تقرير من بابل

ندوة التجريب في السرد العربي الحديث

باقر جاسم محمد

في إطار الاهتمام بالاتجاهات الحديثة في السرد الأدبي العربي، ولاسيما التجريبية منها، أقام قسم اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة بابل ندوة علمية تحت عنوان (التجريبة في السرد العربي الحديث) وذلك في صباح يوم الخميس الموافق 21 من مايس 2009. وقد استهل مدير الندوة الأستاذ سعد المرشدي تقديمه لفعاليات الندوة بالتنبيه إلى أهمية المحور الذي دارت عليه أبحاث الندوة في إضاءة التجربة الأدبية العربية في مجالي القصة القصيرة والرواية. وقد تضمنت بحوث الندوة، التي كان الجانب التطبيقي غالباً عليها، الموضوعات الآتية:

أولاً: بحث الدكتور عبد الهادي الفرطوسي: التجريب الروائي في برهان العسل
اتخذت هذه الدراسة مظاهر التجريب في رواية برهان العسل لسلوى النعيمي موضوعاً لها، وقد تناولت العلاقة بين التاريخي والمتخيل في مرحلة ما بعد الحداثة وكيفية اشتغالهما. وأشار الباحث إلى قدم العلاقة بين التاريخي والرواية العربية ومراحل تطورها، وصولاً إلى مرحلة رواية الرواية التاريخية كما تسميها ليندا هتشيون، ليكتشف جوانب من الملامح السياسية للرواية التاريخية في برهان العسل، وفي مقدمتها: حضور نصوص تاريخية دون تغيير وذلك من قبيل المحاكاة الساخرة، وخلق إشكاليات في ما اعتبرته الرواية التاريخية بدهياً، أي زعزعة المفاهيم المستقرة عن الرواية والتاريخ، ومن الأمور الأخرى التي تتجلى في "برهان العسل" كانت المواقف الأيديولوجية التي تتضمنها الإشارات التراثية، فبحسب هايدن وايت "أن كل تمثيل للماضي له تضمينات أيديولوجية يمكن تحديدها... لكن أيديولوجية ما بعد الحداثة تناقضية إذ أنها تعتمد على، وتستقي قوتها مما تتحداه، والبطلة الراوية تتحدى القيم والتقاليد الموروثة، بأطرها الدينية والثقافية والأدبية، معتمدة ومتسلحة بأحاديث للرسول ولأبي عبد الله ولعائشة وبنصوص للسيوطي والتيفاشي والنفزاوي... وبتداخل التجربة العملية بالثقافة النظرية، ترتسم معالم الأيديولوجيا الجديدة، هكذا صارت كتب الأجداد ولغتهم الطريق إلى هذه الأيديولوجيا.

وقد تتبعت الدراسة التحولات الفنية والأيديولوجية على مستوى الرواية النسوية العربية لتصل إلى أن رواية "الحب في زمن النفط" لنوال السعداوي عام 1993 كسرت التقاليد السردية وعبرت عن اهتزاز الصورة التي خلفتها البيروسترويكا على رؤيا الكاتبة، أما "برهان العسل" فقد مثلت نموذجاً للانتقال الجديد من اللاأدرية وغياب اليقين التي اتسم بها أدب ما بعد الحداثة، إلى تشكل رؤيا واضحة تمد جذورها إلى أعماق الموروث الإنساني لتخلق نواة لمجتمع إنساني جديد يقوم على الحب أولا وآخراً.

ثانيا:ً بحث الدكتورة إيمان عبد دخيل: تجليات الغيطاني بين جنس السرد وتجريب النوع السردي
وقد أشارت الباحثة إلى أن كتاب (التجليات)، بأسفاره الثلاثة، للروائي المصري جمال الغيطاني منتج أدبي يصعب تجنيسه ليس لأنه لا يتطابق مع حدود نوع أدبي محدد، وإنما لأنه نمط من الكتابة تتضايف فيه مجموعة متداخلة من المكونات والتقنيات المختلفة الانتماءاتا، مثل: الأدب العجائبي، الرواية، السيرة الذاتية الروائية، النص المفتوح. وقد أشارت الباحثة إلى أن الأدب العجائبي يسجل حضوراً لافتاً للنظر في موروثنا العربي الحكائي القديم، مثل: الحكايات الخرافية، وقصص ألف ليلة وليلة، وأدب المعراج، والمناقب الصوفية، وأدب الرحلات العجائبية.

وقد أوضحت الباحثة أن تجليات الغيطاني تمتاح من هذه البئر الغزيرة بصنوف ثرة من هذا النوع. ذلك أن بنية التجليات تعتمد أساساً على حادثة العروج التي ينتقل عبرها الراوي جمال الغيطاني من واقعه المادي المحسوس إلى عوالم تتخطى أبعاد الواقع الزمكانية وتكشف عن طاقات إنسانية خارقة في السفر والبحث والاستقصاء. وأضافت الباحثة إلى أن حادثة العروج ليست نوعاً من الهرب نحو عوالم الخيال والحلم، لأننا لا ندخل عبرها إلى عوالم خيالية خالصة، وإنما هي رحيل أو انتقال من الواقع للدخول إلى عمقه المستور واكتشاف حقائق الأشياء وأسرار التبدل والتغير في المواقف والأحوال والمقامات. ثم تابعت الباحثة الكيفية التي جمع بها جمال الغيطاني بين الواقع بأبعاده المادية المعلومة، وما فوق الواقع الذي يشف عن بواطن الأشياء بعد تجريدها من مظاهرها المزيفة، وما تجسده هذه الكيفية من ظاهرة التجلي والكشف بدلالاته الصوفية. وما حادثة المعراج إلا وسيلة لذلك التجلي والكشف. وأشارت الباحثة إلى بعض مكونات الأدب العجائبي الأخرى التي وردت في التجليات، وهي:

1 ـ تلقي المعرفة حدسياً،
2 ـ تحول الشخصيات،
3 ـ أسطرة الزمان والمكان.

ثم قررت الباحثة أنه "لعل من أهم مظاهر السرد العجائبي توظيف الرواي الحكواتي وعلاقته المباشرة بالمتلقي والسامع." وهي ترى أن جمال الغيطاني يسعى، في التجليات، إلى إشراك المتلقي بالاستدعاء المباشر له، في مواضع متعددة من الكتاب تأكيداً على حضوره المتصل، وتهيئة لدوره المهم في إعادة بناء العوالم المتخيلة. فالراوي يعمد إلى تشتيت مسارات السرد لتبدو المسرودات وكأنها تدُّوم في عوالم لا متناهية من الحركة لأننا في عالم الرؤيا والكشف الحدسي نفقد المنطق المألوف للأشياء فيغدو إدراكها غير خاضع لأبعاد الواقع ومعطياته. واختتمت الباحثة محاضرتها بالقول أن العجائبي في كتاب التجليات يمثل بنية كاشفة عن رحلة الذات في بحثها الدؤوب عن تحققها في واقع موسوم بالتحول. وما الثبات فيه إلا للأبطال والشهداء الذين جسدهم كتاب التجليات، سواء أكانوا شخصيات تاريخية أم متخيلة.

ثالثاً: بحث الأستاذ باقر جاسم محمد: جدل الشكل والمحتوى: حديث الصباح والمساء إنموذجاً
وقد تناول في مقدمته مسألة الأسس الفكرية والجمالية للتجريب. ثم انعطف للحديث عن رواية نجيب محفوظ (حديث الصباح والمساء) فقدم تحليلاً مفصلاً لبنائها الفني الذي ارتكز على تهشيم الشكل التقليدي للسرد الروائي والاستعاضة عنه بشكل فني مبتكر يستند إلى توزيع الفقرات السردية اعتماداً على التسلسل الألفبائي لأسماء شخصيات الرواية، وعددها ست وستون شخصية في 231 صفحة من القطع المتوسط. وتنتمي هذه الشخصيات إلى ثلاث عائلات كبيرة هي: عائلة عطا المراكيبي وعائلة يزيد المصري وعائلة معاوية القليوبي. وقد تتبع المؤلف هذه المجموعة الكبيرة من الشخصيات عبر رحلة زمنية امتدت لأكثر من مائة وثمانين عاماً (ابتداءً بالحملة الفرنسية على مصر في العام 1798 وانتهاءً بأواسط الثمانينيات من القرن العشرين). وشكلت هذه المسافة المدة الطويلة الإطار الزمني الخارجي لأحداث الرواية. أما الإطار المكاني للأحداث فقد شمل رقعة جغرافية واسعة تتضمن الإسكندرية وبني سويف وأحياء سكنية ومناطق مختلفة من القاهرة.

لقد ابتكر الكاتب شكلاًجديداً في بناء نصه الروائي هذا، فاعتمد على أسلوباً مختصراً في تقديم حكاية (بمعنى الإخبار والسرد البسيط) كل شخصية من الشخصيات الست والستين وفقاً للتسلسل الألفبائي لأسماء الشخصيات.فكان يورد حكاية كل شخصية على حدة، وبإيجاز سردي شديد التكثيف معتمداً أسلوب التلخيص لا أسلوب المشهد. ولقد نتج عن هذا المزج الدقيق بين البنية السردية ذات الجوهر الحكائي وتوزيع المادة السردية داخل النص باعتماد التسلسل الألفبائي ما يأتي:

أ ـ تفتيت الزمان السردي وكسر، بل تشظية، المسار الخطي للزمن التقليدي.

ب ـ وبالارتباط مع النقطة أولاً أعلاه، فقد أوجدت الرواية زمناً حياتياً، وقد أقول بيولوجياً، خاصاً بكل شخصية واتخذته منطلقاً للتبئير الزمني السردي. ويتجلى هذا الزمن بتكرار دورة الولادة فالطفولة، الصبا، فالشباب، ثم الكهولة، والشيخوخة، والموت.

ت ـ لا يرتبط الزمن السردي الداخلي والخاص بكل شخصية بالزمن الخارجي (التاريخي) ارتباطاً واضحاً، لأن لكل منهما طبيعته الخاصة. إنما ترد في النص الروائي جمل متفرقة هي بمثابة إشارات ودلائل على مثل هذا الترابط.

ث ـ لا يرتبط الزمن السردي الداخلي والخاص بكل شخصية بالزمن الخارجي (التاريخي) ارتباطاً واضحاً، لأن لكل منهما طبيعته الخاصة. إنما ترد في النص الروائي جمل متفرقة هي بمثابة إشارات ودلائل على مثل هذا الترابط.

ج ـ لقد كانت نتيجة هذه التقنية في التعامل مع الزمن داخل الرواية أن أعيد إنتاج الزمن الشخصي الخاص بكل شخصية في الرواية والزمن الخارجي الاجتماعي أو كلاهما معاً مرات عديدة، وفي مواضع مختلفة من الرواية.

ح ـ وجرى أيضاً تفتيت المكان وتوزيعه على مواضع متباينة في الرواية. وقد نقلنا الكاتب إلى حيث عاشت كل شخصية، كما أعاد الكاتب وصف الأمكنة التي اشتركت في العيش فيها أو ارتبطت بها عدة شخصيات روائية على نحو مختصر.

خ ـ يمكن القول أن بعض الأمكنة قد اقترنت بعائلات ومظاهر سلوكية معينة ميزت أفراد تلك العائلات ووسمت حياتهم بميسمها. وهكذا اكتسبت هذه الأماكن صفة رمزية ثرة، وهو مما يغني الفضاء الدلالي للنص، فسراية (ميدان خيرة) كانت رمزاً لثراء وعنجهية عطا المراكيبي وطبقته، بينما كان ميدان (بنت القاضي) رمزاً لعائلة يزيد المصري وطبقته.

د ـ نتيجة لكل ما سبق فقد تأثرت الحبكة (plot) والحدث (event) في الرواية، إذ افتقرت الرواية إلى الحبكة المركزية بالمعنى التقليدي. فبدلاً من الحبكة المركزية قدمت الرواية حكايات، أو لنقل حبكات، صغيرة متعددة تشبه المراقي أو الدوائر الحلزونية المرتبطة بالشخصيات. وهنا يمكن القول أن الشخصيات وحكاياتها كانت وحدات البناء الفني الأساسية وفقاً للكيفية الخاصة المشار إليها سابقاً. وفي النهاية، أشار الباحث إلى أن هذه الرواية هي رواية قارئ بامتياز لأنها تتطلب نوعاً متقدماً من مخيلة التلقي التي ستقوم بعملية إعادة تخليق المشهد الروائي الذي جرى تقديمه على شكل فسيفساء هائلة مفتتة وغير مرتبة. وهي صورة بانورامية أو ملحمية وإن خلت من البطل الملحمي التقليدي.

4 ـ بحث الأستاذ خالد علي ياس المعنون: دينامية التجريب: مقاربة سوسيو ـ نصية في عالم عباس عبد جاسم القصصي
قد سعت هذه المقاربة النقدية إلى محاولة الاقتراب من عالم القاص والروائي عباس عبد جاسم، ومن ثم تحليل مكونات هذا العالم الفنية والفكرية للوصول إلى نتائج عملية نصية تؤكد على أهمية فكرة التجريب التي تمظهرت على شكل تقنية فنية في قصصه، وعبر مراحل إنتاجها الثقافية والمعرفية. وقد اعتمد هذا التحليل على أسلوب نقدي معروف ينطلق من مفاهيم السوسيولوجيا الحديثة التي جمعت بين جماليات النص بما فيه من بنيات وعلامات دالة بشكل متضمنة. وبين البنية الاجتماعية والثقافية والمعرفية التي يمكن أن يتحسسها الناقد أو عالم الاجتماع مما يخلق تواشجاً جدلياً بين النص والواقع الموضوعي يوصل بعد ذلك إلى تحديد رؤية المؤلف للعالم.

وفي سياق المحاضرة، أشار الباحث إلى التحولات الشكلية في القصة العراقية، وإلى بوادر التجريب لتقنيات غريبة عنها أو مستحدثة عبر تاريخ تطورها الفني. ثم حدد الأنماط الأساسية التي يمكن ملاحظتها واستخلاصها من عالم القاص عباس عبد جاسم وذلك للتدليل على انهماك القاص بظاهرة التجريب بوصفها هماً إبداعياً ورؤيوياً. وقد أظهر الباحث أن النمط الأول كان مرتبطاً بالرؤية الوجودية والعبثية في الستينيات بوصف أن هذه الرؤية تمثل مرحلة كتابية ذات طابع جدلي انطلق منها القاص. وبعد ذلك، بين الباحث أن النمط الثاني كان يرتبط بتجارب تتعالق، أو تتناص مع ما يوصف بالواقعية السحرية، وكذلك مع أعمال بورخس والرواية الفرنسية الجديدة. وهذا النمط يمكن أن نطلق عليه (سحر المتاهة وجماليات الفكك)، وهو مما يظهر تأثر القاص بالأدب العالمي بما يدفعه إلى تجريب أشكال فنية ليست معهودة في القصة العراقية. وبعد ذلك أشار الباحث إلى النمط الثالث المتمثل بالمرحلة الناضجة التي درسها تحت عنوان فرعي هو (السرد المضاد)، وفيه سعى القاص إلى تجريب أشكال سردية مختلفة من حيث تقديم أبنية سردية لا تمتثل لأساليب السرد الشائعة. وهو ما أدى إلى أن يقدم القاص نصوصاً سردية تستعصي على التجنيس الأدبي.

وبعد أن انتهى الباحثون من تقديم أوراقهم البحثية، أسهم الحاضرون في مناقشات مهمة أغنت الندوة بالكثير من الملاحظات القيمة. فقد أشار الدكتور عباس رشيد الددة إلى أهمية أن يكون هناك مدخل نظري يسبق الدراسات التطبيقية، كما أشار الدكتور أحمد رحيم إلى ضرورة ضبط المصطلح، وقد تضمنت مداخلة الدكتور سلام حربة رأياً مهماً في ضرورة ربط التجريب بالحاجة الموضوعية للتطور الفكري والثقافي والاجتماعي، أما الأستاذ عبد على حسن فقد أكد على أهمية التجريب بوصفه ضرورة مطلقة في أية عملية إبداعية حقيقية. وقد أسهمت هذه الندوة في دفع العمل النقدي العلمي خطوة إلى الأمام بما تناولته من موضوعات وما اقترحته من برامج مستقبلية تعمل على تخصيص الندوات في المستقبل لرصد موضوعة التجريب في سياق القصة القصيرة في ندوة مستقلة، على أن يجري تناول التجريب في الرواية في ندوة أخرى. 

كلية الآداب/ جامعة بابل