، والحماس لمعرفة كيف يتشكّل الأدب وكيف يعمل، فضلًا عن البعد العالمي، حيث اشتغل بها باحثون من ثقافات مختلفة، بما في ذلك الثقافة العربية. وهكذا مع النظرية الفرنسية التي استفادت من الأرضية اللسانية التي أعدها فرديناند دي سوسير لم تعد نقطة الارتكاز في دراسة الأدب هي التفكير في العمل الأدبي بالاعتماد على السياق الذي يتحقق فيه، أي العناصر الخارجية التي تتعيّن من منظور المقاربة السياقية بوصفها من صميم الأدب، فمنها ينبع جوهره وتعريفه وإنتاجه، بل أضحى الاهتمام في النظرية الفرنسية متجهًا إلى الكشف عن الخصائص والمقومات التي بها يتحدد الأدب باعتباره شكلًا خطابيًا. ومن المؤكد أن هذه المقومات ليست سوى "الأدبية"، أي ما يجعل من عمل ما عملًا أدبيًا.
عندما نقرأ كتاب "نظرية الأدب" الذي أعده تودوروف، وإليه يعود فضل تعرّف العالم على الشكلانية الروسية بعدما ترجم مؤلّفه إلى العديد من اللغات، بما في ذلك اللغة العربية، كالإيطالية والإسبانية والبرتغالية واليابانية والكورية والتركية واليونانية والفارسية(18)، ونتأمل في المقالات التي تضمنها والوقائع العينية الملموسة التي تم التّفكيرُ فيها من قبل رموز الشكلانية الروسية، من طراز رومان جاكبسون، وبوريس إيخمباوم، ويوري تينيانوف، وفيكتور شلوفسكي، وتوماشفسكي، يَتضحُ لنا أننا بإزاء حركة طليعية. فعلى الرغم من الاختلافات بين رموز هذه الحركة ممن ينتمون إلى دائرة موسكو التي تأسست عام 1915، أو دائرة سانت بيترسبورغ التي تأسست عام 1916، فإن هذا الاختلاف لم يحل دون أن تحدث الشكلانية تغيرًا عميقًا وجذريًا في طريقة وصف وتحليل موضوع الأدب. استطاع الشكلانيون بناء نظرية تروم تحليل الأدب من الداخل، وهذا ما مكنهم من إعادة موضعة الأدب في الموقع الخاص به في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية. لقد نظروا إلى الأدب انطلاقًا من كونه عملًا تشكّل اللغة مادته الأساس، فعملوا على وصف طرائقه، وتحليل مكوناته، باعتبار الأدب بنية دينامية مفتوحة على التطور والتجديد. وبهذه الرؤية، وضعوا الأساس لجعل الأدب موضوعًا مستقلًا تعنى به الدراسة الأدبية، بوصفها دراسة نسقية. ورغم الإسهام القوي في بداية القرن العشرين لكلّ من مالارميه، وبول فاليري، في تشييد الشعرية في لحظة تمّ فيها نزع السّحر عن اللغة، وساد الارتياب في شفافيتها، أو مدى قدرتها على التمكين من الولوج إلى الواقع بشكل مباشر، وهو ما ترتب عليه ليس الشكّ في قدرة الأدب على عكس الواقع وحسب، وإنما أيضًا أن وَجدَ النقد نفسه منفيًا بعيدًا عن الأرض التي كان يعتقد أنها موطنه الأصلي؛ أي السيرة والأخلاق والنزعة الموسوعية(19)، فإنه لم يكن غريبًا منذ الستينيات أن يتعيّن منجز الشكلانيين الروس بوصفه جزءًا أساسيًا من المعتمد الأدبي.
ومع أن تودوروف في محاولته إعادة خلق النقد قد ذهب إلى أبعد من حدود النقد الأدبي ذاته، حيث اهتم منذ الثمانينيات بإشكاليات مثل الذات والآخر، والأنوار، والذاكرة، والأخلاق.. وغيرها من القضايا المختلفة كليًا عن تلك التي انشغل بالتفكير فيها خلال المرحلة البنيوية التي وجد نقادها في كتاب "نصوص الشكلانيين الروس" أبرز مصدر إلهامي، وهو يعلق على زمن اكتشافه العلوم الإنسانية قائلًا: "لكن لم يكن لأي شيء مما توصلت إلى التفكير به عن اللغة، أو الأدب، علاقة مع معتقداتي أو ميولي؛ التي كنت أحسّها في الساعات غير المخصصة للعمل. بل وأكثر من ذلك، كان يبدو أن منطق هذه العلوم يستبعد منذ البداية كلّ تداخل من هذا النوع، بما أن العمل كان يعدّ أحسن بمقدار ما هو أكثر "موضوعية"، وهذا يعني بأنه كان يسمح باستبعاد كلّ أثر للذات التي كنتها، أو لأحكام تقويمية كان من الممكن أن أحملها"(20). وهذا أيضًا ما حدث قبلًا للناقد الألماني فالتر بنيامين، الذي كان عليه، كما يقول غريم غيلوتش، في محاولته إعادة خلق النقد بوصفه جنسًا، أن يحوله "إلى نقد بانورامي للحداثة نفسها"(21)، فإننا عندما نراجع بعض المقالات التي كتبها مؤلّف "نحن والآخرون" متناولًا فيها الشكلانية الروسية، سواء تعلّق الأمر بما أنجزه قبل صدور كتاب "نظرية الأدب"، مثل مقال "التراث المنهجي للشكلانية الروسية"(22)، الذي نشر عام 1956 في مجلة L’homme، التي كان يديرها كل من ليفي شتروس، وإميل بنفينست، أو الفصل الذي خصصه لهذه الحركة في كتابه نقد النقد(23)، أو المقالة التي تناول فيها اللقاء المستحيل بين باختين وجاكبسون، ونشرت بمجلة Esprit عام 1977 بعنوان: "لماذا باختين وجاكبسون لم يلتقيا"(24)، يَتضحُ أن العمل الذي نهض به هؤلاء النقاد الروس، وإن بدا ذا قيمة تاريخية عندما ينظر إليه المرء من هذه المسافة الزمنية، فإنه مع ذلك يظلّ يحتفظ بكثير من الجدة والأصالة، كما يؤكد على ذلك إسهام هذا التراث في تغيير المفهوم عن الأدب في البيئات الثقافية التي انتقل إليها. وإذا أردنا أن نتلمس الدفعة الشكلانية في هذا الشغل القائم على تفحصّ الأدب لا على أساس الثقافة الموسوعية التي كانت بمثابة المنفذ الوحيد للولوج إلى العمل الأدبي، وإنما على أساس مجموعة من الأدوات والقواعد اللسانية التي تضعها النظرية في متناول النقاد والدّارسين، يجب علينا أن نستحضر ما شدّد عليه بيير كامبيون في مقالته "كتابة تاريخ الأعمال الأدبية" عندما كتب: "في حقل الأدب تصنع بعض الأعمال الحدث، إن قيمتها ذاتها تنبع من ذلك. لأن العمل ـ خاصة العمل العظيم ـ لا يمكن التنبؤ به، ولا يمكن استخلاصه من الظروف، أو من الأعمال الأخرى: إنه خلق وإبداع. في فضاء الأدب وزمانه، ينتج عنه مفاجأة واضطراب وحتى صدمة: فهو لا يزيح مقولات القراءة والكتابة، أو يجددها وحسب، بل كذلك تصنيفات البويطيقا، أو البلاغة"(25).
وعلى هذا الأساس، قد لا يكون في الأمر أي تزيّد إذا اعتبرنا أنّ كتاب "نصوص الشكلانيين الروس" يعدّ من بين الكتب الكبرى، أو المفصلية(26)، بالنظر ليس فقط إلى كونه من الأعمال الأولى التي مهّدت للنظرية الأدبية في المجالين الفرنسي والأوروبي بصورة عامة، وإنما أيضًا إلى دوره في التقريب بين الثقافات والحضارات المختلفة الغربية والشرقية، كما يدلّ على ذلك استقباله في العديد من الثقافات.
إن التجديد الذي حمله هذا الكتاب إلى حقل الدراسات الأدبية معرّفًا بتراث الشكلانية الروسية، وريادة نقادها في مسعى لإعادة خلق النقد، والموقع الذي احتلّه في اللغات التي ترجم إليها والثقافات التي استقبلته، لا يُناظرهُ من حيث الإسهام في الوعي بسؤال ما الأدب؟ سوى العمل الذي قام به الرومانسيون الألمان ضمن حلقة يينيا في مجلة الأتنيوم L’Athenaum، خلال أواخر القرن الثامن عشر، عندما أسهموا في وضع الأرضية الصّلبة التي قام عليها المفهوم الحديث للأدب، بتشديدهم على الاستقلالية الذاتية للعمل الأدبي(27). ومع ذلك، فإن السمة المميزة لهذا الكتاب، مثله في ذلك مثل الأعمال الكبرى في الثقافات الإنسانية، كـ"كليلة ودمنة"، و"ألف ليلة وليلة"، هو قدرته على أن يكون جزءًا لا يتجزأ من الثقافات الكثيرة التي استقبلته. ومن ثمّ، فهو يتأبّى على أي محاولة لتوطينه في الثقافة الفرنسية بمفردها، رغم صدور الترجمة في اللغة الفرنسية أول مرة عام 1966، ذلك أن ثمة عوامل اجتماعية وثقافية متعددة، كما ترى الباحثة لوسيل ديمون، هي التي أعطت لنظرية الأدب خصوصيتها، سواء من حيث أبعادها العالمية، أو من حيث فضاءاتها والفاعلين الذين شاركوا في ظهورها، والمواقع التي احتلوها في عديد الجامعات والمؤسسات الثقافية، خاصّة أولئك الذين هاجروا إلى أوطان أخرى. ولا شك في أن "مسار المنفى يضع الفرد في موضع وسيط متعدد بين المجموعات والفضاءات الاجتماعية، وبين الثقافات"(28). وهذا بالتحديد هو الدور الذي نهض به في مجال نظرية الأدب مثقفون من طراز جاكبسون، وغولدمان، وتودوروف، وسعيد، وإعجاز أحمد، وكريستيفا، وغريماس، وهومي بابا، وآخرين.
مراجع:
1 ـ غريم غيلوتش، فالتر بنيامين: تراكيب نقدية، ترجمة مريم عيسى، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2019، ص66.
2 ـ المرجع نفسه، ص17.
3 ـ فالتر بنيامين، مهمة المترجم، ترجمة كريم نشار، الجمهورية، على الرابط: https://bit.ly/3EOS8J2
4 ـ المقال نفسه.
5 ـ يتعلق الأمر بكتاب: Théorie de la littérature: textes des formalistes russes / réunis, présentés et traduits par Tzvetan Todorov ; préface de Roman Jakobson وقد صدر في ترجمة إبراهيم الخطيب إلى العربية بعنوان: نظرية المنهج الشكلي: نصوص الشكلانيين الروس، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1982.
6 ـ صبري حافظ، نصوص نقدية متقاطعة وبصيرة نقدية ثاقبة، في: محمد ولد بوعليبة، النقد الغربي والنقد العربي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2002، ص7.
7 ـ حسين السوداني، أثر فيردينان دي سوسير في البحث اللغوي العربي، التلقي العربي للسانيات، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2019، ص19.
8 ـ أحمد بوحسن، في المناهج النقدية المعاصرة، دار الأمان، الرباط 2004، ص106.
9 ـ Luc Fraisse, UNE THةORIE DE L’HISTOIRE LITTةRAIRE EST-ELLE POSSIBLE ?, In L'histoire littéraire à l'aube du XXIe siècle, CONTROVERSES ET CONSENSUS, Actes du colloque de Strasbourg (12-17 mai 2003) réunis par Luc Fraisse, Presses Universitaires de France, Paris 2005, p.7.
10 ـ كاظم جهاد، إلى دريدا (فيما أترجمه)، في: لغات وتفكيكات في الثقافة العربية، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال، الدار البيضاء 1998، ص180.
11ـ Deltel Danielle, Critique et vérité de Roland Barthes : stratégie d'un manifeste. In : Littérature, n°40, 1980. Pratiques du symbole. pp. 122.
12 ـ إبراهيم الخطيب، الرواية المغربية المكتوبة بالعربية: الرغبة والتاريخ، مجلة أقلام، السلسلة الجديدة، العدد 4، فبراير 1977، ص1.
13 ـ عبده عبود، هجرة النصوص، دراسة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1995، ص220.
14 ـ Pierre Macherey, Pour une théorie de la production littéraire, ENS Editions 2014 , p.45.
15 ـ تزفيتان تودوروف، نظرية المنهج الشكلي: نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة إبراهيم الخطيب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1982، ص9.
16 ـ Lucille Dumont, Théories sans frontières ? Les théories littéraires en France et la construction d’un espace transnational, années 1960-années 1970, In Actes de la recherche en sciences sociales, Mohamed Amine Brahimi, Tristan Leperlier, Gisèle Sapiro,Editions du seuil, Paris 2018, p.47.
17 ـ Ibid., p.47.
18 ـ Tzvetan Todorov, Dernier retour sur les formalistes, Communication, 2018, Numéro 103, p.13.
19 ـ William Marx, Naissance de la critique moderne, la littérature selon Eliot et Valéry, Artois Presses Universités, 2002, p.13.
20 ـ تزفيتان تودوروف، نحن والآخرون، ترجمة ربى حمود، دار المدى، دمشق 1998، ص7-8.
21 ـ غريم غيلوتش، فالتر بنيامين، م م، ص14.
22 ـ Tzvetan Todorov, L’héritage méthodologique du formalisme, L’Homme, 5 (1), 1965, p. 64-83.
23 ـ Critique de la critique, Editions du seuil, Paris 1980. Tzvetan Todorov,
24 ـ Tzvetan Todorov, Pourquoi Jakobson et Bakhtine ne sont jamais rencontrés, Esprit, Numéro 288 (1), Janvier 1977.
25 ـ Pierre Campion, ECRIRE L'HISTOIRE DES OEUVRES LITTةRAIRES ?, Poétique, 2012 (2), Numéro 170, p.131.
26 ـ سعد البازعي: هجرة المفاهيم قراءات في تحولات الثقافة، المركز الثقافي العربي، بيروت 2021، ص129.
27 ـ Eric Lecler, L’Absolu et la littérature du romantisme allemand à Kafka Pour une critique politique, Editions Classiques Garnier, Paris, p.31.
28 ـ Lucille Dumont, Théories sans frontières ? Les théories littéraires en France et la construction d’un espace transnational, années 1960-années 1970, p.63.