إذا كان قد عُرف عن جيل التسعينيات، بأنه الجيل الذى أعلى من شأن الحواس، الأمر الذى كان له مردوده فى الذهن العام، حيث حضرت صورة الجسد، بما يمثله من رؤية مسبقة له، إلا أن هذا الجيل كان يستلزم الرؤية المتأنية، ليعلم أن هذا الجيل قد سمى بتلك الحواس، ليصل بها إلى حد التصوف. ومن بين هذاالجيل يأتى الكاتب المصري ليسبح بتلك الحواس خارج حدود الأرض، خاصة فى قصته.

كيوبيد الساحر

سعـيـد نـوح

 

يقال إن الخطئية تذهب إلى باب البيت. تجلس مستريحة البال. لا يعنيها وجود نور أو ظلام، تماما كما لا يعنيها من ستقابل هذا الصباح. هي غير معنية بالوجوه أو بأحوالها. هي فقط مرسلة الآن إلى الفيلا رقم 91 بجاردن سيتي من أجل الالتقاء بفريدة ذات الأربعة عشر ربيعا،

ابنة الخادمة، لا بد ستسلم أغلى ما تملك لولد لا تعرف اسمه! لم يحن الوقت بعد لذلك اللقاء ولذلك لا تعرف اسم القناص. لقد جاءت قبل الموعد، لتستعد على مهل. هي لا تفعل ذلك في العادة، فلها وقت معلوم لا تتأخرعنه أبدا، ولأن الوقت لا بد أن يمر حتى تأتي لحظة لقاء فريدة

بالخطيئة، فلنا أن نعرف أقل المعلومات عن أي شيء يفيد. نقول إن الخطيئة تشبه الموت في الحصاد. ذلك يأخذ روحا وتلك تأخذ رفرفة الروح قبل لحظة القنص. هو يأتي بالدقة المطلوبة حتى لا تفر ولو مجرد روح في تلك المزرعة الواسعة وِسْعَ الأرض. لم يستدل على خطأ واحد له. الخطيئة أيضا تفعل ذلك. يقال إن الإنسان يتمنى لو عاد بعد الحياة ليفعل غير ما فعل. يظل قولا لم يستدل على صحته، في حين أن الكل بعد انتهاء الخطيئة يتمنى بصوت عال عدم حدوثها. هناك أشياء مشتركة كثيرة، لكن المسرح قد أُعدَّ جيدا وها هي الخطيئة تتقدم؛ لترافق فريدة. كانت حجرة نوم شريف مليئة بأضواء الشمس، وهو يقف أمام عارض مرسمه، يدقق اللون

الأزرق للسماء، تلك التي تلف عالما كبيرا مكونا من بيوت كثيرة تطل على النيل، الذي يغص بجميع أنواع الأشرعة التي تركتها يد الفنان تستجيب للريح، حتى أنها تعلو وجوه الذين يظهرون دون ملامح مبتسمة. كانت الطيور التي تركت اللوحة تنقر على الباب، لتظهر فريدة بصحبة الخطيئة في لحظة تجليها الأمثل. ولد صغير من الأولاد اللذين يلعبون أمام أحد بيوتهم في اللوحة نبه شريف إلى نغزة الحسن في خد فريدة. لحظة ذاك ترك الفرشاة تسقط لتنثر الألوان في المشهد بعشوائية، بل بما لا يليق بالأزرق. نطت سمكة من شباك أحد الصيادين مودعة الحياة واللوحة، لتستقر فاقدة الحياة تحت قدم فريدة التي كانت ممسكة بصينية عليها كوب من الليمون تتخلله قطع من الثلج، مما سهل التقاء الخطيئة مع الرسام، الذي رأى حركة ارتطام قدم فريدة بما يشبه سمكة لعبة، وكيف طار الكوب والصينية وكيف تركهما وأمسك بالخطيئة،التي وجدت

نفسها في حضن شريف جوار السرير. كانت ترفع عينيها تتأكد من أن ملاكا ما أمسك بها قبل أن تسقط فاقدة أي شيء. تأكد لها أن ملاك أحلامها هو ما أمسك بها وراح ينظر إلىها بشوق عارم. مر طائر هارب، فأجفل عيني فريدة وأشعل نار الجسد، فظهر اللسان الأحمر في المشهد

للمرة الأولى. وقف شريف وهو يضع وجه فريدة بين يديه وهي ترفع أهدابها من جديد. بالطبع كانت قطع الثلج تحاول الوقوف والاستمرار في الحياة على السجادة، لكن السجادة المرسوم عليها عدة خيول كانت تنتظر تلك الثلجات بنهم. بعد ابتلاع عصير الليمون داخل بطون الخيول التي تتمدد على سطح السجادة تحاول الخيول التهام الثلج الذي كان ينظر للنار المشتعلة بين عيني شريف وعيني فريدة وعيون الخطيئة، ثم ينظر للخيول ويدعو الله في عليائه أن يمنحه القدرة على الصمود حتى يرى ما رآه أقرانه في أمسيات سابقة. هل تتحقق أمانيه؟! ليذهب إلى الجحيم الثلج، لست بست عيون حتى أتابعه هو الآخر، قال كاتب مهووس باللحظة الإيروتيكية. اقترب بأنفاسه بالقرب من أنفاسها بهدوء صياد متمكن، ثم فتح فمه المملوء بهبة هواء معطرة بالنعناع ورماها

على أطراف شعرها المختفي عن المشهد، فجعله كشعر مهر في مهب ريح. كيف حدث ذلك؟! وهل دفقة هواء بالنعناع أو بغيره تفعل ذلك؟! لكن ذلك ما حدث، بمساعدة خوارق ومعجزات أو بمساعدة الخطيئة لن ينشغل. أمسك بوسطها بين يديه وراحا يلفان بخطوات ليست سريعة وليست بطيئة أيضا. ذلك شيء ملتبس يا سادة، لكن ما باليد حيلة. بعد اللفة الرابعة أنزلها بهدوء على فمه، وعلى شيء أحست به في وسطها، لكنها لم تكن هناك لتسأل عنه. قبلها قبلة لم تكن خاطفة على أيه حال، ثم بيده أزاح جسدها ليستقر بجواره، وأنزل يده عن كتفها وهو ينظر للوحة التي فرت منها أشياء كثيرة، ورغم ذلك مازالت سماؤها الزرقاء تغطي الكثير من البيوت والأشجار والأطفال والأشرعة والطيور. كانت نظرتها لا تعي كل الجمال الظاهر، ولكنها لا شك تحس ذلك الجمال. هل على الجمال أن يُعِى أو يُحس؟! سؤال خرج من فم الجمل الذي يسحبه فلاح ما، وعلى سنامه ترقد الكثير من الصناديق المربوطة بحزم. مدت يدها وأشارت إلى ما يُشبه حديقة لقصر ما في وسط البيوت وقالت: «حديقة الزهور ديه؟ » رغم أن شريف لم يكن يعرف إلى أي قصر تشير فريدة، إلا أنه هز رأسه، وسمح لضحكة خجلى أن تظهر على محياه، الذي بدا أبدع مما رسمته فريدة في مخيلتها طوال الشهور الستة السابقة لذلك اللقاء. لقد كانت عيناه التان تنظر إليهما بشوق عامر كما هما، وكما تمنت تماما. كانت نفس الابتسامة الخجلى والفم المفتوح على قدر، والراحة التي تفرش الجبهة بالهدوء والحب. هو نفسه الوجه الباسم كما حدث في اللقاء الأول بحديقة الزهور. كانت قطع الثلج مازالت تصارع الفناء وهو يمسك بيدها ويشير إلى الطيور التي تملأ سماء البيوت التي لم يكن بها قصر على الإطلاق وقال: كل الطيور أنت. هل لبنت لم تكمل بعد الخامسة عشر، زارتها الخطيئة ذات صباح من أبريل تسمع من لسان ما اعتبرته ملاك الحياة، ذلك التشبيه الذي وإن كانت لا تعرفه من حيث اللغة، إلا أنها تحسه وتتفاعل معه، كتلميذة خائبة في جيوش الساقطين في أحبولة الخطيئة؟! هل أمسك بيدها وهو يمضي بها إلى السرير الذي ترفع قواعده أطفال كيوبيد أم أنها سابقته إليه؟! لم أتأكد! أقسم لكم! فقط كانت هناك أضواء تتلاعب من خلف الستارة وما يُشبه الجنون يمارس عللا. سرير ترفع قوائمه أطفال كيوبيد التي تحمل فوق ظهرها العاري أسهما تسددها بدقة إلى قلوب العاشقين. هل شارك الحرب البشرية الأولى أطفال كيوبيد هذا يا كاتبنا؟! لماذا تضعون خيالكم الضعيف ليفسد المشهد؟!

تسألون عما سيضيفه هذا الكيوبيد لذلك المشهد. أنتم سفلة في الحقيقة ولديكم تسديدات مليئة بالقسوة والغل، لكنها بعيدة عن المرمى. كان لزوما لذلك الصياد الذي راح يمتص رحيق الحياة ويرضع لبن الدهشة الأولى أن يحمي تلك الروح، لتعلموا جميعا. لقد دق قلبه أسرع حتى تعدت سرعته المطلوب وهو يرفع ذيل قميص النوم الأسود بعد أن عذبه الجلباب، وكيوبيد هذا الذي تلومونني فيه كان هو الشخص الوحيد الذي يعرف أنه حين يزف تلك التشبيهات الرومانسية إلى أنفاسها الهالكة فإنها أبدا لن تهدأ نارها إلا بالاشتعال. وهذا ما حدث يا سادة حتى يعودالمتلقى كما كان طوال التاريخ، فها هي تتفتح أمامه كزهرة انطلق شذاها في فتوته الأولى، وهاهو ذكر النحل الذي غاب اسمه عن ذاكرة الخطيئة يتحرك الهوينى على جسد فريدة النادر. كانت البسمة على وجه الخطيئة تتسع لتصل إلى مبتغاها الأمثل. فها هو يقترب من مفاتنها الغالية، ذلك

الشق القاتل الذي يسع دنيا الله بلا نقصان!! وبعد لحظة وربما أقل ستنهار البنت كبيت من الرمال صادفته جمهرة من الماء. لكن، أكانت تبالي لو أنها علمت بما سيحدث؟! فما أحست به من دفقة النحل المُهيِّج الذي نشب أاذنابه الحادة بجسدها، حتى أحست بنار تلظَّى في كل أجزاء

جسدها، كل هذا وأكثر اضمحل حتى صار سرابا وصار ذكرى، وظهرت طفرة الروح حين امتص لسانها. بالطبع بعد أن طفرت الروح كان هناك ما يمكن أن يعوض ذلك البيت المتهالك الذي يُسمى بالخطأ شرف الأنثى، بألف من القصور المنيفة. لقد كانت كل حركة من يديه فوق جسدها

تبني بيتا جديدا مليئا بالأضواء والزهور والنجوم. لقد غسلت روحها من جديد. هكذا صرحت الخطيئة وهي ترى المد والجزر فوق بحر الشوق، الذي لا يبين فيه نقطة الدم، إلا بعد عودة السرير إلى وضعه الحقيقي وهروب البحر من المشهد. ورغم أنها ستهبط عما قليل على الأرض،

وتتأكد من وقوعها في الفخ الأعظم لتاريخ البشرية، إلا أنها بفضل تلك الخطيئة، وبها وحدها لا شيء آخر، ستعرف أن الحياة ستبدأ من جديد، أيا ما كان. هكذا همست الخطيئة لنفسها وهي تترك المكان لتذهب إلى عمل آخر في انتظارها لا مناص.كان مازال يتنقل بهدوء وروية مخترقا حرارتها بوجهه، متحسسا حينا، ومصطدما حينا آخر، ومحتربا حينا ثالثا. لقد أحال ملامح وجهها المرتعشة والمتلهفة إلى الاحمرار. صار كل جزء من ذلك الوجه يتشكل تحت ريشة فنان محولا العدم إلى أشكال بها الكثير من الحياة. يقال إن البون الشاسع في حياة الإنسان هو الفرق الوحيد بين لحظات مرضه وصحوه. هذا خطأ يا ناس. الفرق في حياة الإنسان هو في لحظاته الحميمية الأولى. كانت سياط الرعب الحامية هي ما تحسه. لكن ذلك الرعب مليئ باللذة التي تخمد ما سواها حتى لو كانت سكينا تقشر راحة اليد.