يتابع الناقد العراقي هنا استقصاءات الكاتب العراقي المرموق محمد خضير حول سيرة الكتابة، أو المضمرات النظرية فيها في أحدث أعمال الكاتب. ويكشف عن مجموعة من الأواصر بين تنظيرات خضير للسرد وتنظيرات غيره من الكتاب من ناحية، وبينها وبين أعمال خضير الإبداعية المختلفة من ناحية أخرى.

السيرة النظرية

احتمال المعنى والتقاء الممكن في «السرد والكتاب»

عباس خلف علي

(1)
تأتي أهمية كتاب محمد خضير (السرد والكتاب) الصادر عن مجلة دبي الثقافية / 2010 لسببين اعتقدهما يضفران بعقل الناقد وعقل المنتج، الناقد الذي يحق له أن يكشف طبيعة الظواهر وتباين آلياتها، والعقل المنتج الذي له القدرة على الاستدراج إلى المناطق التي تلهمنا التصور، وفي كلا الحالتين وأنت تراقب مشغل محمد خضير عليك أن ترافقه بعين الملاح الذي لا يكتفي بنظرية الملاحة، لأن الفضاء يتسع لاحتمالات غير محسوبة وأحيانا غير مضمونة، ربما تشعر بالاطمئنان لأنك مع المهارة الملفته وجها لوجه، بحيث لا تفرق من حيث الألفة، أنك تقرأ فقط بل تصغي إلى الكائن المنقب وهو يسحبك إلى عوالمه المتعددة والمتنوعة في الكتابة/ القراءة، فلسفته في وضع المقالة. أو لماذا نكتب؟ وكيف نرى الأساليب الروائية؟ وما معنى التأليف؟ و ماهي الأشكال التي يمكن صناعتها في السرد؟ وما أهمية التذوق: شعور غامر أم إحساس مسبق؟ وما نوع التأثير والتأثر الذي يمكن أن يحدث أو يرشح من الوثيقة التاريخية في جغرافية النص؟ وهل هذا سر وجودها عالميا؟ وإن كان النص مشبع بالنبوءة والحجب هل بإمكان الرؤية أن تهتك تلك المناطق وتلتقط أنفاس الحقيقة؟ وهل الرواية بمكوناتها الحديثة تستطيع أن ترسل إشارات أقوى من الأجناس الأدبية الأخرى التي قيل عنها إن كل مدخراتها المتنوعة – أقصد – وسيلة التعبير التي انتهجتها الفنون مثل السينما المسرح التشكيل ومهما تعددت كالشعر والقصة والرواية كأدوات توصيل بقت تبحث عن طرق جديدة، أي أنها في حالة مخاض أو إنها مثل المجرة التي تسبح في فضاء سديم. ماذا تعني مقولته بأنه كاتب غير مصنف، على الرغم من أنه قارئ متمرس ومجهري لعناصر السرد؟

لقد شخص اندريه جيد في ارتكابه الخطيئة عندما فتح كتبه على نزاعات شخصية الأبيقورية وآلان روب غرييه وباولو كويلو(1)، وكان شاهدا على كتاب المستعمرات مثل كاتب ياسين والطاهر بن جلون وآسيا جبار، ثم كيف نظر إلى الرواية بأنها الميدان الوحيد لجمع المتناقضات من خلال عبارته – ثق بالرواية - وما الذي استفزه في مقولة بارت (أن ميلاد القارئ رهين بموت المؤلف) عن البديل الذي اجترحه (مجهولية المؤلف) وقال عنه بأنه أكثر توفيقا في الاستعمال كمفهوم يضمن الاتصال والإرسال معا، وما الذي يدعوه إلى المحايثة والتقريب بين الأدب والعلم (التقنيات) هل هي برهانية أم موضوعية، كيف ينظر محمد خضير إلى طروحات فوكو ونيتشه ودريدا وكنديرا وكويلو وبورخس في بعدها التنظيري؟ وهل استطاعت أن تشكل حوارا أو جدلا مؤثرا في الذوات المنتجة، وهل المحاجة البرهانية - لغة المفاهيم - تستطيع أن تتعايش مع جوهر الأدب - لغة الاستعارة – كيف يفهم الصانع موجهات القراءة، وما يريد أن يميزه في هذه الأنوية وهل فعلا أن الرواية العربية مازالت هامشية، لأنها لم تكسر الحاجز النفسي الذي ولدته الرواية الغربية، في حين تجاوزته أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا؟ وأسئلة كثيرة يطرحها الكتاب نحاول أن نفهمها في سياق قراءة رسائله المقالية التي توزعت على قسمين هما – استعمالات السرد و استعمالات الكتاب – والتي قال عنهما: هذه المقالات لم تكتب لتكتفي بذاتها، وهي دعوة صريحة لزيارة مصنع الحكايات وسيرتها وتجاربها التي نفذت إليه من كل حدب وصوب.

(2) استعمالات السرد:
إن استعمالات السرد في مشغل محمد خضير لا يرتكز على وجه محدد وواقع مفهومي ثابت بل نراه يتحول ويتبدل باستمرار، تجربة قائمة على فهم المؤلف لإشكالات الواقع النصي وزمنه التاريخي وهذا مادعاه إلى تشكيل أبعاد مجاورة، محايثة مع مسارات متعددة الاتجاه ومتنوعة الأصول والمنبع يستدعيها جميعا كي يقيم حوارا معها.. لا من اجل أن يضع تعريفا أو مصطلحا في إطار بنيات ثقافية محددة، وإن يفعل ذلك من وجهة نظر خالصة إلا انه يترك الباب مفتوحا لإجراءات مرجعية معرفية تعتمد تفعيل الساكن وإدامته، ومن ثم فسح المجال لبلورة فكرة الرهان المنضوية تحت زحمة أسئلة النصوص المرسلة من فضاءات متعددة المصادر، تاريخية، واقعية، تخيلية، أسطورية، تجريبية، رمزية، تناصية، للتخاطب فيما بينها، وخلق مناخ يكون فيه النص الغائب قيمة خطابية في حضوره مهما كان وضع هذا النص من الناحية التاريخية قريب أو بعيد، فهو بالتالي يصلح أن يكون نموذج من الرسائل ذات علامات مختلفة تتميز بحكم بنية تأسيسها التي تكون داعمة للتبادل ومظاهر التعبير في تحليل قيمها ومثلها.. قادرة على فتح الأبواب والتساؤلات معا على الكثير من المنطلقات الأساسية التي نحاول أن نفهمها، وإن كان أمر فهمها مستحيلا ولكن من أجل ان نتصورها أمر مختلف، ولذا يسجل النقد الأدبي ملاحظة خطيرة إزاء فشل التلقين، لأنه لم يستقر على شكل نهائي، ومن هنا يبحث الكاتب بشكل دائم ويحلل ذاته إزاء الواقع المتأزم والنافر، ويعيد النظر في كل الأشكال التي استقر عليها.. إن الأدب كما هو معروف يحسب لهذه الحقيقة حسابها فالمواجهة تتطلب منطقا يخوض بأكثر من منطقة، القلق، الهوية، الذات، الغربة، الإقصاء، التهميش، ومن ثم التاريخ، الاجتماع، السياسة، الاقتصاد كلها تسلسل يتشكل معرفيا وروحيا ولذا قالت نتالي ساروت، لقد اكتشفت مع بروست والأنكلو سكسونيون، أن الحقيقة كالعالم ليست ذات شكل واحد، ولا تخضع في كل مكان للقوانين نفسها، وهذا مايدفع بنا للدوران في فلك البحث عن المدلولات الفاعلة أينما وجدت كي يتسنى لنا نحن المتأخرين على الأقل أن نعرف من نحن / ولمن نكتب ما دام مخزون الأقوال وغاية الأفعال على غرار المجموعات الطلسمية عند الصوفي الذي بقي في الكل الثقافي مقابل السر الموجود في الحقيقة المطلقة الذي يركن في العلم الباطني على حد تعبير مدني صالح.

ندرك أن في هذا التوصيف تضييق لمعنى التعبير عن الرؤيا، ولكن البحث في المنطلقات الأساسية للأدب يحتم أو يجعل من الفرضية أمر واقع في التقصي والربط والمقارنة والكيفية من أجل توسيع النظرة وتعميق فكرتها المبنية على المعنى والدلالة. مثلا لو أخذنا نصوص التاريخ كبديهية لوجدنا أن عملية التأليف، صناعة قائمة على ترتيب مختلف عن ماتورده النصوص المعاصرة، كما في أسلوب المقامة والطرفة والنوادر أو كتب التاريخ والنقد والرسائل بينما تلتقي مع امتداد الأزمنة نحو صيغة المعنى الدلالي، الذي يرشدنا إليه التأويل القرائي بعد أن يحفزنا سؤالا ساذجا نجده لائقا (أين النص، ولماذا النص) كما صاغه – ميكال دوفران – حول نصوص ذابت في عصور لاحقة.. ومن ثم تندفع القراءة حول المواضيع المختلفة لتجسيد الممكن في فضاء المعرفة التي تتنوع مفاهيمها بين القديم والجديد وتستمر على هذا المنوال نحو بنى وتسميات ملازمة للنصوص إلى ما لانهاية. إن ما يهمنا هو كيف يرى المنتج موقعه من خارطة الإبداع والمعرفة وهي معززة بالأضداد الثابت / المتغير، الفاني / الباقي، الماضي / الحاضر، المنطق / اللامنطق، الحقيقة / المتخيل، وما هي الأجتراحات التي يمكن التمثل بها لمقاربة الدوال على مستوى تعميق الرابط والصلة بين الإفهام والمفهوم (التأثير والتأثر) في عملية التبادل.

إن المسَلم به وكما هو معروف تتعدد النصوص تعدد المرجعيات التي انحازت لها أو تأثرت بها، فأننا تواقون دائما كقراء أن نفهم لعبة النص(2)، النص الواقعي لا يعطينا أكثر من تبادل واقع بواقع، صورة بصورة، وقد أشار ستندال وهو من أعمدة الواقعية قبل لوكاش إلى أن الروائي كحامل المرآة إذا صادفها الوحل فليس العيب بحاملها وإنما في الوحل، وهذا يعطينا دليلا على مدى التصاق الكتابة الواقعية بالطريقة الانعكاسية التي لا توفر لقارئها أكثر من بضاعته ردت إليه من دون حوافز، إذن القارئ يبحث عمن يدعوه إلى وليمة هو طرف بها كما هي – (لعبة النسيان) – لمحمد برادة، يريد أن لا يكون ضيفا فقط بل إذا غاب يختل التوازن عن طرفي المعادلة، ولذا نعتقد أن الروايات العظيمة التي أنتجت في أوائل القرن الماضي شكلت بكل ماضيها تراث أنساني لا يمكن التغاضي عنه أو تجاوزه، فهي في نظر جاك بنفيل، إثارة ساطعة لحياة خالية من الحيوية والتجديد.. هذه الروايات مهما بلغت من مجد لا تصلح الآن لقراء عصر الانترنيت مثلا، هذا القارئ كما يصفه (هيرش) الأمريكي بأنه لا يمتلك أي معنى سوى المعنى الذي يرغب أن يجده في النص، ومن ثم يمكن لنا أن نضيف بأن السرود الحديثة لم تعد تأخذ أهميتها حسب عدد الصفحات وحجمها وتضاعيفها كما كان حال الروايات في السابق، وإنما المسألة تتعلق في المعنى الغائب في ظاهرها كما ذكره منذر عياشي في كتابه -الكتابة الثانية وفاتحة المتعة - ومحاولة القارئ في إنتاجها أو تشكيل نمط من العلاقة المتكافئة وفي هذا الاتجاه وصل الأمر في السينما الجديدة، إذ أن المنتجين لها يبحثون عن الفكرة فقط، وما جاء على لسان أحد روادها آلان روب غرييه في كتاب - الجن والمتاهة - لشاكر نوري، يؤكد ذلك، حينما أكتب إلى السينما لا يمكن أن أحوله على الورق لأنه غير مخصص للقراء بل للمشاهدين .. ومن هذا المنطلق الذي تعددت فيه الأجناس الأدبية أغراضها وأهدافها نوه تودروف، إلى أن الأدب نظام ولكنها معرفة القارئ بنظام النص وهو ما يؤكده الجرجاني في تقسيم المعنى إلى تخيلي وعقلي والجاحظ بتعريفه – البيان والتبين – إلى أن الترابط بين – سامع، قائل – هو اللفظ القليل الدال على المعنى الكثير ويشترط ابي هلال العسكري حول النظم الجيد الذي يقاس باللفظ في بناء متعدد العناصر هو الكلام، وحازم القرطاجني يعتبر المعنى وجود ذهني ويحدده استنادا إلى مثلثه المعروف بالقوة الحافظة والقوة المائزة والقوة الصانعة. وهنا نستطيع أن نقول أن الواقع ميدان التجربة الإنسانية والفن عموما يعيد ترتيب هذه التجربة التي انتبه إليها محمد خضير وكما وردت في تساؤلنا السابق، من أنه دمج واقع القراء بواقع التجربة وشكل بينهما ما يمكن أن يوصف برؤيا التراسل أو التخاطب وإن حدد لها عنوانا هنا أو هناك إلا إن الكل يتضافر لبلوغ غاية – خبرة الكتابة، والصناعة من التجربة – لينتج لنا في دليلها / العنوان ما يشبه التقريب والتجاور.

توزعت استعمالات السرد مابين الإشارات والاستعارات والأسرار وأهمية إيصال المعنى المجازي لا الحرفي، مشفوعة بمبررات اقتباسه عن الرسام غويا مثل «أي شيء لا يستطيع الخياط أن يفعله أو عندما ينام العقل تستيقظ الوحوش» ص44 مرورا بكتاب الأسود لأورهان باموك واستخدامه للعبة الحروف خلال بحث الشاعر غالب عن زوجته رؤيا وكيف عليه أن يفك أسرار الخارطة ومن ثم ينقلنا إلى حكاية رمزية من التراث العربي - الطبل والثعلب – بعد ذلك يقف حول ما أراده المعري ودانتي وملتون من اختلاق صور مماثلة للفردوس ولكنهم عجزوا عن الاقتراب من الرؤيا المثالية، ولذا ابتكروا أنظمة في العلاقات الرمزية الدينية المجاورة، وفي القصة تحدث عن اللغة والفكرة والزمن والحكاية والتوليف والربط (المونتاج) ثم يعرج حول تعين اللحظة القصصية فيقول «حركة الأبعاد من موقع ثابت لتبدو هذه اللحظة مناسبة أكثر من فكرة الجريان أو الارتداد أو الدوران في المبنى التقليدي، حيث يتمدد بمقتضى التمثيل المتزامن للمراجع التي دخلت في بنائها» ص36 أما روايته – كراسة كانون – يصف حقيقتها بأنها مجموعة حكايات فرعية ... وعن مقولته ثق بالرواية، يعد أن التجربة الروائية تنفر من البحوث النظرية. «أن أفضل الروائيين أولئك الذين يفكرون وهم يتقدمون مع شخصياتهم يسردون الخيالات كأنها حقائق والحقائق كأنها خيالات وبذا يصبح المبدأ ثق بالرواية ولا تثق بالنظرية» ص38 ثم يؤكد بأن (كراسة كانون) خرجت من هذا المبدأ، إذ كان السرد والتعليق عليه أن يسيران جنبا إلى جنب بين الوقائع والتدليل عليها، وفي اليوميات يخبرنا عن دفتره الخاص بكتابة (رؤيا خريف) الذي يعود لعام 1985، إن فيه فوضى الأحلام وعشرات الأفكار وغزارة التحضير والتدبير..«تبدو لي مفكرات الماضي أشبه بأنصاب خرسانية تركتها القصص وراءها في معرض الذاكرة المغلق» ص91 وفي (مشغل الخيال) يقول «عمل يقوم على التقاط أصوات شاردة من حافات الجمجمة وبهذه الأصوات تجلت الجمجمة لي برزخا، غابة، كهفا بحريا..صورة مرآتي وحقيقة شهودي وشبح حلمي وشاخص وجودي» ص66... أما في موضوع التناص يؤكد بأنه مفهوم لا تطويري ولم ينشأ من بنية قديمة حتى ينمو في بنية جديدة. «لا أحب أن تأخذ مفهوم التناص من كتاب – المقابسات – لأبي حيان التوحيدي لأنه غير مجدي للوصول إلى الحقيقة» ص80 ولذا يفضل الانتقال من المفهوم الشائع عن التداخل النصي إلى مفهوم التأثير المرجعي حسب ما اصطلح عليه.

ثم ورد في استعمال السرد الكثير من الإشارات والاستعارات لبعض الكتاب ورواياتهم مضيفا ومعلقا ومطابقا عليها استحقاق التجربة(3)، مما يفسح المجال أمام القاريء أن ينتقل في سياحة ذهنية، معرفية، تاويلية، تراثية، فكرية، صوفية، صحيح ان أغلب المقالات قد نشرت قبل أن تحتوي في كتاب حيث يحوز الكتاب على الأهمية كنوع وهدف وغاية غير المقال الذي ارتحلت عنه، هنا تكمن الحقيقة المنهجية(4) في ترتيب المواضيع وتصنيفها وعنونتها التي بامكانها التاثير والتحكم في توجيه الذائقة وخضير بخبرته يعرف متى وكيف يدعو أصحاب الشأن على وجه الخصوص إلى سماع حكايته من داخل الورشة أو مشغله السري/ الخاص. في هذه الورشة يمكن أن تتكرر الأشياء وتعاد وكأن بقائها من عدمه لاتلقى فيه ضرر ولانفع، ولكن مع ذلك نسعى كقراء على أن لاتتجاوزنا عبارة كل شيء مكتوب في روح العالم وتستغفلنا كي تستبيح مما يتوجب علينا البحث عنه، لأن مدارات النصوص كما يصفها محمد خضير عبارة عن فخاخ لا أحد يستطيع أن يزعم إنه نجا منها.

ولذا باعتقادي المتواضع استطيع أن أقول، إن القسم الأول في هذا الكتاب (السرد والكتاب) الذي اهتم بفكرتين أساسيتين هما الفكرة النظرية والفكرة السردية التي نوه عنهما في المقدمة، قد تمثلت مقولاته المرجعية السردية في السيميائيات والبنيويات في تحليل السياقات القصصية والروائية(5) انطلاقا من مبدأ محاكاة وأثر الواقع غير المرئي لتكون اسقاطا ومطابقة وانعكاس ومن دون أن تشكل أو تزاحم رؤيته رؤى غيره من الكتاب، فكانت المواضيع تنأى بنفسها عن الذاتية ولا تقلدها كما عرفناها في كتب السيرة(6) أو إسقاطات الذات على النص الروائي كما هو حاصل في اغلب الروايات ومنها على سبيل المثال (الخبز الحافي) لمحمد شكري و (دفنا الماضي) لعبدالكريم غلاب و(أولاد حارتنا) و(الشحاذ) لنجيب محفوظ و(المرأة والوردة) لمحمد زفزاف و(الطيبون) لمبارك ربيع و(لعبة النسيان) لمحمد برادة ولا تنتمي لكتب السيرة مثل (هواجس كتابية) لحنا مينا أو (وجع الكتابة) لمهدي عيسى الصقر و(ذكريات الأدب) لسهيل إدريس و(خارج المكان) لأدوار سعيد أو للسيرة المؤسسة كما تأتي في وصف الريادة، مثل (الأيام) لطه حسين و (أنا) لعباس محمود العقاد و (قصة حياة) لإبراهيم المازني بينما في هذا الحقل من الكتاب/ استعمالات السرد، يعتمد على حيثيات المشغل من أسلوب، خصائص، مؤثرات، مصادر،(7) بحيث تكمن أهمية الكل في تغليب الفرع الناتج عنها / الومضة على المتن، وبذا نحصل على نوع يتجاهل السيرة الذاتية ولا يفتتها، ويقترب من السيرة النظرية التي تخوض في الأفكار والفلسفة والمعرفة ولا تنتمي إلى خصائصها التنظيرية، بل أن الاستعمالات المختلفة للسرد هي التي تورث الخصائص للمتلقي ليحدد نوع وجهة الاشتغال.

(3) استعمالات الكتاب:
لا تستبعد حقيقة كتابنا عن الذائقة في مقاييس المقارنة بين - استعمالات السرد واستعمالات الكتاب - سوى كون الأخي/ المقطع الثاني، شاهد حي على عذابات ومكابدات المؤلفين وشقائهم، لا أحد يشاركهم ما يتكرر لهم تحت وطأة الإحساس الذي يتحملونه بمفردهم، إنه نزوع خفي، وهم يصارعون بوصلة الملاحة من أجل الرحلة التي لا يعلمون إلى أين تقودهم... وإلى أين تنتهي ؟ فالمؤجلات مظلة تسبقها أمنيات محفوفة بمحاذير المفاجأة غير المتوقعة.. من يراهن على أن يكون حامل الكتاب بدل أن يكون مؤلفه، فالشاهد الذي اعترته لذة الكتابة قال «اني وقعت في شراك هذه الغريزة.. لم أصح من حلمي السعيد حتى اليوم» 103 مايتركه الحلم عند الغنوصي أو الصوفي، وحتى العرفاني(8)، توحد الذات في تجليات معرفية تبحث في اليقين عن الشك وفي الشك عن اليقين، وكل منهما لا تخفت عنده حالة التجلي، طاقة لها القدرة على النزوح الدائم وبذلك قد تغيب اللانهائية ويحل مكانها الترجيح والتأويل والمفاضلة كما يقول الجابري، ولكي يبقى الحلم يمارس حضور الغياب، ولذا يعتقده أودونيس نمط من التعبير المستخدم في خطاب التخيل تكون فيه الرؤيا المقاربة أو المرافقة للحلم في صناعة ضرب من الصور (الأيقونات) ولذا كانت اللذة نابعة من هذا الشعور الذي يمدنا بما نحتاج الية كما لو انه عاكس للأفكار.(9)

وبعودة إلى لذة المخطوطة يقول خضير «أن لذة المخطوطة لذة موقعية لا يشترك القارئ مع المؤلف في اعتصارها مادامت تحدث في مشغل المؤلف الانفرادي» ص109 وهذه حقيقة، ذكرها كولن ولسن في كتابه - فن الرواية - يؤكد أن المخطوطة وهي في الذهن مخاض، لا أستطيع أن أجد له تفسيرا محددا ولا أتمكن من علاجه إلا بعد أن تنصرف عني إلى الورق، أو تذهب نحو الهيولي، وأسعد ما في الحالتين لو إنها اختارت الورق، وهذا ما يفسر أن وطأة التحضير والتهيؤ ومحاولة ضبط اللحظة، قلق وإرهاص وتذبذب لا ينتهي أو يتوقف عند ما يكون الذهن حاملا للتصورات فقط بل يتعدى ذلك إلى الوضع الآخر في الشطب أو المحو الذي لا تستكين في مرحلته أي مسودة، وهو البحث عن شيء مفقود/ مجهول الإقامة/ مجهول الهوية/ مجهول الصورة/ مجهول التحديد في بنية الصراع/ يتماهى بين الأشياء/ يظهر ويختفي/ مراوغ في ملامحه، وقبل هذا وذاك يقول بيكاسو، كل الأشياء تهتف، الصدق والعمق يحركان الموهبة نحو تقشير تلك الكثافة غير المرئية الكامنة بين السطور.

وهو ما يعكس حكم (لاتوز) في فلسفة التاو، اصنع للغرفة جدرانا وبابا ونوافذ، ولكن اعلم أن الفراغ هو الذي يصلح للسكن، يعبر هذا التصور أو يفسر الإشارة الملغزة حول ما يمكن أن نعتبره كمفهوم أولي باللذة الغائبة، أي الدوران في فلك الدلالات من أجل تقليص المسافة وفي الوقت ذاته لا تكتمل الصورة أو يصعب الإمساك بها، ما زال نزيف الرؤى يلاحق الأشباح المعتصمين حول مائدة المسودة. ولربط الموضوع بحكاية كوديا الأكدي لا نحتاج إلى أكثر من فهم المعادلة بشكل موضوعي كما هو الحال في حجم وشكل التمثال/ المدونة تحفر على الظهر، بينما وجه كوديا في الأمام.. هل يعني انك لا يمكن أن ترى حقيقة كوديا إلا بحقيقة الوجه الآخر. ولابد أن تكون محفورة، مثل شاهدة، لا ينبغي لها أن تختفي أو تنفصل صلتها أو تنعزل أو تتوارى من دون اتصالها الظاهري، فوجودها روح إذن، محدثًة، تمس الوجدان وتستند عليه ومن هذا المنطلق نعتقد أن جيلوجيا المعرفة البارتية شكلت أطر مفهومها/ الحفريات/ مهدا لقراءة الإشكاليات المشرقية من غنوصية وفارسية وهرمسية وغيرها. إن مبعث النصوص لا يقوم إلا على المعنى الباطن وحضوره لا يعني استيعابه، هذا واقع، فهو مسودة النص التي تبحث دائما عن مرفىء آمن يسكن مبتغاها ويهدأ من روعها، قبل الرحيل إلى حامل الكتاب كما يصفه محمد خضير.

(4)
يجمعنا بكتاب بيديا ومن قبله وبعده وثائق ومخطوطات محجورة – كليلة ودمنه- في حكاياته المؤلسنة وجدت بهذا الشكل تحاشيا ظلم – دبشليم – ولكن مع ذلك دفع حياته ثمن لاشتغال المفهوم، أن الظاهر والباطن نقيضان متلازمان مثل بقية الأضداد التي تحسسنا دائما بوجودها المتماهي في دواخلنا، وإن كشفت أهمية ما تحتويه المخطوطة، لم يبق ثمة غموض أو لبس إزاء تحريك المفهوم، لأن اشتغاله/ لدى حراس النوايا/ قائم مذ قيام فجر السلالات الكتابية على هذا المعنى، ولذا الناسخ  الناشر يتحمل وزر هذا المفهوم، وبهذا الشعور يخبرنا الصانع في - تتمة الغابة – «وبين هؤلاء وأولئك يعيش مؤلفون وناسخون يعملون بخزين مرجعي من عصر زاهر قديم ما زال ضوع رموزه المعتقة يوجه حواسهم وآلياتهم المقنعة بالحديد والصخر والتراب» ص118. لم يختفِ عمل الناسخ عن رؤية (الكتاب والسرد) ذلك المجهول في عالم التدوين والحفر حتى وصوله عصر الليزر وحروف الطباعة اليكترونية ليضحى أمثولة في تحمل مشاق غيره.

الخلاصة:
تحاول الورقة التأكيد على نقطتين أساسيتين في هذا الكتاب (السرد والكتاب):
الأولى، إن هذا الكتاب له مشتركات أدبية وإبداعية مع بقية كتبه السابقة، إذ لم يتدخل في النص إلا بحدود الرؤيا المتاحة، وكذلك نجد المقالات، عبارة عن رؤى متحركة تمتد في جسد متون الكتاب، والمؤلف قد يكون مثلنا يتحمل ما تفعله الكلمات أو ما توفره من احتمالات في عملية تواطؤ لإنتاج المعنى، أي تتجسد الذائق القرائية في تكوين أفكارها من دون تدخل أو تأثير خارجي عليها وبهذا الشكل تنمو الموازنة مابين القارئ من جهة والمؤلف من جهة أخرى.

الثانية، السيرة  كما هو معروف ترجمة للواقع بكل أصنافه وإشكاله، وإذا ما أريد الكتابة عن هذا النوع من الأجناس الأدبية فانه لابد أن يخضع لمؤثرات ذاتية أنويه لا تجرأ على التنكر لها كمهيمنات أو تجاوزها والاكتفاء بالتلميح لقدراتها، بينما الحقيقة، وإن كان هذا الكتاب قد راهن على زئبقية التجنيس إلا إن تجربة المؤلف كانت حاضرة بفعلها القرائي المتنوع القائمة على ردود فعل الهوامش المرسلة عن تلك القراءات، وإذا ما حاول ملامسة الذات، فأنها ومضة عابرة، مثل ما يقول، أنا كاتب غير مصنف أو إن كراسة كانون تنتمي بصعوبة لجنس الرواية، أو إني لم أكتب سوى رواية واحدة، وغيرها من هذه العبارات السريعة التي تتجنب الإسراف ولا تتدخل فيه.

 

المصادر والإحالات:
*الكتاب والسرد: محمد خضير منشورات مجلة دبي الثقافية 2010 م
(1) خضير الذي تأمل السرد والتاريخ، علي حاكم صالح، موقع الكتروني، قراءاتي، الخميس 25/3/2011م
(2) فن الرواية : كولن ولسن، ترجمة محمد درويش/ دار المأمون م1986
(3) رولان بارت: الأدب والحقيقة ترجمة عبدالجليل الأزدي/ مراكش 1992 م
(4) دعبدالحميد نوسي:التحليل السيميائي للخطاب السردي، الجزائر 2003م
(5) سعيد بنكراد: تحليل سردي لرواية حنا مينا، بحث منشور على موقع الكلمة، العدد33 الكترونية.
(6) الشخصية الروائية على ضوء مقاربات النقد العربي القديم والحديث د. جميل حمداوي / مجلة الرواية الكترونية
(7) عبدالحميد بورايو التحليل السميائي للخطاب السردي/ جزائر 2003 م
(8) نحن والتراث، فهمي جدعان ومحمد عابد الجابري (وجها لوجه) مجلة العربي 1987م ص100.
(9) سمير المرزوقي وجميل شاكر: مدخل إلى نظرية القصة / الجزائر 1985م