وتظل الحاجة إلى الناقد ، ما ظل هناك إبداع. فالتناول النقدى من أكثر من ناقد يُعدد وجهات النظر التى تُثرى العمل وتوسع آفاقه، بل ربما قد يأتى من يوسع من رؤية الكاتب نفسه، وما لم يرد على ذهنه، ولكنها زاوية تلفت نظر القارئ أن ينظر من خلالها. كما أن تعدد وجهات النظر حول عمل واحد، يُخرج القارئ من سياسة الخضوع للرأى الواحد فيعتبر النقد فى هذه الحالة، وسيلة للتنوير، وقبول الرأى الآخر. لذا كانت هذه "قراءة مغايرة" قد تخرج القارئ العربي من زنزانة الكبت، والجمود.

قراءة مغايرة لرواية «الزنزانة رقم 7«

عبدالرحمن الرياني

 

يقول شاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري  في وصف شخصيته في أحد قصائده  :

إن المصائب طوعاً أو كراهيةً       أعَدْنَ نَحْتِي، كما أبدَعْنَ تلويني

البيئة المحيطة التي صقلت شخصية السجين الثائر "محمد" هي الأحواز المحتلة البلاد التي دفعت ثمناً فادحاً لإكتشاف النفط في عشرينيات القرن الماضي والذي أدى إلى وقوعها تحت الإحتلال الفارسي في بداية حكم  أسرة رضا خان سنة 1925 التي خضعت منذ سقوط إمارتها العربية إمارة الشيخ خزعل بن جابر الكعبي إلى عمليات واسعة من التجريف للهوية الوطنية في تغيير أسماء المدن وفرض الأسماء الفارسية وتجريم التحدث بالعربية في الأماكن العامة وفرض اللغة الفارسية كلغة رسمية وحيدة  ولغة السطو على الثروات والمقدرات وسياسات التفريس ولدت لدى محمد بطل الرواية  ما يمكن توصيفه سيكلوجية الرفض أو سيكلوجية الثورة فالمصائب والنكبات وحدها من تصنع الثائر الذي يصبح بوعي أو ب اللا وعي جزء من ظاهرة إعتراضية حقيقية فاعلة ومؤثرة ضد المحتل وضد ميزانه المختل وقوانينه الجائرة ضد مخرجاته ومنتجاته وإفرازتها المتراكمة على مدى عقود عدة ، في وضع كهذا كان على من يحمل إيدولوجية الرفض للمقاومة أن يتصف بأعلى درجات الشجاعة والتضحية ورغبة محمومة للتغيير والقدرة على المبادرة وملكات فن القيادة حين يشعر للوهلة الأولى أن الأجواء باتت مواتية لإحداث التغيير في سجن كارون الذي نُقل إليه مع عدد كبير من السجناء الذي كان يُطلق عليهم الخونة لكونهم كانوا لسنوات في العراق إبان الحرب العراقية الإيرانية إستطاع توظيف علاقته بالسجان " صالحي " بمهارة في إقناعه أن يترك الباب بين العنبر وبين دورة المياه مفتوحاً في الليل حتى يتمكن رفاقه في العنبر من الدخول إلى الحمام والوضوء وتمكن من توصيل شكوى رفاقه حول تعرض نصيبهم من وجبات الطعام فيقنعه أن يتولى اثنين من السجناء في العنبرالقيام بمهمة إستلام حصتهم من الطعام نيابة عن العسكر وهو الأمر الذي ساهم في  تحسين وجبتهم اليومية من الطعام  ، على الرغم من أن محمد لم يكن أكبر السجناء سناً ولا  أكثرهم محكومية لكن روح المبادرة لدى الثائر

  • حالات طُهر ثوري

شخصية السجين الثائر في الرواية توحي عن حالات عديدة متكررة لما يمكن توصيفه  بالطُهر والنقاء الثوري ، بعيداً عن العبارة المرادفة للعنوان " مذكرات سجين سياسي أحوازي " التي تم وضعها في الغلاف بصورة مستفزة وكأن الناشر أراد أن يأخذ العمل إلى منحاً آخر يقلص الجانب الروائي الإبداعي الرفيع في النص  ويأخذه إلى النص السياسي بصيغة أدبية ،   حالة الطُهر التي نعني بها نظرة السجين للسجان تكمن في المقارنة بين السجان الإيراني وأدوات وطرق التعذيب التي لم يعرفها قبل ذلك إلا من خلال ما أستوطن في ذهنه عن حالات التعذيب المتواترة التي عرفها العراق إبان حقبة حكم حزب البعث  أو تلك الممارسات القاسية التي كانت سائدة في سوريا ، كما أن الإشارة التي تحمل دلالآت ذات بُعد إلى تلك الحالة من العنف والقسوة المفرطة فيما يقوم به الضباط الذين يعود أصولهم إلى الأحواز العربية العاملين في إطار المنظومة القمعية للنظام الإيراني والتي تجعل من العنف صناعة وخاصية عربية  بإمتياز نموذج الضابط عيسى عبيات من أصول أحوازية الذي عرف أنه مدللاً لدى مدير السجن والذي كان يتعامل بقسوة مفرطة مع السجناء من أبناء جلدته  ، في الوقت الذي يرى فيه أن السجان الإيراني صالحي الذي صادقه في العنبر رقم 7 والمحققين الإيرانيين ، يبلغ الحد مداه في إختزال ظاهرة العنف حتى تصل إلى أقرب الناس إليه في مشهد العنف المفرط الذي يقوم به والده ضد أمه ذات يوم عندما يحتدم النقاش فيما بينهم وترفض الأم منح والده الموافقة بأن يتزوج إمرأة ثانية عليها لكون الأب يحملها المسؤولية في عدم إنجاب الأولاد الذكور  وأنها لاتنجب سوى الإناث لديه خمسة من الأبناء جلهم بنات عدا محمد بطل الرواية وفي فورة غضب ينفجر الأب فينهال بالضرب على والدته بقسوة حينها يتحول العاشق اللطيف إلى وحش هائج لا يرحم ولا يكتفي بالضرب بل يأخذها في مشهد مأساوي ليلقي بها إلى النهر  تصادفت حالة غضب الأب مع وجود والدة الزوجه التي نالت نصيبها من القسوة المفرطة التي تلقت بدورها الضرب والإهانة وكان مصيرها أن يلقي بها في ذات النهر الأب  الشجاع الشخصية والإجتماعية في المجتمع وأحد رموز المقاومة في مدينة المحمّرة [1]العربية ضد المحتل لم يتبقى منه سوى شيخ الدين المفرط بالعنف والقسوة .

    تتوالى حالات الطُهر الثوري التي تتناغم مع شخصية  الراوي أو الثائر النقي المؤمن بقضيته والمنحاز إليها بقوة دون غيرها وهو من الناحية السيكلوجية شخصية ترفض التدجين والتبعية والطاعة العمياء فبعد سنوات من هروبه من الأحواز إلى العراق والعمل كمترجم من الفارسية إلى العربية بالرغم من كل تلك السنوات له في العراق وهو مايتأتى من خلال رفضه لتنفيذ الأوامر الصادرة في أغسطس 1990 إلى جهة العمل التي يتبعها وهي الإستخبارات العسكرية  العراقية التي تنص على التحاقه بقوات الغزو العراقي لدولة الكويت هنا تتحرك الروح الثورية وتتمازج مع الإنتماء الوطني والقومي لديه ترفض وتقاوم وتتمرد على تلك الأوامر تسيطّر على ذاكرته التي تتزاحم فيها  تلك الكلمات التي كان يرددها صدام حسين بأن العراق لا يمكن له الإعتداء على أي بلد عربي لتتحول بعد حدوث الغزو إلى سؤال يتكرر بإلحاح  كيف له وهوالقادم من وطن سليب  يقبع تحت الإحتلال منذ عقود أن يجد نفسه في لحظة ما مع قوة تحتل بلداً آخر لقد رأى في الكويت صورة أخرى للوطن المحتل ، عقدة الكثير من المضطهدين  الذين يصيرون في لحظة ضعف إنساني بفعل تراكمات مراحل وأزمنة القهر والعسف حالة من الخواء تحيلهم لحالة مسخ تقودهم إلى التموضع مع الجلاد وعقد صفقات تجعلهم ينقلبون فكرياً وعقائدياً ضد ذاتهم وأدميتهم لم تتسرب إليه وهي هنا كما يعرفها علم النفس بالتحيز السلبي للأشياء كما يسميه الدكتور علي الوردي   وعقدة تقليد الغالب حد وصف إبن خلدون، يقرر الرفض والتمرد طواعية دون تردد حتى لو اقتضى الأمر أن يغامر بالعودة إلى الأحواز عن طريق التهريب وهو ما حدث بالفعل جذوره القوية المتجذرة والمدبولة  بطين الأرض والوطن السليب وحدها من شدته بعنف نحو الوطن الجريح المُحاط بأسلاك سميكة مكهربة بالإخطار المحدقة به حاله يشبه ساكني المناطق البركانية الذين اعتادوا على تلك الفورات من الحمم البركانية لكنهم لايشعرون بالدفئ إلا في المكان الذي يمنحهم ذلك الإحساس بالأمان والحماية  ، على الرغم  من التعميم عليه لدى المنظومة الأمنية شديدة القمع التي حددت مدة للإلتحاق بالقوات الغازية مالم سيعد عدم تنفيذ الأوامر هروباً يخضع صاحبه لعقوبات مشددة تعرضه إلى السجن وحتى إلى الإعدام  طريق التهريب المحفوفة بالمخاطر المغطاة بحقول القتل لم تكن معبدة ليكشف قبل العبور ما يمكن التعاطي معه وفق العلامات والدلالآت حسب التعبير السيمائي أو السيميولوجيا عن أن الأجواء المحيطة بعملية التهريب التي سيقدم عليها بالغة التعقيد ومليئه بالتناقضات من غدر المهربين الأكراد الذين يأخذون منك المبلغ المتفق عليه مقدماً وبعدها يقومون بقتلك إلى أبناء جلدته الذين سيفشون سره إلى العدو عندما يقوم بإخفاء أوراقه التي تؤكد عمله كمترجم لدى دائرة الأستخبارات العسكرية كما هو الحال بالنسبة لرفيقه مهدي العسكري الوحيد الذي كان معه في رحلة التهريب الذي  أبلغ المحققين في جهاز المخابرات الإيرانية  عن الهويات التابعةلمديرية الإستخبارات   حيث كان يعمل مترجماً في دائرة التوجيه السياسي وسيكونون السبب في مضاعفة سنوات السجن كون تهمته هي التعاون مع النظام البعثي لقتل جند الإسلام .

 

  • حالة زيف :

أثناء وجوده في العراق التقى بحنان أبنة ضابط برتبة كبيرة في الجيش العراقي عربية مثله أحبها وبادلته نفس  المشاعر صارت بالنسبة له الحبيبة التي يهرب إليها من وجعه ومحطته الوحيدة لنسيان ما يحيط به من شر مستطير كونها كما يقول في لحظة المطاردة التي كان يتعرض فيها للمطاردة من ضابط المخابرات أبو أمجد  بعد رفضه تنفيذ الأوامر للإلتحاق بالجيش الغازي للكويت حنان تعني له الطمأنينه والسكينة في عالم تتلاطم فيه المصائب في ذلك السياق وعلى الرغم من كونه عربي والشعارات التي كانت تُرفع من قِبل الحزب الحاكم في العراق تمجّد العرب : أمة عربية واحدة وياشباب العُرب هيا وانطلق ياموكبي أرفع الصوت قوياً عاش بعث العربِ آلا إن الواقع كان مجافياً ومختلفاً مناقضاً لتلك الشعارات البراقه في التعامل معه في أبسط حقوقه كإنسان  وهو الإرتباط بمن أحب فهنا يعد زواج العراقية من عربي أحوازي  جريمة لاتغتفر يعاقب عليها القانون عقوبتها تصل إلى السجن لسنوات لمن يقدم عليها ، هذه الوضعية سيكون لها تداعيات في النفس تتطور بحالة اللا وعي لديه بفعل النفس القُطري للدولة التي تتاجر بالشعارات القومية وهي في عمقها حالة زيف قُطرية لم تخرج من القبيلة وقوانينها الجائرة أو القُطرية في أسوأ حالاتها  .

         صراع خفي بين الدولة والثورة

    الزنزانه رقم 7 ليس مجرد مساحة ضيقة  شديدة البرودة في        الشتاء القارس  المعزز بمكيف الهواء المفتوح على الدرجة القصوى طوال فصل الشتاء ، هي حبس إنفرادي مليئ بالقاذورات والرعب الساكن في الجدران زنزانة محمد عامر كانت الوجه الآخر لحالة تعرية فاضحة مكتملة الأركان تكشف عن خبايا لدلالآت ذات آبعاد متعددة تفكفك المرحلة وتكشف أساريرها  هي حالة سرد" تاريخانية " لا تزال مستمرة تحكي عن الثورة المغدورة من داخلها على لسان رجل الدين القاضي والبرلماني الذي وضعه من سرقو الثورة في المعتقل بعد أن أنحرفت الثورة عن مسارها وتوحشت وبدأت تأكل أبنائها ، الصورة هنا تحاكي الصراع القائم بين تيار إنتهازي تسلطي قمعي مستبد يؤمن بثقافة القوة لا بقوة الثقافة وبين التيار الآخر الذي لا يزال يقاوم الإنحرافات ويتصدى لها وفق الممكن المُتاح وهو ما يمكن فهمه في عدة صور نموذج عيسى عبيات ورئيس إدارة السجون  النموذج الآخر هو القاضي الذي مثل أمامه عندما كان في الزنزانه الإنفرادية في سجن القدس الذي وقف أمامه لتلقي الحكم عليه بعد هروب السجناء والتهمة الموجه له من إدارة السجن بوجود دور له في تهريبهم  ، ما أن علم القاضي أنه كان في الزنزانه الإنفرادية وقت الهروب مع رجل الدين والبرلماني وأن الحالة الرثة التي كان عليها وتنبعث منها رائحة عفنة هي نتاج لوجوده في الزنزانة لخمسة عشر شهراً حتى استدعى الضابط لمعرفة حقيقة وضعه في الزنزانة دون أمر قضائي من المحكمة حتى أصدر قراره بإعادته إلى العنبر مع بقية السجناء حتى يقضي بقية محكوميته وهكذا أعطى أمره للنقيب " كودرزي "ليحسم الأمر قائلاً هذا أمر قضائي واجب التنفيذ ونحن هنا ننفذ القانون ولا نخضع لرغبات الأشخاص مهما كانوا ومن يفعل ذلك عليه أن يتحمل تبعات وعواقب فعلته لقد فعلتم بالرجل مايكفي وأكثر كلها كانت إجراءات لاتمت للقانون بصلة ، في هذه الصورة هناك حالة كيميائية من العلاقة بين القاضي السجين والقاضي الذي أعاد محمدإلى العنبر من تيار واحد هو تيار الدولة الذي سيتحول فيما بعد إلى تيار يطلق عليه إلاصلاحيين في مواجهة التيار الذي أختطف الثورة وأعتمد في ذلك الحاقدين الذين لديهم الإستعداد على القيام بكافة الإعمال والإنتهاكات المعادية للإنسانية وفق قاعدة ميكافالية فجة الغاية تبرر الوسيلة حتى أنه وهو في طريقه للعودة  إلى العنبر  يتحدث عن ترك زادة من أصول عربية الذي يفهم العربية لكنه يرفض التحدث بغير اللغة الفارسية ويطلق على السجناء السياسيين من العرب صفة الخونة ، ينتهي العمل الروائي المستمد من السيرة الذاتية للكاتب  بخروجه من السجن بعفو أصدرته القيادة الإيرانية بعد أن أمضى ثلاثة أرباع المدة من محكوميته التي حُكم بها  ثلاثة عشر عاماً .

 

  • كاتب من اليمن

 

 

[1] المحمرة (جرى تغيير اسمها إلى خرمشهر) هي مدينة عربية تقع على الضفة الشرقية لشط العرب في الأحواز ...