أحاول هذا الكلام..
لعل الكلام تواجد النطق وعرفان الزوال..
للطير منطقه، كما للحداء رجز لجّته والقرار.
* * *
طريق دمشق، 2011.
من "الطريق المستقيم" قفلت عائدة، أدفع عربة نفسي وشفويّة القول من شارع إلى فواتيح شارع آت. وعلى نور منشور مكثتُ أقلّب في كتاب الفيحاء القديم وما تمور به توريات السطور، أتسكع في حارات غبراء، أتلامح مدّ السموات على جبهتها العريضة، وحجاب المساء الغاص بالمارين وضجيج العجلات، وما يدوّم به المضغ وابتلاع لقمة الخبز.
من زخرف السجاجيد والبسط المعلقة على تخوم الدكاكين والخانات البائنة تفرعت تلاوين التفسير.. وتبرعمَتْ قابلية الحياة في حواس العابربن وغضبتهم السادسة.. وإلى دفاتر اليوميات رجعَتْ فكرة الزمان بعد لغط الغياب..
* * *
طفقتُ أقرأ نصّ الحاضرة، ونثر ارتباك الزحام. أتمعن في وجهها الغيبيّ البياض، بحمرة ذاوية يرود فيها التوق للالتصاق.. أتقرى مشية أقدامها بين نتؤات الحفر وهي ترميني بالأسئلة.. وكأني أستردني من سالفة تغريبة.
تغيرَتْ معالمها، أفانين صبوتها وطقوس المآتم.. وما برحَتْ تركتها صعبة الاكتناه.
لسفر التكوين عدت.. أيان تقطّرَتْ مدينتي من طوف الروح وغامَتْ في الشفيف الجسد.
في أنيس عينيها ينطق ماء الورد..
كينونة الماء وأليل الأمواه فيها!!
رذاذ النافورة، دفق صنبور السبيل، اندلاق سطل الشطف، ترقرق الرحم، وجيب المياه الجوفيّة، مخر عباب الأحزان... وارتواء الماوِيّة بغمر المرئيات وطرطشات الصور.
* * *
رنوت لما بين مقامات السطور، حاولت تغيير مجرى الحديث، وانتظرت أفول الغنائيّة الطافرة، وارتعاشات الأزقة بالمفردات السارحة، والمشاعر العائمة من عشايا البيوت..
عند حافة ناصية ارتبكت خطاي، وهم ينادون من مئذنة الجامع السامع ليعلم الغائب، عن بنت صغيرة اسمها هناء بنت عمر، بعيني يمامة.. تلبس كنزة حائلة وتنتعل كندرة ليلكيّة، ضاعت من أهلها بالزحمة منذ بدئيّة يوم من الأيام.
وأنا معهم.. صارت الناس، تتملى في خلوات العبارة وتصاريف القدر، تتطلع لبنت تمشي لحالها.. صغيرة لترجعها لأهلها والنهارات القائظة.
تكرار سلالم النداء جعلني أتلهف لجرّ الوقت. هرعت لا ألوي على شيئ، وتشبثتُ بنقاط تنهلّ قطرة قطرة من مرجة متنٍ مروية.. باغتني عتّال بعيني مريد ورائحة ليل مهجور، ينادي "الله" وما تيسّر له من زئبق الزمان.. عطفني نحوه وحمّلني زمزمات شهوة تنسرب حافية من السرير..
... وتراءتْ لي هند وهي تشيعني بعينيها، إلى أن غبتُ معي في مرايا واجهات الحوانيت والمحال..
وكنت أنا ما غيري، في حاشية مخطوط المدينة، أقرب إلى ذاتي مني.. وإني لضائعة معك بقميص نوم الكلمات.
* * *
طرق وأندلس، 2012.
لست من هنا ولا من هناك..
من خارج المكان أنا.. أكره الجغرافيا وأحب أطلس التاريخ
أحمل هرطقتي في جوب آفاق الطريق، وقص الأسلاك الشائكة.. وأفول الطاغية.
على سفر وصلاة.. حتى تراويح الندى وعدة من مدن أُخر.
وكأني أدفن ظلالي التي عشتها.
أرتحل إلى مدريد المكان، بحثاً عن ناشر لـ"منمنمات مسرحيّة". أحاجج دور النشر ونفسي، فأصير في طليطلة، فقرطبة.
كجمجمة يتبدى القمر عند نجم الآس الذي في "المدينة الزهراء".
تتشقق الأرض في اليباب..
ولا شيئ أمامي إلا إيلاف العزلة، ورتابة نعيب بوم يساهر أغصان السرو.
لا شيئ إلا رابسودا يروح مع كلّ الريح وأي ريح..
تلاحقه جنيات الشعر المصير في الأزقة العتيقة.
- ما "المجد" يا قرطبة؟
من مقرنصات المحراب، والصمت الموشوش بالذهب يأتيني الجواب:
- توأمي الشآم.
* * *
على البيت في "حمص الأندلس" أمرّ.
سحب كابية تكفن عين السماء
أبوابي الاشبيلية تشهد موتاً دامياً فاغر الشدقين..
نتف اللحم تتطاير عن أصحابها عند حواجز الصبار ومدارات الرصاص..
وصندوق الفقدِ، يهمّ بالإبحار، يلتصق بكبد المرآة وشهقة غواية توسدت أديم الأرض.. يوماً كانت حاضرة.
في مطبخي شغف وسكين:
شغف يتمدد على المائدة الخشبيّة، يُحاكي ياسمين النافذة..
وسكين في حوض الماء.
* * *
بخطوات متلهفة أحاذي نهر حدرة، وإلى معنى البيازين الأكبر أمضي..
أسلّم على "دار الحرة" عائشة، وأتابع إلى مطلّ سان نيكولاس.. هناك أرتطم بفيض جمهرة الزوار من كل الأشكال والألوان والضجر المفعم بالحياة.
رجل وامرأة، إلى جواري عند درابزين المرتقى.. بلا علامات حميمية فارقة، يسمّران البصر في الهضبة المقابلة، يصغيان لرجف هطل على "بهو الريحان" في جوانيّة الحمراء..
يتدفق الدم إلى وجهيهما حتى آخر المسرح، وكواليس الأحاسيس المقبورة، فيشرعان في غوريّة عناق مديد..
كما لو أن رحمانيّة النجاة من المذبحة كُتِبت لهما على حين غرة.
* * *
رحل الذين كناهم وقدمنا معاً
الشرود يوسوس وراء الأشياء بخفوت وجسد ورحيل.
تتكمش خطواتي بنداء ماريا كالاس يطعنني من الخلف.. أتحسس ألمي الرطيب، أدير قلبي مع امتدادات الارتعاش ورفّات الغناء بين مسالك الطيون الصاعدة، فأصل مقهى خوانيتو، إلى شمال منعطفين أعلى من سفح "الساكرومونتي" الغرناطي.
أحملق بسنّ الغجري المذهبة، وأتعجب من صلة تجمعه بالسوبرانو، ولا أسأل!!.. مخافة نزق الدم القرباطي على حافة الاستفهام النمطيّ.
أنزوي في الركن الأقصى من مصطبة الصوت، أرتشف بقايا الشمس ومرتسمات طيور تحوم بين المنحنيات.. وأسافر بعيني بين زبائن المطرح، أمسح مرج السموات بخرقتي، وأردف: أتراها "جنة العريف" تتحدى إمكان الفناء؟!!
أخال نفسي ككل رحيل أنني وصلت لآخر الدنيا.. وما وصلت!!
يتمدد جسدي على محفة من خشب الأرز
فأحبك أكثر من أي موت مضى
وأقتفي أثر واحتي على هدى من رمل أزرق وندوب عطش.
* * *
خوانيتو من وراء البار يحضرني بكوب ريوخا.
يتشربني ربيع قميصه المشجر المزهر.. من الياقة إلى الأكمام.. إلى ببغاء النسيج!!
يكلمني، وهو يترك للكوب مستقراً على طاولتي.. تندّ عنه بحة نبويّة مجروحة الوتر تبتغي أن تطير..
تتباين قمصانك المنشورة على حبائل الغسيل، تخفق من أعالي بلاكين الشام.. ترفّ بأربع جهات الهواء.
يقترب مني جسدي.. يدلف في داخلي..
وتأتيني امرأة خالية الوفاض لا تكلم أنسيّاً، أغرقها صوت الموت ولهج اللحد.. وتشير:
- البرابرة يمهدون التراب بآلات اللهب، يحمّلونه بضرام الحطب.. يريدونه جحيماً أرضياً
تتناهى تمتماتي:
- ومعذبو الأرض ينشدونه "جنة عريف" وبوارق أمل... يتحاملون على ذواتهم والليل العصيب والتابوت..
أسند قحف رأسي إلى ظهر الكرسي أمعن النظر بالبلد..
أتعثر بوبيل المحن.. بالظلامات والتصورات الفحميّة.. بذاكرة المقابر الجمعية..
تؤوب حركة خوانيتو المتهدجة، ينحني بصحن خامون وجبن مانتشيغو، فأبتدره مسائلة عن غرفة للإيجار لليلة عابرة في النواحي القريبة.
يعرض عليّ غرفة في حراء بنسيون مقهاه، وكأنه يعرض جذعه المتجذر على أوجاعي.
أجادله على أجرة الليلة.
من وراء ظلال القبعة، يزرع مؤق عينيه المغرقتين بالسواد في وجهي، وبسرده المبني على روائز شهوة يكشف حجب الضباب، ويهمس:
- سيدتي، الليل قادم عما قريب!! المغارة قاب قوسين أو أدنى من "عرس الدم" الذي للوركا، ولأسلافك الهاربين من محاكم التفتيش.. ورثنا سراديب الجبال عنهم أهل الكهف، ومعها زفيف الريح والجدر السود، فطرشناها بنقيع الجير..
وبأصبعه الجافة يشير لأصص الجيرانيوم المعلقة على الحيطان البيض:
- تكمّشنا بأزاهير الأحلام. جعلنا لمسيحنا الغجري درب جلجلة.. تركنا الجند يقطّرون له الخلّ باسفنجة آن أصابه العطش، وهم يسحبون القرعة على رداءه الجريح. اقتفينا "بنات نعش" من أجل نهلة ماء، وشقفة خبز، وكسرة نغم..
أمزمز برشفة نبيذ حتى تشرّب مذاقها في روحي، وبصوامت قبولي بسيره الشفوية المتناقلة أهز رأسي.
* * *
غرفتي الكهفيّة هي الأخيرة من الغرف المتوالدة في الغار الأم..
بستارة من مخمل كالح، حتى لا باب بصرير كئيب لها.. لا كوة ولا محراب.. ضيقة واطئة كنفق بلا خلاص.
سرير معدني وكرسيان من القشّ.. تلافيف شرشف، كتب وأغنية.
لُبنات حواريّة تغصّ بحشرجة متقادمة، ورطوبة كلسيّة خرساء، ولكنها غرفة حقيقية محتملة الخواء..
على نافذتها المتخيلة تدحرجت همهمات بعيدة مغلقة على فهمي. ومن صحن الزليج على التربيزة، أشرقت مرتسمات صريحة التكوين لحبات تمر ولوز وكوز رمان.
في الشارع عند الزاوية، قرب الأسطوانات المتراكمة، تدفقت تراتيل ظامئات للحرية.. وتزايلت سيارات إسعاف مسافرة للسخرية الباكيّة، وكاميونات تلملم القرابين إلى البياض الضرير.
انتظرت على الدكة الحجرية قرب غيتار خوانيتو، ولوحات عذراوات تحفّ بالفراغ..
لم أقدر أن ألامسك بكلماتي..
سمعت خشخشة في درج التربيزة.
كانت أسئلتك تتراكض مع الأقلام في مسارب الأحراش، والخربشات المكتوبة على الأوراق.
وأبصرتك تغذّ السير على أتربة الشوق، وشعاب صوتي المكلوم بالغجر.
* * *
أردفت جسدي دون مواربة في سرير الكهف، وأخذت أقطع شريط السنين وطيوف التصاوير.
كانت الحيرة تتفرس في وجهي، تطمس أقنعتي وعفاريت أدواري كلها في الكرنفال العتيق. بينما القتل يحفر كتاباته المسماريّة في أوصالي المقرورة.
تتزاحم الوجوه الشوهاء، العيون المقلوعة، البطون المبقورة، الأذرع المبتورة... وتفور برك الدم.. تتخثر في دنيا مشحونة بالهلع..
تتبدى الضراعة من عسل عينيه وهما تتشبثان بعميق حياتي.. أبصق في فمه المحتضر لأبلّل يباس حلقه، فتبتل عيناي بزرقة الموت في شفتيه الشهيدتين.. وأود أن أتقيأ رؤيتي القلبية كلها.
أفيء إليك فاكشف عني المسافات من مرقدها.. أعد لي ملامحي على تمزقها.
تزيح ستارة العتبة.. يلتهب الليل بروح الأشياء وسُبُحات مغاور النسّاك..
وبك ألوذ من حوزة القتل.
أتكئ على كتفك النحاسي وأجازف بحياتي..
أنا المقطوعة من إثم وشجر وحجر.
أنا التي تسير بضاحي وجهها على طرق من اسفلت وارتجاف ظليل.
طهّر بطوباويتك كوى حسي.. اقتل القتل الذي يحيق بي بتعرّقك الممحون على وجهي.. وبمواتي معك.
اشكل الآس على سريري العابر إلى أن يشعّ أقحوان الصبح الوليد.
* * *
في الغار المنحوت في "القدس الجبل" تقرب وجهك من رحيلي.. تتنسمني ملياً، وتسرّ:
- يا امرأة تفوح من جسدك رائحة دموع تهمي على قبور طريّة...
- يا امرأة تفوح من جلدك رائحة دموع حبلى بنهر سيليّ.. وبك أنت الأخرى الآتيّة.
... وتروح الأشياء تصبح شديدة السطوع في بُحْرَان التساؤلات...
تتكون كما لو أن لها بعداً ثالثاً..
* * *
قبل سيري نحو سرحة ظلال النهار، يقول الغجري وهو يشبك عرق "اكليل الجبل" على خصائل شعري:
- سيبعد عنك النحس إن لم يجلب لك حسن الحظ!!
وصوب الجنوب من جهات غرناطة، أشق طريقاً لي عمده أبوعبد الله الصغير وفيدريكو.
الأول عند زفرة منعطف "السوسبيرو ديل مورو"، والثاني على رمية فجر من "وهدة بيثنَر".
كلاهما ليوم أخير، وأنا ليوم آخر ينفرج ماءً عند استواء حقول الأفوكاتو مع مشخصات الزبد، و"دموع ايروس".
كروح من "خارج المكان" أتعقب النوى وحقيقتي العارية.. بحوذتي بلور ذاكرة، ووصية جدتي مريم بأن لا أدهس أزهار الأقحوان بأهواء دراجتي الهوائيّة.
كانت قالت أنها قبور بشر ونورانيّة إيماض من بياض.
* * *
(كاتبة من سورية)