يكشف الباحث المغربي عن مخاطر خضوع الفضاء المدني العربي تدريجيا لثقافة سلفية متشددة تؤلفها ضرورات ومحظورات، مصدرها قراءة جامدة للنصوص الدينية، وانبثاق أيديولوجية مهيمنة تنهض على اختزال الدين، وتقفل نقط العبور إلى الفضاء الدنيوي للثقافي، بصورة خلقت فصاما مدمرا في الثقافة العربية.

صراع من أجل الهيمنة الثقافية

هشام بن عبد الله العلوي

ترجمـة: سعيـد بوخليـط

 

ليل طويل للديكتاتوريات، ترسخت معه فصامية مرضية: في خفاء، يستهلكون كل تشكيلة الثقافة المدنسة، وأمام الملأ، يحملون يافطة الهوية الإسلامية. لكن، حاليا، يتعلق الأمر بالانتهاء من هذا التناقض، بإبداع معايير تستمد منبعها من التقليد العربي والإسلامي.
خلال القرنين الماضيين، ارتاب العلماء دائما من الأشكال التعبيرية الحديثة، خوفا من أن تخلق للناس إمكانية تصور حياتهم، والعالم حسب المعايير الخارجة عن الدين. لقد، كان طبيعيا أن يعترضوا، فأغلب الممارسات الفنية والثقافية لم تكن على الأقل مقبولة. بعض الإنتاجات (الرسم المعاصر، مثلا) اتسم حقا بطابع الغرب، ولم يهم قط إلا فئة الأفندية (البورجوازية المستغربة). تسامح حذر، استند على إطار فكري تيولوجي (علم الكلام)، لا يقف الدين في إطاره عند حدود العقيدة الدينية (الشريعة)، بل يقبل أيضا بنوع من التعددية. ممارسات أدبية وفنية، تقريبا دنيوية: (الشعر، فن الخط، الفنون التشكيلية، والموسيقى)، اعتُبرت متلائمة مع الدين، وإن خلخلت التقاليد الاجتماعية. أعمال، تميزت بتعددية باهرة وإبداعية جريئة في الغالب، مثلت قسما مكونا لتاريخنا.

تكمن تحديدا، عظمة الإسلام في قابليته كي يستوعب عددا لا يحصى من التأثيرات الثقافية. هكذا، احتضن العالم الإسلامي ودرس ثم طور، أكبر التقاليد الأدبية والفلسفية الكلاسيكية. وعوض حرقه الكتب، بنى خزانات بهدف حمايتها. لقد ظل لزمن طويل، محرابا للوثائق الجوهرية، لما سمي بعد ذلك بالغرب، وأدرك العالم الإسلامي، بأن هذا الإرث يشكل تراثا فكريا لكل البشرية. بيد، أنه مع انبثاق الحركات المتطرفة، طفا إلى السطح، معيار جديد، يوصف غالبا بـ"السلفي" بإحالة على الرؤية الضيقة للأرثوذوكسية الدينية التي استند عليها. وعلى الرغم من تعلق هذا الأمر بإيديولوجية مضمرة، بحيث نادرا ما حددتها قاعدة أو مؤسسة، إلا أن الوضع لم ينزع شيئا من قوتها، بل حدث العكس.

لا يستمد، هذا الأفق هيبته من سلطة سياسية، لكن بسبب المكان المركزي الذي يشغله حاليا التأويل المتشدد للإسلام، داخل الهوية العربية: إنه يجسد رفضا للنموذج الغربي، وكذا النيوكولونيالية.

منذ عقد من الزمان، اصطدم هذا النوع من التطرف الديني، بقومية عربية سائدة. وخلال سنوات 2000، ترددت الأصوات المدنية المعتدلة، عن مجادلته بكل صراحة: لقد أخذتهم ثنايا الفخ الهوياتي، وخافوا أن يصيروا محافظين في أعين النظام، بل وأعداء للأصالة العربية. أستحضر هنا، حدثا مثيرا، يشير إلى فئة من الشباب المغربي، قررت صيف 2009 أن تفطر علانية خلال شهر رمضان وتتناول وجبة في الهواء الطلق. إلى جانب النقمة المتوقعة للمتدينين، أشعلت مبادرة كهاته، النار في موقد حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، القطب الأساسي للاشتراكيين الديمقراطيين داخل البلد، جعلته يعلن عن عقوبات في حق من أرادوا تقويض صوم رمضان. هذا "الورع" اليساري يعبر عن نفسه، وفق لغة مستعارة من الوطنية. لقد اعتُبرت النزهة، مسيئة للثقافة المغربية، وخطيرة على التوافق الهوياتي. بناء عليه، قررت السلطة متابعة هؤلاء الشباب بتهمة "الإخلال بالنظام العام"، علة نادرا ما يتذرع بها، لكن استُثمرت القاعدة الدنيوية هنا كستار، من أجل التذكير بالنظام الديني. أما، الطبقة السياسية القائمة على الإجماع، فليس بوسعها الدفاع عن أدنى تأويل مغاير للوصايا القرآنية.

لذلك، يخضع الفضاء العمومي، رويدا رويدا، لمبدأ ثقافة متشددة تؤلفها ضرورات ومحظورات، مصدرها قراءة جامدة للنصوص الدينية. إن الدين، وقد أضحى عنصرا محوريا للإيديولوجيا المهيمنة يروم نحو الاختزال عند تأويله السلفي، وبناء منطق، تتحول معه بذلك الثقافة التي كانت مدنسة حتى حين، إلى كافرة. وبدل فهم، منفتح للإسلام مقترن بالثقافة، سيحل محله تأويل غير ذكي للشريعة يعتبر الثقافة حراما. بالتالي، تُقفل نقط العبور من الدائرة المقدسة للديني إلى الفضاء الدنيوي للثقافي. مع ذلك، لم تمنع دينامية "تعميم الرؤية السلفية"، الأفرادـ من تذوق منتوجات ثقافية وافرة بواسطة التلفزيون، والفيديو والأنترنيت وكذا الأدب الشعبي. وسيكون من باب الغواية المفرطة، أن نحصر هذا التفاعل في الغرب والعولمة، ثم تحقيره باعتباره "أجنبيا". لأن في ذلك، عدم تقدير للمهارات التي امتلك بها العرب مختلف جوانب نسق الإنتاج الثقافي المعاصر. أما بخصوص النخب، فنلاحظ شغفها المتنامي بالفن المعاصر، وما عرفه الأخير، من ازدهار بفضل نظام لرعاية الآداب والفنون، تساهم فيه جمعيات أوروبية وهيئات غير حكومية وكذا الأنظمة الخليجية.

الشعب من جهته، يعيش تحت تأثير التدفق المتنوع الجنسيات لوسائل الترفيه والإعلام. فإلى جانب شيوع نماذج أمريكا الشمالية، نلاحظ أيضا الانتشار القوي لمنتوجات ثقافية محلية، سواء تعلق الأمر بقناة إخبارية مثل "الجزيرة" أو "العربية" ومسلسلات تلفزيونية ومعطيات الأدب الشعبي، لاسيما تلك المنشورات التي تهتم بالحياة العاطفية أو تقديم نصائح عملية، وكذا ما أحدثه الأنترنيت من انفجار إبداعي على المستوى الموسيقي والفني، والاهتمام الحماسي الذي يحظى به لدى الشباب العربي. خليط كهذا، سيصاحبه بالضرورة، توظيف تجاري و"مهرجاني" للثقافة العربية المعاصرة، ظاهرة ليست خاصة بالعالم العربي، لكن الهناك لا يهمنا في هذا السياق، وتضخمها يعود بشكل كبير إلى دور رجال الأعمال والمتعهدين والوسطاء المحليين.

جل هذه الممارسات الثقافية، لا تبالي بالمحتوى الديني، فهي مشبعة بتأثيرات العولمة ـ ليس فقط العربية، لكن أيضا الهندية والأمريكية اللاتينية، إلخ ـ وتعبر بالمطلق عن محتوى دنيوي. بالرغم، من اندفاع الإسلام السياسي، فالمحاولات الرامية إلى أسلمة الفن والثقافة، تبقى نسبيا غير مثمرة. مع ذلك، وبسبب امتثالهم لاقتضاءات الثقافة الشمولية والمقياس الديني، فإن الفنانين والمنتجين يعلنون إراديا في الواجهة عن صفتهم كـ"مسلمين"، حتى ولو كانت أعمالهم لا علاقة لها بالدين وتعضد أحيانا إضفاء الدنيوي على المجتمعات. بانتصارهم لهذا الانتماء، إذن، يفصحون عن هوية وليس ممارسة دينية.

نوع من السكيزوفرينيا، يستغرق المنطقة : أثناء حميمتهم، وداخل فضاءات شبه عمومية موزعة باحتراس، فإنهم يلتهمون ثقافة زمانية، وحينما يجدون أنفسهم أمام الناس يسيطر عليهم هاجس إشهار هويتهم الإسلامية، قد يتعمدون مثلا عدم الذهاب إلى السينما والعودة إلى المسجد ثم إرخاء اللحي أو ارتداء الحجاب. هذان المحوران للحياة الثقافية، يشتغلان بالتوازي، لكن المعيار الديني، يظل مهيمنا على الفضاء العمومي. سنخطئ، إذا فسرنا هذه الظاهرة بناء على التقسيم الاجتماعي بين النخب والطبقات الشعبية. إبان القرن الماضي، أمكن البورجوازية الغربية، التمتع حتما بكل حمولة الثقافة الدنيوية، بينما ظل أفراد الشعب، بشكل عام، منصرفين إلى ثقافة تقليدية يهيمن عليها الإسلام. مفارقة، لم تنته. لكن، منذ عشرين سنة، أدت تطورات التعليم ومحاربة الأمية وما رافقهما من نمو سريع لوسائل الاتصال ـ نجد في المقام الأول التلفيزيون والأنترنيت ـ إلى استبدال أوراق اللعب. كما أن الإطلاع على لغات وثقافات أخرى ليس مجرد ترف.

انبثقت، لبنات ممارسات ثقافية تتنوع شيئا فشيئا. يقرأ الشباب الرواية ويشاهد أفلاما ويطلع على وثائق ويستمع للموسيقى ويبحر في مواقع إليكترونية، غالبا بلغات أخرى غير العربية. شباب، لا يستهلك فقط منتوجات، بل يستوعب تطبيقات وممارسات ثقافية تتسم جوهريا بتأثيرات الشرق والشمال والجنوب، والغرب طبعا. إن تعدد ثقافة الجماهير، لا يخلق ميكانيكيا مسارا بين الدنيوي والديمقراطية، بل يتعلق الأمر بانفصال. هكذا، نفس الشخص يقرأ اليوم رواية حب، وغدا منشورا دينيا، ثم يتناول فطوره أمام قناة "إقرأ" الفضائية المخصصة للإسلام، وينهي عشاءه على إيقاع أغنية تصدح بها قناة "روتانا".

السلفيون، بدورهم تكيفوا جيدا مع هذه الأدوات الجديدة، كالانترنيت. ويعرفون كيفية توظيفها لصالحهم. يعتقد المتدينون، بأن الإقبال على الثقافة الدنيوية، ينبغي أن يبقى "خطيئة سرية" بالنسبة للمسؤولين، تقتصر على الترفيه، ولا تكون لها نتائج اجتماعية أو سياسية، ويلزم كل واحد احترام المعيار السلفي، حتى عندما يرتكن إلى دائرته الخاصة. بشكل مفارق، الانتهاك اليومي والشخصي للوصايا القرآنية في إطار الترفيه المنزلي، لا يعمل إلا على مضاعفة سيطرة الديني: الخرق فردي، بينما المعيار السلفي عمومي. يتآلف، هذان الرافدان حول صيغة سلطة إيديولوجية "ناعمة" بمعنى أكثر فعالية من رقابة بيروقراطية. هذه السكيزوفرينيا، لا تراعي أبدا اللغة، محور الثقافة. تاريخيا، احتفل العلماء، دائما بالمكتوب باعتباره التعبير الأكثر ارتقاء للفكر الإنساني، لكن، النصوص العربية تحتل مكانا هامشيا في الأدب، فالمثقف العربي لا يكتب باللسان الشفوي لشعبه. القوميون والأصوليون، يلتقون حول نقطة: إنهم لا يقرّون بوسيلة للتعبير الثقافي، إلا العربية الكلاسيكية، لغة القرآن. بالنسبة للبعض، هذه الفصحى ترسخ الوطن العربي، أما عند آخرين، فإنها صلة وصل بالنسبة للعالم الإسلامي (الأمة).

هذا المفهوم، لا يأخذ طبعا، بعين الاعتبار التمايزات العميقة بين العربية الكلاسيكية التي نادرا ما يُتحدث بها خارج المدارس القرآنية، وكذا لغة الشارع، أو أيضا العربية الجارية التي تتداولها وسائل الإعلام والخطابات العمومية والخيالات الشعبية. بالنسبة للكتّاب، تبدو المهمة أكثر وعورة من أن تشكل الرواية جنسا مشبوها، عندما تبلور الأسئلة الوجودية بطريقة اقتحامية على مستويين: بالتحرر من الدين تم الذهاب باللغة العربية، أبعد من حدود الفصحى. هذه القطيعة، تمنع بروز التعبير الشعبي. نعثر، على الصعوبة ذاتها في الميدان القانوني. كل دولة، تحدد فهمها الخاص للشرعية "الإسلاموية". الراجح، أنها تضيف إلى تشريعها مبادئ من القوانين الحديثة، مع الإقرار للشريعة بقيمة المصدر النهائي. هذه الثنائية، السائدة حتى الوقت الحاضر، تقيد الإمكانيات السياسية. هنا، أيضا، تطبيق القاعدة الدينية، لا يحكم بالضرورة الممارسة داخل المحاكم أو الإدارة. حينما قبلت الدولة العربية الحديثة، المنظور السلفي، للضوابط الاجتماعية، بخصوص العادات والسلوكات (ضغوطات من أجل ارتداء الحجاب أو إغلاق دور السينما، إلخ.)، فقد كرست سياستها التحالفية الضمنية مع العلماء، الحراس الرسميين للإسلام، والذين يظهرون أكثر انشغالا بمحاباة النظام، دون العمل على إصلاحه.

يمكن للدولة، أن تقبل بتيارات إسلامية "معتدلة"، بحيث يرتكز مخططها خاصة على تعبئة إيديولوجيين متدينين ـ وليس البوليس ـ من أجل نشر التقوى بين صفوف الأفراد. مجال تحركها الحقيقي، ينصب على منع أحكام الشريعة الأكثر قسوة (مثلا، رجم مرتكب الزنا، سواء كان رجلا أو امرأة)، مما يسمح لهذه الدولة أن تجعل من نفسها سدا يقف أمام أسلمة كلية، قياسا لمعتدلي الداخل والملاحظين الغربيين، مع تأكيدها أيضا على أولوية السلفية كمعيار اجتماعي. في الآن نفسه، المثقفون المرتبطون بالإصلاحات الديمقراطية، يتوخون قصدا حماية الدولة لهم، ضد العلماء والأصوليين. بالمقابل، يقبلون أحيانا الدفاع عن حكامهم، ظنا منهم، بأن حكومة، ولو اتصفت بالاستبداد الشديد، فستكون أقل شرا من الإسلاميين، ما دامت تحافظ على بعض فضاءات الاستقلال الثقافي، وترعى موجة الأمل بخصوص تحرير مستقبلي. خلال سنوات 1990 ساند مثقفون علمانيون الدولة الجزائرية وهي تصارع الإسلاميين. أما، في مصر، فقد استفاد الكاتب، "سيد القمني" من حماية الدولة بعد تلقيه لتهديدات بالموت، بل حصل على جائزة الدولة التقديرية شهر يونيو 2009.

تتفق الدولة أحيانا مع تنظيمات إسلامية، توصف بأنها أقل تهديدا، كالإخوان المسلمين مثلا، بالرغم من عدم استعداد الأطراف المتهمة، وقد تذهب إلى غاية أن تضمن لها أقلية ثابتة في البرلمان، تحت يافطة معارضة سلمية، وضع كهذا سيمنحها إمكانية ردع الجهاديين والإسلاميين الذين يستهدفون قلب النظام السياسي من الداخل. التوازن العابر، بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين، يترك أيادي السلطة مفتوحة كي تواصل سياستها القمعية، الشرسة دائما. لكنها آنيا، رصدت هدفها بدقة أكثر، وهي تنحاز إلى إلتزام المنظور السلفي.

يعتقد المثقفون بأن هذه الوضعية المُحبطة قد تؤدي إلى مختلف أشكال التراجع السياسي. من جهة، نشاهد "هروبا للأدمغة" أكان واقعا أم افتراضا. هكذا، نستحضر مجموعة فنانين وكتّاب يعيشون حاليا في الخارج، فانقطعوا لجمهور بعيد عن بلدانهم. يقدمون بالأحرى أنفسهم كـ"عرب" و"مسلمين"، بدلا عن كونهم مصريين أو تونسيين. يلتمسون هوية قريبة عناصرها التأسيسية من الهوية السلفية، يكتبون بالفصحى ويعتبرون بأن "عربي" مرادفة لكلمة "مسلم". عناصر توزعت جغرافيا وإيديولوجيا، فقدوا الاتصال مع بلدهم وشعبهم، وفضلوا أن يظهروا أنفسهم بطريقة عامة كـ"عرب". الحاكمون، لا يرهبهم من الأمر شيئا، عندما ينتقل مثقفو بلدانهم إلى معانقة قضايا يتوافق عليها الجميع، مثل فلسطين والعراق، عوض الانخراط المباشر في الحياة السياسية الوطنية.

المثقفون بدورهم يتملصون بسهولة من النزاعات الاجتماعية لبلدانهم، ويذوبون إراديا أكثر في الوحدة المجردة للمجموعة الدولية، بحيث أن الاقتصاديات المحلية تشكل قاعدة دعم متواضعة جدا، بالنسبة للفنانين والكتّاب. غياب سياسة وطنية لدعم الإبداع غذى النزوعات الفردية، وترك السياسة، عند المنتجين الثقافيين الذين سيبحثون في الخارج عن المتلقي ومصدر للإرادات. كثير، من أنصار الآداب الفنون، يفضلون الحقل الثقافي "المعقم" من أجل إصلاح المجتمع تلك حالة "مجموعة فورد" و"مجموعة سورس" أو الهيئات التي خرجت من رحم الملكيات البترولية. فمعارض فنية ومحلات زجاجية فاخرة بالخليج، تقدم قطعا كبيرة لمنتوجات يفترض بأنها تعكس الهوية العربية الإسلامية، لكن بمجرد استحضار مموليها الغربيين، سيتجلى الانفصال عن المجتمع الأصلي.

فيما يخص الميدان الأدبي، تتابع العديد من الجوائز التنافسية "أفضل" عطاءات الثقافة العربية، مثل جائزة الماجد بن الظاهر (لبنان)، أو جائزة "البوكر" العالمية للرواية العربية (لندن)، باشتراك مع المؤسسة الإماراتية. أن يشارك، فنانون ينتمون لمنطقتنا، بشكل مطلق في اللعبة الثقافية الكونية، لا يستوجب اللوم، بل على العكس قد يشكل تقدما، غير أن الفنان "العربي" لما تصير له قيمة على المشهد الدولي، يوشك حينئذ على الابتعاد عن شعبه، وبالتالي يفقد دوره التحرري.

حتما، فتح الأنترنيت، فضاءات جديدة لإنتاج واستهلاك المعطى الثقافي. إذ كانت الشبكة العنكبوتية، قد أضفت مزيدا من الفعالية على حركة معارضة موجودة آنفا، غير أنها لا تؤسس من تلقاء ذاتها وعيا سياسيا. نعم، تستخدم كأداة لتوسيع بنيات تعبئة ما، كما وقع في مصر، لكنها لا تعوض العمل الميداني الدؤوب الذي يقتضيه تنظيم هيكلة النضال. ويبقى الجهاديون، في توظيفهم للأنترنيت، أكثر خطوة من الناحية الابتكارية، ولا يترددون في الالتجاء إلى الفكاهة أو النشيد. ترتضي قناعاتهم الدينية اكتشافات تكنولوجية، بسبب ربما التمييز الذي يقيمونه بين الوجه المحترم للمفكر وكذا المثقف. من جهة أخرى، يساهم الأنترنيت في العزلة والتقسيم، بحيث يشكل رواده عموما مجموعات صغيرة سرية، يتواصلون ـ غالبا بشكل مجهول ـ عبر شاشات، في إطار منفرد من خلال تنقل دائم. يمكّن الخفاء، الساخطين من تبرير راديكاليتهم، وهم يوفرون كل مواجهة مفتوحة مع الخصم و ما يترتب عليها.

عندما يتخلى الفنانون والمثقفون عن الدور المنوط بهم (لازالوا يمارسونه أحيانا في بلدان إسلامية مثل إيران وتركيا) فإنهم ينتهون من أن يكونوا شعلة حربة لحركة اجتماعية وسياسية وثقافية، ثم يتحولون بامتياز إلى زمرة مداهنين، يستوطنون حضن الدولة، أو مجرد وجهاء أغنياء وأقوياء. لقد، تلاشت صورة الفنان الرافض للنظام الاجتماعي، كما جسدها منذ عهد قريب الكاتب المصري صنع الله إبراهيم، أو المجموعة الموسيقية المغربية "ناس الغيوان". في مصر، مثلا، اكتفى الرسام الطليعي "فاروق حسني" بمنصب وزير للثقافة. وبانتقالنا نحو سوريا، سنكتشف بأن "حنان كساب حسن" مترجمة "جان جنيه"، عينت سنة 2008، منتدبة عامة لبرنامج "دمشق عاصمة للثقافة العربية" المدعم من طرف اليونسكو. أما أسماء فنية أخرى، أمثال "وائل شوقي" (يعرض كل سنتين بالإسكندرية) أو "هالة الكوسي" (فائزة بجائزة أبراج كابيتال للأعمال الفنية)، فهي تظل بعيدة عن كل التزام سياسي.

إن تحديث الحركات الثقافية داخل العالم، يمكن مع ذلك أن يبدو مثمرا. فالفنانون المعنيون، يستفيدون من رأسمال رمزي وحظوة، بإمكانهم توظيفهما قصد السعي لإحداث التغيرات في أوطانهم. الرهان على النظام القائم ليس حلا، كما أن استكشاف مناخات مغايرة لممارسة الاستقلال الذاتي والتجريب كذلك، تهيء لممكنات تجديد المعارضة للأنظمة الأتوقراطية المسيطرة على جل أقطار العالم العربي.

شيء يقيني: كي يقود العمل الفني والفكري، نحو الديمقراطية السياسية والاجتماعية، يتحتم مواجهة المعيار السلفي في أرضه الخاصة، ونقترح عليه تناوبا معقولا. وبعيدا، عن تبني نموذج مصنوع مسبقا، يجدر الاستناد إلى تقليد عربي وإسلامي، ضاعف طيلة قرون عديدة تشكلات سلطة الثقافي. هذا المنحى العمومي الجديد، المتكيف مع العالم وكذا تقاليدنا الذاتية، سيكون إحدى ركائز كل مشروع ديمقراطي حقيقي، دون أن يتأسس على أنقاض رفض للتحدي السلفي أو الاستسلام لشروطه.

 

boukhlet10@gmail.com

 

هـوامـش:

1 ـ للإطلاع على النص الأصلي، يمكن الرجوع إلى مجلة :

Manière de voir, numéro 117, juin – juillet 2011, Page 46-50.

2 ـ هشام بن عبد الله العلوي، عضو الهيئة الاستشارية لهيومان رايتس ووتش، وباحث في معهد "فريمان سبوجلي" للدراسات الدولية التابع لجامعة "ستانفورد" بكاليفورنيا. كما، أنه ابن عم محمد السادس، ملك المغرب.