بعد حوالي عشرين عاما، مازالت رواية (سابع أيام الخلق) للروائي عبد الخالق الركابي تحظى بالاهتمام، وتثير شهوة النقد؛ اعتمادا على تمتعها بصفة الخلود.. لأنها إحدى أهم الروايات العراقية والعربية، وباكورة أسلوب الميتاسرد، أو ما وراء الرواية. وهو الذي دفع الناقد حسن كريم عاتي الى تأليف كتاب عن هذه الرواية، فقط، صدر بعنوان (أثر الزمن في خلق البنية الدلالية في رواية سابع أيام الخلق) عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة 2012.
ضمّ الكتاب أربعة فصول، فضلا عن المقدمة، والتمهيد، والخاتمة والنتائج، وثبت المصادر. وتحدث الباحث في المقدمة عن المنجز الابداعي للركابي، فعدّد إصداراته كلها، ابتداء بمجموعته الشعرية (موت بين البحر والصحراء ـ 1976) وختاما بروايته (سفر السرمدية ـ 2006). ملتفتا الى صفة مهمة في سرديات الركابي، هي استثماره "للبيئة العراقية، على المستويين المحلي والوطني"/ 8، واستنطاقه الجغرافية تاريخيا. وأفصح التمهيد عن بعض آليات المنهج النقدي للباحث، حيث تناول الزمن من منظور فلسفي، مستشهدا بمقولة القديس أوغسطين "إن لم يسألني أحد عن الزمن فإنني أعرفه، أما أن أشرحه فلا استطيع"/14، ونقل آراء بعض الفلاسفة في محاولة تحديد مفهوم الزمن منذ أرسطو الى باشلار. ثم تحول الباحث الى الزمن في الخطاب الأدبي، بعد انتباهه الى أن "الزمن في الخطاب الفلسفي يشوبه الاضطراب"/ 16. لكنه عاد الى تصنيفات للزمن، بعضها غير واضح، هي: "تاريخي أم مفترض أو وهمي أم نفسي"/ 17، ولم يعرّف مفاهيمها للقارئ. ويبدو أنه ظل محكوما بالنظرة النقدية القديمة للزمن، من خلال كونه "يمثل الاطار العام الذي تنمو فيه الأحداث"/ 17، وصولا الى "يشكل [الزمن] العنصر الأساسي في الأعمال السردية"/ 18، ولم يوضح ماذا تعني مصطلحات "الزمن الخارجي", و "الزمن الداخلي"، أو "الزمن الواقعي"، و "الزمن المتخيل".
وعلى الرغم من اقتراب البحث من المنهج البنيوي، الذي تعامل مع الزمن بطرق أكثر فنية من غيرها، لكنه اعتمد على كتب نقدية قديمة مثل (بحوث في الرواية الجديدة) و (البنيوية في الأدب)، ولم يستخدم آليات جيرار جنيت الأنضج والأحدث، بل مر به نقلا عن مراجع أخرى، غير دقيقة في الترجمة. مما أدى الى عدم تحديد المنهج بدقة.
تناول الفصل الأول "البناء الروائي في (سابع أيام الخلق)" بشكل عام، مكتشفا موجهات نقدية بثها الروائي في نصه هي "الموجهات النقدية العامة"/ 25، ممثلة بباختين وبورخس والأسانيد التراثية، "والموجهات النقدية الخاصة"/ 27، الكثيرة العدد والمختلفة الأنواع؛ في مرور قريب من السمات المميزة لنمط الميتاسرد، دون مقاربتها، بقوله: "نرى أن الموجهات النقدية، التي وردت في المتن الروائي، لم تقتصر على الطرح النظري فحسب قدر ارتباطها بذلك الاستثمار ـ التوظيف ـ داخل العمل الروائي"/ 24. ثم يتعرض الى كثير من التفاصيل التي تشكل أجزاء الهيكل الفني للنص، مستعينا بعدد من الخطاطات والأشكال الهندسية والجداول البيانية للتعبير عن أفكاره.
يفتتح الباحث الفصل الثاني (الرواة)/ 43 بنص ميتانقدي، جاء فيه: "لم يسبق أن تم الفتح على راو ما في حياة راو سابق عليه، أو في حالة عمل أحد الرجال المهتمين بالمخطوط، سواء أكان ذلك عن طريق التحقيق أم عن طريق الرغبة الابداعية لانجاز عمل روائي يتصل بالمخطوط، أم عن طريق الفتح؛ لذا كانت خشيتي على الراوي السابع الذي يسير في شوارع العاصمة معتمرا قبعته، بعد أن هجر أو هاجر من محافظة الأسلاف الى مدينة الأضواء والشائعات، فمازالت صورته عالقة في الذهن وهو يركض خلف طالب هرب من المدرسة، محاولا الامساك به لإعادته الى الصف أو معاقبته"/ 43. فيبدأ من الراوي السابع الذي يشهد "بأن الرواة الذين سبقوه لم يكونوا سوى روائيين لم تكتمل أدواتهم"/ 44، مشيرا الى رقم الصفحة من النص التي استل منها هذا الجزء، كناية عن حكواتي يختبئ خلف قناع بطله/ راويه السابع.
ومن خلال توزيع النص النقدي على رواة النص الميتاسردي ـ رواية سابع أيام الخلق ـ الستة: عبد الله البصير، ومدلول اليتيم، وعذيب العاشق، والسيد نور، وذاكر القيم، وشبيب طاهر الغياث، يحاول الباحث تحليل النص بتحليل أبطاله، متكأ على رؤى التصوف الاسلامي: "تم لهم الفتح فأضاء لهم طريق المعرفة"/ 72، وحساب أرقام الحروف/ 59، والاستعانة بالجداول البيانية، مبتعدا عن المقاربة السردية من خلال مقولة الصيغة([1])، وجزئها موقع الراوي وطريقة تقديمه/ شكله([2]).
ويتدارك الباحث البون بين الفصلين السابقين وعنوان بحثه، بواسطة الفصل الثالث "أثر الزمن المفترض في خلق البنية الدلالية"/ 77. منطلقا من (الزمن المفترض) الى (الزمن التاريخي)، من خلال "اذا كان الزمن مؤطرا بحدود معلومة، فإنه يقود الى كشف جوانب من البيئات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية للفترات التي تنشأ الرواية فيها"/ 77، في عملية استباق نقدي، استعارة من الاستباق في البناء الزمني للنص السردي. إذ يقترب من المنهج الشكلي، راصدا أجزاء المتن الحكائي المتعلقة بزمن مفترض، ذي أشعة مكثفة، ابتدأ من عنوان النص (سابع أيام الخلق)، في "عد زمني تصاعدي" لا يكتمل باستمرار زمن يومه السابع/ 79.
هنا، في هكذا مقاربات نقدية، تناصا مع الحكاية، ينادي الكاتبان، الثلاثة هنا([3])، على القارئ: "أيها القارئ! تعال نلعب: أنا وأنت، اللعب منطق، لأن له موضوعا، ولكن هذا الموضوع ليس من تلك الموضوعات المصطفة خارج نطاق ذواتنا. إن موضوع اللعب هو اللعب ذاته"([4]). في ردّ فعل، مساو، على النظريات النقدية السياقية ـ التي حمّلت النصوص الأدبية أكثر من طاقتها ـ قامت به النظريات النقدية النصية، التي نفت قدرة الأدب على التغيير، ودوره الوهمي في الثورات وبناء الانسان وتحقيق المجتمع العادل. ولم يكن من نتائجه إلا غياب، أو تغييب، أو تلاشي المعاني، وضبابية الدلالات، التي وردت في كتاب الناقد عاتي بصيغة البنية الدلالية. حتى أن غياب مفهومي المتن الحكائي والمبنى الحكائي([5])، مؤكد بمخطط هندسي لتعزيز مفهوم الغياب، ميتانقديا، أو صوفيا، يقوم على سهمين "زمنيين" أحدهما للمبنى الحكائي والآخر للمتن الحكائي يكادان يصطدمان، وعلى أسهم زمنية أخرى، أصغر، لأزمان الوقائع، ترفدها مستطيلات عديمة اللون، الأطولان منها معلَّمان بمصطلح الفجوة/ 81. ولا يبتعد النص الميتانقدي كثيرا، لا ينطلق في شوط مفتوح، بعيدا عن المعنى، في رحلة فلسفية ـ صوفية، تعبيرا عن الحرية، بل يلتصق بالمتن الحكائي، مستنطقا أحداثه، المحكومة بزمن ما، حتما، في تقسيم رقمي وحروفي/ 84 ـ 86، من خلال رحلة تأويلية تعمل "على ابتكار الطرائق الكفيلة باستمرار... التأثير، ومن ثم زعزعة الوضع السائد [نقديا] لتغييره الى ما يخدم"/ 89 اللعبة الميتانقدية. أو العودة الى المناهج السياقية، من خلال الهامش الثالث في هذا الفصل المتعلق بـ "نظرية الرأي العام"/ 89، بعد الهامشين المحيلين الى النصوص المقدسة.
إن استخدام استراتيجية الغياب من خلال تكتيك الإبدال، في (أثر الزمن في خلق البنية الدلالية...)، يهدف، أو يؤدي، في نتيجة شبه حتمية، الى الاحتكاك بجدران شاهقة، وقد يخدش بريقها اللزج. أو يسقي السنديانات الهرمة، في غابة النقد القديم، بماء النار. تخرج الجملة الاستهلالية، "هل يتكفل الزمن بازالة جليد الزيف والتحريف عن جلد المخطوط"/ 101، للفصل الرابع المعنون (أثر الزمن التاريخي في خلق البنية الدلالية) من بنية الزمن، وتقطع علاقتها بالدلالة، لتقع في حقل الكناية المغناطيسي. إذ يأتي التعبير الشعبي، وإن باللغة الفصحى، عن انسحاق الهامش الى حدّ عدم القدرة على التشخيص، فيعلق هزائمه، أو مظالمه على حبل لا مرئي يكنيه بالزمن.
إن المفهوم الفضفاض للمصطلح العصي على التعريف حتى من قبل المتخصصين فيه، هو ما دفع للاستعانة بـ "التتبع التاريخي لنشوء المخطوط"/ 101، في محاولة لـ "فهم حقائق المخطوط"/ 101، و "معرفة المساحة الزمنية التي استغرقها تطوره، وطبيعة الظروف السياسية"/ 101ـ 102، وهو ما جعل الباحث يتساءل: "أترانا نعمل خارج متن الرواية؟"، تناصا واستشهادا: "مثلما تساءل الراوي السابع (تُراني أعمل خارج متن الراووق؟ ص8)/ 102. وبقدر ما تؤكد طريقة المقاربة هذه على التماثل الميتانصي بين (سابع أيام الخلق) و (أثر الزمن في خلق البنية الدلالية)، فإن جواب الباحث على تساؤله، حيث يقع السؤال والجواب في منطقة ما وراء النقد، "إن عملنا بالاتجاه التاريخي لا يعني العمل خارج المتن الروائي"/ 103، هو ما يؤكد ضبابية المنهج وتداخل الخطوط، ليس في ما بين النص وما هو خارجه، بل بين المفاهيم المتعددة والمتناقضة للزمن، بالاقتراب من مفاهيمه الخارجية: التاريخي، الصوفي.. الخ، والابتعاد عن الزمن كبنية فاعلة في صناعة النص السردي؛ ليقع النص في محاولة قسرية لإدخال ما متفق على خروجه: "إن العمل بالاتجاه التاريخي، يكون عملا في المتن الروائي"/ 103، تحت ذريعة "إن الزمن يفقد دلالته إن لم يرتبط بواقع سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي..."/ 103، والذي يمكن أن يعزى الى الطبيعة الفكرية عموما، ولفئة الأدباء خصوصا، في استمرار التأثير الأيديولوجي على نتاجهم، لأنهم عبروا مرحلة الحداثة بسرعة كبيرة أسرع مما هي عليه في مضانها الأصلية، وانفتحوا في تيار ما بعد الحداثة لقدرته على استيعاب الذاتية العالية والشاعرية الفضفاضة، والاقتراب من الانفعال على حساب التخطيط والتحليل والاستنتاج.
إن تيار ما بعد الحداثة، المتَّخَذ مسلكا عفوا وقصدا في أدبنا الحديث، هو ما أدخل الناقد الى نصه النقدي، وهو الذي جعل الناقد يُخرج ثيمةَ المتن الأساسية (المخطوط) الى خارجه: "إن دراسة المخطوط في ضوء المرحلة التاريخية"/ 103؛ في التفاتة جديدة، قريبة من الحداثة شكلا، ما قبل حداثية مضمونا. وإن لم تخرج أمثال تلك الدراسات إلا بما هو قريب من النصوص التاريخية. ولم تكفِ محاولات التشبت بتيار الحداثة من خلال الاستعانة بالخطاطات للبقاء فيه؛ لأن الاتكاء على التاريخ، والخروج بـ "مؤشرات" ستناقش لاحقا، والاقتراب من مناهج ما بعد الحداثة والابتعاد عن مناهج الحداثة، أبعد البحث عن اكتشاف المسارين السرديين في نص (سابع أيام الخلق)، اللذين هما المساران الزمنيان: زمن القصة وزمن الحكي. حيث يُمثـَّل الأول بزمن المخطوط، والثاني بزمن النص. حتى نصل الى "المؤشرات العامة التالية" من خلال لا "تطابق المخططات"/ 112، التي استعان بها الباحث، فنجد الأول والثاني، على أنهما واحد في المعنى والمعلومة، وقائع مسجلة في كتب تاريخ العراق الحديث كلها، ولا تنتمي الى السياق عينه الذي يحتوي المؤشر الثالث لأن الأخير زمن داخلي والأولين زمن خارجي.
غير أن الاستمرار، والإصرار، على مقاربة النص بمنهج سياقي (تاريخي)، يؤكد على تشتت البحث في ثلاثة مناهج نقدية. وإن كان ثمة وشائج بين الحداثة وما بعدها، فإن المنهج التاريخي القديم زمنيا مقطوع عن الحداثة، بل إن الأخيرة ثورة عليه وعلى الواقعية والرومانسية. وإن ارتبط البحث، بقوة، بالوقائع، لا "الحقائق"/ 101 التاريخية من أجل الخروج بدلالات ما، فإنه يحلل بنية الزمن، ويقارن أعمار الأبطال، ويحاول تصحيح تواريخ الوقائع، التي وردت في نص (سابع أيام الخلق) تحت ستار ضبابي، مموهة بالتخييل الذي يتغلب على الواقع سرديا؛ حتى أنه يثير أسئلة فنية "يوجد تفاوت بين تاريخ مولد (بدر) ووجود (فوكس وايت)"/ 118، تتطلب الإجابة عليها إعادة قراءة الرواية بموجهات نص (حسن كريم عاتي)، أو تحت أنواره الكاشفة.
وتبقى الفقرات التي تتطرق الى المباحث الفلسفية والعرفانية، وتأليفات المتصوفة، والمبذول فيها جهد واضح، ملصقة بالبحث عموما، ومزروعة كنبتة غريبة في الفصل الرابع تحديدا. يعززها جدول بياني وتقسيم نوع الخبر/ الرواية الى "صوتي"/ شفاهي وكتابي، ووثائقي، مما يدخل ضمن التحليل البنائي، الذي هو بمثابة "قناة معدومة الأثر في خلق الرؤيا الفكرية"/ 134، للرواية؛ ذلك ما يبعث على التساؤل: لماذا هذا الربط القسري، المتعمد، بدلالة معرفة الباحث بما هو فكري وما هو بنائي، بين ما هو خارج نص (سابع أيام الخلق) وما هو داخله؟! ليس التناول المتعدد الزوايا هو فقط ما يحبذ وجود مباحث صغيرة داخل الفصول، بل مواضيع الفصول وطبيعة البحث وطريقة الباحث في عمله.. حيث يبدو التداخل، ولو قليلا، والدمج غالبا بين مواضيع تنفصل عن بعضها؛ وهو ما جعل النتائج، التي تخلو من تمثيلات تؤكد فحواها، عينها تخرج برؤية متعددة، تخلط بين الزمن كبنية، وكعنصر، وكتاريخ، ليصل الباحث الى ما اسماه "البنية الدلالية"، وهي استحداث قائم على دمج بين رؤيتين للأمر إحداهما خارجية/ سياقية، والأخرى داخلية/ نصية. شخصها الباحث بـ "إن كلا الخطابين ينتمي الى نوع معرفي مستقل عن الآخر"/ 140. أو إنها تخرج بعموميات ومواصفات لأغلب النصوص الأدبية "الشعرية أم النثرية"/ 140، مثل: "يعد الزمن في الأعمال الأدبية إطارا"/ 141، والذي هو منطلق لا نتيجة. و: "تنوع المعالجات الفنية للزمن في الأعمال الروائية"/ 141، لتؤدي الى نوعين، حسب البحث، الأول معروف بوجود إشارات مباشرة له في المتن الروائي، والثاني "يمكن الإحساس بوجوده في المتن الروائي، ويخلق فاعليته عبر هذا الوجود، غير أنه لا يمكن الإمساك به أو تحديده على وجه اليقين"/ 142، في رؤية فلسفية صوفية للموضوع، أكثر مما هي فنية بنائية.
تؤكد الدراسة، على جملة أمور منها تصاعد الفكر النقدي العراقي، الذي يخرج بكتاب عن رواية. وانطلاق الكتاب من أفق كتابي سابق ـ الحكاية هنا ـ الى أفق جديد هو النقد. وتكشف عن حجم الاهتمام بالرواية، ذلك الذي بقي لدينا غير مواكب لاهتمام الشعوب الأخرى بها، الذي قد يكون سببا في عدم تبوء الرواية العراقية مكانة جيدة على الصعيدين العربي والعالمي. كما إنها تقترب من التفكيك، أو هي تعبير عن الميتانقد، تناصا، مقصودا أو غير مقصود، مع النص الحكائي الميتاسردي الأول في العراق (سابع أيام الخلق). ويمكن، إذ تشتت مباحثها على أكثر من موضوع ومنهج، اقتراح عنوان بديل لها، هو: (البناء الفني ودلالاته في رواية سابع أيام الخلق).
الهوامش: