يرى الناقد المصري أن الروائية العمانية تؤسس لخطاب سردي يقوم على العلاقة بين تشكيل الكينونة من خلال تجدد صور البدايات وأصالة المكان وما تتضمنه من خبرات فريدة تشكل تيار الحياة في المكان المستعاد في سياق كوني أوسع ضمن عالم تتجسد فيه أطياف الماضي، وصوره، وحكاياته ضمن صيرورة البطلة الواقعية.

جوخة الحارثي وإعادة تمثيل صور البدايات

وتجددها في رواية (حرير الغزالة): مقاربة تداولية إدراكية

محمد سمير عبدالسلام

 

تؤسس الروائية العمانية المبدعة جوخة الحارثي لخطاب سردي يقوم على العلاقة بين تشكيل الكينونة من خلال تجدد صور البدايات، وأصالة المكان / الواحة، وما تتضمنه من خبرات فريدة تشكل تيار الحياة في المكان المحلي المستعاد في سياق الإنترنت / العالمي، أو في سياق كوني أوسع ضمن عالم ممكن، أو محتمل تتجسد فيه أطياف الماضي، وصوره، وحكاياته، وشخصياته، وفضاءاته ضمن صيرورة البطلة الواقعية الآنية في بنية الحضور؛ وتبدو هذه الرؤية المتضمنة في الخطاب في رواية جوخة الحارثي حرير الغزالة؛ وقد صدرت عن دار الآداب ببيروت سنة 2021؛ وتؤكد الساردة – في خطابها – اتصال شخصية غزالة بتيار الحياة في الواحة عبر مراحل متدرجة في قوتها، وصعودها من بكارة الإدراك للذات والآخر والحكايات والأشياء مع صديقتها آسية إلى زواجها من العازف الذي يغيب بصورة مفاجئة، ولا يحب الاستقرار في المكان، ثم حكاياتها عبر الإنترنت مع الرسام الذي يدعى مغني الملكة، ثم تحقق التمازج بين الذات، والصور، والأطياف، والفضاءات القديمة نفسها ضمن عالم المياه الممكن في بنية الحضور؛ وكأن الساردة توحي – في تضمينات الخطاب – بأن البطلة / غزالة لم تكن تهدف إلى مجرد استعادة الحكايات، أو إكمالها فنيا، أو سيميائيا بالرسم مثلا؛ وإنما كانت تريد أن تحقق الماضي ضمن حالة أدائية يومية؛ فقد كانت غزالة تشعر بأنها تدخل غرف الماضي أثناء سباحتها، وأنها تشعر بصوت آسية يتجدد في أذنيها، أو بحضور القط شيبوب الآخر في حالات التناغم الأولى أو استعادة جنازته التي تشبه احتفالية للعودة، أو الانبعاث، وتفكك مركزية النهايات؛ ومن ثم توحي تضمينات خطاب الساردة أيضا إلى مماثلة كينونة غزالة لتيار الحياة القديم في الواحة؛ إذ تتوالى فيه الصور التي تجمع بين البهجة، والأصالة، والصمت، أو الفراغ، أو الانقطاع المفاجئ، أو المحو؛ وهو انقطاع توليدي للصورة في مجال ممكن آخر، تحقق فيه غزالة كينونتها عبر امتزاج فضاءي شخصيتها الطفولية، وحضورها الراهن، وأيضا فضاء الحدوث، وفضاء التحقق الممكن؛ ومن ثم سيشير المضمر في الخطاب إلى ضرورة وجود فضاء ممكن تتمازج فيه المياه - في الواقع - بغرف حكايات والد آسية الأسطورية، ووقائع الطفولة الفريدة في حياة غزالة؛ ومن ثم نستنتج مضمرا آخر – في بنية الخطاب – يتعلق باستمرارية تشكيل غزالة لكينونتها في العالم الممكن؛ وإمكانية توليد صور أخرى، وتمثيلات سيميائية – أدائية جديدة من علامات الماضي نفسها، والتي تقبل أن تكون متطورة بصورة أدائية في بنية الحضور؛ وأرى أن هذا التمازج الأدائي بين كينونة غزالة، وروحها الأنثوية الفردية، وتيار الحياة والصور القديم المتجدد هو ما يمنح غزالة حضورا فريدا ضمن الشخصيات الفنية النسائية في الرواية العربية؛ وبخاصة إذا أعدنا قراءة الفضاءات الذهنية المتداخلة، والروابط الإدراكية، والمفاهيمية بينها وفق الرؤى الإدراكية المعاصرة لطرائق الاتصال بين الفضاءات الذهنية والصور، والأفكار طبقا لمارك تيرنر، وفوكونير.

ويمكننا دراسة تطور غزالة الإدراكي – في بنية خطاب الساردة - عبر المقاربة التداوليةالإدراكية التي تستنطق المعنى في تطور السياق بمستوياته اللغوية، والاجتماعية، والإدراكية، ودراسة الحالات الذهنية، وتطورها الدينامي، وتداخل الفضاءات الذهنية، والتفاعل بين نماذج النظام المركزي في الدماغ، ومؤثرات السياق الاجتماعي لموقف التواصل، فضلا عن قراءة أشكال التواصل الرئيسية في الرواية وفق تسلسل أفعال الكلام طبقا لتصنيف سيرل، ودينامية فعل الكلام في التضمينات، والمضمرات طبقا لسبيربر، وويلسون، والمزج بين مبدأ بول غرايس التعاوني في تحليل المحادثة، ونظرية الصلة عند سبيربر، وويلسون أيضا.

ويشير هانز جورج شميد – في دراسته العناصر التكوينية الأساسية للمقاربة التداولية الإدراكية، والمتضمنة في كتاب التداوليات الإدراكية – إلى مفهوم التداولية الإدراكية، وما تنطوي عليه من عوامل للتفسير؛ فهي تتضمن تفسير المعنى في سياق الكلام (النص، والخطاب)، والموقف الاجتماعي، والثقافي للتواصل، والنظر إلى البنى اللغوية بوصفها بنى معرفية؛ أما عوامل التفسير فتتعامل مع المعنى غير المحدد بواسطة الاستدلال، والتأشير العائدي، والنظر في تغيرات الوضع التداولي، وتتعامل مع المعنى غير المباشر وفق التضمين، والمضمر، ومع المعنى غير الحرفي وفق الكشف عن دلالات السخرية، أو اللغة التصويرية الاستعارية في الخطاب، أو المحادثة. (1)

تجمع المقاربة التداولية الإدراكية – إذا – بين المعنى السياقي، واستنتاج الرؤى الإدراكية والحالات الذهنية وتطورها عبر الخطاب، وفي بنية المحادثة؛ فضلا عن استكشاف الحجاج، والمدلول المتضمن فيما وراء الاستعارة، أو السخرية في بنية الخطاب؛ فيمكننا مثلا قراءة حدث الإطالة في جنازة القط شيبوب – في رواية جوخة الحارثي – وفق السخرية من مركزية نهايته؛ وكأن غزالة وآسية كانتا تحتفلان بخروجه الآخر في الحكايات، والرسوم، والعالم الرقمي، وتمازج الصور في الفضاء الممكن الجديد في صيرورة غزالة، وتطورها المعرفي.

ويقوم نموذج التواصل الأول في رواية جوخة الحارثي على خطاب الساردة الذي توجهه للمروي عليه في سياق ثقافي يجمع بين كل من أصالة تشكل البدايات في الفضاء المحلي، وما ينطوي عليه من أصالة، وخصوصية تكوينية، وحكايات خيالية، وإمكانية تحول تلك الخصوصية الثقافية سيميائيا، وفي مكملات الحكاية في فضاء التواصل الرقمي عبر الإنترنت، أو في تشكيل الفضاء الممكن من داخل اتساع الفضاء الواقعي وانفتاحه على الفضاءات الأوسع في عالم الساردة الإدراكي، أو في تمثيلات غزالة الإدراكية للمشهد.

تسعى الساردة – إذا – لتشكيل معتقدات مشتركة مع المروي عليه عن شخصية غزالة، ومماثلتها – في الخطاب – لتيار الحياة، والصور في الواحة، كما تنتقي مؤثرات سياقية بعينها لها أهمية في تشكيل تلك الفرضية من السياق الثقافي الواسع مع المروي عليه، ومؤثرات سياقية أخرى من مواقف التواصل الاجتماعية الفعلية في الرواية، وتقوم الساردة بتوسيع قراءة هذه المؤثرات السياقية وتشكيل رؤيتها الإدراكية حول كينونة غزالة، وتطورها نحو المعايشة الأدائية للصور والحكايات ضمن فضاء ممكن داخل الواقع الفيزيقي – الكوني بمدلوله التعددي المتداخل وفق شبكة إنتاج الروابط الإدراكية بين الفضاءات الذهنية المتباينة؛ ومن ثم فالساردة لديها نية مستقرة لتحقيق صيرورة غزالة بهذا الشكل الذي يستلزم – في تضمينات الخطاب – نوعا من التوقع، والإكمال من قبل المروي عليه؛ ومن ثم تحث الساردة المروي عليه أن يكون مثل هذه النية المستقرة حول إمكانية لعب غزالة مع صور الماضي تحت المياه أثناء سباحتها، وأن يتفق مع معتقدها عن غزالة بوصفها تمثيلا لتيار الحياة الأول في الواحة؛ ولهذا سنجد أن الساردة تكرر الإشارة إلى عدم اكتفاء غزالة بحكاياتها، أو بإكمالها للحكايات القديمة أثناء تواصلها مع الرسام / مغني الملكة عبر الإنترنت؛ ولكن الساردة – في الوقت نفسه – تنتقي مؤثرات سياقية تتعلق بالصور، وشخصيات الحكايات، وتمثيلات المنظور؛ كي تعيد تشكيلها في فضاء أدائي مجسد؛ ولهذا وضعت الساردة شخصية الفيل / زميل غزالة في بؤرة الخطاب السردي؛ لقوة تجسده في وعيها الأنثوي الإبداعي، ورغم أنه لم يحقق التواصل مع غزالة؛ فقد انتخبته الساردة – في الخطاب – ليصير معبرا للتداخل الواسع بين الغرف الخيالية، والأطياف، والأحلام، والصور، والذكريات المحولة سيميائية في مشهد سباحة غزالة الأخير الذي يمهد للجدوث الآخر لخبرات البدايات في بنيتي الحضور، والمستقبل؛ وقد انتخبت الساردة مؤثرا سياقيا تصويريا يبدو هامشيا، ولكنه يمهد أيضا لتجسد الصور الفنية الآخر ضمن كينونة غزالة وواقعها؛ وهو الصورة السينمائية التي ارتبطت بدار السينما البسيطة التي أشرفت عليها العمة مليحة، ثم أغلقت؛ وكأن جنازة شيبوب، وإغلاق السينما البسيطة، وحكايات والد آسية، وهروب العازف أحداث تمهد لولادة أخرى في سياق تطور غزالة المعرفي / الأدائي في الخطاب؛ ولهذا اختارت الساردة علامة المياه كمؤثر سياقي يحفز السباحة في الحكايات، والسباحة في الغرف، والسباحة في فضاءات الأحلام بمصاحبة أطياف الحكايات الأولى، أو في القصر المهجور الواسع، واحتفالات العبيد المستعادة، والتي تكتسب – في بنية الحضور – البهجة، والأصالة، والدائرية وتستنزف مركزية الصمت، أو الانقطاع؛ وقد توسعت الساردة في بناء تمثيلاتها حول تطور غزالة وفق هذه المؤثرات السياقية المستمدة من الوضع الثقافي الراهن الذي يختلط فيه المحلي، بالصور الفنية المحولة في مواقع التواصل، والفضاء الرقمي، وبناء الفضاء الإدراكي الممكن / الواسع؛ فالعازف يتحول إلى نغمة، أو إلى صورة ساخرة تؤكد تناغم الصور والأطياف، والقط شيبوب يأتي وفق حالة فائقة من حالات التناغم عقب التهامه لوجبة سمك، ويقاوم الانقطاع في مشهد الجنازة المستعاد؛ ومن ثم فتعددية الفضاءات في السياق الثقافي بين الساردة، والمروي عليه قد حفزت إنتاجية صيرورة غزالة وفق فعل السباحة في المياه، والصور، والحكايات معا؛ وهو ما يؤكد تصور كل من سبيربر وويلسون في نظرية الصلة من جهة، وتصور فودور حول تمثيلات النظام المركزي في الدماغ للأنظمة الطرفية من جهة أخرى، وإن كانت المؤثرات السياقية العامة هنا قد وسعت من حضور تيار الحياة في الواحة خارج حدودها المكانية؛ مثلما اختارت غزالة نفسها فعل السباحة من عناصر الموقف الفعلي الاجتماعي؛ كي تتوسع قي ملامسة الفضاءات الخيالية / الطيفية بصورة أدائية عبر مؤثر المياه السياقي الذي يماثل مرونة صور الحلم، وتحولات صور الطفولة فيما يشبه جريان التيار، أو التدفق الواسع لصور الحياة والحكاية بين الحول، والتمثيلات الإدراكية اللانهائية الممكنة.

وسنعاين أهمية المؤثرات السياقية أيضا في استنتاج نوايا الآخر في مواقف التواصل المختلفة في رواية حرير الغزالة لجوخة الحارثي؛ فالساردة تستنتج إدراك المروي عليه للتداخل، والاختلاف بين فضاء الواحة المتضمن للأصالة، وفضاء الصورة العالمي؛ ومن ثم تستدل على إمكانية تحقق التواصل حول شخصية غزالة من خلال المزج بين تناغم الصور وفعل التخييل ضمن بنية حضورها وتطورها؛ فوفرة إنتاج الصور تستدعي نوعا موسعا من الحوارية الممكنة بين صوت غزالة، وأصوات الماضي عبر المشابهة بين الفضاءات، ومراحل تطور الشخصية؛ وهي مشابهة منطقية في السرد، وتحقق دور المؤثر السياقي الثقافي، أو مؤثر المياه في الموقف الفعلي في إثبات ملامسة غزالة لشخوص الحكاية.

وتعقب ديردري ويلسون – في دراستهااتجاهات بحثية جديدة في العلاقة بين التداولية والتصور المعياري للعقل – على التصور المعياري للعقل طبقا لجيري فودور، وتؤكد أن قراءة الحالة الذهنية للآخر لا تمثل نظاما معياريا مركزيا ومجردا فقط، ولكنها وحدة استنتاجية لا تتبع قدرات التفكير العام في التواصل، وتطوير لوحدة لها مبادئ وآليات خاصة بالتواصل، ومن الممكن أن تقودنا رؤية فودور المعيارية إلى تقارب في الاتجاهين الرئيسين للعلوم الإدراكية بدلا من انفصالهما؛ إذ يمكن استنتاج نوايا الآخر بصورة دينامية في موقف التواصل بدرجة أكبر من نسبتها للسلوك المنتظم؛ ومن ثم سيكون تطوير سبيربر وويلسون للنية التواصلية وفق دينامية السياق في نموذج غرايس عالميا وفق تصور فودور. (2)

تؤكد ويلسون - إذا - في دراستها كلا من الاتجاهين في بناء التمثيلات، والاستدلالات حول الآخر، مع أهمية عناصر السياق، وتطورها الدينامي؛ ومن ثم سنجد أن غزالة – في رواية جوخة الحارثي – قد استخدمت نماذج العقل في قراءة هويتها في البداية، ولكنها لم تستطع تحقيق التواصل الأدائي مع الصور إلا من خلال وحدة التواصل، وانتخاب عنصر المياه من الموقف الفعلي بوصفها تيارا من الصور، والأحداث، والحكايات، والشخصيات الفنية – الحلمية – الحقيقية.

ويمكننا قراءة خطاب الساردة كتسلسل من أفعال الكلام التي تتضمن التمثيلات / التأكيدات لتاريخ غزالة، ونشوئها مع آسية في منزل سعدة وزوجها الذي يغيب، ويعود بالحكايات، وتمثيلات التاريخ والنشوء وفق كينونة غزالة المماثلة لتجدد تيار الحياة القديم في فضاءات تعددية ممكنة، ويتضمن الخطاب فعلا كلاميا تعبيريا يتعلق بحب الساردة لصيرورة غزالة، وتطورها المعرفي باتجاه تحقيق التواصل الأدائي مع صور الماضي، وأصواته، وشخصياته المتداخلة؛ وتضمر الساردة أفعالا كلامية توجيهية في بنية الخطاب؛ مثل السؤال المتعلق بتكرار دورات الوجود والغياب في بنية الواحة، وعلاماتها، وفي صيرورة العازف؛ فهي تعزز من لامركزية الغياب، ولكنها تطرح التساؤل حول إمكانية عودة الصور، والأصوات أدائيا عبر المزج بين الفضاءات الذهنية، ودرجة حدوث هذا التحقق في عالم غزالة الإدراكي، وفي استقبال المروي عليه لتلك الدرجة من الحدوث، وتضمر الساردة فعلا كلاميا توجيهيا آخر يتصل بحث المروي عليه بأن يقوم بتخييل علامات المشهد، وإكمال صيرورة غزالة ضمن الحالة الأدائية، لا حالة الكلام، والإكمال، والرسم عبر الإنترنت؛ ويتوقع أن يقوم المروي عليه / مستقبل الخطاب بهذه الأدوار في نموذج التواصل الأول؛ فهو يحقق قوة فعل الكلام حين يقر بالتفاعل بين الصور في عالم غزالة الإدراكي وفق التناغم، والأصالة، والبهجة القديمة نفسها، مع استنزاف بنية الغياب المتكررة، ويحقق قوة فعل الكلام حين ينحاز أيضا لكينونة غزالة في الفضاء الآخر التعددي، وحواريتها المستمرة مع الصور، بينما يحقق لازم فعل الكلام حين يؤول الغياب المتكرر من خلال ولادة أثر الصور، وتكوين مدخلات بصرية، ولسانية، وسمعية حلمية جديدة قابلة للتجدد في سياق إدراكي مختلف، أو حين يبحث قي ذاكرته عن صور، وأحلام مماثلة، قابلة لإعادة التفسير بواسطة النظام المركزي في الدماغ، ووفق متغيرات السياق الاجتماعي لموقف الاستعادة.

وتتنوع المراجع المكانية، والشخصية التي تحيلنا إليها ساردة جوخة الحارثي بين واحة شعرات باط / المكان المحلي الذي يوحي بالتناغم والأصالة، والغياب المؤجل، ويقبل الاستعادة التصويرية في الفضاء العالمي / فضاء الإنترنت، وتتواصل فيه مع الفنان العراقي المقيم في السويد، وهي مقيمة في مسقط، ثم بدايات تشكل الفضاء الممكن التجريبي التعددي؛ وفيه تتوالد، وتتمازج فضاءات الحكايات، والأحلام، والأسطورة، والذكريات، وفضاء القصر المهجور الشبحي مثلا، وأطياف الاحتفاليات التي تجمع بين الرعب، والبهجة، والحياة الطيفية؛ وتتنوع المراجع الشخصية في حياة غزالة بين آسية، وحضور عائلتها الشبحي، وحرير صديقة العمل والجامعة التي تحقق هويتها الفردية من داخل الواقع، والعازف الذي يشبه كائنات الحكايات القديمة، أو النغمات في غيابه الملتبس بالحضور، وشخصية القط شيبوب التي تتصاعد في حضورها الداخلي من التناغم الطبيعي إلى الحضور الفائق الخيالي في بنية الحكاية، وفي تمثيلات مشهد جنازته الذي يعاد تمثيله في سياق الأصالة الداخلية للذات في مشهد سباحة غزالة في بنية الحضور.

تقول الساردة في خطابها حول التطور الآني لغزالة:

"ابتعدت عن الشاطئ ...، توغلت في البحر، تسبح، وتسبح، وتسبح، لا تدع ذراعيها، وساقيها للتعب، إن تداعت الآن لن تأتي آسية لإنقاذها، لن تسحبها كما كانت تفعل حين تنحشر غزالة في السواقي الضيقة ... دفعت بذراعيها، فأزاحت آثار ولادتها، ورجعت صرختها، وهي رضيعة متروكة إلى فمها إذ تلقفها صدر سعدة، خبطت بساقيها في الماء، فتفتت الغرف الأليفة المؤثثة بالهناءة الهشة، وذابت في الموج رائحة آسية، وخبز الفجر، وقماطات التوأم، تناثرت مع القطرات ظلال الوجوه، وأصداء الضحكات، وأنغام الكمان.

عليها أن تتحد بالماء، أن تصبح هي الماء، الماء يعرفها، ويحنو عليها .."(3).

تتشكل رؤية الساردة المتضمنة في خطابها عن غزالة – إذا – من خلال التجانس اللساني الذي بدا في تكرار فعل السباحة، واستخدامه – في مستوى القواعد النحوية – بصيغة المضارع، كما تنتخب الساردة من المؤثرات السياقية في الموقف الفعلي اتساع الماء، وجريانه في تيار؛ لتؤسس لبناء العالم الممكن؛ فالماء سوف يتداخل مع فضاءات ذهنية أخرى؛ مثل فضاء منزل سعدة، وفضاء الحكاية / القصر القديم، وفضاء منزل العازف الملتبس بحضوره الشبحي، ومرجع سعدة الشخصي الملتبس بغيابها عقب وفاة ابنتها زهوة؛ ولكن مرجع سعدة الشخصي قد أتى هنا ضمن ذكرى تتسم بالبهجة وصعود كينونة غزالة؛ وكأن الخطاب ينحاز لحياتها الشبحية الأخرى. ونلاحظ – في المستوى الدلالي – اختيار الساردة لكلمة الهشة؛ وهي توحي بالسخرية من مركزية تلك الهشاشة نفسها في المدلول المضمر في الخطاب؛ فتلك الهشاشة كان يتولد منها دائما حضور الأثر الطيفي المستعاد في الفضاء الممكن؛ ولهذا ازدادت – في بنية الخطاب – علامات مثل الأصداء، والضحكات الحلمية، والنغمات، وظلال الوجوه؛ لتؤكد أن البهجة الهشة تسخر من الغياب، ومركزية النهايات، وتنشئ بدايات جديدة للصور نفسها في الفضاء الذهني للعالم الممكن، ومعانقة غزالة للأطياف، وتمثيلاتها الممكنة وفق عناصر السياق الدينامية الجديدة.

وقد انتخبت الساردة أيضا من سياق الموقف الاجتماعي الفعلي لغزالة علامة الماء؛ وكررت لفظ الماء ثلاث مرات في المقطع السابق؛ لتنسج منه توسعا في مبدأ الصلة؛ فالمياه هنا هي مؤثر سياقي موجود في المشهد، ولكنه يوجد أيضا في تمثيلات النظام المركزي للدماغ، وهو يمثل - مع وحدة التواصل الدينامية مع الشخصيات والأطياف – فضاء آخر ممكنا تجتمع فيه تيارات الصور الحلمية، وتيارات الشخصيات القادمة من الذكريات، والحكايات، والأساطير، والتمثيلات القديمة التي تولدت عنها في سياق متجدد، يقبل إضافة تمثيلات أخرى بوعي غزالة، ومبادئ عقلها المؤولة للحدث الراهن؛ ومن ثم حققت الساردة شرط التوسع في الصلة طبقا لنماذج العقل، ومؤثرات السياق؛ وهو ما يعزز من تصور ديردري ويلسون، ودان سبيربر حول نظرية الصلة، وإن جاء التواصل هنا مع كائنات فنية طيفية، وتتداخل فيه المؤشرات السياقية المكانية في الفضاء الممكن، والزمانية في تمثيل أطياف الذكريات في حكايات جديدة ملتبسة بحدث أدائي / السباحة في الماء كمكان خيالي تعددي، ومؤشرات الذات، والآخر، والتي يحضر فيها الآخر ضمن مشهد حلمي متقطع، وبإيقاع داخلي أسرع من مواقف التواصل الاجتماعي الفعلية.

لقد قام كل من دان سبيربر، وديردري ويلسون بتوصيف مفهوم الصلة في التداوليات الإدراكية المعاصرة – في دراستهما نظرية الصلة – إذ تشير الصلة إلى مجموعة واسعة من العناصر الإدراكية المتضمنة في موقف التواصل بصورة دينامية؛ ولا تقتصر على اللغة، والظواهر المرئية، ولكنها تشمل الذكريات، والاستدلالات، والاستدلالات المولدة عنها، والمؤثرات السياقية الخارجية، وتمثيلاتها الداخلية التي توفر مدخلا للعمليات الإدراكية في وقت معين؛ وتتحقق الصلة حين ترتبط المدخلات بالمعلومات المختزنة لتقديم استدلالات ذات أهمية بأقل قدر من المعالجة. (4)

هكذا ينشأ التوسع في الصلة – عند سبيربر وويلسون – طبقا للأهمية من جهة، واتساع المدخلات المتاحة للانتقاء منها في موقف التواصل، والخلفية المعرفية، والتمثيلات، والتمثيلات المولدة عنها من جهة أخرى؛ ولهذا انتقت الساردة عنصر الماء؛ لأنه يحقق الصلة مع الفضاء، ومع تيار الصور في عالم غزالة الإدراكي؛ ومن ثم حققت غرض الخطاب / التواصل الأدائي مع العلامات بأقل قدر من جهد المعالجة؛ وكذلك انتخبت غزالة نفسها فضاء منزل سعدة، وفضاءات الحكاية الخيالية؛ لتحقق فعل دخول الذات بجسدها الواقعي في الفضاء الممكن؛ ومن ثم فهي تتجاوز أيضا الوقوف عند حكايات الإنترنت، والرسوم بأقل قدر من جهد المعالجة؛ فالسباحة قد وفرت ملامسة الفضاءات المتداخلة في المشهد وفق الروابط الإدراكية المنتجة بين الفضاءات الذهنية للأماكن المختلفة، المتداخلة في آن.

وتراوح الساردة – في المقطع السابق – بين أفعال الكلام من فئة التمثيلات حين تشير إلى تاريخ غزالة، ونشوئها، أو حين تشير إلى تمثيلات النظام المركزي في تفسير كينونة غزالة حين تتحدث عن الأصداء، والشخصيات، والفضاءات السابقة بوصفها بنى ذات فاعلية، أو حضور في المشهد، وكذلك فئة التعبيريات التي يمكن أن تستنتج من تضمينات الخطاب؛ فالساردة تقر بأن الماء يحنو على غزالة؛ ويعرفها، وتعرفه؛ ومن ثم تحب الساردة أن تقوم صورة المياه بوظيفة الفضاء الآخر الذي يحوي الكينونة؛ وتدفع المروي عليه أن ينسج فعلا كلاميا تعبيريا موازيا بأن يعزز من قراءته لشخصية غزالة وفق علاقتها الروحية الإيجابية بتيار المياه، وتيار الصور، وتيار الحياة؛ ومن ثم تؤكد أفعال الكلام – في خطاب الساردة – الثراء، والتنوع، وقابلية التفسير الدينامي؛ ومن ثم تؤكد منظور ديردري ويلسون، وسبيربر في تصورهما لطرائق تفسير أفعال الكلام وفق عناصر السياق، وجمل الخطاب، وطريقة الأداء.

ويؤكد دان سبيربر، وديردري ويلسون – في كتابهما الصلة، والتواصل، والإدراك – أننا قد نعتقد أن الاختلافات الدلالية بين التصريحات، وغيرها قد تكون في فعل الكلام نفسه، ولكنها تقع ضمن المستوى الأعلى من التأويلات المولدة عن التصريح؛ والذي يخضع بدوره إلى الأداء الجسدي، والتمثيلات الذهنية، وإشارات السياق، ووما تنطوي عليه من تضمينات، أو مضمرات؛ فالفعل الكلامي المتضمن في "لا أستطيع مساعدتك" قد يتضمن الإخبار، أو التصريح، أو التوجيه حسب تلميحات الخطاب.(5)

قد ينطوي فعل الكلام الواحد – إذا – على التعددية التفسيرية، وقد يوحي الخطاب بوجود فعل كلامي غير صريح؛ ومن ثم يمكننا أن نستنتج أيضا وجود فعل كلامي من فئة التصريحات في خطاب الساردة عن غزالة؛ فهي تصرح بأن غزالة سوف تستمر في المستقبل في المعايشة الأدائية الجديدة لصور البدايات في حضورها الحلمي المتداخل الجديد؛ ويؤكد هذا التصريح تكرار استخدامها للمضارع في مستوى القواعد النحوية؛ فهي تصرح بأن المستقبل سينبع من بنية الحضور؛ وقد تضمن الخطاب أيضا فعلا كلاميا توجيهيا حين ذكرت الساردة بأنه يجب على غزالة أن تتحد بالمياه؛ وهو فعل كلامي توجيهي، يتضمن إضمار الساردة لفعل كلامي آخر توجه فيه المروي عليه أن يعيد قراءة الفضاءات بصورة مرنة تشبه مماثلة المياه لفضاءات الغرف في الحكايات، والذكريات القديمة.

ويتضمن الخطاب – في حرير الغزالة لجوخة الحارثي – مستويين من مستويات التداخل بين الفضاءات الذهنية؛ يتعلق الأول منهما بالتداخل بين فضاء شخصية غزالة / الطفلة، وفضاء شخصية غزالة التي تطور كينونتها وفق تجدد علامات البدايات بصورة أدائية؛ أما المستوى الثاني فيتصل بالتداخل بين فضاء الحدوث / الواحة، وفضاء العالم الممكن / المياه الممزوجة بغرف الحكايات، والذكريات، والأحلام.

ويمكننا قراءة هذين المستويين من التداخل وفق آليات المقاربة الإدراكية وفق تصور فوكونير للفضاءات الذهنية، وما تنطوي عليه من روابط تداولية، وتطور نموذج قراءة العلاقة بين الفضاءات الذهنية عند مارك تيرنر؛ ومن ثم تتحقق الروابط بين الفضاءات بصورة توليدية، وتنتج فضاءات تفسيرية أخرى للمعنى وفق رؤى إدراكية دينامية متجددة، ومحتملة.

يطور مارك تيرنر نموذج التداخل بين الفضاءات الذهنية؛ ويشير إلى التفاعل الإدراكي بين المجال العام، وكل من مستوى الإدخال الأول، ومستوى الإدخال الثاني بوصفهما فضاءين ذهنيين متداخلين، وينطويان على طرائق الربط في الاستعارة الإدراكية أو المفاهيمية عند لاكوف، وطرائق الربط المنتجة بين فضاءي الإدخال الذهنيين.

ويمثل مارك تيرنر – في كتابه أصل الأفكار، وطرائق بناء الروابط، والصلات، وإنتاج الفضاءات الذهنية – إلى الاتصال بين فضائي الشخصية الفنية، والكائنات البحرية، وكذلك الاتصال بين فضاءي اللقطة الذهنية، والفوتوغرافيا الذهنيين، وتوليد الصور والأفكار، والروابط الإبداعية الجديدة من الغلاقات بين الفضاءات الذهنية، وما تتضمنه من استعاررات مفاهيمية؛ ويشير مارك تيرنر – في هذا السياق – إلى شخصية فنية تدعى أولغا؛ لا تنتمي بصورة مركزية إلى عالم البشر؛ فهي ترتدي معطفا، وتشبه الفقمة، وتبدو امرأة حين تخلع المعطف، بينما تتصل بالبحر، وعالم الثدييات البحرية، ويشير إلى إمكانية إضافة عنصر من لقطة مؤطرة ذهنيا إلى لقطة فوتوغرافية؛ ومن ثم توليد عوالم ذهنية مكانية أوسع وأكبر. (6)

هكذا ينسج مارك تيرنر الشخصية الفريدة المولدة عن أولغا، والكائن البحري من علاقات المماثلة بين مسويي الإدخال الأول، والثاني، والمجال العام لنموذج التداخل الإدراكي، أو يعيد تمثيل اللقطات الفوتوغرافية من خلال مجال مولد عن لقاء اللقطة بذكرى عابرة لنافذة مثلا.

وإذا بدأنا بتشكيل نموذج التداخل الإدراكي الأول بين فضاء الشخصية في الطفولة، والشخصية في حالة تشكيلها للكينونة؛ سيكون المجال العام في أعلى النموذج هو تشكيل الذات؛ بينما سيكون مجال الإدخال الأول، أو فضاء 1 هو شخصية غزالة في الطفولة، ومستوى الإدخال الثاني، أو فضاء 2 هو غزالة في حالة تشكيل الكينونة؛ ويتضمن كل فضاء ذهني منهما مجموعة من نقاط التشابه؛ تلتقي كل نقطة منها بمثيلتها في الفضاء الآخر؛ ففضاء غزالة الطفلة يتضمن بكارة تسجيل العلامات، بينما يتضمن فضاء غزالة في حالة تشكيل الكينونة بكارة تشكيل تمثيلات إدراكية متجددة من الذكريات، والأحلام، ويتضمن فضاء غزالة الطفلة التناغم في فعل معايشة الخبرات اليومية الطبيعية في الواحة، بينما يتضمن فضاء غزالة في حالة تشكيل الكينونة استحضار الأصالة، والبهجة في حكايات البدايات؛ لاستنزاف الغياب؛ وسيتضمن فضاء غزالة الطفلة حضور الآخر؛ مثل آسية، والعازف، ووالد آسية، وحرير، بينما يتضمن فضاء غزالة الآخر حضور أطياف الآخرين، وأصواتهم في الأحلام، والفضاء الممكن، وسيتضمن فضاء غزالة الطفلة تجسد القط شيبوب، وصورته المتناغمة، بينما يتضمن فضاء غزالة الآخر تكرار جنازة شيبوب، والتي يتولد عنها حضوره الاستعاري الفائق في العالم الممكن.

وينتج عن هذه العلاقات بين الفضاءين الذهنيين مجال الفضاء الوليد، أو الفريد، وهو الذات في حالة تحقق الحوارية الإبداعية مع تكوينات الماضي، وأصواته، وعلاماته في فضاء تعددي محتمل.

أما نموذج التداخل الإدراكي الثاني بين فضاء الحدوث / الواحة، وفضاء التحقق، والتجدد فسوف يبدأ بالمجال العام في أعلى النموذج؛ وهو أصالة المكان، وسيكون فضاء الإدخال الأول، أو فضاء 1 هو فضاء الحدوث / الواحة، وسيكون فضاء الإدخال الثاني، أو فضاء 2 هو فضاء التحقق، والتجدد؛ وسيتضمن كل منهما مجموعة نقاط جزئية، تلتقي كل واحدة منها بمثيلتها في الفضاء الآخر؛ لتحقق المماثلة التي سيتولد عنها المجال الفريد في نهاية النموذج؛ وسيتضمن إذا فضاء الحدوث الإحاطة بالشخصية، أما فضاء التجدد فيتجلى كتيار قابل للتداخل مع أماكن الحلم، والذاكرة، ومن ثم سيتضمن الفضاء الأول التجسد، بينما يتضمن الآخر التجسد الطيفي، وسيغلب على الفضاء الأول المدخلات البصرية، والسمعية، والحسية، ونمثيلاتها، بينما سيتضمن الفضاء الثاني تمثيلات فائقة، ومضاعفة لا تنفصل عن فضاء الحدوث، والفضاء الأول محلي / داخلي بينما الثاني داخلي / ممكن / كوني.

وينتج عن المماثلة المفاهيمية بين الفضائين السابقين فضاء فريد تعددي يحضر فيه فضاء الحدوث بصورة غير مركزية، بينما تتضاعف فيه مستويات الفضاء الكوني، والحلمي، والممكن.

ويمكننا قراءاءة التأشير العائدي / الأنافورا في وحدة الخطاب – في رواية جوخة الحارثي – وفق الربط القائم على التناغم، والأصالة، وغلبة الصور الفنية، والطيفية، والحلمية في مستوى البدايات الواقعية نفسها.

تشير السارد إلى الأصالة، والتناغم في منظور غزالة، وآسية المبكر للعالم عبر رؤيتهما للبقرة محبوبة بصورة أكبر وأضخم من حجمها الحقيقي، وأنهما لم تنتبها أنها كانت بقرة هزيلة لا تشبه البقرات الضاحكات في دعايات منتجات الجبن إلا متأخرا. (7)

هكذا تختلط صور الواقع المحلي بالصور الفنية، وأخيلة اليقظة ضمن البدايات الواقعية نفسها؛ ومن ثم يمتد التناغم إلى حضور هذه العلامات نفسها بوصفها مؤولات للكينونة، تستنزف الصمت، والتكرار الآلي في واقع غزالة.

تؤول غزالة شخصيتي كل من مغني الملكة / الرسام، والعازف / زوجها السابق؛ فالأول يقوم بتحويل العالم جماليا، ولا يهتم بالتفاصيل الواقعية، ولا بذكرياته حول غرفة الأب السفلية القديمة، ورغبته المستمرة وقتها في الهروب؛ بينما يقوم – في بنية الحضور – بإكمال حكايات غزالة، وإعادة رسم أبطالها؛ أما العازف فتؤوله غزالة من داخل حضوره الشبحي الذي تجلي في سردها لحياته الخيالية ضمن الواقع نفسه؛ فهو يغمض عينيه، ويعيش في بيت من الموسيقى، وحضوره يشبه صوت السماعات في أذنها، وهي نائمة بجوار الطفلين.(8)

ولا يمكننا فهم التداخلات الواسعة الحلمية، والفنية في الفضاء الممكن للبطة في النهاية إلا من خلال العودة إلى حالات الحضور الفائقة الملتبسة بالغياب المفاجئ؛ مثل صخب حب العازف لغزالة ثم اختفائه، وصخب صداقتها لآسية ثم الانقطاع عنها، وتمثيل القط شيبوب للتناغم الطبيعي الفائق، ثم مشهد جنازته، وانبعاثه الاستعاري الحلمي في فضاء الإنترنت، وفضاء المياه بعد ذلك.

تستعيد غزالة أطياف الواقع، والأحلام، والحكايات المستمدة من أصالة تيار الحياة في الواحة، وإمكانية تجددها في بنية الحضور؛ فهي تسرد حلما رأت فيه مياه الفلج تسير بشكل معكوس، ثم تذكرت آسية، وشعرت بأنفاسها، وبقوة تجدد ذكرى جنازة القط شيبوب؛ واستعادت حكاية والد آسية المتكررة عن قصر التاجر العماني من صحار؛ وهو قصر مهجور تسلل إليه ليلا مع زملائه، ثم شاهدوا طيفا للقنصل، والعبيد الذين لا يكبرون أبدا، وحفلات الرقص التي تجسدت أمامهم، ويقلد الأب هذه المشاهد، ويغرق في النشيج.(9)

ولا يمكننا – إذا – فهم الغرف الخيالية المتضمنة في رؤية غزالة الإدراكية لفضاء المياه الدينامي إلا من خلال دائرية القصر المهجور، ودائرية شخصياته الطيفية الأولى في حكايات الأب؛ فهو فضاء يجمع بين اللقطة العابرة، وتمثيلات الرؤى الإدراكية لغزالة، وآسية، والأب؛ ومن ثم يتداخل مع فضاء المياه المدرك كفضاء تعددي ينطوي على تمثيلات استعارية مضاعفة من الذكريات، والأحلام، والحكايات، والأساطير، واللقطات العابرة المختزنة في الوعي، واللاوعي.

وأرى أن خطاب ساردة جوخة الحارثي يقدم للمروي عليه حجة استدلالية رئيسية تقوم على أصالة حضور صور الماضي، وأصواته في عالم البطلة الداخلي، وحكاياتها، وفي تمثيلات مغني الملكة، وأخيلته عبر الإنترنت، ومن ثم إمكانية حضور هذه الصور، والأصوات بصورة وفيرة في سياق عالم ممكن، وتروي الساردة حدوث هذا المستوى الحجاجي الأقوى في سردها لصيرورة عزالة، وتكوينها لرؤية إدراكية حول الذات، والآخر، والعالم؛ ومن ثم يمكننا قراءة الحجة الاستدلالية الرئيسية – في خطاب الساردة – طبقا لسلم ديكرو الحجاجي.

يشير جاك موشلر – في القاموس الموسوعي للتداولية – إلى أن السلم الحجاجي عند ديكرو هو قسم حجاجي موجه؛ ويتضمن حجتين متدرجتين من الأسفل / ق1  إلى الأعلى / الأقوى حجاجيا / ق وصولا إلى النتيجة ن؛ ويمكن إدراك الحجة الأقوى لسانيا بإمكانية وضعها بعد الفاء، وبل، وحتى؛ فإذا قلنا ق بل ك تكون ك هي الحجة الأقوى حتى نصل إلى النتيجة ن. (10)

تتشكل الحجة الاستدلالية – إذا – في بنية الخطاب بدءا من الحكايات / مستوى اللغة، والصور المتخيلة من قبل مغني الملكة / مستوى الصور في التواصل الرقي؛ وستمثل ق 1 أو الفرضية الأولى؛ أما الفرضية المنطقية الأقوى ق، أو ك حين نضيف إليها بل، تكون الجملة لم تكن الاستعادة للعلامات، والأصوات في مستوى اللغة فقط، بل في مستوى الأداء اليومي / السباحة في تيار غرف الماضي، وتيار الحياة المتجدد عبر المزج بين الفضاءات الذهنية المكانية؛ وتصير النتيجة فاعلية الصور، والأطياف، والشخصيات في الفضاء الممكن في بنية الحضور.

وتتضمن رواية جوخة الحارثي محادثتين لهما دلالات عميقة في تطورها المعرفي باتجاه تأويلها لذاتها، وللآخر؛ الأولى بين غزالة ومعني الملكة عبر الإنترنت؛ ويتحقق فيها نوع من التناغم المؤجل؛ لأن غزالة تهدف إلى تأويل ذاتها وفق تجسد الصور في حالات الأداء اليومي؛ ومن ثم فهي لا تكتفي بإكمال الحكايات القديمة عبر الإنترنت مع مغني الملكة؛ أما المحادثة الثانية فهي بين غزالة، وزميلها الذي تلقبه بالفيل؛ ويغلب عليها الانفصال بين الذات، والآخر؛ ولكن هذه المحادثة قد عمقت عالم غزالة الداخلي بدرجة كبيرة، وأحدثت بعدها تحقيقها لفعل السباحة في الفضاء الممكن المجدد لصور الماضي أدائيا.

تروي الساردة المحادثة بين غزالة، ومعني الملكة / الرسام في سياق افتراضي بين مسقط، والسويد؛ تقول بلسان غزالة:

"-لم يعبأ شيبوب بالاحتفاء بالوليمة التي تعبنا في إعدادها، بل التهمها دفعة واحدة محاذرا اقتراب باقي السنانير منه. قلت بسخط: لم يشكرنا حتى؛ فقالت آسية: تهال يا شيبوب ... فقفز على رجلينا، ونحن نكركر.

تنهدت: مات الهر محترقا.

ضحك مغني الملكة: يبدو أن هذا الهر عنده شخصية مميزة، لا عجب أن تتعلق به آسية.

-وضعناه على حطبة، ودرنا به حارة حارة...

- لو كنت في الخوير حين جئت إليها، وأنت في الخامسة عشرة ... لرسمتك بمريول المدرسة في ألف لوحة، ولخطفتك بدراجتي، وطرت بك إلى السويد.

ثم تشير الساردة إلى أن مغني الملكة قال إنه لو مشى مغمضا عينيه في الواحة لعرفها بيتا بيتا." (11)

إذا قرأنا المحادثة السابقة وفق المؤشرات السياقية، وأفعال الكلام، ومبدأ بول غرايس التعاوني مع نظرية الصلة لسبيربر وويلسون، سنلاحظ الإعلاء من صورة شيبوب كآخر يدل على التناغم الطبيعي المتجدد في حدث الجنازة الذي يشبه احتفالية بحضوره التصويري أو انبعاثه الخيالي؛ ومن ثم فتكرار صورة شيبوب يوحي بأنه يسهم في تشكيل الكينونة في زمن المحادثة نفسه، بينما يشير مغني الملكة – خطابه – إلى ازدواجية القرب، والبعد الزمكانيين من غزالة مع غلبة وضع البعد؛ ولهذا يشير إلى وفرة عدد اللوحات والصور الممكنة؛ وسيختلف منظور غزالة لهذه اللوحات الوفيرة عن منظور معني الملكة؛ لأن غزالة لا تهدف إلى الاكتفاء بالصور، والحكايات؛ لهذا نجد خطابها يكرر شيبوب الداخلي كنغمة شخصية، ويكرر الشوارع، الحارات تمهيدا لإنشاء الفضاء التعددي الممكن.

وتغلب أفعال الكلام المتعلقة بالتمثيلات على كل من خطاب غزالة، ومغني الملكة، بينما تتضمن فعلا كلاميا تعبيريا يتعلق بحب غزالة للقط شيبوب، وحبها لتجسده الخيالي الداخلي بوصفها مؤولا للتناغم والأصالة في كينونتها؛ أما مغني الملكة فيتضمن خطابه أفعالا كلامية تمثيلية، تتضمن فعلا كلامية تعبيريا يشير إلى حبه لإنتاجية الصور والحكايات عبر الفضاء الرقمي.

وتسهب غزالة في اتخاذ موقع حكاية المتن / الذكريات؛ ومن ثم تعلو درجة الكم لديها عن حكايات معني الملكة وفق مبدأ الكم عند بول غرايس، ولكن مغني الملكة يتخذ أحيانا موقع حاكي المتن، ولكنه يحقق كينونته من خلال الرسم في السويد، والتواصل عبر الإنترنت، بينما تعلو درجة الكم لدى غزالة لأنها تشكل كينونتها من خلال الحكي، والأداء اليومي؛ وسنجد أن غزالة تقدم حجة استدلالية – في مستوى الجودة -  تتعلق بأهمية التذكر في تشكيل الكينونة، وحجة خبرية تتصل بحكاية جنازة شيبوب التي تشبه الاحتفال بصورته الداخلية، بينما يهتم مغني الملكة بالحجاج الخبرية المتعلقة بإنتاجيته للصور خارج فضاء الطفولة القديم؛ ومن حيث الأسلوب نجد أن غزالة تنظم سردها لحكاية شيبوب منطقيا في تسلسل سردي وظيفي، وسائطي معا؛ فكل وحدة وظيفية تتضمن تطويرا لعالمها الداخلي، بينما يقوم مغني الملكة بدور المكمل، ويرتكز على ذاته كمنتج لصور سيميائية محولة عن الواحة؛ أس يرتكز على دوره العاملي في السرد كمساعد افتراضي للبطلة.

وتنتخب غزالة – في بنية المحادثة – ذكرى شيبوب، مع تمثيلاتها الذهنية الآنية؛ لأهميتها في تطويرها لكينونتها وفق التناغم، والأصالة في بنية الحضور؛ ومن ثم تريد غزالة أن تتوسع في استحضار الذكري؛ لتنقلها إلى المستوى التصويري، ومستوى الأفعال اليومية، ومستوى تشكيل الكينونة بأقل قدر من المعالجة؛ فصورة شيبوب الممثلة للتناغم تأتي بشكل متكرر يستنزف الصمت، ويمتزج بصور العازف، وآسية، وشخصيات الحكايات في فضاء حلمي ممكن؛ ومن ثم تتحقق نظرية الصلة هنا بالتوسع في تمثيلات شيبوب الدالة على التناغم الداخلي الطبيعي.

أما مغني الملكة فينتخب من سياق الإنترنت سهولة نقل الصور، وإنتاجيتها، ويقوم بتخييل مشاهد الواحة مع غزالة، ويرتكز على إعادة إنتاج وجه غزالة مع احتفاظه بالقرب، والبعد معا، والذي يميز التواصل الرقمي عبر الإنترنت؛ ومن ثم فهو يتوسع في فعلي الإنتاج، وإعادة الإنتاج للآخر / غزالة، وللمكان / الواحة انطلاقا من المؤثر السياقي المتعلق بالتبادل الرقمي للصورة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

وتروي السارد المحادثة بين غزالة، والآخر زميلها المتزوج الذي أطلقت عليه لقب الفيل؛ إذ كانت غزالة مستغرقة في تأملاتها عقب استماعها لحديثه حول تاريخه، وظروف عائلته؛ وكانت غزالة تتأمل صورة لعجوزين، وتتساءل هل هي صورة حقا بالأسود، والأبيض، وليست رسمة؟ كم عمر هذين العجوزين؟ وماذا يقولان؟ وقد لاحظت ابتسامة صغيرة على شفتيهما كأنهما سعيدان بما قالاه.

أما الفيل فقال: لا تفكري كثيرا يا ليلى، تعرفين؟ الحياة هكذا، وزوجتي تعرفين، حساسة جدا.

وتتأمل ليلى في دلالة الاسم؛ فهي ليست ليلى؛ ليلى موجودة في الأوراق الرسمية فقط؛ ثم تتساءل حول سبب وضع الأرائك الخضراء مع البنية في هذا المقهى، وتتساءل حول إمكانية وجود درجة من الأخضر تتناغم مع البني. (12)

لقد توسع كل من طرفي المحادثة غزالة، والفيل في الكم بصور متباينة توحي باختلاف عبثي في الرؤى لطبيعة التواصل، وموقف التواصل الفعلي؛ فالفيل يروي حساسية زوجته، ونمطية الحياة اليومية، ويكرر – في خطابه – الفعل تعرفين؛ وكأنه يوحي بغلبة التكرار، والنمطية الأسبق من حضور غزالة، وتشكيلها لكينونتها، بينما تسهب غزالة في مونولوجها الداخلي، وتنتخب مؤثرات سياقية تصويرية تتعلق بالتناغم بين عجوزين في صورة، أو التناغم والاختلاف بين اللونين الأخضر والبني في عناصر المكان في الموقف الفعلي؛ وكأنها تعلي من الكم الممثل لكينونتها، وتمثيلاتها الأنثوية لعناصر السياق؛ ومن ثم فالكم في خطاب الفيل لا يحقق الصلة؛ لأنه اختزالي، بينما الكم – في خطاب غزالة – يحقق الصلة؛ لأنه يتوسع في تشكيل تأويلات تمثيلية أنثوية للذات، والآخر، والعالم تسهم في الإعلاء من دلالات الصور الفنية، وفاعليتها في السياق اليومي؛ ومن ثم تغلب الوسائط الداخلية على كل منهما؛ فلكل منهما عالم داخلي منفصل في مستوى الأسلوب، ويتجلى الانفصال في إنكار غزالة لمناداة الفيل لها باسمها الرسمي ليلى؛ إذ تتصل كينونتها باسمها الآخر / غزالة، وتبدو حجة الفيل الاستدلالية متعلقة جزئيا بطبيعة الواقع الاجتماعي، بينما تؤسس حجة غزالة الاستدلالية لفاعلية الصورة في سياق إدراكي كوني أوسع في مستوى الجودة.

ونلاحظ غلبة أفعال الكلام من فئة التوجيهات / الأسئلة الداخلية على خطاب غزالة؛ لأنها تقوم بتحفيز نفسها لتحقيق مستوى التواصل الأدائي مع الصور، والأحلام المنتجة في موقف فعلي محتمل في كل من الحضور، والمستقبل، وسيتضمن خطابها فعلا كلاميا تعبيريا يشير إلى حبها للحوارية الداخلية مع الصور، والعلامات، والأطياف الفنية.

وأخيرا أرى أن جوخة الحارثي – قدمت عبر خطابها السردي في حرير الغزالة – شكلا فنيا، وجماليا فريدا للشخصية الروائية في علاقتها الأدائية اليومية بصور البدايات الفاعلة المستعادة.

*هوامش الدراسة:

(1) Read, Hans – Jorg Shmid, Cognitive Pragmatics, Edited by: Hans – Jorg Shmid, De Gruyter Mouton, 2012, p. 10.

(2) Read, Deirdre Wilson,  NEW DIRECTIONS FOR RESEARCH ON PRAGMATICS AND MODULARITY, S. Marmaridou, K. Nikiforidou & E. Antonopoulou (eds) 2005. Reviewing Linguistic Thought: Converging Trends for the 21st Century. Mouton.

(3) جوحة الحارثي، حرير الغزالة، دار الآداب ببيروت، سنة 2021، ص 182.

(4) Read, Deirdre Wilson and Dan Sperber, Relevance Theory, in The Handbook of Pragmatics, Edited by Laurence Horn and Gergory Ward,  Wiley-Blackwell, 2006, p. 608, 615.

(5) Read, Dan Sperber and Deirdre Wilson, Relevance: Communication and Cognition, Wiley-Blackwell; 2nd edition, 1996, p-p 167, 168.

(6) Read, Mark Turner, The Origin of Ideas: Blending, Creativity, and the Human Spark, Oxford University Press, 2014. P-p 149, 150.

(7) راجع، جوخة الحارثي، السابق، ص15.

(8) راجع، السابق، ص-ص 92، 93.

(9) راجع، السابق، ص-ص 122، 123.

(10) راجع، جاك موشلر، وآن ريبول، القاموس الموسوعي للتداولية، ترجمة بإشراف: عز الدين المجدوب، دار سيناترا، والمركز الوطني للترجمة بتونس، ط2، سنة 2010، ص-ص 298، 299.

(11) راجع، جوخة الحارثي، السابق، ص 55، 56، 57.

(12) راجع، السابق، ص-ص 180، 181

 

msameerster@gmail.com