إذا كانت الرواية تقوم على جناحي الواقع والخيال، فإن الواقع يقوم على جناحي الواقع الفعلي الذى يراه الآخرون، وواقع داخلي، لا يعترف به إلا الإنسان نفسه لنفسه. وكلما توغل المبدع في الواقع الداخلي كشف الواقع الخارجي، والازدواجية التي يعيشها الإنسان العربي. هنا نقدم الرواية وبالعدد قراءة لها، ولموقعها في مسيرة كاتبها الإبداعية.

رواية العدد

مدينة اللذة

عزت القمحاوي

 

بعد ثلاثة أيام من وصولك ستبدأ المدينة فى سؤالك عن اسمك وبلدك والغرض من الزيارة. سعيد ان تذكرت، ولكنك ستكون فقدت الرغبة فى الكلام، وعلى  كل، فان هذه المدينة تطرح السؤال كاحدى عادات الضيافة العريقة، دون أن تنتظر جوابا، فخلال تلك المدة ستتجلى لك إلهة اللذة بقارب السماء، الهلال العظيم الرابض بين ساقيها المدلاتين من قمة جبلها. ولسوف تسأل نفسك بضيق حقيقى: ماالذى هنا يطفىء الروح ويؤجج الرغبة؟! ولن تجد فى هذه المدينة المتشامخة سوى المزيد من صمتها، والمزيد من جنونك

 

على مسيرة سبعين يوما ستلوح لك هذه المدينة. بيضة عملاقة أفلتتها مخالب رخ وسط بحر من الرمال. وستقشر حتما هذه البيضة لتفاجئك قصورها البيضاء بأسطحها الهرمية المغطاة بالقرميد الأحمر، وأسوارها العالية المتوجة بالقرميد الأخضر، وشوارعها الفسيحة، وميادينها الضخمة الموحشة، وسياراتها الفخمة المسرعة، وأجهزة التكييف التى تهدر متشبثة بمقاعدها على الجدران.

وقد ينخدع البعض بتلك النصاعة فيتصور المدينة مجرد مجسم انشأه على عجل مهندس ديكور بارع من أجل تصوير شريط سينمائى ستتقوض بمجرد انجازه، لكن من اعتاد النظر الى العمق سيرى المدينة فى رسوخها القديم، ويستمع ـ من تحت صمتها ـ الى صخب التراتيل والتأوهات ونداءات الغواية، ويرى ـ فى الميادين التى تبدو لعابر خالية ـ القواعد الضخمة لتماثيل لا مرئية لأعضاء اللذة، فى أشكال لحيَّات منتصبة، وأهلِّة متوهجة، وشموع تسيل منها نار الرغبة، ونوافير على شكل تفاحات مقضومة تدفق ماءها.

وأهل هذه المدينة سعداء، وان سكن وجوههم صمت وسكون يشبه العبوس، وستبقى هذه قضية محيرة لمثلك ممن اعتادوا قراءة الرموز بديلا عن الحقائق، الكلام دليل الحياة، التبسم دليل السعادة، الصخب دليل الوجود. بينما هؤلاء يعيشون الحقائق التى تنتفى معها الحاجة الى الرموز.

الأبواب ذاتية الحركة تفتح تلقائيا، فواكه الصيف والشتاء حاضرة قبل أن يتحرك لعاب المشتهى، العسل المصفى واللبن. ولحم الخيل والآيل والإبل، والخنزير، وأجود أنواع النبيذ، يشربون ويأكلون منه، فلا ينقص الا بمقدار ماتُنقص الملعقة النهر.

وهم مجبولون على ممارسة اللذة، ويقال أنهم يمتلكون نسخا متعددة من الأجساد، كلما أصاب الوهن أحدها تقدم الآخر، وقد تمكن مراسل شبكة تليفزيونية من التسلل الى أحد قصور المدينة وصور شريطا كاملا بكاميرا خاصة استطاعت رصد انطفاء الأجساد وتخلق الأخرى من رمادها كما تخرج النبتة من الطين.

ويقولون إن اعتلاء السادة للسيدات ليس من تقاليد هذه المدينة، بل هو من مهام العبيد الذين يمتلك الواحد منهم عددا من الأسلحة يماثل عدد أهّلة سيدات القصر، كما تمتلك الأمة الواحدة أهلة بعدد أسلحة سادتها، وأحيانا ماتمتلك الاماء أهلة كبيرة بمايتناسب وحجم الأسلحة الصناعية التى تتمنطق بها السيدات المسترجلات، ويمتلك العبيد أسلحة تناسب أقمار السادة المتأنثين.

ولن يكون بوسعك أن تحيط بأجساد تخرج ضوءا يخطف الأبصار، فلا تعود ترى إلا برق اللذة الحارق، وليس فى وسع أحد أن يصف لك نعومة النساء التى لا تعرف الترهل أو الوهن، لأنهن لا يحملن، ولا يلدن، فالأطفال كانوا ينبتون من الأرض التى ترويها  إلهة اللذة بمائها المقدس، عندما أصاب الأرض الجدب بسبب كثرة الغرباء فى المدينة بدأوا فى الاستعانة بأرحام الاماء، وبماء العبيد لريها، لأن السادة لم يوطنوا أنفسهم على تلك المشقة.

 

ولن يمضي وقت طويل

حتى تبتلع الشوارع

ما فيها من حقائق وصور

 

ولسوف يفاجئك فى قلبها ميدان يقاوم صمت الحياة بصخب الموت.

"المحيا" أو "سرة الإلهة" اسمه الأشهر، وهذا الموضع الذى عثرت فيه الإلهة عندما رأت سرتها لأول مرة، وهو التفسير سيبادرك الجميع به قبل أن تطلبه ليداروا تفسيرا آخر لأصل التسمية يتمسك به عراف أعمى لا يكف عن الدعاء واستنزال العقاب على المدينة التى حولت معبد الالهة المبجلة الى سوق.

يقول العراف: كانت المدينة حنونا، وكانت بائعات الهوى المقدسات يقدمن عن طيب خاطر اللذة للغرباء الذين لا يتعين عليهم سوى القاء قطع العملة الصغيرة فى اناء من المرمر يشبه سرة الإلهة.

ولن تجد الوقت لتستوثق أو تحزن على ضرير يبكى، عندما تعشى عيناك من ألوان الطيف التى ترسلها محال متضامة من الكريستال فتنعكس على أرضية الشارع الممهدة بالقصدير الصقيل المتموج.

الصور التى تسعى بين واجهات المحال ستبدو لك أحيانا حقائق دالة على نفسها وأحيانا كظلال لحقائق أخرى فى مكان مجهول. وسترى الصور المتتابعة على الأرضية القصدير بلا أى اختلاف يميزها عن تلك الساعية بين الواجهات، ولهذا  فإن القانون لا يعاقب على القتل هنا، حيث يتعذر على قائد السيارة تمييز الحقائق من الظلال، وهو مايتعذر أيضا على الشهود وسلطات التحقيق.

حقيقة وحيدة سوف تسوطك: النساء يدرن أسرابا مضمخة بعطر داعر، من قوة رائحته لن تعود تشمه، وانما ستسمع وشيش انتشاره من أجسادهن، وستراه يتكاثف فى النهاية ليصنع خيمة كثيفة تغلف المدينة، تضايق أرواح الصور فى صعودها.

وسنفترض انك كنت واحدا من أولئك الصاخبين فى تلك اللحظة، سترى السيارات المسرعة تتوقف فجأة لتطيِّر الأوراق الصغيرة أسرابا فوق أسراب النساء. وسترى الأوراق تهمد سريعا لتستريح فوق الملابس، وستمتد الأيدى تقبض على الأوراق الطيور، تتحسسها بدفء وتقرأ أرقامها خلسة.

ولن يمضى وقت طويل حتى تبتلع الشوارع ماعليها من حقائق وصور، وتتجمع السيارات التى كانت مسرعة فى الساحة المظلمة خلف المحيا، وتقف متجاورات الرؤوس كقطيع من الخراف، ولسوف تشرع هوائيات التليفونات المحمولة تستقبل صيدها من النساء الذى علقته الأوراق الطيور.

وستنقلب أذنا، وهو تحور بسيط تفرضه طبيعة اللحظة، وستسمع كيف تكون لذة الأذن عندما ترى المرأة المستقبلة فى فراشها عارية تقبض الورق على سرتها، تصف للجالس تكور رمانها، وصلابة عمودى معبدها، وحجم هلالها، وسترى انفجار القطيع باللذة، وتشظيه، ثم اجتماعه مرة أخرى واصطفاق الأبواب العنيف، والحركة السريعة التى تجمعهم مثنى مثنى فى السيارات التى تنبسط مقاعدها لتصير أسّرة ولن يكون بوسعك ساعتها الا أن تسمع شهقات مكتومة داخل سيارات تهتز.

   ولبثت هكذا سبعين

ألف سنة تتأمل جسدها

حوشي الجم

 

تأمّل هذه القصور الكبيرة، فقد ترى خفتها القديمة، عندما كانت مجرد خيام، نمت وتكلس نسيجها، فصارت قصورا فسيحة، هكذا يقول بعضهم، ولستَ ملزما بتبنى وجهة نظرهم هذه، فهى ليست الا احدى التفسيرات الممكنة حول نشأة المدينة التى يكتنف تاريخها قدر عظيم من التشويش والغموض ويؤكد بعض المعمرين على أن المدينة بناها الجن، ويستشهدون على ذلك بصمتها المروع واستقامة شوارعها التى تميزها عن المدن التى يبنيها البشر، اذ لا يعرف الجن فضيلة التسكع التى من أجلها ينشىء البشر الحارات الملتوية بماتحوى من خانات، وبماتؤوى زواياها من باعة وسماسرة وقوادين ومخبرين ومثقفين وحواة.

ويقولون ان آمر الجن فكر فى بنائها عندما استعصى عليه قلب بلقيس المغرورة بملكها، وانه أرادها بسيطة الى درجة التجريد، وموحشة لكى تفيق الملكة من سكرة الملك وتستسلم له اذ يطلعها على فنون اللذة. وبعضهم يقول انها مدينة فريدة. ويؤكد أخرون انها متعددة، ولها نظائر كثيرة على سطح الأرض وفى طبقاتها السفلى، اذ أن آمر الجن أعطى اشارة البدء ثم أغفى على عصاه، فاستمر الجن فى عملهم، وكلما انتهوا من مدينة شرعوا فى غيرها. ولم يتوقفوا الا عندما رأوا رأسه تسقط بعد أن نخر النمل العصا.

ومن بين أكثر الروايات رواجا حول تاريخ المدينة ماجاء بالأثر، أنها ظلت خالية مقدار سبعين ألف سنة، كانت خلالها إلهة اللذة على قمة الجبل المواجه تنتظر فى سرير، له سبعون ألف قائمة، وقد استحمت وتعطرت، وزينت سريرها بالشراشف المخضبة بأجود أنواع العطور والزيوت، وعندما أحست بالضجر، نزلت الى شوارع المدينة تداور حرقة الشوق اذ تمشى رجليها، فاذا بها تنظر جمالها لأول مرة فى شوارع المدينة المصقولة، ولبثت هكذا سبعين ألف سنة أخرى تتأمل جسدها حوشِّى الجمال مستسلمة لمداعبات الريح حتى فاض ماؤها ليغمر المدينة، ومنه خرجت كائنات لها ملامح البشر، فرحت عندما رأتهم يتأملون عريها بدهشة لا تشبع، وانسحبت الى قمة جبلها، تتأمل فى دلال ماصنعت.

ومكثت سبعين ألف سنة، ثم نظرت فرأت الرغبة تنسحب من مخلوقات المدينة، لأنها ـ على حرقتها ـ كانت رغبة غلفا مبهمة، زاحمتها الحيرة، ورأت الالهة ان ذلك غير حسن، فقامت وتبدت، فمنهم من رأى عينها فصار ناظرا، ومنهم من رأى أسنانها فصار عاضا، ومنهم من رأى شفتها فصار مقبِّلا، ومنهم من رأى يدها فصار ملامسا، ومنهم من رأى هلالها فصار ناكحا.

وغمرت السعادة الإلهة، وأعجبها ماصنعت فلم تعد الى سريرها، وانما افترشت حافة الجبل، مرسلة ساقيها الإلهتين، المتحدتين فى الأعالى تحتضنان هلالا فاتنا، ينادى: كونوا عبادى.. كونوا سادة، ومن عرقكم أخلق لكم عبيدا يشاركونكم حرارة اللذة.

 

لم يكن يعرف شيئاً عن المدينة،

التي رغم خلائها المخادع، تخفي سراديب

لتربية وتسمين الغل

 

عاشت المدينة مسيجة بأسرارها. يبعث ذكرها الرهبة فى القلوب، ولم يكن أحد يعرف سر امتناعها على الغزو حتى مغامرة القبّار.

كان السلطان الأعظم الذى لم ينهزم له جيش يستعرض مع قواده حدود مملكته التى امتدت من اللهيب الى الجليد عندما لمح نقطة سوداء وسط المملكة المترامية. سأل عن تلك النقطة فلم يظفر الا بصمت القواد الذين قوضوا الممالك وطووا السهول والجبال وأخضعوا البشر والوحوش.

وأعاد السلطان سؤاله فتبادل القواد النظرات الكسيرة، ثم خروا بين يديه ساجدين. عند ذلك أشار السلطان فقاموا وألقوا تحت قدميه أنواطهم ونياشينهم وألواح الشرف التى يحملون، ثم أمر بهم فجُردوا من بزاتهم وألبسوا أسماء نساء ساروا بها عراة الى مواطن الجليد لتخلد أجسادهم فى مشهد للذل لا تنساه الأجيال. وتفرغ السلطان بنفسه لتدريب جيش من ألف ألف رجل وألف ألف حصان، خرج بنفسه فى وداعه الى مسيرة سبعة أيام أسلم بعدها قيادته لأشجع ابنائه فى احتفال مهيب وأمره الا يعود الا بمفتاح المدينة وإلا فليمكث بجيشه على قمة أحد الجبال حتى تتخاطف أشلاءهم النسور.

وبعد سبعين يوما كان الجيش على أبواب مدينة لا أثر فيها لحياة. جابوا الشوارع بالأقواس المشرعة اتقاء لخدعة قد تفاجئهم فلم يروا أثرا لمقاومة حتى وصلوا حديقة شاسعة مسيجة بسياج قصير من نبات أذن الفيل لا يتعدى ركبة الانسان.

أمر القائد جنوده باجتياز السياج بغية الراحة واطعام الخيول المجهدة ففوجئوا بالسياج يطير فى وجوههم وقد تحول الى صقور لم ير القباريون شراستها من قبل، تمتص عيون الفرسان والخيل.

ويقال ان القبار مات من فوره عندما وجد نفسه فى مواجهة أحب ابنائه إليه  وألف ألف رجل وألف ألف حصان وقد انفتح فى كل وجه من وجوههم قبران. وقد تبع القائد الأعمى مولاه بعد أيام قليلة، لا بسبب الهزيمة وانما بسبب مالحقه وجنوده ـ الذين يحترمون نساءهم أيما احترام ـ من عار عندما اتهمه كاهن عجوز بأنه دخل الحديقة من أجل هدف لا يليق بفرسان القبار.

والحقيقة ان القائد لم يكن يعرف شيئا عن الحديقة، التى ـ رغم خلائها المخادع ـ تخفى سراديب لتربية وتسمين الغلمان الذين ينتزعهم اللصوص أطفالا من صدور أمهاتهم ويحملهم التجار من المدن البعيدة، وأولئك الذين يهبهم ذووهم تقربا الى إلهة اللذة، أو الذين تلدهم البغايا المقدسات وهناك يحممون بالزعفران والكافور ويتطيبون بالمسك وتدلك أجسادهم، ويغذون على ألبان النوق الجيدة وأفضل أنواع العسل والتمر. وفى كل صباح يرتدون قمصانا معطرة من الحرير ويخرجون الى طقس العبور، حيث يمرون طابورا على شبكة مشدودة بين جدارين، من يسقط من بين فتحاتها يعاد الى مكانه فى المزرعة، أما من تحجزه مؤخرته عن السقوط فيتم تخليصه من الشباك ويساق الى غرف ازالة الزغب والتحميم والتدليك والتزيين ثم يُدفع به عبر سرداب يتصل بقصر الأمير.

ويقال ان هناك سراديب أخرى تتصل بقصور السادة من ذوى المكانة الخاصة، الذين يقعون على الغلام حتى تزهق روحه، فيُحمل الى المحرقة عبر نفق آخر، حيث يحرق ويذرى رماده بينما الكهنة يتلون نصوصا مقدسة تطِّوح بالدخان والرماد الى العالم الآخر ليكون فى خدمة الأسلاف.

وعلى كل، فان ذاكرة المدينة تحتفظ بذكرى هزيمة جيش السلطان الأعظم، كآخر هزيمة لجيش فاتح، فرغم ان الغزوات لم تتوقف، لكن الغزاة تعلموا ألا يحملوا الأقواس أو السهام وانما علب اللبان والبطاطس المحمرة والمياه

  الغازية وأفلام الجنس دون أن يجرؤ أحدهم على الاقتراب من المزرعة، باعتبارها مكانا مقدسا.

 

فجأة، ينتبهون إلى أن نهر الدم

الذي أجروه

لايلوث الأيدي

 

ومهما تتابعت الغزوات على المدينة، فإن أحدا من الغزاة لا يستطيع التبجح بأنه انتهك حرمتها وجاست أقدامه قصر أميرها القائم فى شموخ على ربوة عالية شرق المدينة يستقبل الشمس الوليدة كل يوم ويذبها الى شعبه المحبوب.

ولن تر شرك عنكبوت مثل قصر يبدو ـ لعابر ـ كما لو كان مجردا من الحماية.. ولن يلزمك سوى قدر ضئيل من التأمل لتستشعر الهيبة التى يبثها الشرك.

من البعيد يبدو القصر هرما من الخضرة يحمل فى ذروته بناء مذهبا تنعكس فوق جدرانه الشمس فى حزم من الدفء والنشوة. فإن اقتربت سترى، أول ماترى، أسوارا عالية من البللور المتوج بالذهب، فإن مددت بصرك يخترقها، سترى بستانا ضخما من الرمان يلهو فوق أشجاره آلاف الغلمان، تحاكى خدودهم الوردية حمرة الثمار، ويومض عرى أجسادهم من بين خلل الأشجار مثل كشافات حرس لا ينام، بينما يتقاطع تناغيهم مع أصوات الببغاوات فى لحن يتصاعد رشاشه المدوِّخ ليسقط رذاذا زلقا على أسطح المدينة.

وينتهى بستان الرمان بسور اخر حول أرض أكثر ارتفاعا لبستان من التفاح وقد استلقت تحت ظله آلاف من الغانيات العذراوات من المغنيات وضاربات العود وعازفات القانون والكمان، وقد تصاعد وهجهن عمودا من نشوة تصل مابين الأرض والسماء.

فاذا ماانتهى بستان التفاح رأيت سورا آخر لبستان أكثر علوا من الكروم ينتشر تحت تعريشاته آلاف الخصيان من خبراء التجميل والمقاييس، والمقاييس يتدربون على أعمالهم فى نماذج من صلصال، وهى مهمات شاقة لأن الأمير لا يطلب نفس الطول أو العرض أو الاستدارة فى كل مرة، بل أن الأمر يعتمد على حالته النفسية التى ترتبط فى الوقت ذاته بمواضع النجوم، وحجم القمر فى السماء واتجاه الريح، وصعود وهبوط الأسهم فى البورصات العالمية، كما أن مايجلب اللذة فى الصباح ليس نفسه مايجلبها عند الظهيرة، ويختلف فى المساء.

وفى مقابل هذه المشقة يتمتع الخصيان بنفوذ ضخم بين النساء والغلمان الى الدرجة التى تمكنهم من منع أى من الزوجات الرئيسيات من الخلوة مع الأمير.

بعد مزرعة الكروم سور آخر يسيج مصطبة بسيطة تتزاحم فوقها حشود الفتيات والغلمان والعبيد من جامعى اللذة فى جميع مستوياتها وأنواعها، يؤدون عملهم فى تبتل واضح وفى صمت غريب، بحيث لن تسمع غنجا أو رفثا أو اعرابا أو شخيرا وانما يكتمون هذا كله مع ماء الحياة المتجمع ليصعد فى أنابيب الى القصر الذى يرتفع على مصطبة أخرى، ويتميز بناؤه ببساطة عجيبة، حيث لا يضم سوى بهو كبير يحوى كرسى الأمير وسريره. يجلس أو يستلقى وحوله عبيده يمّروحون عليه بمراوح من ذهب، وحول البهو نتوزع أجنحة زوجاته وسراريه الرئيسيات مثل بتلات الوردة، فاذا ماجاء دور احداهن، حسب استدعاء خبراء اللذة الخصيان، تحركت فى موكبها، يتقدمها سبعمائة من الخصيان، ويحف بها سبعمائة من العذراوات ويتبعها سبعمائة من الغلمان، ويحمل ذيل ثوبها وصيفاتها السبع الرئيسيات اللاتى لا يفارقنها حتى فى سرير الأمير.

ويستطيع الأمير ان يضاجع ماشاء من النساء والغلمان، دون كلل وفى تتابع لا يتوقف الا بمقدار ماينتهى الخصيان من تغيير شراشف السرير، حيث يتقدم أول طابور الخصيان لينزع القديمة ويثّبت مكانها الأخرى بمهارة ودربة نادرين. وتستلقى المرأة أو ينكفىء الغلام، ولا يفعل الأمير سوى أن يخرج سلاحة وينطق بكلمة تصير حكما يفجر مخزون اللذة الذى جمعه العبيد والاماء فى دأب واخلاص شديدين، وتنطلق تأوهات النشوة عالية وتجدد الوحشة والرغبة.

وربما يسأل متعجل مثلك: اذا كان أهل المدينة والغزاة يحفظون تصميم القصر على هذا النحو، ويعرفون أسراره كما يعرف أحدهم خطوط راحته، فمن أين تأتى هذه الرهبة؟

الأمر بالطبع ليس على هذه الدرجة من البساطة، فالأسوار تضم سبعة آلاف من المزاغل، لا يقف فيها جنود متثائبون، بل كهنة متيقظون مع صقورهم. فإذا مارأوا غبار خطر قادم اسدلوا بتعاويذهم السحرية الظلام للحظات كافية لاخفاء القصر، واقامة آخر في المواجهة، له نفس الاسوار، نفس  الاشجار، نفس الاجنحة، يدخله الغزاة بلا مقاومة، يغتصبون نساءه وغلمانه، يقتلون اميره وعبيده يأكلون وينهبون ما تقع عليه ايديهم وفجأة ينتبهون إلى أن نهر الدم الذى أجروه لا يلوث الأيدى،  وأن ما اكلوه لم يسد جوعا. وما نهبوه تحول في ايديهم الي قبض ريح وان النساء والغلمان الذين انهكوا قوي الجند لم يكونوا سوي وهم، مجرد صور انتجتها مخيلة الكهنة المخلصين لسيدهم.

وقبل ان يجدوا الفرصة للدهشة او الندم ، يجدوا انفسهم في الفضاء امام القصر القديم الذي عاد إلي مكانه راسخا وتصبح عيون الفرسان منهوكى القوي مجرد مكافأة بسيطة وشراب لذيد لصقور المزاغل اليقظة.

 

وكانت نظرة بسيطة

إلى تمثال الإلهة كفيلة

بدفع النساء إلى أحضان الكهنة

 

لن تجد من يصارحك بحقيقة مشاعره تجاه هذا البناء الذى يقف فى صرامة واثقة، ولكنك تستطيع ان تخمن حجم ماتنطوى عليه نفوسهم تجاهه من اختلاط مشاعر يتمازج فيها التقديس والخوف  والحب والحنق.

ويقول المعمرون الذين تفرغوا لحفظ ورواية سيرة المدينة انها كانت تسعد باستقبال الاهتها المحبوبة فى جولتها السبعية، التى كانت تقوم بها كل سبعة أيام أو سبعة أشهر، أو سبع سنين، أو سبعين أو سبعمائة أو سبعين ألف سنة، ولم يكن فى عدم التحديد هذا أية مشكلة، بل وسيلة للتسلية لا تقل فى روعتها عن ممارسة اللذة، ولا تحمل سوى ألم صغير يكبر بمقدار مايكبر معه الأمل فى رؤية كلبة اللذة فى عربتها التى يجرها سبعون ألف حصان من ريح.

وكان ترقب وصول الالهة فى كل لحظة هو ماحمى حالة السلام بين عناصر المدينة.

المساواة تمتع بها السادة جميعا، اذ لم يكن عليهم ان يستمعوا سوى للتوجيهات المباشرة من الالهة المتخلقين من مائها المقدس، حتى قام هذا البناء الذى يخضع تاريخه لقدر من التشويش لا يقل عن ذلك الذى يكتنف تاريخ المدينة ذاتها.

يقول بعضهم ان الالهة ـ لما أحست بالوهن ـ أمرت بهذا البناء استراحة تلتقط فيها أنفاسها. فور وصولها من رحلة النزول الشاقة استعدادا لجولتها فى شوارع المدينة، ثم مالبثت ان أعجبتها الاستراحة، أو ازدادت وهنا، فألغت الجولة مكتفية بعناء رحلة النزول من قمة الجبل الى الاستراحة.

وهناك من يؤكد الرواية على هذا النحو، ولكنه يختلف فى السبب الذى من أجله ألغيت الجولة، يقول: ليس الوهن، بل ان الالهة رأت أن ظهورها صار مشكلة، اذ بدأ يقلل من الهيبة الواجبة لها كآلهة، خاصة بعد أن تكاثر الغرباء، ورأت المدينة أجيالا اختلطت فيها دماؤهم بدماء السادة والعبيد.

وأيا كان السبب، فالثابت ـ يقولون ـ ان الناس بدأوا يتقاطرون الى هذا البناء للاستماع الى تعاليم الالهة التى صارت شيئا فشيئا مقتضبة عامة تصدرها من وراء ستار، وقد ظلوا على اخلاصهم واستمروا فى الذهاب بدافع من الايمان الخالص، حتى بعد ان كفت الالهة عن التجلى اثر "حادث مؤسف".

ولن تجد من يخبرك، ما الحادث، أو ما مصدر الأسف فيه، لأن الألم الذى خلفته المفاجأة، كان أكبر من أن يسمع لتفاصيل بالبقاء الى جواره، اذ استيقظ أهل المدينة يومها على تمثال غير متقن للالهة اقامه على عجل خدم الاستراحة وأعلنوا انها لن تتجلى بعد اليوم، وقد كلفتهم بنقل أوامرها اليهم وتلقى ضراعاتهم اليها.

ولم يكن أمام الجميع الا الامتثال لقدرة الخدم الذين تعلموا فنون السحر وصاروا يعرفون تبجيلا باسم الكهنة، وقد بلغوا من المهارة الحد الذى يجعلهم قادرين على جلب الظلام فى أية لحظة وادامة الليل، وجلب السحب، واثارة العواصف الملتهبة التى لا تغادر المدينة الا وقد خلفت من الجثث فى الشوارع مالا يخلفه جيش من الغزاة الظامئين للدم.

وبدأوا يفرضون على الناس القرابين والتقدمات من الغلمان والعذراوات، وكان من لا يجد مايقربه يحزن، ويحاول أن يعوض ذلك بقرابين من لحوم الماعز والضأن والابل، ومن النبيذ والتمر وتفاح الرغبة.

ويقال ان الكهنة استطاعوا بفضل قدراتهم غير المحدودة على السحر والتحالف مع الأمير ـ الذى كان فى الأصل كاهنا بارعا ـ اخضاع المدن والممالك المحيطة بالمدينة الأمر الذي بلغ بالتقدمات حجما غير مألوف، كأن يتم اقتسامه بين القصر والاستراحة التى كانت تضم آلاف الغرف تسكنها البغايا المقدسات وواهبات النذور الأكثر جمالا، وكانت نظرة بسيطة الى تمثال الالهة كفيلة بدفع النساء الى أحضان الكهنة، الذين تخصصوا فى ممارسات مختلفة حمل كل منهم اسما يدل عليها.

ويؤكد بعضهم ان الاستراحة التى تبدو الآن، بالغة البؤس كانت أعلى بناء فى المدينة، وبمرور الأيام تصاعد نفوذ الأمير وأخذ قصره فى الارتفاع والاتساع، وتراجع ثراء الاستراحة وتقلص بناؤها بعد أن فضل العديد من كهنتها العمل فى قصر الأمير.

وهناك من يؤكد ان الاستراحة على حالها منذ البداية، وينفى أن تكون الالهة من أمرت بمثل هذا البناء الذى يفتقر الى الفخامة، ويقولون ان آمر الجن لما فكر فى بناء المدينة أمر أول ماأمر ببناء هذا المكان الخانق، سجنا للجن الذين قد يتراخون فى تنفيذ الأوامر، وكان البدء بالسجن هو الشىء الوحيد الذى يجمع بين مدينة شيدها الجن والمدن التى يشيدها البشر.

وعلى كل، لن يغير اختلاف الروايات شيئا من واقع البناء المحير، الذى يجعلك، تتساءل عن سر محتمل تنطوى عليه تلك البساطة المفرطة، وتذهل من تلك القدرة على الحضور أينما حالت فى المدينة، بحيث لا تعرف هل هو بناء واحد أم متعدد؟ فاذا ماهممت بدخوله لا تعرف أهو مكان دخلته أم وهم دخلك!!

 

مولاتي تقول إن روحها

لم تُخلق لهذا الجسد، وجسدها

لم يُخلق لهذه المد

 

من أية نقطة فى المدينة ستلوح لك "المحلمة".

قصر وردى بقباب صغيرة  كأثداء الغذارى، ولسوف تشم رائحة احتراق البخور التى تتصاعد منه لتصنع سحابة من الدخان لها دفء ونعومة النشوة.

ولن تجد من يتطوع ليحكى لك قصة القصر التى يمتصها الأطفال من أثداء الأمهات، ولكنك ستقرأها مرارا فى منشورات سرية تجدها مدسوسة فى كوات المراحيض العامة، وعلى مقاعد الحدائق.

وبجوار ماكينات المشروبات الأوتوماتيكية وشبابيك الصرف الآلى بالبنوك، وستقرأ العديد من الشروح والحواشى مع توقيعات غامضة لجماعات مجهولة، لكن نص القصة ستجده فى كل مرة بنفس الكلمات، نفس الترتيب، نفس الحروف وطريقة الطباعة. كما لو كانت نصا مقدسا تنزل مدونا ولا ملفوظا.

تقول القصة: كان أمير المدينة فى قيلولته، غافيا على أريكته عندما اقتحمت ابنته الوحيدة هدأته. أغمض العبيد عيونهم حتى لا يبطش بهم الأمير وقد رأوا درة تاجه فى ثياب لا تستر. كانت الأميرة الشابة تنتفض وتصرخ بلغة غير مفهومة وتحتضن الهواء.

قام الأمير مذعورا، حبسها فى جناحها وأمر مناديه فجمعوا له الأطباء، والسحرة والعرافين، وأدخلهم اليها واحدا واحدا، وكلما خرج أحدهم مطأطىء الرأس أمر السياف بقطع رقبته، حتى جرى الدم جداول فى أبهاء القصر وحدائقه الفسيحة. وعندما دخل الأخير غاب طويلا وخرج مبتسما.

نظر اليه الأمير بين مستبشر ومرتاب، ودخل الى ابنته فوجدها غافية وعلى شفتيها مايشبه الابتسام، فخرج الى العراف وسأله فى حياد بعيد عن التوسل والتفزيع: ماذا صنعت بابنتى؟!

قال: سيدى الأمير! مولاتى تقول ان روحها لم تخلق لهذا الجسد، وجسدها لم يخلق لهذه المدينة. ثم خفض العراف من صوته وطلب الأمان فأمنه بحركة متوترة من رأسه.

همس العراف: تقول يامولاى ان المدينة منذورة للذة لا بفعل ربة مقدسة، وانما بروح شيطان اغتال إلهة العاطفة، وتتحدث يامولاى عن شىء اسمه "العشق" يرفع الانسان الى الأعالى ليتحاور مع العاطفة الالهية. تصفه مولاتى بتبجيل غريب يرفعه فوق النظر والتقبيل والضم والمفاخذة والايلاج.

سأل الأمير مستنكرا: وماذا أكثر من هذا؟!

قال العراف: تقول يامولاى انه شعور يولد فى اثنين فيصيران واحدا. وتصبح كل جارحة فى كليهما نصفا لا يكتمل الا بنصفه الآخر، وعند ذلك تغدو العين ناظرة. واللسان متكلما، والأيدى ملامسة، ثم يخفض صوته أكثر: ولا ينزو يامولاى سلاح الا فى هلاله.

أطرق الأمير طويلا، وسأله: وماذا أيضا؟

قال العراف: حدثتنى يامولاى عن مدن بعيدة تمشى فيها النساء حاسرات الثياب كاشفات الرؤوس، يخاصرهن رجال حليقو الوجوه ناعمو الثياب، يعاملونهن بنبل لا تعرفه مدينة النزو الفظ، ويولد لهم أطفال من الأهلة المحبة للأمهات وليس من أهلة الاماء الضجرة.

ثم قبل العراف الأرض بين يدى مولاه، وقال: مولاتى ياسيدى الأمير تعشق رجلا من أولئك، وتصر على الرحيل لتعيش معه هناك.

قال الأمير: ولكنك لم تقل، حتى الآن، ماذا صنعت؟

قال العراف: أحضرته لها يامولاى، فاستقبلته ونامت مطمئنة.

قال الأمير منزعجا: كيف ومانوع هذا الاستقبال؟!

قال العراف الذى يعرف لغات الأمم ومخاوف الأمراء: مولاى! هو مجرد وهم مريح، لكنها للآسف ستفيق وتعود الى ثورتها.

أطرق الأمير ساعة والعراف راكع أمامه، ثم عاد يسأله: والعمل؟

قال العراف: يعطينى مولاى مائة مكيال من الذهب ومائة من الفضة. أشيد لمولاتى هنا المدن التى تحلم بها وأنشىء الغابات، وأبث فيها العشإق أزواجا. وبينهم حبيب مولاتى، ولا تسألنى كيف، وحسابى فى النهاية: أما أن يقبلنى مولاى عبدا من عبيده واما السيف.

وافق الأمير بهزة من رأسه المطرق، وشرع العراف فى الاشراف على البناء الذى أخفى تحت أحجاره طلسما لا يعرف غيره مكانه. وزين الجدران برسوم للعشاق المتخاصرين، يتبادلون القبلات فى الشوارع الفسيحة التى تعج بالمارة والسيارات والقطارات، وتصطف على جوانبها المقاهى ويفترش أرصفتها الباعة الجائلون والمتسولون، وتنتهى بطرق فسيحة يتراكم على جوانبها الثلج كندف القطن الأبيض، تؤدى الى غابات من الأشجار العالية والعشب.

وعندما اكتمل القصر دعا الأميرة لافتتاحه، وأشعل البخور الذى جلبه بكميات وفيرة من الهند، ومرت الأميرة بين الجدران فتحركت الرسوم ونزلت الى البهو الكبير، وعاشت الأميرة بينهم، تمارس حياتها كما فى المدن البعيدة، تنطلق وسط دخان البخور الكثيف فتحس بالقادم يمتص شفتها، ويخاصرها ليعبرا  الشارع المزدحم ويختفيا بين الأشجار.

ومن يومها عاد الأمير الى جلسته المريحة، يمروح عليه عبيده بمراوحهم الذهبية، وأحفاده حوله يتقافزون ويلهون، وهو يقبلهم فرحا. وعاش القصر الوردى ذو القباب الصغيرة حلم كل أنثى فى لذة مكتملة، حقيقية وحنون.

 

لما خافت ضياع تعاليمها،

أقامت هذا اللسان عنواناً

على وجودها الباه

 

وقد يتطلب الأمر محض أيام، وقد يمضى عمرك كله قبل أن تعرف سر اللسان الذى يرفرف على علم المدينة، ويلصقه قادة السيارات على زجاجها، وتجده مطبوعا على حقائب الأطفال، ومرسوما على الجدران أو منتصبا فى المداخل، وتمهر به القوانين والقرارات الرسمية.

وستأتى صدفة، ستجد نفسك أمام حشد ضخم فى ساحة فسيحة، فاذا ماتأملت فستراهم وقد انقسموا الى مجموعات متلاصقة تفصل بينها خطوط وهمية، بعضهم يحركون شفاههم بمايشبه الأدعية والتراتيل، وبعضهم يكتفون برفع أكف الضراعة، وبعضهم كشفوا عن أعضاء متدلية تهتز كقطع اللبان الممضوغة، بينما يأتون بأيديهم حركات فاحشة، وبعضهم يبصبص بعيون مرتخية الجفون، وبعضهم تهتز أجسادهم بفعل الضحك الذى تنبىء عنه أفواههم المفتوحة عن آخرها، وبعضهم تتحرك رؤوسهم الى الامام وتتراجع الى الوراء بلسان مشرع كسيف. الى جانب مجموعات من حملة الأقلام والدفاتر لا يكفون عن التدوين، بينما تقف مجموعة أخرى بأجهزة التسجيل الحديثة ومعدات البث الاذاعى، وكاميرات التليفزيون.

وقد تمضى لتقضى معذبا بحيرتك من هذا الصمت الصاخب، وقد تحملك عيناك  إلى حيث ترى فى العمق، مخاضة ضخمة تنمو بها الطحالب، ولن تستطيع أن تمنع نفسك من الدهشة عندما تلمح فى وسطها مسلة تتلوى، وستسأل نفسك بانبهار: كيف وصل الفراعنة الى هنا؟! وكيف أقاموا هذه المسلة العجيبة التى يطوحها الهواء؟!

وستصير دهشتك فزعا عندما تكتشف أنها لسان، وأن هذا التلوى ليس الا حركته الدائبة فى اللعق والكلام، ممايصنع هذه المخاضة التى يبدو ماؤها مشوشا لعابر مثلك، أما سكان المدينة فالأمر بالنسبة إليهم مختلف، اذ يستطيعون تمييز موجات النزو من موجات الكلام فى ماء البحيرة، كما انهم يستطيعون فى موجات الكلام تمييز أخلاط النصوص المقدسة من النكات الجنسية، من القرارات الادارية، من الاكتشافات العلمية، والروايات والأشعار، والدعوات، والصراخ الفاحش، ووصفات الطب الشعبى، فلا يسمع أى من سكان المدينة الا مايحب.

ولن تجد مشكلة فى أن تضع نفسك بين احدى هذه الجماعات، أما أن تسأل متى ظهر اللسان وكيف تكونت المخاضة، فتلك مشكلة كبرى، حيث تتعدد الروايات ويدافع كل طرف عن روايته باعتبارها الوحيدة الصحيحة.

بعضهم يقول ان الإلهة لبثت تتأمل مخلوقاتها التى تمارس اللذة بعنف صامت كالأفاعى، حتى أصابها الضجر، فلما نزلت تداريه ازدادت ضجرا عبرت عنه فى هذا المكان من المدينة، واقامت اللسان لتعلمهم لذة الصوت، صغيرا واعرابا بدلا من التسافد الصامت.

وبعضهم يقول انها لما خافت ضياع تعاليمها، أقامت هذا اللسان عنوانا على وجودها الباهر، ويقولون أن ماء البحيرة كتاب مفتوح لقصة خلق المدينة وتعاليم العيش فيها، وانه يحوى أكثر التعاليم عدلا، الا ان سكان المدينة استراحوا الى صمتهم وتركوه يفيض ليصنع هذه المخاضة التى تعلن عن المعجزة ويعلن وجودها ـ فى الوقت نفسه ـ عن عصيانهم ، ويقولون ان هدوء المخاضة له نهاية، اذ سيتحول فجأة الى طوفان يغرق المدينة.

ويؤكد بعض المعمرين أنهم رأوا بأنفسهم آمر الجن عندما قطع لسان الهدهد، واقامه فى هذا المكان يردد اعتذاره ليكون عبرة لكل من يحاول أن يعد بمالا يقدر، ويقولون ان هذا هو السر الذى يجعل اللذة فى هذه المدينة مجرد رغبة موحشة ومبهمة.

وتتوارث الأجيال حكاية شعبية عن مولود عجيب لأرملة مشهود لها بالاستقامة جاءها المخاض فيه بعد وفاة زوجها بسبع سنين، واستمر مخاضها العسر سبعة أيام حتى انفطر لها قلب الإلهة فنزلت فى عربتها، وأمسكت بهلال المرأة وأمرت الطفل بالنزول فنزل، وعندما قالت سلاما ردد المولود قولها، فقالت: هو لسانى، وليبق هنا لسانا للذة.

ويقول البعض ان الالهة لما تجلت ورأى البعض لسانها فصاروا ألسنا استخدموا ماتميزوا به من فصاحة، فطلبوا منها نصبا يكون لهم مجدا ويفضلهم على الآخرين، بينما تلح الصحافة المحلية على أن اللسان هو الدليل الحى على الانسجام بين الالهة والأمير، اذ يحدد اللسان بدقة المطلوب من كل فرد بالمدينة. وهو مايتولى الأمير تبليغه فى قوانين وقرارات محددة.

ويهمس بعض الشباب الذين تسللت الى نفوسهم الأفكار الغريبة، مؤكدين ان اللسان ليس الا "ظلا" من أولئك الغرباء الذين اجتذبهم نداء المدينة الغامض، وقد تقلصت أعضاء اللذة لديه من كثرة ماصادف من احباط، اذ لم يكف عن الهذيان بالأحلام التى لم تتحقق، وأصدر بعض هؤلاء الشباب كتبا ـ توزع سرا ـ تناولوا فيها تاريخ "الظل" وحياته قبل أن يتحول الى لسان، وأصدر بعضهم منشورات سرية تضمنت حوارات مع الظل فى أواخر أيامه قبل التحول، وقد حوت شتائم مقذعة للمدينة وسادتها ونسائها، كما تضمنت نداءات غامضة لمجهولين فى مدينته البعيدة، ولهيئات دولية، كما تضمنت بعض المنشورات صورا لأوراق نتيجة حائط دون عليها الظل يوما بيوم وقائع حياته السابقة بالاضافة الى وصية بالتصرف فى ثروته التى جمعها والتى لم يقف أحد على أثر لها بعد ذلك.

ويقول أعضاء من جمعيات حقوق الانسان ومكافحة التمييز ضد المرأة التى انتشرت مؤخرا فى المدينة ان النساء عانين طويلا من عنف الرجال الذين لا يتذوقون فتضرعن الى الهة اللذة فأقامت هذا النصب للسان اللعاق ـ الذى ـ لأمر غير معلوم ـ فشل حتى الآن فى اقناع الرجال بأكثر اللذات حنانا.

وينفى أعضاء جمعيات مكافحة التمييز ضد الرجل أن يكون للالهة دخل باللسان الذى اقامه رجال المدينة عن طيب خاطر لتوفير لذة اضافية لنسائهم المحبوبات، لا يستفيد الرجال شيئا منها، لكن النساء انصرفن عن الرجال تماما بعد اقامة النصب الذى يميزن فى حركته الرتيبة أكثر من سبعمائة وضع لبلوغ الذروة باللعق، ولهذا يتجمعن حوله مثانى فى مقاصير سرية.

 

ولما قلّب الجارية ولم يجد

لديها من سبيل سوى ذلك المألوف

أحس أن السيدة خدعت

 

ستشعر بلزوجة الهواء، وتشم رائحة ماء الحياة التى تقدسها العاشقات وتكرهها المحترفات، فتعرف انك صرت قريبا من "الملذة".

قصر فخم من ثلاثة طوابق، أسواره العالية بلا أبواب، وله مدخنة على شكل عرف ديك يتدفق منه دخان الرغبة مع رذاذ ماء الحياة المختلط بالدم.

ولن تكون مجبرا على تصديق كل مايقولونه عن قصر بلا نوافذ، لم يغادره سكانه أبدا، ولكنك ستجد قصة انشائه مدونة بالصور على جدران أسواره.

تقول الحكاية ان سيدة القصر، لما خافت وحشة الأيام، جلبت لرجلها عذراء من بلاد خصيبة، حضرت فى هودج من الحرير المقصب على جمل مزين بأجراس من الذهب، فى موكب ضخم، يتقدمها حملة الشموع ويحف بها الفرسان، ويتبعها حملة المباخر من الخصيان. واقيمت الأفراح فى القصر سبعين ليلة، السيدة على عرشها مع رجلها والجارية بين أيدى الجوارى والخصيان والكهنة بين تحميم وتعطير وتلقين لتعاليم الالهة والسيدة.

وعندما اجتاحت الرغبة السيدة قامت ورجلها في يدها يزفهما نفير اللذة والطبل المؤجج الى جناح اللذة، حيث تستلقى فى سريرها بشكل رمزى ثم تتركه للرجل مع المرأة التى اشترتها بمالها. وعندما همت بالانصراف أفزعها جمال الجارية الصغيرة فاستدعت حكيمها ليختصر أعضاء اللذة فى الفتاة، أزال ثدييها وخاط الاست. وقلم الشفتين وفتح طريق الولد.

وانسحبت السيدة الى الجناح الذى كانت قد أمرت ببنائه لنفسها وللطفل والمرضعات. وأخذت تحيك بنفسها الجوارب للصغير وتطرز له ثياب الحرير بخيوط من ذهب، وترتب الدمى التى جلبها التجار من مدن المشرق والمغرب، وتشرف بنفسها على تغذية المرضعات.

والسيد الذى صار منذ تلك اللحظة مطالبا بطفل يدفىء مخدع السيدة لم يكن يشاطرها ولعها بالأطفال، ولم يكن يرى فيهم سوى عرض جانبى للهدف الأسمى: اللذة.

ولما قلب الجارية لم يجد لديها من سبيل سوى ذلك المألوف أحس أن السيدة خدعته، ولم يستطع فى الوقت نفسه أن يكره الجارية المسكينة، وفى غفلة من السيدة المشغولة فى جناحها، أمر العبيد فأخلوا الطابقين الأول والأخير، ثم أمرهم فجلبوا سبعة آلاف دجاجة رومية وسبعة آلاف ديك، وضعوا الدجاجات فى الطابق الأول والديوك فى الأخير، وثبتوا فى الجدران الأنابيب التى تنثر الحب المجروش المخلوط بالمنشطات.

وفى الليل تشعل الأنوار فى الطابقين، ويدفع بديك بالدجاجات الشبقة، وبدجاجة الى الديوك الهائجة، فتتأجج المعركة فى الأسفل والأعلى، وفى المنتصف الرجل المنكفىء على بطنه يستمتع عبر السقف الشفاف بلذة الدجاجات وتشظى الديك، والجارية الى جواره مستلقية على ظهرها تتأمل هياج الديوك الذى يبدد الدجاجة، ثم تنطلق صرختهما فى نفس اللحظة عنيفة وممتدة.

 

ستستمع إلى كل هذه الحكايات،

وسوف تضطر لتصديقها جميعاً،

لأن أحداً لم يرجع من المتاهة

ليحكي بالضبط ما

 

تأمل العراف الذى صار مقربا كف مولاه وردها فزعا، فسأله الأمير عما رأى. بكى العراف وقبل الأرض بين يدى مولاه.

ـ قال الأمير: لا تخف، أنت تقرأ المسطور ولا تكتبه.

أجاب العراف بصوت متهدج: ماأراه، يامولاى، فظيع، وبكائى فَرَقُُ عليك وليس خوفا منك.

قال الأمير: فماذا رأيت؟

قال العراف: خطر يامولاى لن يبطله سحر السحرة.

قال الأمير نافد الصبر: لا طاقة بى اليوم للأحاجى.. تكلم والا أمرت  بجز رقبتك.

قال العراف مجهشا: سيولد يامولاى العشق فى قلبين لرجل وامرأة من رعاياك. وعلى أيديهما يزول عرشك ويقوم عرش الحب.

صار غضب الأمير خوفا، فأوقف مراوح العبيد بدفعة متوترة من يديه، وقام يقطع البهو رائحا غاديا، يدق بطن يسراه بقبضة يمناه، والعراف قائم مطأطىء الرأس. ثم عاد الأمير الى جلسته وسأل عرافه بوجل جاهد لاخفائه: وكيف نكتشف هذا العشق؟

قال العراف: عبدك يامولاى لا يخفى عليه بذار الحب ولو فى عين ذئبة.

وقال الأمير: اذن، تدرب فرقة من عيوننا تراقب هذا الأمر، والسيف والنطع جاهزان لكل من يثبت تورطه فى المؤامرة.

على هذا النحو ستصلك الواقعة دائما. كما لو كان كل سكان المدينة من شهودها. وعند هذا الحد ينتهى الاتفاق الصارم ويبدأ التشعب الذى يصل الى حد البلبلة فى روايات الرواة لقصة "المتاهة" التى تقف بشموخ ورهبة عند حدود المدينة.

البعض يقول ان الأمير تراجع من تلقاء نفسه عن قرار القتل وأمر ببناء المتاهة لاجتناب خطر العشاق دون تلويث ثوب ملكه بدمائهم. والبعض بدافع من التحيز للعراف يقول انه هو الذى أشار على الأمير ببنائها، بينما يؤكد البعض أنه تواطأ مع الأميرة الشابة التى لا تحب من الدماء الا دم الحيض ودم الغشاء.

وتؤكد رواية رابعة أن وزير المدينة كان عاشقا، وعندما كلفه الأمير بتنفيذ الاعدام فى أول عاشقين حملهما بعيدا وتركهما مع قربة ماء وكمية كبيرة من اللحم المقدد والفاكهة المجففة، وكان فى كل مرة يفعل هذا حتى صار عدد العشاق أكبر من أن يخفى على عيون الأمير ففكر فى بناء المتاهة صونا لرقبته وحماية للعشاق.

وهناك رواية خامسة تعترف بقصة الأمير فى بدايتها، ولكنها تؤكد أن المتاهة عمل من ابداع خيال العشاق المبعدين أنفسهم، وهناك من ينكرون كل هذه الروايات ويؤكدون أن عمر "المتاهة" من عمر المدينة ذاتها، وأن آمر الجن فكر فى بنائها كحيلة أخيرة فى مواجهة الملكة العنيدة. وقد تسمع من يهمس سرا بحكاية تحاول المدينة نسيانها باصرار لا يساويه الا اصرار الحكاية ذاتها على البقاء.

يرسمون لك ببالغ الحسرة صورة مدينة حنون، تمنح سكانها لذة مترفعة عن الدناءة، تتسم بتناسق ونبالة قصوى واشباع لا تنقصه السكينة. عندما كانت المدينة فى كنف إلهتى العاطفة واللذة معا، الى ان جاء اليوم الذى نظرت فيه  إلهة اللذة إلى وجهها فى مرآه الرمل، فرأت كم هو حوى وداعر، وتتطلعت الى وجه إلهة العاطفة الهاديء فرأته يزداد جمالا كلما تزايد جسدها، فدبرت لها حادث مرور أثناء جولتها بالمدينة (وكانت تتبادلان النزول اليها) وقد نجت الألهة الخجول من الحادث، لكنها خافت مؤامرة جديدة، فأمرت بانشاء المتاهة، تحميها من حسد رلهة اللذة وتتطلع فيها بحزن الى يوم تعود فيه الى مدينتها المحبوبة التى تحولت فيها فضائل المحبة الى عبودية خبيثة للذة حارقة لا تروى تثيرها الالهة الشبقة دون رحمة.

على أن تصميم المتاهة من الداخل، ليس أقل اثارة للحيرة من قصص انشائها. وكذلك مصير العشاق الذين تبتلعهم الى اليوم، ولهذا تجد سكان المدينة اذا اجتمعوا، أو اذا اختلى احدهم بنفسه يتفرغون لمحاولة تصور مايمكن أن تكون عليه المتاهة.

البعض يقول انها مجرد مجموعة متشابكة من الممرات تضم عددا لا نهائيا من الأبواب الوهمية، يظل العاشق يدور بينها بحثا عن معشوقة ليجد نفسه فى كل مرة فى ذات النقطة حتى يجف من الجوع والعطش كشجرة.

وستجد من يصف لك النعيم الذى يلقاه العشاق فى المتاهة فى عدد من الغرف لا يحصى، يعدد لك نفائس ماتحويه من تحف وحشيات وأسرة، وقد خصصت كل منها لعمل من أعمال اللذة، فتجد غرفا للنظرة، وغرفا للابتسامة، وغرفا للمسة، وغرفا للخمشة، وغرفا للتقبيل، وغرفا للضم.

ويستنكر البعض هذه الرؤية التى تقف بالمتاهة عند صورة المدينة ذاتها، ويؤكد هؤلاء أن الرجال والنساء فى المتاهة يجتمعون أزواجا فى ممارسات حنون لا يبق معها عطش أو جوع، حيث تسبح الأرواح فى ملكوت العشق نظيفة، خفيفة، بلا نزو زلق أو رائحة عرق كما فى المدينة.

وستجد من يسخر من هذه الصورة مؤكدا أن ممارسة اللذة فى المتاهة تحظى بحرية لا تحظى بها فى المدينة، دون ملل من نساء، الدميمة فيهن تفوق فى جمالها أجمل امرأة فى المدينة بسبعين ألف مرة وأكثر، اذ يتزايد الجمال بإدامة النظر اليها، فتتخلق فيها فى كل لحظة الصورة التى يشتهيها الناظر، الغارق فى جمالها تتوالى فى قلبه الصور كما تتزاحم آمال النجاة فى قلب المشرف على الغرق.

ويتساءل البعض عن مصير المبعدين فى مكان لا ينالون فيه الا ظمأ التيه. بينما يؤكد آخرون أن المتاهة، بعكس عزلتها البادية، تضم أنفاقا وسراديب سرية تتدفق منها العربات التى تحمل الفاكهة والطعام من كل لون، حيث يؤكد البعض أنها تتصل بالمحلمة، ويقطع آخرون بأنها ترتبط بمدينة العشق التى لجأ اليها الوزير بعد ان افتضح أمره.

وسيقسم لك المعمرون أنهم رأوا المتاهة عندما لم تكن على هذا القرب من المدينة، ويقول بعضهم ان المدينة توسعت حتى اقتربت منها، ويتمسك آخرون بأن حدود المدينة هى نفس الحدود التى كانت فى صباه، مؤكدا أن المتاهة هى التى تقترب، وستواصل الاقتراب والضغط على المدينة حتى لا يبقى فى النهاية الا هى والمحلمة.

ستستمع الى كل هذه الحكايات، وسوف تضطر لتصديقها جميعا، لأن أحدا لم يرجع من المتاهة ليحكى بالضبط  ماحدث.

 

المدينة الصدى

 

على صفحة الرمل، تنعكس صورة المدينة المفعمة بالحقيقة مع بعض التحوير بفعل انكسار الضوء، فترى - لو نظرت- نفس الشوارع الفسيحة، نفس الأشجار المهذبة فى نظامها الصارم، نفس البشر، مع بعض التحريف فى الملامح، بحيث لن ترى سادة أو عبيداً، وإنما نوع ثالث لا يكف عن الركض والثرثرة، حالماً بثروة السادة ولذة العبيد.

وفى تلك المدىنة الصدى، ما من وسىلة ناجعة لقياس الوقت، فهذه إمكانية يفتقدها حتى بائع الساعات السويسرية، الليل والنهار يتعاقبان بشكل مشوش، فلكل من سكانها ليله ونهاره الخاص، بعضهم تظل شمسه معلقة فوق رأسه، وبعضهم يستطيل ليله بلا حدود.

يسير الرجل الصدى، فى ليله أو نهاره - بجوار الأسوار العالية، يتأمل النوافذ المغلقة، يرهف لكل اهتزازة للستائر الكثيفة، تتأهب عيناه لعناق العين التى تتلصص، ترتخى كتفه استسلاماً لليد التى ستمتد من بوابة السور ذاتية الحركة، تشده وراءها إلى غرفة تفضى الى غرفة حتى الغرفة الأخيرة، حيث المرأة التى بخرت أعضاءها بالعود عارية تتأود فى غلالة سيكون على يده أن تمتد لتمزقها.

وعندما لا تمتد يد، يعمد الى مفارقة الطرق المألوفة، الى تلك الموغلة فى الوحشة، عساه يصادف العربة المتوقفة، تخفض المرأة من زجاج بابها الداكن وتطلب مساعدته، ولسوف يستجيب متظاهرا بانطلاء الحيلة، مستسلماً لشبق الأميرة وحرسها من النساء، يجبرنه على الركوب تحت تهديد السلاح، وىأخذنه الى قصرها فى السفح تحت قدمى إلهة اللذة.

سيفعل ما تأمره به، دون أن يقع فى فخ العجز الذى تنصبه للرجال حارسات حاقدات على أميرتهن، شبقات للدم؛ فلن ينظر إلى البنادق المشرعة حول السرير الذى يضمه مع أميرة عارية، وسيعرف كيف يرضى امرأة بسبعين هلالاً.

ويشحذ بصره، وما من أحد يشرع فى وجهه بندقية أو سؤالا، فيمضى فى طريقه، يطارد أسراب النساء اللامرئية، ينصت إلى الصرخة الأنثوية تخلخل هواء المدينة الصامتة، ويردد الهواء الصرخة فلا يستطيع أن يميز فيها لذة المرأة

 

فما كانت المدينة الصدى

الساهرة على راحتهم لتوجد

لولا ذلك الغضب المقدس

 

لا يحظي تاريخ المدينة الصدي بمثل ما يحظي به تاريخ المدينة الحقيقية من اهتمام، بل ان تاريخها يكاد يكون مجهولاً تماماً، إذ أن سكانها لا ينبتون من أرضها، ولا تلدنهم إماء مخلصات لسادتهن، ولكنهم غرباء يجذبهم سحر المدينة الحقيقية، يدخلونها من نفس الأبواب التي ناوشت أحلامهم في بلادهم البعيدة، ولكنهم يجدون أنفسهم ينزلقون عبر سراديب خادعة الى هذه المدينة الصدي، ولا يلبثون أن ينسوا من هم، ومن أين جاءوا، ولماذا؟ إلى أن يأتي اليوم الذي تلفظهم فيه المدينة، لتستبدلهم بآخرين.

والقليل المتاح عن المدينة الصدي، يرد عرضاً، وبإشارات غامضة في بعض الحكايات المتعلقة بتاريخ المدينة الحقيقية، والتي أصبح رواة سيرة المدينة ومنشدوها يتحاشونها، ولا تسمي إحدي الحكايات المدينة الصدي الإسم، ولكنها تشير إلى المدينة "الضرطة" التي تشكلت من ضراط الجن الذين دفعهم أمرهم المتعجل إلى حمل أحجار أثقل من طاقتهم، وتجد هذه الرواية مصداقية عند بعضهم بسبب الرائحة النتنة المدوخة للمدينة، ويسخر آخرون من الرواية علي اعتبار أن الجن ما كانوا ليملكوا من الوقاحة الحد الذي يجعلهم يتركون ضراطهم علي هذه المسافة من مدينة أعدت لملكة، وما كان آمر الجن ليسمح بوجود هذه الرائحة بلا أي ضمان يمنع تسربها إلى الأنف الملكي المدرب.

ولا تخل هذه الحجة من وجاهة، خاصة أن ضرطة العفريت لها أوان محدد كل عام تهب فيه عاصفتها التي لا تسلم منها مدينة الحقيقة نفسها، ولهذا فقد تجد نفسك مضطرا لتصديق من يؤكدون أن هذه الرائحة المقيمة ليست إلا نتيجة لاختلاط روائح العرق بأبخرة الطهي لمختلف أنواع الأطعمة في المدينة التي أرادتها إلهة اللذة مطبخاً لمدينتها التي لا ينبغي أن تحتفظ سوي برائحة العطر المهيجة وماء اللذة الموصولة.

وستجد من يهمس لك -إذا ما اطمأن إلىك- بالواقعة العنيدة، التي لا يساوي إصرارها علي البقاء إلا إصرار المدينة علي نسيانها، ذلك لأنها تذكر بغضب الإلهة المبجلة، ولكنها أيضا ذكري سارة، فما كانت المدينة الصدي الساهرة علي راحتهم لتوجد لولا ذلك الغضب المقدس.

يقولون إن الإلهة نظرت فرأت اللذة تنسحب من أجساد المدينة، فقالت: ما لكم صرتم ظلالا باهتة، وصدي مشوها ومسيئاً للذتي المقدسة؟ وصار سؤالها الغاضب حكماً لم تشأ التراجع عنه، ولكنها إذ أشفقت عليهم عادت وتجلت فأشعلت اللذة فيهم مرة أخري، وخففت عنهم؛ فلم يعد الواحد منهم مطالبا بممارستها إلا بجارحة واحدة من جوارح اللذة فيه، ووعدتهم في الوقت ذاته باستمرار المدينة الصدي لتكون في خدمة مدينتهم، والتي سيتعين عليها من الآن فصاعدا اصطياد الغرباء لتعميرها.

وظلت الإلهة علي وعدها، تمد حبائل سحرها للغرباء من خلال شبكات المعلومات الدولية ومراسلي الصحف ووكالات الأنباء، ومصوري محطات التليفزيون الفضائية ينقلون صورة الحياة المفعمة باللذة في مدينة الربة المقدسة، فيتدفق إلىها ضحايا الخدعة الإلهة وسراديبها المسحورة التي تحملهم إلى المدينة الخطأ، تعجنهم في كتلة لينة من الخوف، يركضون كجن سليمان دونما أدني إشارة لجوهرهم البشري، سوي بعض الوجوه التي اشتهرت، وصارت مع الزمن عنوانا علي إحكام فخ لا يخيب.

 

ومع اكتمال الغروب تقترب لحيته

من الأرض، ويتحول فرق الطول

إلى حدبة كبيرة

 

علي مسيرة يوم يشم القادمون رائحة العراق النفاذة، تلتف حول أنوفهم كلما أوغلوا كحبل مجدول من رائحة إلىود والنشادر المركزين، ولسوف يغلب فضولهم قرفهم فيمضون في طريقهم يسحبهم الحبل الذي يشتد، حتي لا يعود بمقدورهم التراجع.

ولن يكون لديهم فيما بعد ما يكفي من الوقت ليعبروا عن دهشتهم: كيف فقدوا كل إمكانية للمقاومة في مدار الرائحة، وكيف لا يستطيعون تعيين اللحظة التي دخلوا فيها إلى المدينة، وكيف ساروا في شوارعها الفسيحة دون إبداء أي امتعاض تجاه وحشتها التي قابلتهم كدرع غير مرئي، وكيف -حتي- لم يلحظوا قصورها الطافحة بالفخامة الدميمة؟

فقط، وبصعوبة بالغة، سيتذكر كل منهم اللحظة الأولي التي سري فيها خدر الرائحة في دمائه كقدر عنيد ومطمئن، وهي نفس اللحظة التي بدأت فيها حياته كظل يكد ويحلم في صمت متحاشياً غضب "الظعبيد".

ستسمع دائما من يهمس بهذا الاسم، وسيمضي وقت طويل قبل أن تجد من يتجاسر ليصفه لك: هو كائن غريب لا يثبت علي ملامح السادة أو العبيد أو الظلال، ولا أحد يمتلك مشاعر محددة تجاهه، ولا أحد يعرف أكثر من انه القربان الذي تختاره المدينة من بين القادمين إلىها علي رأس كل سبعة أيام أو سبعة أشهر، أو سبع سنين، أو سبعين أو سبعة آلاف أو سبعين ألف سنة ليجدد السلام بين عناصرها الثلاثة؛ السادة والعبيد والظلال.

هو في الصباح سيد حقيقي، يمشي كمارد في طيلسانه محروساً بموكب الرائحة الذي يحف به مثيراً الرهبة في قلوب الظلال، لا ينقص من هيبته تشعث شعر لحيته ورأسه، أو رثاثة ثيابه، صولجان الرائحة في إحدي يديه، وفي الأخري سوطها يسوط به الظلال في سعيها إلى الثروة وحلمها باللذة، فتنتظم الأعمال وتستقيم الأخلاق طوال النهار حتي يتفجر تعب الظلال دماً وتبدأ في الانسحاب إلى مناماتها.

وفي هذا الوقت يكون "الظعبيد" قد بدأ في التقاصر، ومع اكتمال الغروب تقترب لحيته من الأرض، ويتحول فرق الطول إلى حدبة كبيرة، والصولجان إلى عصا خشنة يتوكأ عليها العبد المتخلق من هيئة السيد، ويتحول السوط إلى ثعبان يداعبه كحاو محترف في سعيه علي أبواب الظلال بطيلسان تناوشته الرقع.

وعندما يتوسط القمر السماء يعود إلى كهفه الذي تنمو بين أحجاره الطحالب، يرفع حشية القش التي يستلقي عليها، يخرج ثروته المحروسة بهيبة الرائحة، ليفك الكيس ويقلبه في حجره ويشرع في العد، ثم يفرغ جيوبه ويعود ليعد من جديد، وعندما ينتهي، يتأملها بزهو ثم يعيدها إلى الكيس، ويربطه، ويودعه مكمنه، ثم يسوي فرشته ويتناول شيئا مما جادت به الظلال وليستلقي علي ظهره مغمض العينين.

وتبدأ حدبته في الاستواء شيئاً فشيئاً، وفي الوقت الذي يكتمل استواؤه تبدأ حياته كظل، يحلم كغيره من الظلال، يري نفسه في مدينته البعيدة، سيداً، يركب السيارة الفخمة، ويسكن القصر الفسيح الذي تحف به الأشجار، وينبت فيه العبيد الجاهزون لتلبية أحلامه، والإماء الخبيرات بفنون اللذة، ويستعرض قصور المدينة ليختار من بينها النموذج الذي يحقق أكبر قدر من الدهشة، محاولا ما أمكن تحاشي الإحباط الذي يصيبه كلما ناوشته صورة "المحلمة"، القصر العصي علي التكرار.

فجأة يترتبك الحلم أمام السؤال الذي لم يجد له جواباً، هل العلاقة الآثمة بين سيدة القصر وعبيده هي قدر لا يمكن تلافيه؟ وهو سؤال معذب يحمله إلى تفكير لا ينتهي حول كنه المرأة الجديرة بأن تشاركه الحياة في ذلك القصر، وعندما يصيبه الإرهاق يحسم أمره: لتكن من تكون. ولن ألجأ إلى العبيد، سأستعيض عنهم بالآلات الحديثة، وستكون الجميلة التي أتزوجها أول أميرة بلا إماء أو وصيفات تفاديا لعلاقة قد تنشأ بينها وبينهن في الفراش الناعم، ولن أربي كلباً بلسان لعَّاق وإن توسلت، سوف لا يكون في القصر إلا هي وأنا.

وعند هذه اللحظة تحديداً، يري أمه التي تركها وحيدة منذ ما لا يتذكر، تسري عبر الفضاء الرحب، وتجتاز فتحة الكوخ، في عينيها عتاب لا يحتمل، يجهش فيشعر بيدها تحت ملابسه، تدلك ظهره،  لاينقلب علي بطنه ويغفو كما كان معتاداً وإنما يقعد حزينا خزيان.

يسند ظهره إلى الجدار، تتساقط دموعه، ثم يقوم، يوقد شمعة ويتناول ورقة وقلماً من تحت حشيته، ويشرع في كتابة رسالة سوف يقرؤها له صبي من أبناء الجيران.

يدون أشواقه، يسألها عن أحوالها، ويعتذر عن التأخير لضيق وقته وجسامة مسئولياته، ولسبب آخر كان لا يحب أن يطلعها عليه: ضيق ذات يده وحيائه  أن يبعث لها برسالة لا تحمل معها ما يعين علي مواجهة الحياة، ولكن الأمور صارت إلى الأفضل، وها هو يكتب ولن يعود إلى هذا التأخر مرة أخري، ويختتم بالسلام والقُبلات، ويطوي الورقة داخل المظروف، ثم يمد يده، يخرج كيس المال، يفك العقدة ويسحب ورقة يضعها داخل الرسالة المطوية، ثم يقلب الكيس ويبدأ في العد.

يعيد المال إلى الكيس، يطرق طويلاً مركزاً بصره علي المظروف، ثم بيد مرتعشة يستل ورقة النقد المستريحة داخل الرسالة يعيدها إلى الكيس مرة أخري، يحكِم عقدته ويعيده إلى مكانه، ثم يفتح الرسالة، يقرأها بصوت عال، يتوقف أمام ضيق ذات إلىد، يشطب عبارة "ولكن الأمور صارت إلى الأفضل" ويكتب فوقها بخط صغير: "ولكن الأمور ستصير قريبا إلى الأفضل، وسوف أرسل ما أقدر عليه". ثم يطوي الرسالة مرة أخري، ويودعها مظروفها، يبلل طرفه بطرف لسانه، يحاول إغلاقه بأصابعه المرتعشة، يتراجع في اللحظة الأخيرة: "لا يمكن أن أرسل مثل هذه الرسالة، بعد كل تلك المدة"، يحاول أن يعيد العبارة الأولي، لكن السطر يصير مطموساً غير مقروء، يمزقها ويعيد كتابتها، يطويها، ويضعها بداخل المظروف، ستنتظر هذه الرسالة أياما قليلة تأتي فيها أموال جديدة، لا يمكن أن أخدش هذا الرقم، فالهبوط أسهل من الصعود في كل شيء، وإذا اعتديت علي الموجود فإنه سيكر مثل بكرة خيط، حتماً ستأتي أموال جديدة، ولكن كيف سأضع نقودي تحت رحمة سعاة البريد اللصوص، وجيران تنقصهم الأمانة سيتولون فض الرسالة، كل هذا سعيا وراء وهم مساعدة عجوز لا أدري إن كانت لم تزل علي قيد الحياة أم لا؟!

 

وقد تسمع اصطفاق

بوابات اللذة

خلف تهدج صوته

 

خفيفاً كظل، عاجزاً كصنم، يتأمل نسخه المتتابعة علي قصدير الأرضية وكريستال الواجهات، الشعر الخفيف، الأبيض يتسلق من الجانبين ليستر قبة الرأس مقيدا بليلا بالفازلين، الشفه المتهدلة بفعل تساقط الأسنان ممتدة كشفة حمار مقدم علي النهيق، الأذنان مرفوعتان إلى الأمام، وستري لأول مرة في حياتك عيناً تأكل بهذا النهم.

يمشي ببطء، يداه في جيبه تداعبان سلاحه، الأجساد المغلفة بإحكام ينبجس سحرها من أزواج العيون، يفقد اتزانه في مدار اللذة، يتبع سرب النساء إلى داخل المتجر، عيناه تمران بذهول علي المعروضات النائمة في سلام.

يختار الزاوية التي تكشف لعينيه وأذنيه كامل المتجر، يسجل الطنين المستمر كمادة خام لأصوات نسائية يستطيع أن يشكل منها فيما بعد أكثر التوسلات فُحشاً، بعد ذلك سيعود ليتوقف أمامهن واحدة واحدة، يلتقط الصور وبصمات الأصوات، يفتح لكل منهن ملفاً خاصاً في مخزن اللذة، ولن يكون ذلك متاحاً دائما دون إجراء بعض التعديلات، فشهقة خوف علي طفل اختفي فجأة ستتحول إلى شهقة إعراب، وصرخة ألم من قدم عثرت ستتحول إلى صرخة لذة، وضحكة مع عجوز، سوف تخزن بعد حذف العجوز من المشهد لتصبح الضحكة له بعد تعديل طفيف يضيف الغنج إلى الضحك الصافي.

ولسوف يجرفه في النهاية المجال الأشد، يمضي وراءها مسحوراً، تتمهل فيتمهل، يسرع كلما أسرعت، يتأمل ما يجذب انتباهها، يقف في مواجهتها أمام حامل الملابس الداخلية، يديره برقة، يتناول قميصاً، يقلب النظر بينها وبين القميص.

تنظر بقليل من الانزعاج إلى رجل أهتم الفم، أبيض الرأس، يتشجع ويسألها: ابنتي في مثل طولك، هل يناسبها هذا القميص؟ وقد تلمح اصطناق بوابات اللذة خلف تهدج صوته، أو ترك السلاحين المشرعين في عينيه فتشيح عنه، ولكنه لن يتركها، بل سيسجلها في الملف المخصص لهذا النوع من النساء الأكثر إثارة، اللاتي يتطلب حملهن علي الاستسلام مزيداً من العنف اللذيذ، وقد تري في تهدج صوته حياء شيخ غريب فتقترب وتقبل حذرة علي المساعدة، تشرح المزايا والعيوب، تسدل القميص علي جسدها، وهو غائب هناك يحاول استيعابها بكل تدفقها.

ولو كنت من الذين يرون أبعد، ستراه وقد شرع في تجريدها، وتري الملابس التي يلقي بها قطعة قطعة علي الأرض، بينما المرأة قد انتصبت في رأسه عارية كعود من السرو. وقد لا تري أبعد ولكنك ستسمع بوضوح تتابع أنفاسه ثم هموده المفاجئ.

وستتوقف هي منزعجة عن الكلام، وتمتد يده المرتعشة تسترد القميص، ويجر رجليه إلى الخزينة يدفع الثمن ويمضي به نشوان، يوقف أول سيارة أجرة، يلقي بنفسه إلى جوار السائق الذي يسأله عن وجهته فيجيب باقتضاب لا يخرجه عن ذهوله، حتي يصل إلى كهفه الذي يقطنه مع غيره من الظلال.

يفتح الباب بهدوء، يلقي نظرة متأففة وقورا وهو يتخطي الأجساد المتناثرة أمام التليفزيون في الصال ة المظلمة، يحكم إغلاق غرفته بخفة، يلقي بالكيس علي سريره، يخلع ملابسه بسرعة علي أطراف أصابعه يمشي إلى الباب، يختلس النظر إلىهم من الفرجة الضيقة، ويعود يخرج القميص من كيسه، ينشره علي السرير، يتمدد بجواره ويشعل سيجارة.

يجذب نفساً عميقاً يطمئن معه علي العدد: سبع نساء لسبع ليال، يرتبهن، الأكثر إثارة تفرض نفسها لهذه الليلة، مع نفس ثان عميق من السيجارة تهل المرأة من عمق عينها، ويبدأ جسدها في الوضوح شيئاً فشيئاً كصورة في مرآة يتطاير ضبابها، وعندما تكتمل يبدأ في تجريدها من ملابسها، يعطي الصدر الحجم والاستدارة التي يريد، ويحدد انسياب البطن وارتفاع الإلىتين، وطول الفخذين وشكل العشب وحجم الهلال.

ينظر مرة إليها ومرة إلى القميص، ويقرر في اللحظة الأخيرة -كما يفعل دائما- أن جسداً بهذه الفخامة لا ينبغي أن يختفي في قميص. يطفئ السيجارة، ويجذب القميص. يكوره في يده ويلقي به أسفل السرير، ويستدير إلى المرأة، ويكون عليه أن يبذل مجهوداً كبيراً للسيطرة علي تأوهاتها، حتي لا ينتبه إلى صوتها الجالسون في الصالة محبوسو الأنفاس أمام امرأة شهية وكلب لعَّاق.

 

لم تر هذه الشوارع الموحشة

عندما كانت تضيق بموكب النساء

كاشفات الأهلة للهواء في تحد عجيب

 

ستراه مسرعاً نحوك يتوكأ علي عصاه، بشعره ولحيته المخضبين بغير إتقان. وسيرفع عصاه في وجهك، لا تخف؛ فهذه طريقته دائماً، سيبادرك كصديق حميم فارقك منذ لحظة، ويصل حديثاً انقطع للتو: أنا لا أوافقك، ماذا يمكن أن يصنع الرجل منا مع فتاة نحيفة كغصن جاف؟! المرأة يا صديقي التي تستحق أن يقال لها امرأة، البيضاء اللينة، مليئة العجز، عظيمة الهلال، الخبيرة بفنون اللذة.

ثم ينزل عصاه ليتمكن من التوازن، ويستطرد معترضاً:

- لا.. لا، لا تحاول أن تقنعني بغير ما جربت. أنت لن تعرف ما عرفت. ولن تجرب ما جربت.

ثم يضحك في سخرية كاشفاً عن فم خال:

- الخفة؟! من قال لك أن الخفة في النحافة فقط؟! تعرف! إن أكثر من عرفت كمن من البدينات، وتذهلك قدرتهن علي الحركة والرهز، مع الليونة والدفء؛ هل نحن في حاجة إلى تكسير الضلوع؟ لا تحاول يا صديقي، أنت ! كم مضي لك من الوقت هنا؟.. ياه!! وتتحدث معي؟! عندما يصير لك مثل عمري هنا ستدرك كل شيء.

كم؟! وكيف أعرف؟ ولكن يكفي أن أقول لك أنني رأيت ربة التهتك الساحرة في آخر تجل لها. أنت لم تر شيئاً من حفلات اللذة الصاخبة التي كانت تجتاح المدينة احتفالاً بجولة الإلهة المهيبة. تخيل نفسك وسط سبعمائة من العذراوات الخبيرات بأكثر مما تعرف بائعات الهوي المحترفات، يتسابقن عليك لافتراعهن: لم تر هذه الشوارع الموحشة عندما كانت تضيق بموكب النساء كاشفات الأهِّلة للهواء في تحد عنيد.

وفجأة يرسل بصره إلى البعيد، ويتهلل وجهه المتغضن، يصيح: أخيراً! يفتح ذراعيه ويحتضن الهواء، يترك العصا المعلقة في الهواء تسقط، يمد يده إلى جيبه، يخرج علبة سوداء، يضغط قفلها فينطلق منها سلاح صناعي منتصب وقد زين رأسه بشرائط ملونة، يرقصِّه في الهواء ويضرب الأرض بساقيه المقوستين، ويهتز بعنف يتصاعد ثم يخمد، يضغط السلاح فيتحول مرة أخري إلى علبة مستديرة، يدسها في جيبه، ويخرج منديلا يجفف عرقه،  ثم ينحني ليلتقط العصا، يثبتها في الأرض ويرتكز عليها بكلتا يديه.

بعد أن تهدأ أنفاسه تماماً يبادرك بصوت مستريح:

- ماذا كنا نقول؟ آه.. أنا معك، النحيفات شبقات أكثر، وخاصة السمراوات، مذاق آخر طبعاً، الرمان الصلب العنيف، الأعمدة المشدودة، الأهِّلة الملتهبة التي لا هي بالجافة ولا بالزلقة.

وسيتنهد طويلاً، ويهرش رأسه، ويطلب سيجارة سيكون عليك أن تشعلها له، فيجذب نفساً عميقاً، ويلمح سيارة مارقة، بحركة سريعة سيختفي وراءك، يتلصص يمينا وشمالاً، وعندما يلفحكما هواؤها. يعود إلى مكانه في مواجهتك، يعلق: آخر مغامراتي كانت صعبة، زوجها يطاردني في كل مكان.

سيجذب نفساً جديداً، ويقول: بصراحة شديدة، أنا فعلت كل شيء، وإذا سألتني الآن ماذا تفضل؟ سأقول لك: الوحدة، قل بصراحة، ألم تجرب أن تؤدي لنفسك هذه الخدمة؟ ما داعي الخجل هنا، الوحدانية حالة يكون فيها الإنسان كاملاً، سيد نفسه. إلىس السعي للمرأة في الأصل سعي للإكتمال ؟ ولكنه سعي خائب لا يتم حتي يعود إلى النقصان، والسعي من جديد. صدقني ستكون قريبا من نفسك، ستكون نفسك، وهي لذة آمنة، وتوقيتها بيدك أنت.

مجة أخري من السيجارة، يواصل بعدها: -لا.. لا، إذن جربت نوعك.. هه؟ شيء لم أستلطفه أبداً، في سنواتي الأولي هنا، كنت مضطراً، لم يكن لي مأوي أو عمل. أقلعت عنه منذ عرفت الباب الصحيح لدخول المدينة، يضحك.

- الأفضل من هذا كله -صدقني- نسيانه، تترك سلاحك علي أبواب المدينة، البعض جرب هذا، وهم قلة تمتلك وضوحاً في الرؤية منذ البداية، يحددون هدفهم منذ الاستجابة لنداء المدينة الغامض، ماذا يريد غريب من مدينة موحشة كهذه؟ الثروة. إلىس كذلك؟ بعض المال يحسن به أوضاع حياته في وطنه عندما يعود، إذن ليحفر ويدفنه تحت علامة بارزة، ويسترده في طريق عودته.

يلقي بالسيجارة ويضحك بنزق ويواصل: ولكنني شخصياً لا أنصح بهذا، بعضهم تركه وضل المكان، ولا يزال يبحث إلى إلىوم، ولماذا هذا العناء أصلا؟ ولماذا لا تتمتع، هل يعرف أحدنا متي يعود؟ الخوف من الخطر؟! ما هذا الهراء؟! مدينة تعج باللذة، حياتها اللذة، الخطر وهم لا يعشش إلا في رؤوس الغرباء، أنا دخلت قصوراً لا تعد ورأيت كيف أن هذا الأمر طبيعي جدا ومتفاهم عليه تماماً كتقسيم العمل.

طبعاً مثلك يمكن أن يخاف، إقناعك صعب، إذن سأدلك علي أنواع من اللذة الآمنة، تعال، تعال. ثم ينظر إلى ساعته؛ لا، ليس الآن، في النهار لن تري شيئاً، أجسادهن البللورية لا تظهر إلا في العتمة، ضوء الشمس يجعل التعرف عليهم مهمة شاقة، إذن سأصفها لك: هي هناك في السفح، تحت قدمي الربة، حديقة شاسعة، في ركن منعزل منها مسبح كبير، حوله شقراوات دعجات، يعشن في قطيع، يتقافزن في الماء، ينمن علي الأعشاب وقد رمين بين مفارق الأثداء جدائل تمتد لتنتهي بذؤابة كزهرة لوتس تغطي الأهِّلة المتوهجة، وبينهن أميرتهن يداعبن أعضاءها.

يضحك ساخراً: تصور؟ الكثير يخشونهم باعتبارهن مكتفيات بنوعهن، شرسات، والأمر ليس كذلك أبداً، انهن يتسلين فقط انتظاراً لقادم جسور، يفرق جمعهن، وأنصحك: لا تحمل نفسك أبداً علي وهم اكتفاء المرأة بنوعها. هل يغني الاحتكاك البائس بين هلإلىن عن سلاح نافر يملأ الحفرة ويمهد الأرض؟ هه؟ هل يرقع الخرقُ بالخرقِ؟!

هل تحب أن تعرف ما حدث لي في أول زيارة لحديقة اللذة؟، شعرك الأسود هذا سيشيب لو علمت ما قالته لي الأميرة.. اسمع.. عصاي هذه افترعت أكثر من سبعة آلاف عذراء، لم يكن مسموحاً لي أن أغادر الأميرة، والوصيفات العذاري الشبقات ماذا أصنع معهن؟ قلت أنت!

ثم يلقي عصاه ويبرز صدره ويثني ذراعيه، أتراني ضعيفا إلى الحد الذي يلجئني إلى عصا أتوكأ عليها؟!

ويعود، ينحني مرتعشاً يلتقط العصا، ويقول: لكن اسمع! أنا أكثر منك خبرة، وأنت صديق، انج بنفسك، لذة هذه المدينة ظمأ لا يرتوي، احتراق لا يبرد، ليست لذة، إنها العذاب. من السهل أن تدخل قصر امرأة شبقة، ولكن سيلقي بك في إلىوم الأول من شيخوختك، عارياً، تعاني بؤس الوحدة.

ثم جهش في تأثر لن تملك معه إلا أن تحتضنه كطفلك، وسيسألك ناشجاً عن الطريق إلى المتاهة: "إنه الشيء الذي لم أجربه بعد، ملاذي الأخير"  وسيشد علي يدك طويلا ويجذبك أكثر ليقبلك إذ يتأهب للإنصراف فاحترس، لأنه في اللحظة قد لا يعرف أيكما هو.