ترد الباحثة المصرية المرموقة للبحث في مجال تحليل الترجمة، وتعقب دلالات النص الأصلى في انتقالاتها إلى لغة أخرى وانزياحاتها عن أيحاءاتها الأصلية، هذا التفاني الصارم، والانتباه لأدق والفروق الدلالية، التي طالما تغاضينا عنها في تسرعنا وارتباكنا، وتؤسس بذلك لمبادئ تحتذى في تحليل الترجمة ونقدها.

بودلير بالعربية

سيزا قاسم

شارل بودلير (١٨٢١-١٨٦٧) من أهم شعراء الأدب العالمي وأكثرهم موهبة، بل يمكن أن نقول عبقرية. وجاوز تأثيره حدود فرنسا مبكرا، حيث أرسى أبعاد حساسية الحداثة التي تخطت أفق زمانه لتصلنا في القرن الواحد والعشري، بنفس القوة والانفعال والعمق والمأساوية. وقد تأثر شعراء العالم بهذا الشاعر الفذ. واعتبره ت. س. إليوت أكبر شعراء العصر الحديث.
تُرجم بودلير إلى جميع لغات العالم، بما فيها الصينية(1)، بل ترجم عدة مرات في نفس اللغة، فلا تكفأ ترجمات جديدة في الظهور (ظهرت ترجمة جديدة لسأم باريس بالإنجليزية في أبريل ٢٠١١). وقد سبقت ترجمته إلى العربية من قبل. فقد ترجم «أزهار الشر»، كل من إبراهيم ناجي، محمد أمين حسونة وحنا الطيار (سوريا). كما ترجم كل من محمد أحمد حمد و بشير السباعي «سأم باريس». ورغم ذلك لم يحظ بودلير بالاهتمام الكافي في الدرس العربي. بل نظر إليه بعض من ترجموا شعره، مثل إبراهيم ناجي ومصطفى السحرتي، على أنه مثال للفسق والشذوذ، والانحلال، والتبذل. وهو شاعر مقل، صاحب ديوان واحد صغير نسبيا هو «أزهار الشر»، وآخر بعنوان «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة» يضم مجموعة من النصوص النثرية التي يصعب تصنيفها رغم العنوان الفرعي الذي حدد نوعها الفني.
ولا يسعنا سوى الاحتفاء بظهور ترجمة رفعت سلام القيمة، التي صدرت في تسعمائة وعشرين صفحة. وأوفى سلام بما وعد به عنوان كتابه، وزاد عليه! إذ أنه بالإضافة إلى الأعمال الشعرية الكاملة لبودلير، كما يعد العنوان، فقد ضمن كتابه دراسات وملاحق عن الأشعار، والشاعر. وأذ استغرقت الأعمال الشعرية المترجمة٦٠٠ صفحة من الكتاب، واستحوذت الملاحق والوثائق على باقي الكتاب. ولعل هذه الإضافات، التي تضع الشعر في إطاره الزمني والفني، تنجح فيما عجزت عن تحقيقه التراجم السابقة، من إثارة اهتمام عربي بهذا الشاعر الفحل، وتلقي ضوءا جديدا يفتح باب بحث ودراسة أعماله.
قراءة هذه الترجمة ممتعة حقا. وقد سلكت فيها مسلكين: الأول هو قراءة القصائد دون العودة إلى الأصل على أنها عمل فني قائم بذاته، والثاني هو مقارنة الترجمة بالأصل. نبدأ بعرض خطة الكتاب، ثم نتناول كل جزء على حدة.
بنية الكتاب: أولا : التعريف بالشاعر
١- مقدمة عن الشاعر بقلم المترجم بعنوان ”شاعر الشر الجميل“.
٢- ألبوم صور.
٣- سيرة للشاعر في شكل مسح كرونولوجي لأهم التواريخ الخاصة بالشاعر، والأحداث التاريخية المصاحبة لحياته، والشخصيات المهمة في هذه الحقبة التاريخية.
٤- ترجمة مقال لبول فاليري عن بودلير بعنوان «موقف بودلير».
ثانيا : ترجمة الشعر:
١- ديوان أزهار الشر (طبعة ١٨٦١).
٢- ديوان البقايا épavesLes (١٨٦٦) بعد وفاة بودلير.
٣- إضافة الطبعة الثالثة من أزهار الشر (طبعة ١٨٦٨).
٣- قصائد الشباب (١٦ قصيدة).
٤- قصائد بلجيكية (٢١ قصيدة).
٥- سأم باريس :قصائد نثر صغيرة .
ثالثا: ملاحق ووثائق:
١- ملاحق أزهار الشر.
٢- ملاحق سأم باريس.
٣- شهادات.
٤- قاموس المصطلحات والأعلام. 
صدّر سلام كتابه بأربع مقدمات.
المقدمة الأولى :شاعر الشر الجميل (ص١٣-٤٦)
دراسة حول شارل بودلير في خمس وأربعين صفحة، تنقسم إلى خمس فقرات: في الفقرة الأولى والثانية لم يتتبع المترجم السيرة الذاتية للشاعر(عالجها في المقدمة الثالثة) ولكنه اكتفى بتناول المعارك التي نجّمت مسار حياته، وهو الذي لم يعرف لحظة صفاء أو هناء فيها. وقد شكلت هذه المعارك شخصية الشاعر. واجهته الأولى في طفولته وشبابه المبكر في علاقته الشائهة بزوج أمه الجنرال أوبيك، العسكري الصارم الذي لم يتفهم شخصية هذا الغلام المتمرد، صعب المراس، الثائر على التقليدي المألوف. لم ينجح الجنرال في ترويض بودلير الذي هجر الأسرة وانطلق إلى المجهول. وقاده ديوانه «أزهار الشر» إلى معركته الكبرى عندما لاحقه القضاء باتهام العمل بانتهاك الأخلاق المسيحية والعامة. لم يعرض سلام للمحاكمة في هذا السياق، (بل أفسح لها مجالا في الملاحق، التي ضمنها مستندات ووثائق المحاكمة، وأضاف بعض خطابات بولير، بما فيها خطابه إلى الأمبراطورة، يلتمس معونة مادية لتسديد الغرامة الباهظة التي حكم عليه بها.) بل ركز على التشوه الذي ألم بالديوان نتيجة الحكم بحذف ست قصائد منه، هذا بينما كان بودلير شديد الاهتمام ببنية الديوان، وترتيب القصائد وتتابعها. وقد اغتم بودلير بهذا الحذف الذي أخل ببنية الديوان. فاستعاض عن القصائد المحذوفة بقصائد جديدة كي يعيد استقامة معمار الديوان.
انتقل سلام في الفقرات الثالثة والرابعة إلى دراسة الملامح الأساسية التي تميز شعرية بودلير. وهذه المقدمة جيدة ووافية وتشف عن فهم عميق لتوجه بودلير الشعري، ولأهم روافد شعره. وقد أكد - بحق- على انفلات بودلير من نير الرومانتيكية التي شب في ظلها وعاصر عمالقتها: هوجو، لامرتين، دو فينيي، دو موسيه. بل ظهرت أهم دواوينهم في مطلع حياته. ماذا يفعل هذا الشاب أمام هذه الإنجازات العملاقة؟
لا شك أن عبقرية بودلير تكمن في رفضه كل ما كان يعج به المسرح الشعري في زمانه. ولم تكن الرومانتيكية وحدها - متمثلة في عمالقة شعرائها - التي كانت تملأ الفضاء الفني، بل عرف القرن التاسع عشر اتجاهات شعرية أخرى لا تقل أهمية - مثل الرمزية والبارناس- كما لمعت أسماء شعراء كبار في اتجاهات شعرية مختلفة مثل رانبو، وفرلين، ومالارميه. ولكن بودلير كان له تألقه الخاص، و«الجديد» الذي ابتكره. جاء فريدا في أصالته، وخرج عن المدقات المطروقة. فاستطاع بذلك وبحاسته المرهفة لمحيطه أن يستشف ظواهر كانت خافية على من عداه، بل ومن جاؤوا من بعده.
تناول سلام في الفقرتين الثالثة والرابعة من المقدمة الأولى، ملامح شعرية بولير. وتوقف عند مكوناتها. واستشعر أهم ملامحها. فلأول مرة ظهرت ”المدينة“ في الشعر الحديث، المدينة الحديثة بكل قبحها وقسوتها ولفظها ساكنيها. فالمدينة عند بودلير قوة طاردة وليست قوة حاضنة -على عكس ”الطبيعة“ عند الرومانتيكيين. وفي رأيي أن استيطيقا بودلير تنتمي إلى منحى ”الجروتسك“ الذي تخلل الإبداع الفني في القرن العشرين. ويقدم سلام التيمات التي تحكم إبداع بودلير الشعري: الموت، الحب الذي تتصارع فيه الدوافع الجسدية مع التوجهات العاطفية، الألم الذي يغلف كل شيء، القبح الذي يولده الشر. كل هذه العناصر، وغيرها، كونت مفهوم ”الحداثة“ التي ابتدعها بودلير. وقد تمكن سلام في هاتين الفقرتين أن يتلمس أهم مميزات شعر بودلير، واستطاع أن يعبر عن دفائنها بحس مرهف وبفهم من عايش بودلير زمنا طويلا.
لكني أرى فجوة في هذه المقدمة. إذ أغفل سلام أهمية الترجمة في حياة بودلير الفنية. فإذا كان سلام يقدم لنا ”ترجمة“ أعمال بودلير للعربية، ألم يكن من الأهمية بمكان أن يتعرض لأهمية الترجمة في تكوين بودلير الشعري؟ إلى ترجمته لأشعار إدجار ألن بو؟ فعلاقة بودلير وبو من نوع خاص. وأصبحت ملمحا مهما في الدراسات الأدبية والنقدية، حتى أصبح اسميهما لا ينفصلان(2) اشتهر عن بودلير أنه انكب على ترجمة أعمال إدجار ألن بو، وأمضى سبع عشرة سنة لاتمام هذا المشروع. فقد تفرغ لترجمة شريحة كبيرة من أعماله، خاصة قصصه، وألف دراسة مطولة عن حياة بو وأعماله، وراسل أرملته بعد وفاته..صحيح أن سلام أضاف ترجمة دراسة لبول فاليري عن «مكانة بودلير» تناول فيها علاقة بودلير ببو وتأثيره علي «أزهار الشر» لكنه لم يتعرض لترجمات بودلير نفسه.
ولا بد من الإشارة إلى أن أهمية الترجمة في توجه بودلير الفني، فلم تقف جهوده على ترجمته أعمالا لإدجار ألن بو، بل كان يغذي شعره بأشعار مترجمة بتصرف من شعراء آخرين. ومن أمثلة ذلك قصيدة ”النحس“ Le Guignon، فالبيتين الأولين من إبداع بودلير، أما باقي القصيدة فمترجمة من أبيات مستلة من قصيدتين: الأولى للشاعر الأمريكي هنري لونجفللو بعنوان «ترنيمة إلى الحياة»، و الثانية للشاعر الإنجليزي توماس جيري بعنوان «بكائية مكتوبة في ساحة كنيسة ريفية»(3). (ذكر سلام هذا في ص. ٨٠٦ في الملحق الخاص بالإضاءات).
ويشارك سلام بودلير اهتمامه بترجمة أعمال فنية، غير أنه أغفل ذكر الترجمات العربية التي سبقته. وقد كنا نود معرفة تقييمه لها، ودافعه لإعادة ترجمة بودلير. وقد أفاض أحمد عزيز الحسين في تقريظ ترجمة حنّا الطيّار وجورجيت الطيّار لديوان «أزهار الشر» عن الفرنسية، بمقدمة لجان بول سارتر في ملحوظة في جريدة «الحياة» اللندنية يقول :
الجدير بالذكر أن الشاعر الراحل حنا الطيار قام بترجمة " أزهار الشر" إلى العربية ترجمة مرهفة لا نظير لها فيما قرأت، إلا أنها لم توزع خارج سورية، ولم تعرف إلا في نطاق ضيق من محبي نتاج أديبنا الراحل، ولذلك لم أجد أية إشارة لها في المقالات أو الكتب التي تتحدث عن ترجمة بودلير إلى العربية خارج سورية، ولعل باحثاً مختصا في الترجمة يتصدى لهذه المهمة، ويتحدث عما أضافه الأديب الراحل حنا الطيار من مآثرعند تصديه لترجمة بودلير من الفرنسية إلى العربية، وهو جهد جدير بالدراسة لإنصاف هذا الشاعر والمترجم الصافتلي البارع الذي مر في سماء صافيتا كالبرق وترك أثراً طيباً في نفوس وقلوب محبي شعره وأدبه.(4)
ورغم أن هذه الترجمة لم توزع خارج سوريا، إلا أنها عرفت طريقها إلى الانترنت(5)!! ودفعني هذا الإطراء، بالإضافة إلى غيبتها عن الساحة، لاختيارها لبعض المقارنات بترجمة سلام أدناه.
وكنا نود لو أن سلام قدم في بعض فقرات تجربته في الترجمة. المصاعب التي قابلته؟ والحلول التي لجأ إليها. كيف تمت اختياراته؟ فإن بودلير مثلا لم يترجم شعر بو منظوما، بل ترجم قصيدة بو الشهيرة «الغراب» نثرا. لماذا فعل هذا؟ يفسر بودلير اختياره في مقدمة أستهل بها ترجمته للقصيدة:
Dans le moulage de la prose appliquéàla poésie، il ya nécessairement une affreuse imperfection ; mais le mal serait encore plus grand dans une singerie rimée. Le lecteur comprendra quil mest impossible de lui donner une idée exacte de la sonoritéprofonde et lugubre، de la puissante monotonie de ces vers، dont les rimes larges et triplées sonnent comme un glas de mélancolie"(6)
«صياغة الشعر في قالب نثري، تحتم تقريبا مخلا؛ ويزداد الخلل إذا حاولنا مضاهاته في حرفية مقفاة. فليتفهم القارئ أنه يتعذر علي أن أقدم له صورة دقيقة للجرس العميق والمحزن، الرتابة النفاذة لهذه الأشعار، ذات القوافي الثلاثية العريضة التي تدق مثل ناقوس الميلانخوليا».
يتضح من الفقرة السابقة أن بودلير يرى أن ترجمة الشعر نثرا ما هو إلا تقريب مخل؛ يزداد سوءا إذا حاولناه نظما. لذا رفض ترجمة شعر بو نظما، خاصة الجرس الذي تفتقده الأذن. فكيف يمكن محاكاة هذه الأنغام والإيقاعات التي تمثل كنه الشعر إلى بنى أخرى بعيدة عنها كل البعد؟ هذه هي المعضلة الكبرى في ترجمة الشعر. ما هو موقف سلام من هذه المشكلة وأي مسار اختار؟ ولماذا؟ وتجدر الإشارة إلى أن القرن التاسع عشر شهد تداخلا حميما، بين الآداب المختلفة، غربية وشرقية. (ديوان الغرب - شرقي لجوته). كما لا نغفل أن مالارميه قام بترجمة بو، ومنها أيضا ”الغراب“، بعد بودلير، وترجمها أيضا نثرا. وليس هنا مجال الإفاضة حول أهمية الترجمة بالنسبة لكتاب القرن التاسع عشر وشعرائها ويكفي القول إنها كانت رافدا أساسيا من روافد الالهام الفني(7).
يحدد رفعت سلام في الفقرة الخامسة من المقدمة الأولى الطبعات المختلفة لديوان«أزهار الشر» والتي اعتمد عليها في الترجمة. وأثبت هنا جهدا دقيقا في الرجوع إلى الطبعات المختلفة لتكتمل لديه قائمة الأعمال الشعرية. فبحث عن «ديوان البقايا» التي لا يضمها بعض المحققين إلى ديوان «أزهار الشر» كما بحث عن «قصائد الشباب» و«القصائد البلجيكية». ورجع أيضا إلى الطبعات المختلفة لـ«سأم باريس»، غير أن هذا الديوان لم يكن محل اختلاف بين المحققين، وقد نشر بعد وفاة بودلير. وينهي سلام المقدمة الأولى بثبت المصادر والمراجع الخاصة بها. وأدرج هذا الثبت ثلاثة من أصول طبعات «أزهار الشر»، بالإضافة إلى طبعة للأعمال الكاملة لبودلير، ومن المراجع كتاب سوزان برنار عن «قصيدة النثر من بودلير حتى الآن»، ودراسة الدكتور عبد الغفار مكاوي عن «ثورة الشعر الحديث».
يبدو لي هذا الثبت مقتضبا إلى حد كبير. ولا شك أن سلام عاد إلى كثير من المراجع يستدل على إلمامه بها كثير من الإشارات في صلب نص المقدمتين الأولى والثالثة الخاصة بسيرة بودلير. وكان من المفيد بالنسبة للقارئ أن يتسع ثبت المراجع للدراسات المهمة التي تنير أعمال بودلير. صحيح أنه قتل بحثا وأن الببليوجرافيا الخاصة به تتسع لمائات الصفحات ولكن هذا لا يعني أن نتجاهلها كلها، وألا يُذكر مرجع فرنسي أو إنجليزي أو ألماني واحد في مثل هذا السياق!
المقدمة الثانية: ألبوم صور (ص ٥٠-٦١)
أعجبني تقديم ألبوم صور. إذ أن بودلير كان مهتما بالفن التشكيلي اهتمام المنتمي الممارس. وكان ناقدا فنيا بارعا، صنع فنانين، وهدم فنانين بلهجته الساخرة اللاذعة. وله مؤلفات في النقد الفني تضعه في مصاف كبار المنظرين في الرسم. وله كتابان مهمان بعنوان «صالون ١٨٤٥» و«صالون ١٨٤٦»، غير عديد من المقالات حول الفن التشكيلي، كما ألف سيرة لأوجين دولاكروا، رسامه المفضل. ترتبط لدي قراء بودلير بورتريهاته ونظرته الدون جوانية المتغطرسة، المشمئزة. وتمثل جزءا من المتخيل المرتبط به. وصورته ماثلة في ذهني كلما أفكر فيه أو أقرأ شعره، أراه أمامي. غير أن بعض الصور الفوتغرافية تفتقر إلى اسم مبدعها. وكان من السهل التعرف على هذه المعلومة. وقد يتمكن القارئ من استكمال هذا النقص بالعودة إلى الرابط http://baudelaire.litteratura.com/ الذي يحتوي على جميع الصور والكاريكاتيرات الخاصة به. كما قصرت دار الشروق في إخراج هذه الصور إذ قدمتها «أبيض وأسود» بدلا من أن تُمتعنا بتابلوهات كوربيه ودولاكروا بألوانها الجميلة الزاهية !!
المقدمة الثالثة : بودلير سيرة ما (٥٩-٩٥)
ابتكر رفعت سلام طريقة جميلة في كتابة سيرة الشاعر. يختار تاريخا ”ما“ يراه مهما ويفرد تحته الأحداث التي تخص الشاعر، أولا، ثم الأحداث التاريخية، أو الفنية التي وقعت في تلك السنة. يبدأ بالطبع بسنة الميلاد:
 ١٨٦١ :٩ ابريل، ميلاد شارل بيير يودلير، في ١٣ شارع هوتفيي (Hautefeuille) بمنزل ستتم إزالته في نهاية الإمبراطورية الثانية، مع شق طريق سان جيرمان. أمه-كارولين أرشينبو دوفايي- في السابعة والعشرين من عمرها، ووالده -جوزيف فرانسوا بودلير- في الواحد والستين من عمره، لكن جوتييه سيكتب- فيما بعد- أنه ولد في ٢١ إبريل، فيما والدته ستؤكد - في رسالة إلى أسيلينو- على أنه وُلد في ٧ إبريل، و٩ إبريل هو التاريخ المسجل بشهادة الميلاد الرسمية.
   ٧ يونيو : التعميد في كنيسة سان سولبيس.
        مولد جوستاف فلوبير، وشارل نودييه ( مؤلف ”سمارَّا“)، وولتر سكوت، ودي كوينسي (مؤلف ”اعترافات مدمن أفيون“)
        وفيها توفي نابليون.(8)
المعلومات المقدمة في هذه الفقرات مقتضبة ولكنها تؤدي الغرض المطلوب: الفارق الكبير في السن بين الأم وزوجها، أن المنزل سيختفي من الوجود يعطي الفقرة لمسة من النوستالجيا (ولكن للدقة فإنه ولد في المنزل رقم ١٧، وليس ١٣)، الخلاف في تاريخ الميلاد يقدم بعدا من الغموض حول مجيئه إلى الدنيا. مع الإفادة معرفة بعض المعلومات السياقية لمولد شاعرنا. وقد أحسن سلام الاختيار في الأسماء التي ذكرها، فكلها لها علاقة ما به، وبخاصة دي كوينسي وكتابه الذي ترجمه بودلير ومن قبله ألفريد دو موسيه!
وتتاولى السنون، ويتتبع سلام بودلير والأحداث التي يشهدها. طفولته البائسة، مراهقته المشاكسة، طرده من المدرسة، إرساله إلى الهند، وتعثر السفينة وعودته إلى بوردو، انطلاقه في الحياة الثقافية، كتاباته، تعثره المالي، غرامياته. وكل هذا مقدم بحيوية مع الاستشهاد بنصوص معبرة مقتطفة من الصحف أو مراسلات الجنرال أوبيك مع مدرسي بودلير، أو بين بودلير وأمه وأصدقائه. عرض شيق، مستفيض، يرتفع فيه صوت الشاعر من خلال الخطابات، أنينا حزينا، مقهورا، منبوذا، مؤثرا. ويطول أو يقصر العرض حسب أهمية السنة. فتفصّل إلى أيام مفردة مثل سنة ١٨٥٧ وهي سنة مفصلية في حياة بودلير فتشمل وحدها خمس صفحات:
١٨٥٧ : ما الذي كان يجري عم ١٨٥٧، عام «أزهار الشر»؟(ص.٧٧)
كان لوي نابليون (١٨٠٨-١٨٧٣) يحكم فرنسا منذ ١٨٥٢، باسم نابليون الثالث. في ١٨٥٦ وُقعت معاهدة باريس، التي انهت حرب القرم. وفي ١٨٥٧ وقعت أزمة مالية فادحة في فرنسا، وحملة فرنسية إنجليزية في الصين.
وفي الآداب...
في الفنون...
في الموسيقى
في المعمار...
٤ فبراير تسليم مخطوط ”أزهار الشر“
٢٨ ابريل يتوفى الجنرال أوبيك في مسكنه....جنازة الجنرال...
٢٥ يونيو صدور ”أزهار الشر“ في ١٣٠٠ نسخة ويباع بثلاث فرنكات للنسخة
٥ يوليو تعود ”لو فيجارو“ إلى شن الهجوم على بودلير وتدعو إلى ملاحقة الديوان قضائيا. وفيها يكتب جوستاف بوردان عن ”أزهار الشر“: (نص المقال)
يكتب إلى أمه: «إني سعيد تقريبا لأول مرة في حياتي، فالكتاب جيد تقريبا، ولسوف يبقى، هذا الكتاب، شهادة على قرفي وحقدي على سائر الأشياء».
٧ يوليو ؛ يتم تقديم بودلير وناشريه ... إلى المحاكمة....
وهكذا نتقفى مع رفعت سلام خطى بودلير المتعثرة، البائسة التعسة وانتاجاته المشعة، اللامعة حتى يصل بنا إلى سنة ١٩٤٩. لماذا؟
١٩٤٩ ٣١ مايو، إلغاء حكم إدانة ”أزهار الشر“بصورة رسمية من محكمة فرنسية.
في تلك السنة يتم وضع خاتم النهاية على مآسي ”أزهار الشر“، التي لم تنتظر قرار الإفراج من محكمة فرنسية بعد ما يقرب من قرن على أول صدورها، لتجوب العالم وتتسلل إلى ضمائر القراء، وتلهم الشعراء.
المقدمة الرابعة :موقف بودلير بقلم بول فاليري (ص٩٧-١١٠)
أحسن رفعت سلام في اختيار هذه الدراسة لبول فاليري (١٨٧١-١٩٤٥) عن بودلير، لأنها تتناغم جيدا مع سياقنا. ولكن اختلف معه في اختيار عنوان الدراسة . فإني أرى أن جانبه التوفيق في ترجمة “Lasituationde Baudelaire“ إلى ”موقف“. وأفضل استخدام ”موضع“ أو“موقع“ أو ربما“مكانة“.يطرح فاليري في هذه الدراسة الأسباب التي رفعت بودلير إلى مرتبة العالمية ورفعت أعماله إلى مستواها الرفيع في إطار الآداب العالمية، وهو ما لم يتح للشعر الفرنسي قبله.
يتساءل فاليري : من أين تأتي هذه الأهمية الاستثنائية؟
يرى فاليري أن ما ميز بودلير هو «تحالف الذكاء النقدي المرتبط بالكفاءة الشعرية». ولكن هذه المواهب لم تكن لتكفي لانتشاله من محيطه المحلي وتحقق التفرد الذي تميز به، كان الفضل في هذا لاكتشافه إدجار ألن بو. يطيل فاليري في تحليل المقومات التي ميزت بو عن سواه في هذه الحقبة، وما جلبه من رؤية مبكرة للإبداع الشعري، انبهر بها بولدلير واندمج فيها إلى درجة أنه كان يضمنها كتابته دون إشارة إلى «الانتحال» أو ما يمكن أن يعتبر كذلك. وقد امتزح الشاعران بحيث يرى فاليري أن كلا منهما صنيعة الآخر. ورغم أن بو سبق بودلير ولم يكن لبودلير تأثير عليه، إلا أنه ما كان ليسطع في سماء الشعر لو لم يقدمه بودلير ويزكيه. كما لم تكن لعبقرية بودلير الشعرية أن تتألق دون بو.
ثم يتبع فاليري طريقا غير مباشر ليصل إلى المبرر الثاني الذي تسلط على بودلير في مساره، وهو رفض الرومانتيكية. ففاليري لا يحاول تعريف الرومانتيكية من خلال تمحيص عمالقة الشعر الرومانتيكي وعلى قمتهم فكتور هوجو الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، ولكنه تمثل رفض الرومانتيكية من خلال الحركات التي تولدت لتقوضها بعد ازدهار. فهو يرى إن الانتاج الرومانتيكي- بصورة عامة - لم يكن ليتحمل قراءة بطئية متحفزة من قبل قارئ صعب المراس، مرهف الحس.
وكان بودلير ذاك القارئ.
لن أطيل هنا في عرض هذه الدراسة الشيقة التي تضيء الجانبين اللذين يرى فيهما فاليري جحر الزاوية في تفوق بودلير الشعري : قراءته النقدية للرومانتيكية، وتأثير ترجمته لإدجار ألن بو.
وقد أحسن رفعت سلام اختيار هذه الدراسة التي تضيء مكانة بودلير في مسار تطور الشعر الفرنسي . كما أحسن الترجمة فدقق ولم يترك أية تفصيلة لم يولها اهتمامه رغم تشعب الأفكار والحجج التي تمثل جوهر هذه الدراسة
أزهار الشر (طبعة ١٨٦١)
ترجمة الشعر صعبة بل في رأي بودلير مستحيلة، وأميل إلى الاتفاق معه. أشعر بالغربة عندما أقرأ شعرا مترجما، غربة قاسية في قراءة ترجمة لمعلقة أمرئ القيس. وترجمة بودلير إلى اللغة العربية، رهان صعب. أشفقت على رفعت سلام إقدامه على تلك المغامرة. ولكنه شاعر، ولن يترجم شاعرا سوى شاعر. نقدر له فضله ومعاناته فيما تكبد لترجمة هذا العمل الهائل. وإذا كان من المتعذر النظر إلى ترجمة كل الديوان، فسآخذ أمثلة منها لتحليلها. وسنضع الأصل الفرنسي تليه ترجمة سلام لتوضيح والتعرف على الصعوبات والحلول التي اختارها. كما رأيت أنه من المفيد أن أقارن بين ترجمة سلام وترجمة حنا الطيار (١٩١٦-١٩٩١) للمزيد من التمحيص، فالنظر إلى أكثر من ترجمة من شأنه أن يفسح مجال المناقشة والتوصل إلى فهم آليات عملية النقل من لغة المنبع إلى لغة المصب. واخترت ترجمة الطيار لكونه شاعرا ولمعرفته الدقيقة باللغة الفرنسية، فالطيار نشأ في بيت ذي ثقافة مزدوجة الجذور، تعلم في مدرسة الفيرير، وأخوه أديب الطيار (١٩٠٥-١٩٨١)- الذي كان شاعرا أيضا - قام بترجمة كثير من الشعراء الرومانتيكيين الفرنسيين إلى العربية .
الإهداء:  
Dédicace
Au poète impeccable
Au parfait magicienès lettres françaises
A mon très-cher et très-vénéré
Maître et ami
Théophile Gautier
Avec les sentiments
De la plus profonde humilité
Je dédie
Ces fleurs maladives
C.B.
سلام:
أهداء
إلى الشاعر المعصوم
إلى الساحر الرفيع في الأدب الفرنسي
إلى معلمي وصديقي الأعز والأجل
تيوفيل جوتييه
مع مشاعر
التواضع الأعمق
أهدي
هذه الأزهار العليلة
ش.ب.
اقتفى المترجم النص البودليري في تقسيمه اقتفاء حرفيا ولم يحد عنه في تركيب الجمل النحوي إلا عند الضرورة القصوى. فمثلا في الأهداء الفرنسي يتبع الموصوف الصفة :a mon très-cher et très vénérémaître et ami لم يكن من الممكن أن تستقيم هذه البنية في العربية .وترجمة très بجدا لم تكن صالحة فكان الاختيار صيغة أفضل التفضيل وجاء ت موفقة.
وبعد الإهداء سنتناول قصيدة الافتتاح «إلى القارئ». فشلت كل محاولات بودلير في كتابة مقدمة لديوانه لعدة أسباب أهمها أنه كان يرى أن الشعر لا يُشرح ولا يفسر، وأنه لم يكن يأبه برأي الآخرين في أعماله ولا في شخصه ولذلك صرف النظر عن استهلال الديوان بمقدمة بعد عدة محاولات، واستعاض عنها بهذه القصيدة التي تعبر عن ثورته، وازدرائه لكل ما يحيط به.
وسنتناول كل رباعية على حدة، ونتتبع ترجمة كل من سلام والطيار.
Baudelaire
Au Lecteur
La sottise، l'erreur، le péché، la lésine،
Occupent nos esprits et travaillent nos corps،
Et nous alimentons nos aimables remords،
Comme les mendiants nourrissent leur vermine.
سلام:
إلى القارئ
الحماقة، والخطأ، والفجور، والشح
تحتل أرواحنا وتستولي على أجسادنا،
وتغذي نداماتنا المحبوبة،
مثلما يغذي الشحاذون هوامهم
الطيار:
الحمق والضلال والإثم والشّح
تحتل نفوسنا وتجهد جسومنا
ونحن نغذي النّدم فينا
كما يغذي المتسوّل الطفيليات التي تتغذى من دمه
الفارق بين سلام والطيار:
la sottise
: اختار سلام الحماقة، بينما اختار الطيار الحمق. الاختيار هنا لا يتعلق بالدلالة ولكن بالجرس حيث أن حمق وحماقة هما مصدران للفعل حمق.
الخطأ ترجمة حرفية لكلمة lerreur: وسلام يختارها عامة. أما الطيار فإنه يذهب إلى ترجمة تأويلية الضلال التيتتناغم مع الكلمة التالية le péché ويترجمها سلام الفجور بينما يختار الطيار الحرفية هنا الإثم، والأفضل في رأيي هو الخطيئة.
في البيت التالي يتحول بودلير إلى صيغة المتكلم الجمع ”نحن“ ولكن سلام يظل في الفاعل المؤنث المفرد وكأن ”الحماقة والخطأ والفجور والشح“ هي التي تغذي بينما نحن الذين نغذي .والفعل travailler عندما يكون متعديا ــ كما في travaillent nos corps يكون بمعنى يعذب، ويؤرق.
أطال الطيار في البيت الأخير دون فائدة بينما ظل سلام في الإطار الدقيق للبيت.
Baudelaire:
Nos péchés sont têtus، nos repentirs sont lâches;
Nous nous faisons payer grassement nos aveux،
Etnous rentrons gaiement dans le chemin bourbeux،
Croyant par de vils pleurs laver toutes nos taches.
سلام:
خطايانا عنيدة وندمنا بليد
وندفع ثمنا باهظا لاعترافاتنا
ونعود مبتهجين إلى الطريق الموحل
معتقدين أن دموعا زهيدة تغسل أوساخن
الطيار:
آثامنا عنيدة وندمنا جبان
ونحن ندفع غالياً ثمن اعترافاتنا
ونخوض طريق الوحل مغتبطين
ونعتقد أننا بالدموع ندفع ثمن أخطائنا
الفارق بين سلام والطيار:
لا بد من استخدام نفس اللفظ بالنسبة لpéché إما إثم أو خطيئة،أنا أفضل خطيئة . واختلف مع المترجمين في اختيار ندم، فلا بد من التمييز بين remord و repentir فالثانية فيها معنى الأسف والتوبة . أما بالنسبة لlâche فلا بد من التعبير عن الجبن سواء بكلمة جبان أو رعديد . ثم أن عبارة ” nous nous faisons payer“ معناها أننا نستقضي ثمنا، نقبض ثمنا وليس ”ندفع ثمنا“ التي هي ” nous payons“.
Baudelaire:
Sur l'oreiller du mal c'est Satan Trismégiste
Qui berce longuement notre esprit enchanté،
Et le riche métal de notre volonté
Est tout vaporisépar ce savant chimiste.
سلام:
على وسادة الشر إبليس المعظم
الذي يهدهد طويلا أرواحنا المسحورة
ومعدن إرادتنا النفيس
يبخر تماما على يد هذا الكميائي العليم
الطيار:
وعلى وسادة الشر يهدهد الشيطان روحنا المسحورة
ويجتث من نفوسنا معدن الإرادة النفيس
الفارق بين سلام والطيار:
لا تعليق على ترجمة سلام فقد أتت ممتازة غير أن ربط الشطر الأول بالثاني كان يستدعي إضافة ضمير ”هو“ أما الطيار فتصرف بعيدا عن نص بودلير دون أن يخدم الدلالة، حيث أن الصورة الشعرية في البيتين الأخيرين تأتي من التضاد بين عملية البخر والمعدن الصلب.
Baudelaire:
C'est le Diable qui tient les fils qui nous remuent!
Aux objets répugnants nous trouvons des appas;
Chaque jour vers l'Enfer nous descendons d'un pas،
Sans horreur، àtravers des ténèbres qui puent.
سلام:
هو الشيطان الذي يمسك بالخيوظ التي تحركنا
فنجد الفتنة في الأشياء المقيتة
وننحدر كل يوم خطوة إلى الجحيم
بلا هلع، عبر الظلمات الآسنة.
الطيار:
ويمسك بالخيوط التي تحركنا نحو ما يُعاف
من المغريات. وفي كل يوم نهبط
لنقترب خطوة من جهنم دون تقزّز
عبر ظلمات نتنة.
الفارق بين سلام والطيار:
أحسن سلام في شفافية الدلالة واحترام تسلسل الصور الشعرية. والهلع هنا يعبر عن الخوف والتسرع ولذلك جاء الاختيار موفقا.ربط الطيار بين هذه الفقرة والتي قبلها رغم أن بودلير يبدأ رباعي جديد ويميز بين أبليس Satan والشيطان le Diable .  
Baudelaire:
Ainsi qu'un débauchépauvre qui baise et mange
Le sein martyriséd'une antique catin،
Nous volons au passage un plaisir clandestin
Que nous pressons bien fort comme une vieille orange.
سلام:
هكذا كفاجر بائس يقبل ويلتهم
الثدي الشهيد لعاهرة عتيقة
نختلس - في الطريق - لذة محرمة،
نعتصرها بقوة كبرتقالة قديمة
الطيار:
وكالفاسق المسكين الذي يلثم ويلتهم
النهد المعذب لعاهرة محترفة
تختلس المتع الخفيّة ونحن نعبر الحياة
ونعتصرها عصر برتقالة ذابلة
الفارق بين سلام والطيار:
أظن أن اختيار الطيار هنا بالنسبة لmartyrisé المعذب أفضل من الشهيد لأن الفعل martyriser يعني يعذب، ينكل ب، فالفعل لا ينطوي على دلالة الشهادة الموجودة في الاسم martyr.
هل يمكن استخدام تعبير ”على الماشي“ أو“ على الطائر“ بدلا من ”في الطريق ”الترجمة الحرفية التي لا تعبر عن المعنى؟ “ أو ”على سهو“... حيث au passage تحمل معنى العفوية وتنفي القصد فلا بد من تحميل هذا المعنى في الترجمة. وربما تكون ترجمة الطيار أكثر فصاحة ”نعتصرها عصرا“ حيث أن المفعول المطلق يعبر على القوة في العربية ويؤكد الفعل، ثم أن استخدام بودلير لكلمة ” vieux“ و ” vieille‘ له أبعاد خاصة بمعنى متهالك، بال، هرِم. وأحسن الطيار باختيار ”ذابلة“.
Baudelaire:
Serré، fourmillant، comme un million d'helminthes،
Dans nos cerveaux ribote un peuple de Démons،
Et، quand nous respirons، la Mort dans nos poumons
Descend، fleuve invisible، avec de sourdes plaintes
سلام:
متراصين، متزاحمين كمليون دودة معوية
يعربد في عقولنا حشد من الجن
وعندما نتنفس، ينحدر الموت إلى رئاتنا،
نهرا خفيا مع الأنات الصماء
الطيار:
وتعربد بأدمغتنا حشود الشياطين
كالملايين من الديدان المتراصّة
وعندما نستنشق الهواء يتسلل الموت إلى صدورنا
كنهر خفيّ يطلق أنّاته المجنونة
الفارق بين سلام والطيار:
”متراصين، متزاجمين ” من هم؟ اسما الفاعل هذان هما وصف لل“حشد“ فلماذا جمع المذكر السالم؟ أما الطيار فقد حول الوصف إلى الديدان وهذا غير صحيح. وكان بودي أن نجد الاسم العلمي الدقيق للفظ helminte، فلا يكفي أن نصفها بأنها دودة معوية، فجرس الكلمة هو المهم هنا لا المعنى.
لا تعجبني بنية المعية عند سلام في البيت الأخير فالنحو لا يستقيم هنا وقد عالج الطيار المشكلة بأن أضاف الفعل“اطلق“ وهو حل معقول، ولكنه لم يكن دقيقا عند اختيار كلمة مجنونة فترجمة sourde التي تعني صمم، عندما تستخدم كصفة لصوت، تعني خافت، مكتوم. فالأنات هنا خافتة، مكتومة، خفية، صامتة، ليس لها رنين. ولم يكن من الضروري تعريف“أنات“ فعند بودلير ليست معرفة، هل يمكن أن نذهب إلى الحل التالي؟
        وإذا تنفسنا انساب الموت في رئاتنا
        نهرا خفيا يئن أنات خافتة
Baudelaire:
Si le viol، le poison، le poignard، l'incendie،
N'ont pas encor brodéde leurs plaisants dessins
Le canevas banal de nos piteux destins،
C'est que notreâme، hélas! n'est pas assez hardie.
سلام:
وإذا ما كان الاغتصاب، والسم، والخنجر، والحريق،
لم توش بعد برسومها الهازئة
اللوحة التافهة لمصائرنا البائسة،
فلأن أرواحنا- للأسف - لا تملك الجرأة الكافية.
الطيار:
فإذا كان الاغتصاب والسم والحرائق
والخنجر لم تنسج بعد شبكة مصائرنا
برسومها المستحبة المثيرة
فلأننا واأسفاه لم نبلغ من الجرأة ما يكفي
الفارق بين سلام والطيار:
الفعل plaire يحمل معنى الاستحسان الذي ينتفي في الصفة هازئة؛ يقترب الطيار أكثر من المعنى في اختيار المستحبة، ويمكن اللجوء إلى صفة المليحة لاختصار الصيغة. ذهب الطيار إلى تصرف أبعدنا عن بنية الأشعار، وأنا أفضل تقفي الأبيات بترتيبها النحوي. أما سلام فقد ابتعد في البيت الأخير عن الصيغة الشعرية ولم يوفق في ”لاتملك الجرأة الكافية“. صحيح أن التركيب النحوي ne pas être assez أو ne pas avoir assez de ليس له مقابل في العربية ولكن كان يحتاج إلى اختيارات أخرى حيث أن ”الكافية“ ينقصها البعد الشعري في رأيي.
 فلأن روحنا ـواأسفاه!“- فقيرة إلى الجرأة
 
                        تعوزها الجرأة
أعْوزَنِي هذا الأَمْرُ إِذا اشتدَّ عليك وعَسُرَ، وأعْوزَنِي الشيءُ يُعْوزَنِي أَي قَلَّ عندي مع حاجتي إِليه.(لسان العرب)
Baudelaire:
Mais parmi les chacals، les panthères، les lices،
Les singes، les scorpions، les vautours، les serpents،
Les monstres glapissants، hurlants، grognants، rampants،
Dans la ménagerie infâme de nos vices،
سلام:
ولكن بين أبناء آوى، والفهود، وكلاب الصيد
والقرود، والعقارب، والعقاب، والأفاعي،
والوحوش العاوية والنابحة، والمزمجرة، والزاحفة،
في معرض الوحوش الشائن لخطايانا
الطيار:
وبين كل الفهود والعقارب والسعادين وبنات آوى
والعقبان والأفاعي والكلاب
وكل الوحوش التي تزمجر وتدمدم وتزحف
داخل نفوسنا الآسنة الوضيعة
الفارق بين سلام والطيار:
بالنسبة لكلمة lices هي أنثي كلب الصيد، أين كتاب الحيوان للجاحظ لكي نجد اسما عربيا لهذه النوعية من الكلاب؟ كان من الأفضل أن يحتفظ سلام بصيغة الجمع في البيت الثاني من هذا الرباعي ”العقبان“ بدلا من العقاب . وكلمة vice هي الرذيلة أما الخطيئة فهي péché وبودلير يميز تمييزا دقيقا بين الاثنين ويستخدهما في سياقات مختلفة.
أضاف الطيار ظرف المكان ”داخل“ إلى النفوس ولكن كل هذه الكائنات المخيفة هي تجسيد للراذئل، فهذا الظرف لا داعي له.
Baudelaire:
II en est un plus laid، plus méchant، plus immonde!
Quoiqu'il ne pousse ni grands gestes ni grands cris،
Il ferait volontiers de la terre un débris
Et dans un bâillement avalerait le monde;
سلام:
هناك ما هو أكثر بشاعة، وفظاظة، وقذارة!
على الرغم أنه لا يصدر حركات واضحة، ولا صرخات فادحة،
ويمكنه أن يحيل الأرض إلى أطلال
ويبتلع في أحدى تثاؤباته العالم ؛
الطيار:
هناك واحد هو أشدّها دمامة وخبثاً ونجاسة
وهو، وإنْ كان قليل الحراك ضعيف الصوت
مستعدّ بجولة واحدة أن يصنع من الأرض أنقاضاً
وبتثاؤبة واحدة أن يبتلع العالم
الفارق بين سلام والطيار:
أرى أن التركيب النحوي للطيار أفضل في البيت الثاني:
بدلا من ”على الرغم أنه“ يختار ” وإن كان“...
grands gestes حركات كاسحة بدلا من واضحة، لأن الكسح يرتبط بتحويل العالم إلى أطلال،grands cris صرخات مدوية بدلا من فادحة، لأن العبارة الفرنسية تصف نبرة الصوت المرتفعة.
Baudelare:
C'est l'Ennui! L'oeil chargéd'un pleur involontaire،
II rêve d'échafauds en fumant son houka.
Tu le connais، lecteur، ce monstre délicat،
Hypocrite lecteur mon semblable mon frère!
سلام:
إنه الضجر!- تلك العين المغرورقة بدمع لا إرادي،
تحلم بالمشانق وهي تدخن النارجيلة،
تعرفه، أيها القارئ، هذا الوحش الرهيف،
أيها القارئ المنافق- يا شبيهي- يا شقيقي!
الطيار:
إنه الضجر الذي يحلم بالمشنقة وهو يدخّن نرجيلته
وفي عينيه تلتمع دمعة لا إرادية
أنت تعرفه أيها القارئ، هذا الغول الناعم
أيها القارئ المرائي ـ يا شبيهي ـ يا أخي.
الفارق بين سلام والطيار:
لماذا يؤنث سلام الفعل في البيت الثاني وهو يعود إلى الضجر لا العين، حيث أن جملة ”وعينه مغرورقة بدمع لا إرادي“ جملة في محل نصب، حال، تصف الضجر وليست جملة مستقلة. ”loeil chargéde pleurs“ بمعنى ” avec son oeil chargéde pleurs“ ... ولذلك كان من الأفضل استعمال واو الحال هنا
ونقول 
وعينه مغرورقة بدمع لا إرادي
يحلم بالمشانق مدخنا نرجيلته .
وختاما لهذا التحليل أرى أن سلام كان أقرب إلي نص بودلير وهذا المنهج يتتبع خطى الشاعر في التركيب النحوي للأشعار. وهو مسلك يقرب الدلالة الكلية للأشعار. أما الطيار فاختار الابتعاد والتأويل في مواضع متعددة ولم اقتنع باختياراته لأنه هدم المعمار الكلي للقصيدة.
في بعض الأحيان يحيد سلام عن الفهم الدقيق لبعض العبارات الفرنسية، وقد يسيئ فهم بعض البنيات النحوية. وأود أن أؤكد أن الاقتراحات التي أقدمها لا تجاوز كونها اقتراحات فترجمة الشعر تمرين منهك ومضني. وقد قام سلام بعمل يهنأ عليه وأثرى المكتبة العربية بكنز ثمين يمكن للشعراء ان يستلهموه.
وبعد هذا التحليل التفصيلي لقصيدة الافتتاح يمكن أن أتصفح الديوان وأقدم بعض الملحوظات التي لفتت نظري:
القصيدة رقم ١٣ Le Guignon
يترجم سلام هذا العنوان إلى الشؤم
إذا رجعنا إلى القواميس الفرنسية نجد التعريف التالي:
Malchance qui semble poursuivre quelqu'un (au jeu
، dans la vie، etc)
يبدو لي أن التعريف الفرنسي هو أقرب إلى النحس منه إلى الشؤم، لأن المعنى هنا هو فكرة التكرار والملاحقة، فالمنحوس في العربية هو الشخص الذي يلاحقه سوء الحظ. وأظن أن كلمة guignon بالفرنسية هي أقرب إلى العامية منها إلى الفصحى، فهناك فارق بين guigne و guignon وهما بنفس المعني غير أن الثانية أقرب إلى العامية مما يرجح بالنسبة لي كلمة نحس.
القصيدة رقم ٢٥ La Chevelure
Ensemble des cheveux (généralement longs et abondants) d'une personne
.
اختار المترجم هنا لهذه القصيدة خصلة شعر لترجمة كلمة chevelure وهذا الاختيار لا يؤدي المعنى حيث أن الكلمة الفرنسية تنطبق على مجموع الشعر وأن هذا الشعر جزيل، كثيف وطويل بصفة عامة. وكل القصيدة مبنية على هذه الدلالة. ففي الترجمة الإنجليزية اختار بعض المترجمين كلمة hair بدلا من lock،لأنهم لم يجدوا مقابلا لchevelure في الإنجليزية . فما الحل في العربية؟ شعر.؟؟
Ôtoison، moutonnant jusque sur l'encolure!
عندما يبدأ الشاعر القصيدة بكلمة toison، فهو يشير إلى قصة جاسون وبحثه عن ”الفروة الذهبية“، فالقصيدة عبارة عن رحلة في عالم هذا الشعر الجزل الكثيف المجعد، كيف نحتفظ بهذه الإشارة الضمنية؟ هل نترجمها ب“أيها الفراء“؟ أو ”أيتها الفروة“ ؟أو أيتها الجزية؟
Ô
bouclesلا تترجم أيتها التجعيدات بل الجدائل
هل استصعب سلام استخدام كلمة لبدة“ قيل لزُبرة الأسد: لبدة، والأسد ذو لبدة“ (لسان العرب).في ترجمة كلمة crinière التيتدل على كل ما في الأسد من قوة، وفي الكلمة دلالة عن تلبد الشعر وتداخله بعضه في بعض. وكلمة لبدة مرادفة ل زُبرة ”ومنه زُبْرَة الأسد. يقال: أَسَدٌ مَزْبَراني أي ضَخْمُ الزُبْرَة.“ (لسان العرب).
ولماذا اختار سلام كلمة خمر لترجمة vin ؟ ولم يختر نبيذ؟ ومن الأهمية بمكان أن بودلير يميز بين alcool و vin،ونعرف أهمية النبيذ في الثقافة الفرنسية والتنويعات حوله.
القصيدة رقم ٢٧ Le Possédé
للشيطان أسماء كثيرة في اللغة العربية ولكل واحد من هؤلاء الشياطين وظيفة معينة فمثلا:
زلبنورموكّلعلىمنفيالسوقيزينلهمأفعالهممناللغووالكذبوالقسمالكاذبوتحليةالبضاعةلبيعها،وهذاالاسمفيالأغلبمستقىمنالاسمBelzébuth الذيلهجذورعربيةحيثأنهذاالاسمكانيدلعلىإلهقديمفيمنطقةالشام. ألميكنمنالأفضلاستعمالهذهالكلمةبدلامنتعريبالاسمالفرنسي؟
القصيدة رقم ٢٩ La Charogne
يقول سلام في الإضاءات أن هذه القصيدة قديمة ولكنها ساهمت في تشكيل أسطورة بودلير.
هذا صحيح، والقصيدة صادمة منذ العنوان لأن مثل هذا اللفظ لم يكن يتصور أن يدخل قاموس الشعر: charogne كلمة في غاية البشاعة وترجمتها جيفة فاستخدام كلمة جثة هنايضعف الصدمة. وكلمة جيفة فصيحة ففي اللسان:
الجيفة :معروفة جُثَّةُ الميت، وقيل: جثة الميت إذا أَنـْتَنَتْ؛ (لسان العرب).
وعندما نراجع القواميس نجد أن هذه الكلمة كانت تدل على اللحوم المتنتنة أو على جثث الحيوانات المتنتنة. ولم تكن تصف الجثة البشرية في الفرنسية، رغم أن هذه الدلالة كانت واردة في اللغة العربية. ففي اللغة الفرنسية دخلت لأول مرة بهذا المعني في القاموس الشعري عند Petrus Borel سنة ١٨٣١ ثم عند بودلير في هذه القصيدة التي أكدت استخدام هذا اللفظ، ونشرته في القاموس الشعري بل في اللغة الفرنسية نفسها.
القصيدة رقم ٣١ Le vampire
أظن أن تحويل العنوان الفرنسي من المذكر إلى المؤنث يؤدي المعنى، حيث أن في الفرنسية الكلمة مذكر وتنطبق على كلا المذكر والمؤنث.
Comme le forçat
àla chaîne.
كارتباط المدان بالقيود
هذه الترجمة لا تؤدي المعنى لأن forçat هو السجين الذي يؤدي عقوبة الأشغال الشاقة travaux forcés ومنها تشتق كلمة forçat ويكون عامة مكبلا بالسلاسل. وقد تحسن ترجمتها: كارتباط السجين بالأغلال
قصيدة رقم ٣٨ Un Fantôme
١- ظلمات
ترجمة جميلة
٢-العطر
Ce
graind'encens quiremplit uneéglise،
                       هذا البخور الذي يفعم كنيسة
أقترح:                  حبة البخور التي تفعم كنيسة
تكمن الصورة الشعرية في التضاد بين صغر الحبة و فضاء الكنيسة، بدون كلمة حبة يغفل التضاد.
٣- الإطار
Rien n'offusquait sa parfaite clarté،
Et tout semblait lui servir de bordure.
Même on eût dit parfois qu'elle croyait
Que tout voulait l'aimer ; elle noyait
Sa nudité voluptueusement
لاشيءيعتمإشراقهالكامل
بليمكنالقولأحياناإنهكانيظن
سلامينسبكلالأفعالوالضمائرفيهذهالأبياتإلىالمذكررغمأنبودليرهناينسبإلىالحبيبة «elle»
٤-الصورةالشخصية
Rien qu'un dessin fort pâle، aux trois crayons،
       لاشيءسوىرسمباهتبثلاثةأقلامملونة
       لماذاإضافةملونة؟
Noir assassin de la vie et de l'art،
Tu ne tueras jamais dans ma mémoire
Celle qui fut mon plaisir et ma gloire !
                       أيهاالقاتلالأسودللحياةوالفن
أقترح                  ياقاتلالحياةوالفنالأسود
فيالعربيةيمكناستخدامالمضافإلىهفيهذهالحالةويخيلإلىّأنالبيتيستقيم بدلامناللجوءلحرفالجر
ملحوظة عن ترجمة عنوان ديوان Lesépaves إلي البقايا
اختار سلام طريق السلامة وترجم العنوان بكلمة البقاياهذه الترجمة جردت اللفظ من كل الدلالات الحافة الشعرية. يجب ألا ننسي الصور الشعرية لدى بودلير التي تصبو إلى الرحلة، والبحر، و الزوال، والموت. كلمة épave مشحونة بكل هذه الدلالات و من هنا اقترح حطام التي تستخدم في سياق «حطام السفينة».
انهي هنا مناقشة تفاصيل ترجمة الأشعار. فالكتاب يستأهل أن ينكب عليه المرء بكل حذافيره ولكني ساكتفي بهذا القدر من التمحيص الذي اعتبره بمثابة نموذج في تناول تحليل الترجمة. ولكن لي مأخذا، أراه مطعنا في ثقافتنا بصفة عامة، وهو القاموس الشعري المحدود في هذه الترجمة. وكان من الأحرى أن يعنى شاعرنا بإحياء لغتنا العربية وتوسعة آفاقها، والاغتراف من مستودعاتها، إطلاق بعض المفردات التي تظل حبيسة القواميس والمعاجم.
إطلالة على الملاحق و الوثائق التي أضافها سلام لكتابه وتشغل ما يقرب من مائة وخمس وسبعين صفحة (ص.٧٤٣-٩١٨). في هذه الملاحق جهد ضخم يزيد من قيمة الكتاب، ويضيء كثيرا من جوانب الإبداع الشعري لبودلير. وقد وضع سلام بين يدي القارئ نصوصا غاية في الأهمية.
ملاحق ووثائق (ص.٧٤١-٩١٨)
١- ملاحق ”أزهار الشر“:(ص.٧٤٣-٧٧٦)
ا- مشروعات المقدمة والخاتمة
قرر بودلير ألا يقدم لـ«لأرهار الشر»، لأنه كان مؤمنا بأن الشعر لا يشرح، وليس هناك أي مبررات لإبداع الشعر. وبالرغم من الهجوم الشرس الذي تعرض له اختار في النهاية ألا يرد على مهاجميه. فأتى الديوان بدون مقدمة واسستبدلها بالقصيدة الافتتاحية التي تخاطب القارئ وهي رائعة من روائعه.
في قراءة مشروعات المقدمة بعض الفائدة -رغم اللبس الذي نلمسه فيها، والغموض في بعض الأجزاء حيث أنها غير مكتملة - لأنها تنير كثيرا من الأسئلة حول مظاهر الإبداع لدى بودلير، وتفصح عن رفضه لزمانه، وإحساسه أنه غير مفهوم عند معاصريه، ومرارته الدفينة، وسعيه إلى المجد.
أما بالنسبة للخاتمة فلم اطلع عليها بالفرنسية من قبل.
ب- وثائق المحاكمة:
١- ردود فعل الصحافة على ”أزهار الشر“:
وهي عبارة عن مقتطف من مقال جوسستاف بوردان يهاجم الديوان نُشر في جريدة ”Le Figaro“ بأعنف الألفاظ، مقال بقلم إدوار تييري نشر في Le Moniteur Universel، يقرظ الديوان، ومقتطف من Le Journal de Bruxelles دون إمضاء يقارن بين رواية «مدام بوفاري» لفلوبير (التي قدمت للقضا في يناير ءسنة ١٨٥٧ومحاكمة «أزهار الشر» في نفس السنة في أغسطس) وديوان بودلير، ويقول إن الرواية هي كتاب من الورع، بالمقارنة بكتاب شعر صدر مؤخرا بعنوان «أزهار الشر».
وإن دلت هذه المقالات على شيء فإنها تضعنا في القلب من المعارك الأدبية، بل المعارك القضائية فعرفت سنة ١٨٥٧ بأنها أشرس سني الرقابة تحت حكم نابليون الثالث حيث رفع القضاء الأمبراطوري دعاوى قضائية ضد فلوبير وبودلير وأوجين سو، وكان إرنست بينار Ernest Pinard هو النائب العام في كل هذه الدعاوى.
٢- ملاحظات بودلير إلى محاميه Maître Gustave Chaix d'Est-Ange شي ديستانج:
٣- مرافعة المدعي العام بينار.
٤- مرافعة محامي بودلير.
٥- الحكم.
٦- رسالة بودلير إلى الأمبراطورة.
ليس هنا مجال مناقشة تفاصيل المحاكمة وما تنطوي عليه من استراتيجيات، فبودلير يطلب من محاميه أن يتبع خطة الدفاع عن الكتاب ككل. وكان يتوقع أن الإدعاء سيستخرج المشاهد الشبقية والإشارات الجنسية من الديوان، ويبني عليها الاتهام. وحدث هذا بالفعل. ولكن الإدعاء استبعد وصم الديوان بإهدار القيم المسيحية، واكتفى بإدانته بالتهجم على الأخلاق وهدمها، ومن هنا صدر الحكم بمنع نشر ست قصائد وصمتها النيابة بأنها فاحشة. ويرى بعض الدارسين أن دفاع محامي بودلير كان ضعيفا لأن الشاعر كبل يديه بما وضع له من حدود لا يتخطاها، فاكتفى بالقول إن الديوان في كليته يقدم وصفا مبالغا فيه للرذيلة، كي ينفر الناس منها. وذهب المحامي إلى ذكر بعض الأعمال الأدبية الخالدة التي كانت تصف الشر مثل «الكوميديا الإلاهية» لدانتي، وغيرها مثل أعمال Molière وFénelon و Balzac.
هذه الوثائق مهمة وتعطي فكرة عن مسار الهجوم الذي كان يلاحق بودلير، والازدراء الذي كان يعامله به المجتمع الأمبراطوري الرسمي، كما تكشف أيضا عن المناخ المتزمت الذي عاش في ظله بودلير، وغيره من الفنانين.
 (ملحوظة: لا يذكر سلام المراجع التي استقى منها هذه المشروعات والوثائق القضائية.)
٢ -ملاحق «سأم باريس» (ص.٧٧٩-٧٩١):
١- هذا الملحق يحوي قوائم من عناوين لقصائد «للإنجاز» تحت عنوان سأم باريس، ثم تحت تصنيفات فرعية مثل «أشياء باريسية»، و «دراسة الأحلام»، و«رموز وأخلاقيات» (أرقام من ١ إلى ٥٤)، ثم سأم باريس (ثانيةً) ”للإنجاز“، تبدأ قائمة عناوين جديدة ( الترقيم يبدأ من ٤٨ إلى١١٢). ويصاحب العناوين ملاحظات من نوع (ربما قصة) أو (تجربة)، أو (أُنجزت). وإن كانت أكثر هذه الملاحظات غير مفهومة، لأن بودلير خطها لنفسه.
٢- مزيد من القوائم تحت عنوان «قصائد سهلة الإنجاز»، ثم «قصائد نثر»، ثم «قصائد نثر» ثانيةَ.
٣- ملاحظة لـ«مرثية القبعات»
٤- وصف تحليلي لنقش بارز لبُواللي (؟)
٥- قصائد ليلية.
٦- أعراض الخراب.
٧- بدون عنوان.
(ملحوظة: لا يذكر سلام المراجع التي استقى منها هذه القوائم).
٣-الشهادات (ص.٧٩٢-٨٠٢):
١- مقتطفات من شهادات غير منشورة.
٢- شهادات منشورة لمعاصرين لبودلير.
٣: شهادات تالية لعصر بودلير.
ممتعة قراءة هذه الشهادات المجتمعة هنا والتي توازي ألبوم الصور الذي يستهل به سلام الكتاب. نرى في المجموعة الأولى بودلير في عيون معاصرية ؛ ثم مع مرور الزمن تتعمق الرؤية وبدلا من أن تجف ينابيع الإلهام تزداد رونقا، وبدلا من أن تشيخ تكتسب الصور بهجة وضياء.
٤-إضاءات(٨٠٣-٨٦٥):
كلف المترحم نفسه عناء ترجمة هذه «الإضاءات» من وضع كلود بشوا Claude Pichois شيخ محققي بودلير، واستقاها من طبعة بشوا لـ«أزهار الشر». والإضاءات عبارة عن مجموعة من الملاحظات تصاحب عادة تحقيق النصوص الأدبية من تواريخ نشر النص منذ إبداعه (بالنسبة لبودلير نُشر عدد كبير من القصائد في مجلات قبل أن تجمع في ديوان) حتى ضمه إلى الديوان. وتحوي هذه الإضاءات إلى جانب تواريخ النص، معلومات مفيدة عن موضوع القصيدة، استلهامها، مؤثرات أدخلها الشاعر إلى شعره مأخوذة من شعراء آخرين، أو من التراث الفني التشكيلي أو الأدبي. ثم تضيف هذه الإضاءات الصيغ المتعددة التي كان الشاعر يتذبذب بينها حتى يصل إلى الصيغة النهائية. ونحن نعرف جميعا كيف يكون هذا المختبر لدى الفنانين في عملية الإبداع المركبة، ولا شك أن سلام بوصفه شاعرا يعرف جيدا هذا العناء لدى الفنان، وأظن أن هذه أول مرة (؟) يضم مترجم إلى ترجمته ما يعرف بles variantes البدائل التي يتأرجح الشاعر بينها حتى يستقر على الصيغة النهائية التي يرتئها للبيت الذي ينحته.
١- أزهار الشر(ص٨٠٣-٨٤٥):
٢- البقايا: (ص٨٤٦-٨٥٥)
٣- إضافة من الطبعة الثالثة لأزهار الشر (١٨٦٨)(ص٨٥٥-٨٥٨)
٤- بقية أزهار الشر (ص٨٥٨)
٥-قصا ئد الشباب (ص٨٥٨-٨٦٠)
٦-قصائد بلجيكية (ص٨٦٠)
٧-سأم باريس (ص٨٦٠-٨٦٥)
٥-قاموسالمصطلحاتوالأْعلام (ص٨٦٧-٩١٨:
آخر الملاحق تحتوي على شقين الأول قاموس بالمصطلحات وهو يراجع بعجالة المدارس الفنية الكبرى التي شهدها القرن العاسع عشر: الرومانتيكية، الواقعية، الطبيعية، البارناس Le Parnasse، الرمزية، مدرسة الفن للفن.
هذا الثبت لا يتناسب في رأيي مع مستوى الكتاب العام، فكل من يقدم على قراءة بودلير على بينة بهده المدارس، على الأقل بالخطوط العريضة التي يخطها سلام في هذه الصفحات المقتضبة.
أما الشق الثاني وهو الخاص بالأعلام فقد يكون أكثر فائدة لأنه يعرف ببعض الشخوص الذين كان لهم دور في حياة بودلير دون أن يشتهروا شهرة واسعة في مجال الدرس الأدبي، مثل Charles Asselineau أو Aloysius Bertrand.
إخراج الكتاب:
أعجبت بإخراج الكتاب. وقد تكبدالمترجم عناء تشكيل النصوص جميعها، وتنظيم القصائد على منوال جميل متسق مع تنسيق بودلير. جاءت الطباعة جميلة ومستقيمة ونوعية الورق الجيدة تضيف رونقا على الإخراج. يخلو الكتاب من الأخطاء المطبعية في اللغة العربية، والأهم في اللغة الفرنسية.
يتحلى الغلاف بالوقار اللائق بمثل هذا العمل المهم من حيث صورة بودلير التي تتصدره موفقة الاختيار، كما أني استحسنت الخطوط وتنسيق تفاصيل العنوان وألوان الكرتون الغلافي .
غير أن لي. ملحوظة تخص الفهرس الذي يتصدر الكتاب. إذ لا تتسق أرقام الصفحات مع المحتوى، فهناك تفاوت بين رقم الصفحة في الفهرس والقصيدة في المتن، وهذه مسؤلية الناشر. ويخيل إلي أن سلام أعد الفهرس صحيحا من جانبه، على أساس حجم الورق A4 شائع الاستخدام في الكومبيوتر، غير أن الناشر اختار قطعا أصغر من الورق لطبع الكتاب، دون أن ينتبه لانعكاس ذلك على ترقيم الصفحات. وهو خطأ غير مقبول من ناشر مثل دار الشروق!
ومن جانب آخر تحوي كل الطبعات البودليرية ترقيما للقصائد في الفهرس. وهذا شيء مهم للغاية لأن بعض القصائد أدرجت في الديوان دون عنوان، وقد قصد الشاعر هذا الإغفال والإبهام، وهو المهتم بمعمار كتابه إلى درجة الهوس. غير أن المترجم أغفل اختيار بودلير وابتكر عناوين للقصائد المرقمة، بينما هي ليست معنونة في الأصل. كما أنه رقّم القصائد التي أدرجها بودلير تحت عنوان مشترك «سأم» (Spleen): فجاءت سأم ١، سأم ٢ ... وهلم جرا في ترجمته، بينما تركها بودلير غير مرقمة. حقيقة أن سلام أشار إلى أن العناوين من وضع المترجم، إلا أن ذلك لا يلغي المخاطرة بعزل قارئ ترجمة سلام عن جمهور بودلير. إذ عندما يشير قارؤه إلى القصيدة (الفلانية)، أو إلى سأم رقم (س)، فإن جمهرة القراء - في الأصل الفرنسي، أو الترجمات الأخرى ـ يعجزون عن التعرف على القصيدة المعنية. وقد جرى العرف على تعريف القصيدة غير المعنونة، أو مرقمة، بالبيت الأول من مطلعها، كما في كثير من الشعر العربي. وقد جاء وقت كانت تتم الترجمات «بتصرف»، غير أني أزعم أن سلام لم يرم إلى ذلك.
أعجبت بسلام، الذي شرع في هذا العمل الهائل وأنجزه على وجه مبهر. كما قلت في تصدير كلامي. لم يكتف بالترجمة ولكنه أطرّها بكل هذه المادة الزاخرة بالمعلومات، والتوضيحات والإضافات التي تصاحب قراءة الديوان وتنير جوانبه.
كيف نترجم الشعر؟ وما هو مسارنا في هذه المغامرة؟ و هل يمكن أن استخلص من قراءتي ما أراه نهج سلام في الترجمة. هل استطاع سلام أن يتقمص بودلير؟ أن يطل علينا في عباءته العربية من وراء وجه بودلير المعذب؟ هل هذا هو المطلوب؟
يخيل إلي أن سلام أراد أن ”يشف“ شعر بودلير، أن يتقفى خطاه، خطوة خطوة، أن يطئ أثر قدمه في الدرب الذي يسير فيه. ومن هنا جاءت الأشعار العربية متفقة تماما مع الفرنسية، حتى أنه نادرا ما كان يغير في البنى النحوية، بل حاول قدر المستطاع ــ دون أن يخل بالبنية العربية ــ أن يسلك البنية الفرنسية. ونجح في كثير من الأوقات. وهذا مسلك يمكن الدفاع عنه. فالصدارة تكون للغة المنبع لا لغة المصب، ولو أدى هذا السلوك إلى شيء من الغرابة في الصياغة العربية، ويأتي هذا مثلا في تفضيله لحرف الجر بدلا من استعمال المضاف، أو استعمال جمل الصلة بدلا من الحال. ولذلك أجده في بعض الأحيان يضحى بالفصاحة العربية . إنها اختيارات صعبة بدون شك .وقد أوضحت ما أفضله في التحليلات التي قدمتها في تناولي لبعض القصائد. وأوضح سلام تفضيلاته في ترجمته.
 
الأعمال الشعرية الكاملة لشارل بودلير،
ترجمة رفعت سلام،
إصدار دار الشروق: بتاريخ ٢٠٠٩
ولكن لم يتوفر الكتاب في المكتبات سوى في يوليو ٢٠١٠.
 
هوامش:
(1) ترجم بودلير إلى الصينية في سنة١٩٢١. ومن الملفت للنظر أن الشاعر الذي ترجمه زو زورين بدأ بترجمة بعض قصائد النثر. راجع رسالة دكتوراه بعنوان ”بودلير والشعر الصيني الحديث“ لوين يا، في ابريل ٢٠١١ في جامعة وو هان.
(2) يمكن الرجوع إلى الموقع التالي للاطلاع على بحث مطول حول علاقة بودلير ببو:
http://baudelaire-traducteur-de-poe.blogspot.com
/
http://baudelaire-traducteur-de-poe.blogspot.com/2005/07/deuxime-partie-la-constitution-de-la_19.html
http://baudelaire-traducteur-de-poe.blogspot.com/2005/07/troisime-partie-traduction-et-posie-ou.html
(3) نفس مرجع الهامش الثاني
(4) صحيفة " الحياة"، لندن، الخميس، 26/2/2009 أحمد عزيز الحسينن – أبوظبي
(5) http://www.atinternational.org/forums/showthread.php?p=42241
(6) Edgar Allan Poe،Histoires grotesques et sérieuses، ”La genèse dun poême“، traduction de Charles Baudelaire، Paris،Michel Lévy Frères، 1871،pp.334-371.http://fr.wikisource.org/wiki/La_Genèse_dun_poème
(7) .تشغل ترجمة جيرار دي نرفال لمسرحية ”فاوست“ لجويه حيزا كبيرا من انتاجه الفني
Le "Faust" De Goethe Traduit Par Gerard De Nerval
، Edition Presentee et Annotee Par Lieven D'hulst
Michel Brix
; Nineteenth-Century French Studies، Vol. 32، 2003
(8) أقدم نص رفعت سلام بالخط المائل المصغر وملاحظاتي بالخط العادي.