فى المدرسة القديمة :
كنا معا، صبيانا وصبايا..
الصبايا فى الصفوف الأمامية
حافظت بقوة على موقعى خلف إيلين فى السنين الست
مع الوقت أدمنت النظر إلى ضفائرها المجدولة بعناية وياقة مريلتها النظيفة وبعض شعيرات متمردة على الخصلات الناعمة ورائحة بكر مميزة سكنت مع الزمن فى الروح، ومرات كانت تفاجئنى إيلين وتدير عنقها الرقيق نصف دورة ومع نصف ابتسامة خجولة ونظرة حانية تهمس..انتبه إلى الدرس
فى الفصل:
وفى برودة طوبة القاسية كنت دائما ما أتلقى بثبات ضربات المعلم على يدي بعصاه الرفيعة عقابا لى على انصرافى عن الدرس والتأمل المستمر فى ضفائر إيلين المجدولة بعناية وياقة مريلتها النظيفة،لكن ما كان يؤلمنى أكثر هو مشهد إيلين تنتفض مع وقع الضربات ثم تبدأ فى البكاء الصامت مصوبة عينيها الدامعتين إلى يدي اللتين أهملتهما فى إباء ممدودتين للمعلم ينهال عليهما بعصاه ــوكأنهما لغيري ــ وأخيرا وبعد أن ينتهى المعلم من مهمته ترفع إيلين عينيها الدامعتين إلى وجهى فى مشهد اعتذار صامت ــ وكأنها المسئولة ــ ومن ثم ينحسر الألم عنى بسرعة وتتراجع دمعتان كادتا تسقطان وأستريح كأننى قدمت قربانا مقبولا.
لم أستطع التخلى عن التأمل فى ضفائر إيلين من أول الحصة الأولى، ولم تمل هى نصيحتها المتكررة ّ : انتبه إلى الدرس،وواظب المعلم على مهمته الروتينية فى عقابى اليومى لأنال فى النهاية جائزتى اليومية المحببة تلك النظرة المشفقة الحانية من تلك العينين السوداوتين الواسعتين الجميلتين العميقتين.
فى الكنيسة:
يوم الأحد كانت أمى تطيل النظر إلى أيقونة صغيرة فى ركن قصى، تشعل شمعة وأحيانا تعطينى أخرى لأشعلها بنفسى، وبينما رائحة البخور تعبق الأرجاء أرقب أنا عينى أمى والدمعتان الحائرتان الأسبوعيتان تعبران الجفون برشاقة لكنهما لا تسقطان أبدا بينما ترفع هى عينيها إلى الأيقونة كعيني أَمَة إلى مولاتها،وكنت أحس حرارة صلاتها من شدة قبضة يدها على كفى، وكنت أعرف أيضا أن أمي على وشك أن تلد وجدتي مهمومة وهناك فى الأفق شيء غائم.
فى الصيف:
كان المكان الوحيد المتاح للقائنا هو فناء الكنيسة العتيقة صبيحة الأحد، فبعد صلوات القداس التمهيدية ينسل الفتيه والفتيات من أهليهم بهدوء خارجين.. الفتيه ناحية غرفة القربان يمازحون عم حبيب –صانع القربان العجوز المرح -والفتيات ناحية غرفة المكتبة، وسرعان ما ينسلخ كلانا من أقرانه غير عابئين بتعليقاتهم المستترة حينا والمكشوفة أحيانا،وما أن نقترب حتى ينهمر من أفواهنا بعفويه ما اختزناه خصيصا لهذا اللقاء و تنصرم الدقائق مسرعة ومع صوت ترديد مجاميع الشمامسة للقسم الأخير من ألحان القداس نعرف أن اللقاء على وشك الانتهاء وبعد إنذار متكرر من الشماس المكلف بالنظام تسحب عيناها من عيني بصعوبة ونفترق.
فى الخريف:
رحلت أمى إلى الأبد ومعها وليدها وعذبتنى بواكير ليالى اليتم الطويلة، ولما ذهبت للكنيسة وحيدا لأول مرة توجهت مندفعا إلى أيقونة أمى الأثيرة،كنت حزينا غاضبا،رفعت عيناى المغرورقتان بالدموع وهممت بعتابها،عندئذ أحسست بيد تقبض على يدي بقوة، ووجه مألوف يرفع عينين متوسلتين دامعتين إلى الأيقونة ورغم سحابة البخور الكثيفة تبينت ملامحها والدموع الحائرة بين الجفون وأشياء غائمة فى الأفق...... إنها إيلين لكننى تعجبت كثيرا لماذا فاقتنى طولا هكذا وتعجبت أكثر لما انقشعت سحابة البخور الكثيفه ووجدتنى وحيدا.
وفى ذكرى أخر لقاء لنا منذ نصف قرن ذهبت متوكئا على عصاى إلى كنيستنا القديمة، توجهت مباشرة إلى أيقونة أمي الأثيرة،رفعت إليها عيني المتعبتين أشعلت شمعة وهممت بتلاوة صلاة قصيرة عندئذ سمعت صوت وقع ضربات عصا على يدي وسرى الألم فى جسدى كله ودمعت عيناى وجاء صوت حان وكأنه آت من ماض سحيق يردد........ انتبه إلى الدرس.